وصف غونار ايكيلوف مرةً مشوار حياته, بدرب الغريب, المبتعد المبعد عن كل شيء. فصيغة الألم ترجع أصولها إلى طفولةٍ هشة, قلقة, مستمدّةً نِسغَ تعاستها من افتقاده للأبوين. لظلال الأب المتوفي بالسفلس وغونار في ضوئه الرابع, والأم التي غمرته ببرودة المشاعر وأسى اللامبالاة, مانحةً إرث الروح لبعلها الجديد.
في عام 1926 أنهى إيكيلوف المرحلة الثانوية, ثم سافر إلى لندن لمتابعة تحصيله العلمي حيث درس اللغات الشرقية «البنغالية, الهندية والفارسية» والتي تابع دراستها لاحقاً في جامعة أوبسالة. حيث راودته فكرة الهجرة إلى الهند, لتأثره العميق بتراثها وثقافتها الإنسانية. كذلك لتأثره بالصوفية المشرقانية كصوفية جلال الدين الرومي, سعدي شيرازي وابن عربي، مترجماً «ترجمان الأشواق» إلى السويدية.يعتبر غونار إيكيلوف من كبار المجددين الكلاسيكيين في الشعر, وأحد أبرز شعراء الأدب السويدي على الإطلاق, فضلاً عن كونه كاتب مقالة مميزا ومحللاً شعرياً بارعاً. مكانته المرموقة في الأدب السويدي لها امتدادها العميق في القدرة الفنية, الاستقلالية والاعتداد الطبيعي في نظم الشعر, كذلك في ريبته وتشككه القوي بالأعراف والتقاليد.
في عام 1932 صدرت مجموعته الشعرية الأولى «متأخرٌ على الأرض» التي سماها الشاعر بـ«كتاب الانتحار» لسوداويتها وتخبطّها في أعماق التشاؤم والإكتئاب.
المجموعة متأثرة بأجواء عالم السريالية الحالم, نظم جزءاً من قصائد المجموعة في باريس, التي حجّ إليها الشاعر ليحترف الموسيقى, حيث تعرف هناك على كبار الفنانين الدادائيين والشعراء السرياليين أمثال آرب, بريتون وأضحى عبر إقامته هناك على اتصال وثيق مع المدارس والتيارات الأدبية والفنية التصويرية كالمستقبلية, الدادائية والسريالية المهيمنة آنذاك.
لم يكن الشارع الأدبي السويدي مهيأ بعد لفهم هذا النوع من التجديد. حتى الهيكل الخارجي لشكل القصيدة لم يجد صدىً يذكر لدى النقاد, فقد حررت بعض الفقرات باللون الأحمر التي لم يتمكن من حلّ ضفائر فتنتها الإبداعية إلا فئة قليلة من القراء المتنورين الذين أدركوا بالفطرة الرابطة العفوية المتبادلة بين غزل الفنية العالية وثورة غونار اللغوية. ففي قصيدته «تنام الورود على النافذة» ما يلي:
الورود تتكئ على الليل والقنديل يغزل نوراً في الزاوية تغزل القطة كبة صوفٍ لتغفو معها بين الحين والآخر يشخر إبريق القهوة بعبقٍ، والأطفال يلهون بكلماتٍ على أرض الغرفة تغيب كلمة أنا التي تستبدل بوجودٍ غير مرئي للأشياء التي تحيا حياتها الخاصة في انتظار سكون الموت.
ففي «متأخر على الأرض» يكمن اشتياق مستلهَمٌ من الهند للانصهار في بوتقة الكل محرر الأنا في الحلم أو في الموت, ورغبةٌ في توحيد الشعر والغرائبية في قالبٍ موسيقيٍ واحد. مجموعته الثانية السريالية, الرومانسية « تكريس» (1934) التي استهلها بمقولة رامبو الشهيرة «يجب أن يجعل المرء نفسه مراقباً» حظيت برضى النقاد وإعجابهم, فقد شعروا بأنهم أمام شاعرٍ مبدع, جاد وعميق, خرج بالشعر من طابعه المألوف إلى اللامألوف, مؤسساً نداءً شعرياً جديداً, يتسم بالبساطة والعمق. بيد أن شهرة غونار ايكيلوف الكبيرة جاءت عام 1941 في «أغنية العَبّارة» بعد مجموعتيه الرومانسيتين «الحزن والنجم» عام 1936 و«اشتر أغنية الأعمى» عام 1938. أضحت «أغنية العبّارة» بأسلوبها السهل, بآنية المخاطبة فيها وبسرمدية غرائبيتها المستلهمة من الشرق واحدة من أعظم المجموعات في الشعر الغنائي السويدي.
يقول ايكيلوف: من يعش فعلاً يبدو كأنه ميت.
في «أغنية العبّارة» يُركز غونار ايكيلوف على ما هو مشترك بين الناس, مبتعداً عن الجماعية وعن «كل شكلٍ من مخدرات الاستبدادية الشمولية». ففي «أفوري» كتب متأثراً بفرويد: «كل إنسان عالم مسكون/ بمخلوقاتٍ عمياء في ثورةٍ معتمةٍ/ ضد سلطان الأنا الذي يحكمهم».
دافع غونار ايكيلوف طوال حياته عن «الطيبة غير المنظمة», مؤمناً بطاقة الشعر الداخلية وقدرتها على التأثير الإيجابي في الطبيعة البشرية.
يحتفي في (Non serviam) الصادرة عام 1945 التي تعني باللاتينية: «أنا لا أخدم أحدا» بأولئك الذين ليس لهم مكانٌ داخل المجتمع المتحضر, بأولئك المنبوذين والغرباء, منتقداً دولة الرفاهية ونظافتها المفرطة ودُورِها الشعبية المعقّمة التي أضحت حتى الغيوم فيها مربعة الشكل. معبّراً في العديد من قصائد المجموعة عن هدفه الجديد بأن يعترف بلا معنى الحياة وأن يغدو واحداً من الناس فيها. كتب في إحدى مقالاته آنذاك بما معناه, لا معنى الحياة, يمنحها معنىً.
في مجموعة «في الخريف» (1951) تجد هذه السطور الشهيرة « لا أؤمن بحياةٍ بعد هذه/ أؤمن بهذه الحياة/ ؛ يفهم غونار إيكيلوف الحقيقة ككل وهذا الاكتشاف بحد ذاته قد يهبُ السعادة المطلقة. في عرضٍ قصيرٍ للكتاب بيّن الشاعر بأن قصيدة الديوان الأولى حقيقة (مُتَخَيلة) والأخيرة حلم (واقعي) تعطيان صورةً «للتطور والإيقاع الداخلي لهذا الكتاب الجديد»: من نصف عتمة إلى عتمة صاعقة, كنوعٍ ٍ من أجواء الغروب والاستمتاع بالحياة في أواخر الصيف إلى رؤيا سوداء يائسة وأكثر من متشائمة، لأنها تود مواجهة الحقيقة وتجبر روح الإنسان على الرضوخ لها. مرثية (مولنا), عمل أدبي هام, بدأ العمل فيه في أواخر الأربعينات, وصدر عام 1960, عبارةٌ عن سرد شعري, حكائي, بتراكيب موسيقية واضحة واستعارات واقتباسات من الأدب السويدي القديم. تتمحور الأحداث حول تاريخ العائلة, حول شخصياتٍ حاضرة وقريبة وأخرى مستعادة من غبش الماضي إلى النور, لتصوغ ملامح واقعها وتقاطيع مصائرها بنفسها, لتكون صلة الوصل بين الحاضر والمستقبل عند رصيف (مولنا) في جزيرة ليدينغة. القصيدة صعبة, وعرة وغامضة, ذات تراصفٍ هائل وكثيف للأفكار ومركزة المعاني, وقد تكون متأثرة بجحيم دانتي.
حاز أيكيلوف على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة سويدياً وعالميًا ومنحت آخر جوائزه قبل وفاته بأمدٍ قريبٍ لثلاثيته الصوفية الشهيرة التي اعتلى بها قمة الإبداع الشعري «ديوان عن أمير أمجيون»1965», حكاية فطومة»1966» ودليل إلى العالم السفلي» عام»1967». توفي عام 1968 إثر إصابته بسرطان الرئة عن عمرٍ ناهز الستين عاماً.
j h j
أؤمنُ بالإنسانِ الوحيدِ
أؤمنُ بالإنسانِ الوحيدِ,
الذي يتجولُ وحيداً,
الذي لا يهرعُ ككلبٍ صوبَ رائحةِ نفسه,
الذي مثلَ ذئبٍ لا يفرُّ من رائحةِ الإنسان:
إنسانٌ ونقيضُ- إنسانٍ في آنٍّ واحدٍ.
كيفَ نبلغُ التشارك؟
تجنّبْ الطريقَ العلويَ والخارجيَ المتطرفَ:
ما هو قطيعٌ في الآخرين قطيعٌ فيكَ.
سرْ على الطريقِ السفليِّ، الداخلي:
ما هو قاعٌ فيكَ هو كذلكَ قاعٌ في الآخرين.
صعبٌ أن تعتادَ على نفسِكَ.
صعبٌ أن تُـقلعَ عن نفسِك.
فمن يقومُ بهذا لن يُتركَ رغمَ ذلك وحيداً,
فمن يقومُ بهذا سوفَ يبقى مع ذلك دوماً متضامناً.
فعدمُ الانحيازِ هو السبيلُ العمليُ الوحيدُ
على مدارِ الوقتِ.
l مطرَّز صيني
عشُ الطائرِ الناري هو القلبُ.
مشيدٌ بأغصانِ الشرايينِ
مُبطنٌ بالجمرِ.
غَير أنّ الطائرَ هناك يحتضنُ حرارةً أعلى.
كأنَّ الجمرَ يندلقُ من صدرهِ والطرفين,
يستريحُ بلا حراكٍ على البيضةِ اللامرئية.
بجناحينِ مرفرفينِ، ينسدلُ ريشُ ذنبهِ على حافةِ الكتابِ
مُحلقاً لبرهةٍ كأنهُ يأتي بحشرةِ فكرٍ وصورٍ
مختفياً في حريرِ الهواءِ حالما يُقِلعُ.
مرئيٌّ مجدداً عندما يستريحُ على الجمرِ
مسوياً ريشهُ بمنقارهِ.
l بين زنابق الماء
كتبتُ مقدمةً, لِما كنتُ بصدد
قولهِ,
غيرَ أنَّي شطبتُها لكنني أرغبُ
قبلَ أن تُطبقَ العتمةُ فوقي،
أنْ يكونَ
آخرُ ما يُلمحُ مني
قبضةٌ بين زنابقِ الماءِ
وآخِرُ ما يسُمعُ مني, كلماتٌ من فقاقيعَ
تنبعثُ من القرارِ.
اليونان
آهٍ، يا الصومعةُ المطليةُ بالكلسِ
والأيقوناتُ المهترئةُ بالقبلاتِ!
بابُكِ مُقفلٌ
بمسمارٍ وشريطٍ من الصوفِ، حسب
كذاك الذي نجدهُ بين الأشواكِ
كالذي نَجدُلُهُ حولَ الإصبع.ِ
ثمّة قارورةُ الزيتِ، في الخدمةِ ما فتئَتْ
وكذا القنديلُ المُشحَّمُ والمجمرةُ
من أجل مَنْ لديهِ دراهمَ
لمنْ معهُ أعواد ثقابٍ.
أيقوناتٌ قديمةٌ وفتيّةٌ
وهَبَتْها الأمهاتُ.
المناسباتُ لم تُفْتَقَدْ بعد ـ
لأجلِ الذي ما زالَ في المعْبَرِ،
لمنْ أُختطِفَ من أجل الانكشارية،
لمنْ أضحَتْ تجاويفُ عينيهِ خاويةً،
لذاكَ الذي غابَ مع ماركوس ـ
هيَ طَبَعاتٌ فقيرةٌ تحتَ زجاجِها.
كبيرةٌ، صومعتُكِ، كزريبة أغنامٍ،
نواقيسُكِ للأغنام جلاجلٌ
مصعّدةٌ، ذات مكانٍ، عالياً، في الجبالِ
يا الصومعة ذاتَ القفلِ الصوفِ.
l مرثية
من باطني أحضرتُ المواساةَ دوماً
حيثُ يكمنُ دوماً ماءٌ باردٌ لعطشي،
حياتي المنـزويةُ النافرةُ
بودّي كان استبدالُها بحياةِ الأطفالِ السعداءِ، بحياتهم الراقصةِ بجوارِ البحرِ. البحرُ بتلألئ فناءٍ وألق قمرٍ، بودّي كان استبدالهُ، إذ يحيا المرءُ صيفاً واحداً، فالذي يرفرفُ يرفرفُ، والذي يعلو يعلو،
والذي يتخفى سيتخفى.
ليس بوسع أحدٍ التغيـيرَ
النافرُ هو من يريدُ أن يكونَ أحداً آخرَ
النافرُ هو من يريدُ أن يكونَ كلَّ شيءٍ
لَكَمْ متحجراً أضحى فرارهُ!؟.
ستنمو الطحالبُ على الحممِ
لكم أضحى تحجره ساخناً!؟.
صخرةٌ هو في مناعته
يستشعرُ عطشاً، ندى محيّاهُ
لا ينسى أبداً بأنه قد سالَ يوماً
لا ينسى أبداً باطنَ الأرضِ.
رأسٌ على رمحٍ
ادخل قطعتكَ النقديةَ النحاسيةَ في فمي، وامضِ في سبيلك
سوفَ لن أبتلعَها
سوفَ لن أبصقَها للخارج.
امضِ في سبيلك واتركني وحيداً مع دودتي
فما ابتلعتُه لم يكن سوى هاتين العينين
غيرَ أنَّ كلَ قطعةٍ منهما لا تساوي أكثرَ من قرشين
وعلاوةً على ذلك ليس بوسعي صرف قروشك الخمسة
ليس بوسعي الاحتفاظُ بها، خذها
وخذ هاتين اللؤلؤتين الميتتين بلا ثمنٍ
أو هذه السلسلة،
«رقعةُ الشاطئ هذه من شجرِ نخيلٍ»
هذا القفصُ من عظامِ صدرٍ، هذا الأثرُ المقدسُ من مدينةٍ
رأسٌ على سورِ المدينةِ، رأسٌ محملقٌ، بلا أعين
رأسٌ على مقبضِ بوقك رأسٌ تركيٌ، رأس ٌزنجيٌ.
على الأرجح أنكَ لستَ الوحيدَ الذي يتصاعدُ الدخانُ منه على وجهِ الأرضِ!.
l جــلاد
ما الذي ستفعلهُ بذراعي
اقطعْ الأولى
اقطعْ الثانية
عينايَ تبصرانك.
اغتصبتني
لا أتذكّرُ هذا
اعتقدتُ أنّ هذا غريبٌ وحسب
ستقطعُ الآن قدمَيّ
إحداهما أولاً
والأخرى لاحقاً
وسترى عينيّ،
سترى بأن عينيّ حيّتان
سترى بأنَّ العيونَ حيةٌ
اقطعْ في الأعلى نحو الفخذِ –
ترَ، أنّ عينيَّ لا تزالان حّيتين
نعم.
ما قولُك, يا جلادُ
ألا يهّيجُ هذا نشوةً فيك؟.
l ليال روميّة
سماءٌ صارمةٌ تزدريني.
أرضٌ صارمةٌ
تحت أرضٍ صارمةٍ!
تحت سماءِ بانتيون
يصرخ قطٌّ عليلاً من العشقِ.
لقد رأيت أمسياتٍ كمشاهدَ مسرحيةٍ
كواليسُها أزقةٌ وأناسُها أقنعةٌ
تؤدي دَوراً في لعبةٍ للظلِّ أمامَ أنوارِ الحاناتِ
ملوحةً بسيوفٍ وهمية
بجيوشٍ بارونية وهمية. وطابورُ فقراء الشعب الذي يضج بمُتَلَقّي الحساء من
المطبخ العجائبي
بين جدران كفيرينال باستيون. وضبابِ الشتاءِ القاسي
الكثِّ في تيبر ـ
في مكان ما من هذه المدينة
يكمن الحجرُ الخطرُ
الذي ينهارُ تحتَ القدمِ
الذي يُتوقّعُ انهياره تحت خطى أحدِهم
فيهوي بلا حولٍ إلى أرضِ الأشكالِ المصغرة ـ
في مكانٍ ما من الليلِ
تقف «سوراكت» البيضاء مدثرة بالثلج.
المياهُ الغابرةُ ترنُّ
أيضاً تمهلّتُ أرنو إلى قطٍّ
واسعِ العينين، يتجول للمرةِ الأولى على وجه الأرض
قد ولِد تواً من حفرة المجاري القريبة
متحفزاً تماماً كي يلهو بقطعةِ لحمٍ متلفةٍ كما بجرذٍ
غير مدركٍ للخطرِ الآتي من الكلابِ والعربات
أظن أنك أكثرُ معرفةً مني بالعالم السفلي.
أين ولدتَ؟ في نفقِ مجارٍ قذرٍ
أو في غرفةٍ شبهِ مهدمةٍ
حيث لاتزالُ تقبعُ أفروديتٌ أخرى من المرمرِ
غيرُ مكتشفةٍ
عذراءُ، محجوبةً عن الأنظار لأكثر من ألفِ عام.
أكان من رحمِها, مسقطُك أنت وهذه القطةُ النحيلةُ القذرة؟.
تحت سماءِ بانتيون
يصرخُ قطٌّ عليلاً من العشق.
أطالبُ لكافةِ القططِ
بعالمٍ سفليٍّ صارمٍ.
على سجادة السماء الزرقاء
على سجادةِ السماءِ الزرقاء
الغيوم ألوانٌ
بخفةِ ريشةِ الريحِ
تغدو على الأرض ظلالاً
ينحتُ الغسقُ منها
مملكةَ هاديس
حيث تنمو زهورُ الأوركيديا البيضاء.
هامش:
هاديس في المثيولوجيا الإغريقية، إله الموت.
الترجمة عن السويدية والتقديم: كاميران حرسان