غيرترود بيل
ترجمة محمد مظلوم *
ظهرت الطبعة الأولى من كتاب غيرترود بيل (قصائد من ديوان حافظ) والذي ضم (دراسات ومختارات من غزلياته إضافة إلى شروحات وملاحظات) عام 1897 وقد أشاد به المستشرق المختص بتاريخ الأدب الفارسي إدوارد براون واصفاً إياه بأنه (أفضل عمل إنجليزي عن هذا الشاعر الفارسي فترجمة (بيل) شعر حقيقي من طراز رفيعٍ للغاية، وباستثناء إعادة صياغة (فيتزجيرالد) لرباعيات عمر الخيَّام، فهي الأفضلُ بلا جدال من حيث الأداء، والترجمة الأكثر شاعرية من بين جميع الشعراء الفرس الذينَ تُرجموا إلى اللغة الإنجليزية على الإطلاق) (الأدب الفارسي تحت حكم التتار) ص. 303.
وقد جرى الاهتمام بهذا الكتاب في الغرب مؤخراً في سياق المراجعة الجديدة للإرث الثقافي لهذا الشاعر الفارسي وأثره في التراث الحضاري الإنساني فأعيدت طباعته بطبعات عدة خلال السنوات الأخيرة لما له من أهمية نقدية جعلت منه مصدراً أساسياً في أية قراءة حديثة لتجربة حافظ في شعره وحياته ومن بين تلك الطبعات طبعة مؤسسة فرانكلين 2018) وطبعة منشورات دوفر نيويورك بعنوان 2012 إذ تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يلقي ضوءاً مختلفاً على شعر حافظ، كما أن المختارات نفسها تعتمد على روايات مختلفة عن نسخ ديوان حافظ المعروفة والمتداولة في الفارسية أصلاً، ناهيك عن ترجماتها العربية، فهذه الباحثة التي اعتادت التنقيب في عالم الآثار والمخطوطات، مثلما اعتادت الترحال في أقاليم الشرق وأطلال مدنه الميتة، وعوالم مدنه الحية، أتيح لها أن تقلَّب خفايا النصوص سواء في المدونات المجهولة أو المخطوطات المطمورة أو المطبوعات، وأن يكون بحوزتها كنزٌ نفيس من المخطوطات النادرة لقصائد حافظ إضافة إلى بعض الأعمال المطبوعة في مختلف اللغات بينها نسخ عدَّة لمخطوطات نادرة من ديوان حافظ بما فيها الطبعات الشعبية، إضافة إلى الطبعة التركية (بشرح سودي) وطبعة بركهاوس في لايبزيك عام1854 والنص الفارسي الذي نشره (روزنتسفايج شفاناو) مع ترجمته الألمانية، كما تشير إلى نسخة تلميذ حافظ (سيد قاسم أنوار) وهي نسخة غير معروفة، بل المعروف أن رواية (محمد كلندام) هي التي نسخت عنها نسخ ديوان حافظ، إضافة إلى الترجمات الألمانية وقد راجعتُ أشهر الترجمات العربية لشعر حافظ أو غزلياته أو مختارات منها وبينها نموذجان للترجمة العربية لغزليات حافظ الأولى: هي الترجمة الأشهر عربياً والتي صدرت في مصر في الأربعينات بترجمة (أمين الشواربي) واعتمد فيها نسخة طهران لعبد الرحيم خلخالي المعروفة بنسخةِ خلخالي. والثانية ترجمة لديوانه صدرت مؤخراً عن الهيئة السورية للكتاب بترجمة علي عباس زليخة. الذي اعتمد فيها تحقيق محمد قزويني وقاسم غني، أو ما يعرف بنسخة مشهد أو نسخة قزويني. ووجدت اختلافات كثيرة وواضحة وزيادات في القصائد، والأبيات، في الأشعار التي ترجمتها (بيل) بما يجعل كتابها ينطوي على زيادات ربما لا توجد حتى في الطبعات الفارسية العديدة لديوان حافظ.
لقد كانت (بيل) سباقة فعلاً في إماطة اللثام وكشف المحجوب والمحذوف من شعر حافظ وعن التفسيرات السائدة، حتى الآن، عن طبيعة شعره وتجربته، وبعد قرن من الزمان استرشد رموز الحداثة في إيران بذلك الاجتهاد المبكر، فكتب (أحمد شاملو) في مقدمته لديوان حافظ، ما يحاكي هذه الفكرة، وكذلك ما فعله المخرج الإيراني (عباس كيارستمي) مسترشداً بذلك الكشف المبكر والذكي ليكتب مختاراته من شعر حافظ مرجحاً السمة الحسية اليومية في شعر حافظ انطلاقاً من هذه الفكرة.
لا توجد نسخة موثوقة موحَّدة من ديوان حافظ حتى الآن، إذ يختلف عدد القصائد من غزليات ومثنوي ودوبيت وسواها، في الطبعات المختلفة للديوان ما بين 573 إلى 994 قصيدة، ولم يتمّ تحقيق أعماله وجمعها إلا منذ أربعينيات القرن العشرين، وجرت جهود بحثية متواصلة تمثلت في عشرات المحاولات من شعراء وأدباء وأساتذة جامعيين إيرانيين، لتحقيق ديوان حافظ وما سمي (حذف الأخطاء) التي أدخلها الناسخون لاحقاً. ومع هذا بقيت مصداقية كلّ هذه الأعمال عرضةً للتشكيك، وعلى حد تعبير الباحث الأمريكي الإيراني (إيريج بشيري) المختص بحافظ وبذلك (يبقى الأمل ضئيلاً في الحصول على نسخة موثوقة من الديوان من «إيران»)
وفي الخلاصة فإن كتاب بيل عن حافظ، ليس مجرد ترجمة لغزليات حافظ تضاف إلى عشرات الترجمات لمختلف اللغات لكنها تحقيق آخر برواية مختلفة، وصياغة بارعة تضفي نكهة أخرى للغزليات وتفتح أفقاً مختلفاً لقراءتها سواء في النصوص أو الدراسة والشروحات المصاحبين، وبهذا تتضح أهمية هذا الكتاب.
هنا ترجمة لمختارات من غزلياته والملاحظات القيمة عنها.
1
ألا يا أيُّها الساقي أدِرْ كاساً وناولْهَا*
لشفاهٍ عَطشتْ لطاسةٍ مَدَحُوها.
فإنَّ العِشْقَ بَدا لي سَهْلاً
ولكنْ زلَّتْ قَدَمي على طُرقِهِ الْمُشكِلَة
لقدْ صليتُ للريحِ لتُذري على قَلْبي
عبيرَ الْمِسْكِ النَّائمِ في ليلِ شَعْرها**
فيا لِذَاكَ الشميمِ كمْ أجْرَى
دُموعاً مِنْ دَمِ قَلْبي،
قَلْبي الوالهِ الباكي.
اصغِ لنصيحةِ سادنِ الحانةِ***:
واصبغْ سجَّادةَ صلاتِكَ بالخَمْرةِ، بالخَمْرةِ الحمراءِ اصْبَغْها
فما مِنْ سَالكٍ مِثلهُ يعرفُ الدروبَ
إلى الحانِ والخانِ.
وما طِيْبُ إقامتي بِدارِكَ، يا مُهجةَ القَلْب،
وخَلْفَ البابِ أجراسُ الجِمَالِ
تجلجلُ في الليلِ
نائحةً صائحةً:
حمِّلوا الأحمالَ وابْدَأوا التَّرحال.
الأمواج هائجةٌ، والليلُ مُسربلٌ بالخَوفِ
ودوَّاماتٌ مدوِّمةٌ تتلاطمُ وتدوِّي.
فأنَّى لصوتي الغريقِ أنْ يَقرعَ أسماعَ
مَنْ بلغوا الشاطئَ بقواربِهم الخَفيفة.
سعيتُ لرغائبي، في سِنِيِّ السَّرَفِ،
فجَلبتُ لِنَفْسِي سمعةً شائنةً.
بأيِّ رداءٍ سأسترُ خِزْيَ رُوحي
حينَ يلهجُ بعاري كُلُّ فَمٍ هَازئ.
أسعَ يا «حافظ» لإنهاءِ الجدَل
واحفظْ بعقلِكَ مَا أوْصَى بهِ الحكماءُ:
إذَا مَا تَلْقَ مَنْ تَهْوى دَعِ الدُّنْيَا وأَهْملِهَا.
صياغَةٌ مَوزونة
ألا يا أيُّها السَّاقي أدِرْ كأسَاً وَنَاوِلْهَا
فَفِي شَفَتي لها عَطَشٌ فقُمْ بالراحِ قبِّلْهَا
ظننتُ العِشْقَ سَهْلاً ثمَّ زلَّتْ خَطوتي البَلْهَا
غَفَا الْمِسْكُ بخُصْلتِها إلا يَا نَسْمُ غَازِلْهَا
وهيِّجْ نفحةً مِنْهَ لِقَلْبي الصَّبِّ واحْملْهَا
فيا للمِسْكِ كَمْ أَجْرَى دَماً مِنْ مُهْجَتي الْوَلْهى
إذَا مَا شَيْخُكَ الخمَّارُ أفْتَى فَلْتُعَجِّلْها
فَمَا مِنْ مِثْلِهِ يَدْرِيْ دُرُوباً لَمْ تُواصِلْهَا
وخضِّبْ بالطِّلا سجَّادةَ الصَّلواتِ واغْزِلْها
وَما طِيبُ الإقَامَةِ لي بِدَارِ الخِلِّ سائلْهَا
وخلفَ البابِ أجراسُ الجِمَال تَصيحُ: حمِّلْها
أَعَاصيرٌ وأمواجٌ، وَليْلٌ لمْ يُذلِّلْهَا
فإنْ أندبْ بِصَيْحَاتي هَدَيرُ الموجِ يَخْذلْها
هباءٌ صيحةُ الْمَنجى إلى ما شِئْتَ واصِلْها
فقدْ بعُدَتْ قَواربُهُمْ تخفُّ فلا تُؤمِّلْها
سَعيتُ لرَغْبَتي سَرَفاً وساءتْ سُمْعَتي دَلْهَا
ضَلالُ النَّفْسِ أخْزَاني وعَارِي لم يظلِّلْها
فما سِترٌ لأسرارٍ غدتْ أُحدوثةَ الْمَلْهى
إلا يا «حافظُ» احفظْ حِكْمةَ الحكماءِ وافْعَلْها:
إذَا مَا تَلْقَ مَنْ تَهْوى دَعِ الدُّنْيَا وأَهْمِلْهَا
2
غرَّدَ طائرُ الخميلةِ لوردةِ*
تفَّتحتْ للتوِّ في الفَجْرِ الصافي:
احني رأسَكِ تواضُعاً
وأنتِ في هذا البُّستان.
فكمْ مِنْ ورُودٍ قبلَكِ تفتَّحتْ ثمَّ ماتتْ.
ضَحكتِ الوردةُ وقالتْ:
لقدْ خُلقْتُ لأَذْوِي لا ليحزنَ قلبي.
لكنْ ما مِنْ عاشقٍ حقيقيٍّ
يكسرُ خاطرَ مَعْشوقِه بكلماتٍ مُرَّة.
اتخذْ عَتَبةَ الحانِ خَاناً لكَ.
فشميمُ الحبِّ القدسيِّ لنْ يصلَ إلا لِمَنْ
مَرَّغَ خدَّهُ بتُرابِ تلكَ العَتَبة.
وإنْ رغبتَ بخمرةٍ حمراءَ كالياقوتِ
تطفحُ من كوزِ الحياةِ المرصَّعِ بالجواهر،
فعلى عيونِكَ أنْ تخرزَ عَلى رَموشِكَ عِقْداً
من ألفِ دمعةٍ جرَّاءَ هَذي الجُرأة.
أَمْسِ حينَ غفتْ حَديقةُ «إرم» السحرية**
تطوَّحتْ ضفائرُ الخزامى الأرجوانيَّةُ،
بنسائمِ الصباحِ عبرَ مَمْشَى الحديقة.
فَيا عرشَ «جمشيدَ»
أينَ كأسُك، مرآةُ العالم؟
وأين الحبُّ…، وبكيتُ.
ولم تجبِني النسماتُ.
بل تنهَّدتْ:
اسفاً على تلكَ الغَبْطةُ تنامُ طَويلاً
وبكتْ! ***
سرُّ العِشْقِ لا يُودَعُ على شِفاهِ البَشَر،
ناءٍ ولا يُدْرَى أينَ يأوي.
فَعَجِّلْ أيُّها السَّاقي،
واخمدْ هذا الَّلهْوَ الفارغَ
بِنَشْوةِ خمرةٍ سماويَّة.
الصبرُ والحكمةُ، غَرِقَا،
في بحرٍ مِنْ دُموعِكَ.
فيا لبؤسكَ يا «حافظ»،
فلا هي تخفُّ ولا هيَ تَخْفَى عَنْ أعينِ الفضول.
3
أيَّتُها الجاريةُ التركيَّةُ من «شيراز»
إذا أخذتِ قلبي رهينَ يَدِك،
سأُقايضُ «بُخَارى» و«سمرقند» *
بالشامةِ على خدِّكِ.
أَيُّها الساقي هاتِ خمرَكَ واسْقِني حتَّى الثُّمالة.
ففي جنَّةِ الفِردوسِ عبثاً ستبحثُ
عنْ حافةِ ينبوعِ «ركن آباد»
وعن عرائشِ «المصلَّى» حيثُ يَلْتفُّ الورد.
لقدْ مَلأنَ المدينةَ بالدمِ والفِتْنةِ
أولئكَ «اللولياتُ* عذابَ الأصوات
ولأجلهنَّ أَطْلَقنا الحَسَرَات
وكما تغيرُ عصابةٌ تركيَّةٌ على الغَنِيمة**
سَلبْنَ قَلبي ونهبنَ منهُ السلامَ.
مَهْرُ حبيبتي غالٍ، وأنا شحاذ
فما عسايَ أقدِّمُ لها؟
فالوجْهُ الجميلُ ليسَ بحاجةٍ
للحُلْي ولا نقشِ شامةٍ على الخدّ، ولا تفنُّنِ الوصيفةِ المُتعِبةِ.
أروِ لنا الأحاديثَ الجسورة عن المطربينَ والخمر.
فمفتاحُ الغيبِ سَعْيٌ باطلٌ
ولا حيلةَ لنا لفَتحِ ذاكَ البابِ،
ولسوفَ يَبْقى القفْلُ على حِكْمتنا.
ليتغنَّ العُودُ بجمالِ يوسف***
فالْمُغنِّي يَعْرفُ أنّ «زليخا» كشفتْ حِجابها.
وأنَّ العشقَ يشقُّ ستارَ الحِشْمَة.
إنْ دعوتَ على عَبدِكَ بالبلاءِ،
فَسَيدعو اللهِ أنْ يغفرَ لك!
لأنَّ حديثَكَ حلوٌ
فأهلاً بالجوابِ المرِّ مُنهَمِراً
مِنْ شفاهِ يكمنُ فيها القَندُ والياقوتُ.
لكنَّ اسمعْ نصيحةَ العارفِ، عنْ جمال العِشق:
الشبابُ يحبُّونَ أكثرَ مِنْ حبِّ الحياة نفسِها.
تلك عِبْرةٌ مِنْ عارفٍ وَخَطهُ الشيبُ.
الأغنيةُ تُنشدُ والجواهر تُنظَمُ،
فتَقدَّمْ، يا «حافظ» وغنِّ مِنْ جديدٍ
حتَّى تفكَّ الأفلاكُ الْمُصغيةُ مِنْ فَوقِك
قِلادَةَ الثريّا وتنثرُها على أبياتِ شِعْرك.
4
نسيمٌ غربيٌّ يهبُّ مِنْ رَوض الجنَّة*
مُتخللاً أوراقَ جَنَّتي على الأرْضِ،
سَأحْظَى بالنَّعيمِ مَعَ حبيبةٍ كَمِثلِ حُوريَّةٍ
وَالخَمْر! هاتِ لي الخَمْرَ، منَّاحَ الْمَرح!
فَاليومَ يُمكنُ للشحَّاذِ أنْ يتيهَ بنفسِهِ مَلِكَاً.
فَرِواقُ مأدُبتهِ حَقْلٌ يانعٌ.
وخيمتُهُ الظلُّ الذي تُلقيهُ الغيومُ الخَفِيضَةَ.
حكايةُ نيسانَ تنتشرُ في الحقول:
أحمقُ مَنْ يَسْتلِفُ بالآجلِ،
ويتركُ القَبْضَ العَاجِلَ مِنْ حاضِرٍ هائِلْ!
شيِّدْ حِصْناً من الخَمْرة بما يُبقي قَلْبَكَ شُجَاعاً
إزاَءَ هجومِ الدُّنيا،
عِنْدَما تَسقطُ حصونُكَ الأُخْرى
فالمنتصرُ الشرسُ ينوي أنْ يعجنَ مِنْ تُرابِكَ
آجُرَّاً يرمِّمُ بهِ جُدرانَهُ الخَرِبة.
لا تثقْ بوعدٍ مِنْ هذا العدوِّ في الْمَعركة!
أرأيتَ سِرَاجَ الكنيسِ يُقْبِسُ لهبَهُ
لإيقادِ مَشكاةٍ صومعتِكَ الرُّهبانيَّة؟**
أنا سكيرٌ، لكنَّ اسْمي لمْ يدوَّنْ ***
في صحيفةِ أعمالي السودِ، ولستُ مداناً
فمَنْ مِنَّا يَدْري بما خطَّهُ أصبعُ القَدرِ الخفيّ
عَلى جَبينهِ النَّاصِع!
وحينَ تفرُّ روحُ «حافظ».
امْشِ خلفَ نَعْشهِ مُؤبِّناَ بحسَرَاتٍ
فمع أنَّه غارقٌ حتَّى رأسِه في مُحيطٍ من الذُّنوبِ
فَقَدْ يجدُ له بَرَّاً في جنَّةِ الله ****
5
أينَ حَياتِي الخِرَبة،
وأينَ صيتُ الصَّلاح؟
انظرْ إلى طَريقي المرسومِ منذُ عهدٍ بعيد،
مِنْ أينَ جَاءَ.
وإلى أينَ يَقُود!
ما صِلَةُ السّكْرِ بالتَّقْوَى والصلاح؟
وأينَ هيَ مَواعِظُ إمامَ الْمَسجدِ،
وأينَ هُوَ العود؟
تحرَّرَ قَلْبي مِنْ صَومعةِ الراهب والزيِّ الكاذِب.
فأينَ هو مزارُ الحانةِ، وكاهنُ الحانة. وأينَ هُوَ الخَمْرُ؟
أيَّامُ الوِصالِ الفَائتةُ، خلَّفتْ ذَكْرَى عَذبةً.
فأينَ ولَّتْ تلكَ النَّظراتُ، وأينَ مُلاقاةُ العتابُ؟
وجهُ المحبُّ الوضَّاءِ لا يُدفِّئ العدوَّ
حينَ يَنْتهي الحبُّ.
أينَ هو الفانوسُ الْمُطفأ الذي جَعَلَ النَّهارَ ليلاً، وأينَ هِيَ الشَّمْسِ؟
أسجدُ على عَتَبتِكَ، وأكحِّلُ عينيَّ بالترابِ
إلى أينَ ذهابي مِنْ حَضْرَتِكَ؟
وأنتَ في كلِّ مَكان.
لا تنظرْ إلى غمَّازةِ حنكِها،
فثمَّةَ خطرٌ يتربَّصُ هناك!
أينَ سَتَخْتَبئ، يا قَلْبي المرتعدُ،
وإلى أينَ تفرُّ بهذا الاندفاعِ الْمَجْنُون؟
لا تسلْ يا خَلِيلي،
إذا ما حافَظَ «حافظٌ» على الصَبْرِ والعزيمة،
فلقدْ نسيتُ الصبْرَ والعَزيمة.
وأينَ هُوَ النوم؟
6
بقطراتٍ مِنْ دَمِ قلبِهِ
سقى البلبلُ وردةً حمراءَ
ثمَّ جاءتُ الريحُ وأطبقتْ على الأغصانِ بِطبعٍ حسود،
فتشابكتْ مائةُ شوكةٍ حولَ قلبِهِ.
مثلَ ببغاءَ تطحنُ بأسنانِها قنداً، بُمتعة.
فَبَدا لي العالمُ غيرَ قابلٍ للبقاء
ورياحُ الموتِ جرفتْ آمالي بعيداً.
نورُ عيني ومحصولُ قلبي.
وحصَّتي الأخيرةُ من ذكرى لا تزول!
حينَ وجدَ الرحيلَ سهلاً.
ترَكَنِي للرحلةِ الأصعب.
يا حَاديَ العيسِ، إنْ شُدَّ الرِّحالُ
باللهِ عليكَ أعنِّي على رفعِ حملي الْمَطْروح
وكنْ لي في الطريق رفيقي الشفوق!
وجهي مَدْروزٌ بالترابِ، وعينايَ مبتلَّتان
الغبارُ ودموعُ السماءِ الفيروزية*
يعجنانَ الأجرَّ لمنزلِ السرور، وها أنا…
وا حسرتاه، باكياً أصوغُ الرثاء!
لأنَّ القمرَ وَضَعَ عينَ الحسد**
على القوسِ المحني لحاجِبَيْ قَمَري،
فالتمسَ لهُ في القبر مَنْزلاً قبلَ أوانهِ!
ولم أكنْ قدْ تحصَّنْتُ بالقلعةِ
وَقدْ فاتَ الوَقْت***
ماذا سألعبُ؟ على رقعةٍ متقاطعةٍ
من ليلٍ ونهار،
لقد فازَ الموتُ باللعبةِ-أيُّها البائس
فلامبالاة بعد الآنَ،
فليسَ لدى «حافظ» المزيد ليَخْسَرهُ.
7
ما المحصولُ مِنْ مَشغلِ العيشِ والحياةِ
كلُّهُ لا شيءَ.
إلا فأملأْ لي الكوزَ
لأنَّ اللا شيء هو الذخيرةُ إزاءَ فتنةِ الدُّنيا.
شغفٌ وحيدٌ يحفِّزُ القَلْبَ والرُّوحَ:
ترقُّبهما الوحيدُ لحضورِ الْمَحبوبِ،
وإلا،
فالقلبُ والرُّوحُ سيقعانِ في القسمة الضيزى.
حيثُ كلُّ الأشياءِ لا شيء!
مثل قدحٍ فارغٍ نصيبُ كلٍّ مُنهما.
وكانَ أَحْرى أنْ يمتلئ من فيضِ الحياةِ الهائل،
عَدَمٌ كدحك، وإنْ بلغتَ بوَّابةَ الجنَّة،
إذا امتلأَ قدحُكَ الآخرُ بالدم*
لا ظلَّ يمكنُ أنْ تشتريهِ بصلاتِك من الأشجارِ المحمَّلةِ بأثمار طيِّبة.
إلا تَرى يا سرْوَ الحقيقة،
أنَّ السدرةَ وطُوبى؟ **
كلَّها بالنسبةِ لك
لا شيء!
أمدُ عمركَ كمثلِ خمسةِ أيامٍ وجيزاتٍ،
ساعاتٌ قصارٌ، تمرُّ سراعاً،
فاسترحْ في هذا المكانِ المحطَّة،
ما دامَ الظلُّ متأخِّراً عن الزوال.
لأنَّ الزمَنَ نفسَهُ والمزولةَ أيضاً
كلًّها لا شيءَ،
نتريَّثُ على شفا الفناءِ
وقصيرةٌ هي المسافةُ من الشفةِ إلى الفمِ
حيثُ نمضي.
بينما اللحظةَ ملككَ، فاملأْ الكأسَ،
أيُّها الساقي،
قبَل أنْ يصبحَ كلُّ شيءٍ لا شيء
تأمَّلِ الوردةَ التي يفلقُها البرعمُ.
لا تتبرَّمْ
رغم أنَّها تَذوي وتموت.
والقُوى العظيمةُ في العالمِ تستمرُّ إلى حينٍ،
ولكنْ لا شيء من عَظمَتها يدوم.
لا تطمئنْ، تماماً، بشأنِ تاجِكَ،
يا منِ اعتقدتَ أنَّ الفضيلةَ جاءتكَ سهلةً وَثواباً لك،
فالطريقُ من الصَّومعةِ إلى بوَّابةِ الخمَّارة
لا شيء. ***
ومعَ إنِّي تجرَّعتُ مِلْحَ دُموعِي،
وَمَع أني احترقتُ بنيرانِ الحُزنِ،
أعليَّ أنْ أبكي بصوتٍ عالٍ لأُسمعَ أذاناً صمَّاء؟
أأندبُ بصمتٍ! ولا شيءَ يأتي بالغوثِ.
أنت، يا «حافظ» لديكَ من القصائد ما يُثنى عليهِ،
وسواء اشتُهِرتَ بسمعة مُسْرِفَة أو مُشرِّفة،
فسيشعلُ الندامى الضوءَ من شُهرتك. ****
كلُّ الأشياءِ لا شيء.!
صياغة موزونة
في مَشْغَلِ الكَوْنِ أيُّ العَيْشِ يُغتَنمُ
لا شيءَ إذْ كلُّ شيءٍ كُنْهُهُ العَدَمُ!
فاملأْ لي الكأسَ بالنسيانِ فالعَدَمُ
ذخيرةُ الحربِ في دُنْيَا سَتُخَتَتمُ
القلبُ والرُّوحُ لا يَعْرُوهما شَغَفٌ
سِوَى ترقُّبِ محبوبٍ هُوَ الحلمُ
وإنْ نأى فَسِهَامُ الحظِّ باطلةٌ
لا شيءَ إذْ كلُّ شيءٍ كُنهُه العَدَمُ!
والقلبُ والروحُ في قِدْحَيْهُما فَشلا
كلاهما قَدَحٌ مِنْ خَمْرةٍ عَدَمُ
وكانَ أجْدَرَ أنْ يُرْضي مُرادَهُما
فيضُ الحياةِ فَيقْضِي أربَهُ النَّهَمُ
إذا بلغْتَ مِنَ الفِرْدَوسِ عَتْبَتَهُ
فإنَّ كدَّكَ بعدَ الغايةِ النَّدَمُ
فَما لذاذةُ كأسٍ بالطِّلا امتلأتْ
إنْ كانَ مِنْ كأسِكَ الأخرى يفيضُ دَمُ
فلا تُصلِّ لأشجارٍ مُحمَّلةٍ
فلَنْ تبيعَكَ ظِلًّا حينَ تَرتسِمُ
ما ظلُّ سِدْرةَ أو طُوبى إنِ اجْتَمَعا
إزاء ظلِّكَ يا سَرْوَاً بهِ شَممُ
ومُهلةُ العُمرِ أزمانٌ مُقدَّرةٌ
كمثلِ خَمْسَةِ أيَّامٍ وتنصرِمُ
فَطَالَمَا مكثَ الظلُّ استرحْ زمناً،
فالوقتُ في مزولاتٍ كلُّهُ عَدمُ
نُطيلُ عِنْدَ شفَا الآجالِ مُهْلتَنَا
وبرزخُ الشفتينِ: الثغرُ والعَدَمُ
والآنَ مُلْكُكَ فامْلأها مُشَعشعةً
مِنْ قَبْلِ أنْ يَحْتَوِينا ذَلِكَ العَدَمُ
انظرْ إِلى وَردةٍ شُقَّتْ بِبرعُمِها
لا تَشْتكي حينَ تَذْوِي وهْيَ تَبتسِمُ
وبرهةُ القوَّةِ العُظْمَى إلَى أَمَدٍ
فَلنْ يدومَ لَها مَجدٌ ولا عِظَمُ
لا تفخرنَّ بزُهدٍ فِيهِ تَعْتَصِمُ
مَسافةُ الدَّيرِ عَنْ خَمَّارةٍ قَدَمُ
ولِمْ عَليَّ وقدْ ذُقْتُ الْمُلوحةَ مِنْ
دَمْعِي وأَحْرَقَني حُزنٌ لهُ ضَرَمُ
أنْ أشْتَكِي صَارِخَاً في ليِلِ فَاجِعَتي
لأطلبَ الغُوثَ ممَّنْ سمعُهمْ صَمَمُ
لديكَ يا «حافظٌ» مَا يَسْتَحقُّ ثنا،
تلكَ القصائدُ إذْ غنَّتْ بها الأُمَمُ
سيَّانَ سمعتُك الحُسْنَى أو الوَصَمُ
مِنْهَا سَيقتبسُ الندمانُ ضوءَهمُ
وكلُّهُ ليسَ ذا شأنٍ بِعُرفهمُ
إذ كلُّ شيءٍ حِيالي كُنهُهُ العَدَمُ!
8
كُلُّ حاصلِ سعادةِ الدُّنيا
لا يُساوي انحناءةَ رأسٍ في لحظةِ أسى،
وإنْ بعتُ ثوبَ الدراويشِ* لأشتري خمراً،
فما أربحُهُ يُساوي أكثرَ مما بِعْتُ.
بلادي حيثُ تسكنُ مولاتي، وأنتَ الأجرأُ على تَقْيِيدي
وإلا فليستْ (فارس) سوى تُربةٍ قاحلةٍ.
لا تُساوي الرحلةَ براً وبحراً
لا تُساوي المشقَّة!
في حي الخمَّاريين حيث يَبِيعونَ الخمر.
سجَّادةُ صلاتي لا تكادُ تَشْتَري لي كأسَاً.
فَيَا لجَسَارةِ عُهْدةِ تقوايَ
وهيَ لا تُساوي رغوةً أعلى الكأس**
غريمي أنهالَ عليَّ مُوبِّخاً:
اخرجْ مِنْ بابِ الحانةَ!
لماذا دُفِعتُ مِنْ العتبةِ؟
وَمَا لرأسي المطروحِ على الأرض
لا يُساوي التُّراب؟
أغَسلْ رداءَكَ الحزينَ الذي لوَّثَهُ السَّفَرَ حتَّى يبيضَّ
حيثُ يُصبحُ القولُ والفعلُ كلاهما بلونٍ واحدٍ. ***
فكساءُ العنبِ الأرجواني النقيّ أنصعُ مِنْ
خِرقَكِ الملوَّنة، وثيابِكَ الْمُرقَّعة.
بلاءُ البحرِ بدا لي سهلاً تماماً
مخفّفَاً بأملِ في الربح،
وَقَدْ طارَ الأملُ سريعاً!
مائةُ جوهرةٍ كَانتْ عِوَضَاَ زَهِيداً.
لا يُساوِي العاصفة. ****
تاجُ السلطانِ، المرصَّعُ بالجواهرِ الثَّمينةِ،
طوّقٌ مُخيفٌ من الموتِ والفزع الدَّائمِ،
هو غطاءُ الرأسِ المنشودُ دوماً ولكنْ
أيُساوي المجازفةَ بالرَّأسِ؟
خيرٌ لَكَ أنْ تُخْفِي وَجْهِكَ عمنْ يَشتاقُون إليك.
غَنيمةُ الفَاتحَ لا تُساوي أبداً مَشاكلَ الجيشِ طويلةَ الأَمَدِ،
تتساوى النَّارُ والسيفُ.
ابحثْ عَنْ كنزَ العَقْلِ في السَّكينةِ
وخَزِّنْهُ في خزانةِ الطّمأنينة،
فهو لا يُساوي قلباً وفيَّاً، وصدراً هادئاً.
أين كُلُّ ثرواتِ أراضيكَ وَبحارِك؟
ألا انبذْ مثل «حافظ» مُتَعَ الدُّنيا،
ولا تطلبْ مِنْ الدنيء حبَّةَ إحسانٍ واحدة.
فمائتا كيسٍ من الجواهرِ ما كَانتْ لتساوي
خِزْيَ رُوحِك.
9
في كُلِّ الحاناتِ!
لا أحدٌ مِثْلَي
مُمْتَلئٌ بالجنونِ
رِدَائي المتَّسِخُ مُلْقى هُنا.
وَدَفْتَري المُهمَلُ، هناكَ
وكلاهما مَرْهونٌ للخَمْرِ.
قَلْبي يعلوهُ غبارٌ كثيفٌ.
وكانَ ينبغي أنْ يكونَ صَافِياً
كمرآةٍ يتمرأى فِيْهَا وجهُ الشَّاهِ.
يَا إلهي!
أريدُ شِعاعاً واحداً مِنَ النُّورِ الْمُنبعثِ مِنْ مَسْكَنِكَ
ليخترقَ ليلِي،
وَيُقرِّبَني إليك.
أجريتُ جدولاً
من عينيَّ إلى ذيلِ ثوبي
لعلَّ شَجَرةَ سروٍ شَاهقة
تُغرسُ بجانبِ الجَدولِ
فترتوي جُذورُها مِنْ دُموعِي.
إلا، هاتِ لي سفينةَ خَمْرِ!
فمنذ غابَ وجهُ حَبِيبي،
وطوفانٌ مِن الحُزنِ يَفِيضُ مِنْ قلبِي.
ويُحوّلُ عينيَّ إلى بحرين مُرّينِ!
سأتوبُ على اليدِ التي تَبِيعُني الخَمْرَ،
ولنْ تمسَّ شِفاهِي كأساً مُترعةً
حتَّى تزيّنَ حَبيبتي مَجْلسي بحاجبِها الوضَّاءِ
وحتَّى يَظهرَ سرُّ الحبِّ في فلتاتِ لِسَانِها،
مثلَ لهبٍ مِنْ لِسَانِ الشَّمْعَة،
وإلا فَمِنَ الخِزْيِ
ألَّا تجرُؤ فَراشةٌ محترقةٌ أنْ تمجِّدَ
نورَ الحبِّ دون ظُلمةٍ.
إني أعبدُ الخَمْرةَ، وأَعْبدُها!
فلا تحدِّثْني عنْ سِواهما،
فَوحَدْهما يَهمَّاني في الدُّنيا والآخرة.
وإنْ تباهى النَّرجسُ تِيهاً
على عينيكَ الوضَّاءتينِ بأنَّه أكثرُ لمعاناً.
لا تلتفتْ له! فَذَوي البَصَر
لا يتبعونَ مَنْ ينكرونَ النُّور.
وقتَ السَّحر،
غّنَّى نصرانيٌّ عندَ بابِ الحانةِ
على صَوتِ الطبْلِ والْمِزمَار،
وَهَتفَ مَسْروراً عند أذنِي ببُشراءِ المرحِ:
إنْ كانَ الإيمانُ الحقُّ كَمَا ترى.
فوا حسرتاه! يا «حافظ» بِأَنَّ يَعْقبَ هَذا اليومَ الجميلَ
غدٌ مَجْهول.*
10
شُربُ الخَمْرِ بِخفيةٍ والعشقُ المكبوتُ
سرورٌ بلا أساسٍ
وها أعلنُها: أنا عبدٌ للخَمْرِ
فَلْيَكنْ بعدَها ما يَكُون.
حُلَّ يا صاحِ عُقدةَ الهمِّ عنْ قلبِك.
فرغمَ كلِّ ما أنزلتْهُ الأفلاك من نُذُرٍ
ما مِنْ فلكيٍّ، قطّ، مَهْمَا أطالَ التفكُّرَ،
فكَّ عُقدةَ القَدَرِ الذي تخفيهُ تلكَ الأفلاك.
كلُّ التقلُّباتِ التي تكشُفُها أيَّامُكَ
لنْ تنشُرَ مُعجزتَكَ،
ففُلكُ الزَّمنِ الدوّار طَوى
ألفَ روحٍ مثلِ رُوحِكَ.
هَذِي الكأسُ بينَ أصابعِك
«كيقباد» و«بهمن» و«جمشيد»* تُرَابُهُمْ هُنا،
ألا تسْمعُ أصواتَ الملوكِ المَوتى يتكلَّمونَ من الصلصالِ
قائلينَ: ضَعْ شفاهَك بلطفٍ فَوقَنا.
من يُمْكِنُه الإخبارُ أينَ ذَهَبَ «كاوس»** و«كاي»***؟
ومن يَعْرفُ أينَ بعثرتِ الرياحُ الهُوجُ،
غبارَ عرشِ «جمشيد»؟
أتعقَّبُ خُطَى الربيعِ
إلى حيثُ ترفعُ وردةُ الخُزامى، كأسَها القرمزيَّةَ عَالياً
وتنمو، هناكَ، من هزالِ «فرهاد « مِنْ حبِّ «شيرين»****
صابغاً الصحراءَ حمراءَ بدموعِ قلبِه.
فهاتِ الكأسَ! واشربْ
علنا نخرِّبُ أرواحَنا بالشرابِ المحرَّمِ،
فلربَّما ثمةَ كنزٌ دفينٌ
مطمورٌ بينَ تلكَ الخرابِات حيثُ تضحكُ الخَمْرُ!
لعلَّ وردةَ الخزامى تعْرفُ تقلُّبَ
ابتسامةِ القَدَر،
لذا فهيَ تحملُ كأسَ خَمْرٍ على سِيقانها الخُضْرِ
وسطَ البراري.*****
همْسُ الجدولِ في «ركن آباد»
وهبوبُ النسيمِ مِنْ روضةِ «الْمصلَّى» البهيَّةِ
استدعْياني مُجدَّداً وأنا أنشدُ راحةَ القلب.
لكنَّ السفرَ بعيدٌ.
وطلعةُ الحبيبِ
بدتْ لي مجافيةً ملؤها الأسى
لا آبهُ بِنظرةِ الزَّمن الفاترة.
ما دامَ حُسنُ مولاتي يلتفتُ لي.
كنْ «كحافظ» وأفرغِ القدحَ بِمَرح
على إيقاع العودِ والأغاني العِذاب.
لأنَّ كلَّ ما يَجْعلُ قلبَك مبتهجاً
مُعلَّقٌ بوتر العُمْرِ، الحريريِّ، الْمُنفردِ، والنحيل. ******
11
حَلمتُ أمس بالملائكةِ وقدْ وَقفوا على
بابِ الحانة، وطَرقوا دون جدوى، ثمَّ بكوا
وتراءى لي أنَّهمْ أَخذوا طينَ آدم*
وقَوْلَبوا منهُ قَدحاً والبشرُ نيام.
أيها الساكنونَ في حُجُراتِ العفَّةِ!
أنتم يا مَنْ أحضرتمْ لي خمرةَ الحبِّ الشهوانيَّةِ الحمراء،
أسجدُ على تَراب أقْدامِكُم النورانية.
لأنَّ السماءَ نفسَها لم تقوَ على حَمْلِ
عبءِ عشقِه الذي حمَّلهُ الله إياه،
فقد استدارَ باحثاً عن رسولٍ في مكان آخر،
فكان اسمِي مكتوباً في كتابِ القدرِ.
بيني وبينَ مولايَ حصلَ الوئام.
مثلما خلقَ بهجةَ الحورِ في الجنةِ،
متبختراتٍ عبرَ فسحةٍ خضراءَ بأغاني التسبيح.
مئاتُ الأحلامِ من شهواتٍ مُدخَّرة تدهمني،
بينما أبي آدمُ ضلَّ طريقَه
بعدما أغرتهُ حبَّةُ قَمحٍ بائسة! **
ومعَ ذلكَ عَفا عنهُ، وغَفَرَ لهُ ذلك الزيغ
مع أنَّ همسَ الحقيقةِ الناعمِ يَصِلُ أذنيه،
وهو يستمعُ لشجارِ اثنتينِ وسبعينَ فرقةً***
لا تكفُّ عن مناداتهِ بصوتٍ صاخب.
نارُ العشقِ الحقِّ ليستْ في اللهبِ
الذي يَجْعلُ ظلالَ ضوءَ المشاعلِ تتَراقصُ في دوائر.
لكنها التي تجتذبُ بوهجِها شهوةَ الفراشةِ
وتعيدُها بأجنحةٍ محترقةٍ ومتَدلّية.
سَيَنكسرُ قلبُ مَنْ يَسْكنُ العزلةَ،
مُستذكراً شامةً سوداءَ وخدّاً أحمر.
وقد نضبتْ جزرُ حياتِه، في ينابيعِها السرِّية.
ورغم ذلكَ يسعى الإنسانُ، منذُ القدم
لتَمْشيط خُصَلِ الكلام، عروسه الحسناء،
لا أحدٌ، مثل حافظ،
مزّقَ حجابَ الجهلِ
مِنْ وجهِ الفكرِ.
.
12
لن أتخلَّى عنْ الرغبةِ حتَّى تُرضى رغبتِي
فإمَّا أجعلُ فَمي ينالَ
ثغرَ حَبيبي الورديّ، أَو ينقَضِي أَجَلي.
يا لَحسرة تلكَ الشفاهِ وهما تطلبانِ شَفَتيها عَبثاً.
ربَّما ثمَّةَ مَنْ يجدُ الحبَّ الآخرَ جميلاً
أمَّا أنا فقدْ وضعتُ على عتبتِها رأسي،
سَيَغطّيني الترابُ، وسأبقى منطرحاً هناك،
حين تهربُ من جَسَدي الحياةُ والحبّ.
وتصبحُ روحي على شفاهِي متأهبةً للفرار
لكن الحزنَ يظلُّ ينبضُ في قلبَي ولَنْ يَنْقَطعَ
لأنَّ شفتيها المعسولتينِ لم تَمْنحاني
المرادَ لكُلّ ما بي من اشتياقٍ،
ولو لمرَّة، مرَّة واحدة قَبْلَ مَوْتي،
ضاقتْ أنفاسي بحسرةٍ وحيدةٍ طويلةٍ
على فمٍ ورديِّ يُلهبُ كالنار أفكارَي؛
فمتى يدنو ذلكَ الفَمُ ويستجيبُ
لِمَنْ حياتُهُ مرهونةٌ بتلكِ الرغبةِ؟
حينَ أموتُ افتحْ قبرُي وانظرْ
لغيمةِ الدخانِ وهي تهبُّ مطوقةً قدمَيك:
فلا تزالُ النارُ في قلبِي الميتِ، متأجِّجةً شوقاً إليك؛
أجلْ، وسيهبُّ الدخانُ مِنْ كفنِي!
فتعالَ، يا حبيبي! لأنَّ المروج تنتظرُ
مَجِيئكَ، والشوكةَ تحملُ زهوراً بدلاً مِن
الأشواكِ، ويثمرُ السرو،
ويفرُّ الشتاءُ العاري المقفرُ أمامَ خطاك.
آملاً أنْ يجدَ في ترابِ حديقةِ ما
وردةً ناعمةً وزكيةً: وردةً حمراءَ بنعومةِ خدّك،
وتهبُّ ريحُ الصبا متخللةً كُلَّ مرجٍ.
وكُلَّ روضةٍ مُجدَّة بالبَحْثِ.
اظهري وجهَك! فالبشرُ بأسرِهم
متحيِّرون مِنْ سِحْرِكِ الوضَّاء،
وصراخُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ، يبلغُ سمعكِ،
فافتحي شَفتيك وواسي مِحَنَهمْ!
لكُلّ ضفيرةٍ من شَعرِك الغزيرِ
خمسون خطَّافاً شائكاً تندفعُ للإمساك بقلبِي،
قلبي المَكْسُور المثخنِ بِالجراح
جراحٌ لا تحصى تتقطَّرُ منها قَطراتٌ حمر.
لكنْ حينَ يجتمعُ العشَّاقُ الحزانى ويبثُّون حَسَراتِهمْ،
فلنْ يذكرَ اسم «حافظ» في تلك الصُحبةِ الولهى
إلا بالمديحِ وبالدموعِ،
حيثُ نُسِيتِ المسرَّةُ، وولَّى الأملُ.
13
على ضفةِ جدولٍ، وتحتَ ظِلّ صفصافَة،
يروقُ لي الشِّعْرُ،
حيثُ حبيبةٌ حسناءُ، وساقٍ خدَّهُ يُضاهي الورد،
وخليلٌ قلبُهُ على قلبِك:
ففي ساعة السَّعْدِ لا تَدعْ أوقاتَكَ تذهبْ هَدْراً
فلعلَّ كُلّ دقيقةٍ كالتي ذهبتْ
تطرحُ باقةً من المتعةِ عندَ أقدامِك.
علَّكَ تَعِيشُ وتعْرفُ أنَّ حياتَكَ جميلة.
كلُّ من أُغرمَ قلبُهُ بوجهٍ جميل،
أُثقلَ وجهُه بعبءِ البلوى.
ومن نالَ مرادَهُ بلا عناء.
فَلْيَرمِ على نَارهِ الحرمَل *
سَجيَّتي مثلُ عروسٍ، صندوقُها زاخرٌ
أزيِّنُها بأفكارٍ بِكْرٍ، مرصعةٍ بجواهرِ الخيالِ
عَلِّي أصادفُ في رواقِ الزَّمنِ
صورةً ما خلقتْ لأجلي، صورةً ما تستهويني.
أشكرِ الليالي التي تقضَّتْ في صحبةٍ طيبة.
وتقبَّلْ هِباتٍ يجودُ بها عقلٌ رصينٌ
فما من قلبٍ يبقى مُظلماً حين يسطعُ القمرُ الحنون
وتعشوشبُ الخضرةُ عندَ ضفافِ الأنهار، بمنظرٍ بهيٍّ.
عيونُ الساقي، حماهُ الله، تشعُّ
كالخمرِ في كأسٍ مترعة.
تنصاعُ لهُ حواسي السَّكْرَى صاغرةً،
فحتَّى الألم منهُ لذيذٌ.
حافظ لقدْ تسارع عُمركُ دونَ أن تَحظَى بلمسةِ حنان.
فعرِّجْ مَعي نحو الحانةَ!
ستصادفُ عصبةَ الظرفاءِ هناك،
وسَيُعلّمونَك ما يحسنُ تعلُّمه.
14
أينَ بشرى الوصال؟
لأنهضَ مُنتفِضَاً مِنَ التراب وأهبَّ لِمُلاقاتِك.
رُوحي تحنُّ إلى الجنَّةِ، كطيرٍ زَاجل،
ستنتفضُ مِنْ شِراكِ الدنيا وتحلَّقُ حرّة.
وحينَ يدعوني صوتُ حُبِّك لأكونَ عبدَك،
لسوفَ أسمو أسمى بكثيرٍ من أيِّ سيِّد في الحياةِ والحب.
ومن الزمنِ ومدى الهلاك:
فاهطلْ يا ربُّ مِنْ سَحابكَ
نعمةَ الهِداية.
مطرَ رحمةٍ يُعجِّلُ على قبَرِي.
قبلَ أنْ أنهضَ وأتبعَ معرفةَ الإنسان.
كالترابِ الذي تَحْملُه الرياحَ من مكانٍ لآخر،
حينَ تعرِّجُ إلى قبرِي بأقدامِكَ الْمُباركة،
أحملْ لي بيديكَ الخمرَ والعودَ،
ولسوف يرنُّ صوتُكَ عبرَ طيّاتِ كَفَني،
وسأنهضُ وأرْقصُ على غنائِكَ.
مع أني شيخُ عجوزٌ، ضمَّني لصدرِكَ لليلَةٍ واحدةٍ
وحينَ يحلُّ الفَجْرُ وتوقظُني من حضنك،
ستظهرُ على خدِّي حمرةُ الشبابِ مِنْ صدرِك.
انهضْ على طولِكَ ودعْ عينيَّ تستمتعانِ ببهائكَ المهيب!
فأنتَ المرادُ الذي يَسعى لهُ كُلُّ معسور.
أنتَ محبوبُ «حافظ» ومعبودُهُ،
فاظهرْ لهُ وجهَكَ الذي سيطلبُ منهُ القدومَ
مِنْ الدنيا والحياةِ.
أظْهِرْه لهُ.
لينهضَ!*
شروحات الغزليات
1
*البيت الأول من هذه الغزلية، وهي القصيدة الافتتاحية في الديوان، مُقتبسٌ مِنْ بيت قصيدة عربية ليزيد بن معاوية، الخليفة الأمويُّ الثاني.. وكثيراً ما انتُقدَ حافظ بسبب اقتباسه من شعر يزيد، وهو انتقاد قابله حافظ بالرد: إن من الدهاء الحلال أن تسرقَ من الكافرين إن كان ما امتلكوه ثميناً.
** في بلدة تقع شمال شرق الصين يوجد أفضل مسك في العالم، وسأشرح للقارئ طريقة الحصول عليه: تعيش في تلك المنطقة فصيلة مِن الحيوانات البرية تشبه الغزال. لها سيقان وذيل كالغزال، ووبرها يشبه وبر الأيل لكنَّه أكثف وأكثر تجعُّداً، ولا قرونَ لها. ولَها أربعة أنيابِ، اثنان سفليان واثنان علويان، طولها حوالي ثلاث بوصات، وهي رفيعة الشكل، زوج منهما ينمو صعوداً والآخر يتدلَّى نزولاً. وحيوان هذه الفصيلة مخلوق في غاية الجمال. ويؤخذ منه المسك بهذه الطريقة: بعد أن يصطادوه، يَجِدون في سرَّته، ما بين اللحم والجلد، شيئاً يشبه الكيس أو الجراب ممتلئاً بالدم، فيقطعونه ويستأصلونه مع كامل الجلد الملتصق به، والدم الموجود داخل الكيس أو الجراب المسكي هو ما يُنتجُ ذلك العطر القوي. وثمة عدد هائل من هذه الغزلان في تلك البلاد، وطعم لحمه لذيذ للغاية. وقد جَلبَ «ميسير ماركو» معه إلى «فينيسيا» رأساً محنطة وأقداماً لأحد هذه الحيوانات… أنظر: «رحلات ماركو بولو»
وهناك مسرحيّة ذات معنى تدور حول المسك الذي يسفح من دم الغزال وانهمار دموعٍ من دمٍ حين يبكي الحبيب لأجل عشيقته.
المقطع 2.
*** اللقب الذي يضفيه حافظ على بوَّاب الحانة هو «شيخ المغان» أي «شيخ المجوس» وتاريخ هذا اللقب نموذج لتاريخ المعتقدات الفارسية، ففي بدئه كان يشير إلى كاهن أولى الديانات الفارسية، «الزرادشتية» وعندما فتح المسلمون بلاد فارس، وحلَّ فقهاء الإسلام محلَّ الكهنة الزرادشتيين، فقَدَ هؤلاء دَورَهم وهيبتهم وتدنَّتْ مكانتهم حتَّى وصلت إلى مجرَّد بوَّاب حانة أَو حارس خان، لكنَّهم استعادوا من خلال هذا المعنى، تدريجياً، المكانة التي فقدوها، فحراسة أمكنة ملاذ كهذه، أتاحت لهم تعلُّم الكثير من خلال مرافقة المسافرين ومرتادي هذه الأماكن وتقديم الخدمات لهم، فسَمعوا وتَعلّموا الكثير مِن المسافرين الذين وقفوا عند أبوابِهم، وبقدرتهم على إرشاد الآخرين في رحلتِهم، فقد أوصلوا هؤلاء المسافرين إلى حيث ينعشون روحهم ويريحون أجسادهم. ومن هنا التقط الصوفيون دلالة الاسم القديم واستعملَوها لتعني ذلك الرجل العجوز الحكيم الذي زوَّد المسافرين المتعبين في طريقِ الحياة بالتيار الروحي للعقيدة الصوفية التي تنعشُ الجسد وتريح الروح.
2
* تفسِّر هذه القصيدة على أنها كناية عن سعي الشاعر للحبِّ، في قصة رمزية يُظهر من خلالها كيف بَحثَ عنه في تلك الصورة مِن الحبّ الدنيوي دون جدوى، فالعندليب يُحذّرُ الإنسان من أن الحب لن يأتي إلا بالتذلّل والحُزن، ثمَّ يسأل الحديقةَ السحرية، لكن أنسامها لا تجيبه، ليخلص أخيراً، إلى أن الحب ليس هو ما يصدر من شفاه البشر، ويدعو السقاة إلى إسكاتِ حديثهم الفارغ بخمرةِ المعرفة المقدسة.
** «حديقة إرم» أو «جنَّة إرم» شيَّدَها الملك الأسطوري شدَّاد بن عاد، حفيد «إرم» وهذا الأخير هو ابن «سام» وقد استقر قوم «عاد» في الصحاري الرملية قُرْب «عدن» حيث بدأَ «عاد» بتشييد مدينة عظيمة ثمَّ أتمَّها ابنه. وقد زرع «شدَّاد» حول قصره حديقةً رائعة أراد لها أن تضاهي جمال «جنَّة عدن» وما أن أُنجزَ بناؤها بالكامل حتى انطلق مَع حشدٍ كبيرٍ من رعايا مملكته لرؤيتها، وفي يوم الرحلة وبينما هم في طريقهم انمحقوا تحت صيحةٍ مروِّعة مِن السماءِ. ولا تزال المدينة، كما يزعمون، قائمةً في صحاري «عدن» محروسة بالعناية الإلهية كنُصب يذكِّر بعدالة السماء، ومع إنها حديقة لا مرئية، فقد أتاح الله لأحدهم، في مناسبة نادرة، أن يراها، وهي إحدى النعم التي ادَّعى «ابن قلابة» إنه حظي بها وذلك في عهد الخليفة الأموي معاوية، وحقيقة مغامرة «ابن قلابة» تتعلَّق بمجملها بأنه كان يسعى خلف جَملٍ أضاعه، ووجدَ نفسه فجأةً عند باب هذه المدينة، فدَخلُها، ولم يجد أحداً يسكنها فأصابه الرعب، ولم يبق أمامه سوى أن يأخذ معه بعض الحجارة الجميلة التي أظهرها للخليفة. أنظر: «سيل: ترجمة القرآن»
*** يقول «سودي» أن حافظ ألَّف هذه القصيدة الجميلة عن حديقة تَعُودُ إلى «الشاه شجاع» الذي سمَّاها «باغ ارم» تيمنَّا بجنَّة شدَّاد الأسطورية، إذ كان في بلاد فارس ملك عظيم يدعى: «جام» أو «جمشيد» حكم سبعمائة سنة، ويصعب تحديد التاريخ بالضبط، لكن طيلة فترة حكمه، لم تشهد إمبراطورتيه موتاً ولا مرضاً ولا شيخوخة، وبقيَ جميعُ البشر شباباً بعمر الخامسة عشرة، ولم يكن هناك حر ولا برد في مملكته بل كان الجو معتدلاً طيلة السنة، ولم تجفّ المياه ولم تذو النباتات، لكن البائس «جام» لم يكن لديه إله يعبده، ولأنَّه كان خالداً، فقد أمن بأنه هو الله وأراد أن يُعبد. فتخلى عنه «فاري يزدان» أي «البهاء الملكي» الذي يأتي من الله فجأة. ثمَّ جاء ملكٌ من جزيرة العرب على منكبيه ثلاثة ثعابين يدعى زهاب «الضحاك» وسلبه عرشه. فهرب جمشيد إلى الهند وبقي هناك لألف سنة، وفي أحد الأيام وفي محاولته للخروج من منفاه، جرى تسليمه إلى «الضحاك» الذي نشرَهُ بمنشار إلى نصفين. ومن بين الخرافات الأخرى المنسوبة إلى الملك «جمشيد» إنه كان لديه، في ذروة مجده، كأس سحرية يرى فيها كل الشخوص وكلَّ ما يحدث بعيداً عنه. ويدَّعي البعض أنَّ هذه الكأس هي الشمس التي تبصرُ كلَّ شيء، فيما يرى البعضُ الآخر، أنَّهُ كان على دراية بكوكب الأرض، وهتا أتذكر ما حدث قبل عامين، حين تناولتُ الشاي في مقهى في إسطنبول مع حكيم من أصفهان، يدعى «حبيب» فقادنا الحديث من كأس الشاي إلى كأس «جمشيد» فوضع «حبيب» إصبعي على صدري، وقال لي: «جام جمشيد، آ دِلْ آ آغاه» «كأس جمشيد هي قلب العارف» انظر: (دارميستيتر، رسائل من الهند)
ويروي «دارميستيتر» أن ثمَّة موضعاً يقعُ على بعد بضعة أميال مِنْ «بيشاور» يسمَّى «تالاب جمشيد» أي: «بركة جمشيد» وهي بركة جافة، قيل إن الملك ألقى كأسَه السحرية فيها، وقد روى زعيمُ القرية للرحالة الفرنسي بأنّ سكيناً اكتشفت في ذلك المكان وتحْملُ هذا النقش: «حُفرتْ هذه البُركة مِن قِبلي، أنا جمشيد، قبل خمسمائة سنة من الهجرة!» يُضيفُ دارميستيتر، معلقاً: «لم يُعثرْ على كأس جمشيد ولا كأس ملك ثولي، ولذا لم يعد بين الناس لا معرفة ولا محبة»
ويفترض أن «جمشيد» هو من بَنى «برسبوليس» وثمة أسطورة تقول إن كأسه دَفنَتْ في أسس المدينة، وكَانت مرصَّعة بفيروزٍ باهظ. ويُقالُ إن «جمشيد» أوَّل من شرب الخمر، وأوصى به رعاياه بوصفه مشروباً يمنح الصحَّة. كما كان أب الخيمياء وصاحب حجر الفلاسفة.
3
* فيما يتعلق بهذه القصيدة يروى أنه عندما دخل الغازي «تيمور» إلى «شيراز» استدعى حافظ ليمثل أمامه وقالَ له: من بين كُلّ مدن إمبراطوريتي فإنَّ «بخارى» و«سمرقند» هما أجمل الجواهر. فما الذي دعاك لتعلن في غزليتك أنك مستعدٌّ لمقايضتهما بخالٍ على خد عشيقتك؟ فأجاب حافظ: «بسبب مثل هذا الكرم فأنا الآن فقير كما ترى» وإزاء هذا الجواب المفحم وسرعة البداهة أمر الغازي للشاعر ببضع مِئاتٍ من القِطَعِ الذهبية.
ينقل «دارميستيتر» لمولير هذه الأبيات:
«لَوْ وَهَبني الْمَلكُ مدينتهُ الكبرى «باريس»
مقابلَ أنْ أتخلَّى عَنْ حبِّ حبيبتي
سَأقولُ للملكِ هِنري:
خُذْ رهاناتِكَ
فأنا أفضلُ حبيبتي! »
وفي «حديقة المصلَّى» يرقد حافظ مدفوناً، بينما يجري نهر «ركن آباد» على مقربة من ضريحه.
** اللولي أَو الغجر، أو القرَج كما يسمُّون باحتقار، هم قوم من قبيلة «كرج» ذات الأصول الهندية، سَكنَوا البلاد ما بين «شيراز» و«أصفهان» ويشتهر فتيانهم وفتياتهم بالجمال والمواهب الموسيقية، ويحيون حفلات ترقص فيها الفتيات لأهالي «شيراز» الأثرياء. وقد التقى السير «هنري لايارد» مع قبيلة مماثلة بالقرب من بغداد، وقال: «إن لهم سمعة سيئةً للغاية ومُتدنية على المستوى الأخلاقي، ووفقاً للرواية الشائعة فإنهم يعيشون حياة بمنتهى الفسق. وهؤلاء الفتيان العازفون والبنات الراقصات الذين يترددون على بغداد، ويشتهرون بسمعة سيئة، ينحدرون أساساً من تلك المنطقة. وبينما كُنّا نستريح في الخانِ جاءت مجموعة منهم لإداء الرقص الخليع أمامنا، كما جرت العادة في عملهم عند وصول المسافرين» انظر: (المغامرات المبكّرة)
أما فيا يخص (النهب) فثمة شعائر في «تركستان» تسمى «عيد النهب» فحين يحينُ موعد دفع رواتب الجنود، تعدَّ قصع الرزِّ وتملأ بكميات كبيرة من الطعام المطبوخ وتوضع على الأرض. ثم يركب الجنود وهم مدجَّجون بالسلاح كما لو أنَّهم يستعدون لمعركة، فيرفعون الطعام خطفاً من الأرض في مشهد محاكاة للعنف. وهكذا يرضونَ ضمائرهم لأنهم كَسبَوا رواتبهم بطريقة مشروعة، كما يذكّرَون أنفسهم بأن النهب هو مهنتهم الحقيقية.
*** يعدُّ «يوسف» النموذج الشرقي للجمال المثالي. وقصة علاقته مع «زليخة» زوجة «بوتيفار» إحدى قصص الحب الشهيرة في الشرق. وقد جعلها (جامي) موضوعاً لقصيدة ميتافيزيقية طويلة. والدور الذي لعبته «زليخة» في الحكايات الفارسية أكثر مصداقية من ذلك الدور الذي حدِّدَ لها سواء في التوراة أو القرآن.
وقد حاول جميع من ترجم «حافظ» أن يضع يده على هذه الغزلية، وهي واحدة من أشهرها في الديوان. وإنه لمن المهمّ لفت نظر القارئ إلى أن الأصل ذو جمال رائع.
وقد حظيت القصيدة بأكملها بتفسير صوفي لا يَبْدو لي أنه يضيف سوى القليل إلى قيمتها أو إلى وضوحها، ولكن في حالة رغبة شخص ما في تحصيل الحكمة المتعالية منها، يمكنني أن أذكر أن الشامة، والمساحيق، والأصباغ التي لا يحتاج لها الوجه الجميل، ترمز إلى: الحبرَ، واللون، والنقاط، وآيات القرآنِ! هذا التفسيرُ افتُرِضَه بخصوص الاثنين: «يوسف» و«زليخة» صوفي غربي أصيل: «بسبب ذلك الجمالِ المتزايد يومياً من (الوجود المُطلق، والحب الحق، والله) الذي يملكه يوسف، (اليوم الأول) عَرف بأنّ هذا الحبِّ سيأتي له بزليخة (أفكار/ نا المحتملة) مِنْ حجاب العفَّة (الوجود الصافي لله). ويَبْدو أن المترجم العلامة شعر بأنّ روايته انطوت على بعض الصعوبات، لذا هو يُضيفُ لأجل منفعة إخوتِه في الدين من الأقل فهماً التعليق التالي: «في عالمِ عدمِ الوجود والإمكان، عندما أبصرتُ روعة الجمالِ الحقيقي بصفات شتَّى، عَرفتُ يقيناً أنَّ الحبِّ سيخلَّصنا من الكمينِ»
هذا يَجْعلُ كُلّ شيءٍ واضحَاً.
4
* كلّ من رأى حديقة فارسية لن يجد صعوبة في معرفة لماذا لْعبَت كل هذا الدور الكبير في الشعر الفارسي. إذ يمكنك أن تخطو أحياناً خطوة واحدة لتَخْرج من صحراء قاحلة مليئة بالتراب والأحجارِ لتدخل إلى إحدى هذه الفسحات الخضراء والخصبة، المليئة بالبنفسج في الربيع، وبالوردِ والزنابق أوائل الصيف. ومِن الوهج الذي يعمي البصر للشمس الفارسية إلى منتجع بارد وظليل مزروع بأشجار السنديان الكبيرة. الماء الذي يَتدفّقُ من جداول لا حصر لها عبر الحديقةِ، وانبجاس الينابيع التي لا تحصى، صنعتْ كُلّ معجزة. هذا التحول مِنْ الصحراءِ إلى الجنة الوردية هو إحدى تلك التباينات القوية الشائعة كثيراً في الشرق والتي تستحوذ على خيالَ كُلّ من يَراها.
** «أرأيتَ سِرَاجَ الكنيسِ يُقْبِسُ لهبَهُ لإيقادِ مَشكاةِ صومعتِكَ الرُّهبانيَّة» يرتبط هذا البيت بأحد أكْثَر أحاديث النبي محمَّد شَهْرَةِ: «لا رهبانية في الإسلامِ» ورغم هذا، فقد تنامت مثل هذه الجماعات الدينية وازدهرت. منْذ زمن أبي بكر وعلي وما بعدهما، وكُلّ علماء اللاهوت المشهورين والمشهود لهم خلال السنوات الستّمائة الأولى بعد الهجرة هم ممن تتفاخر الصوفية بانتمائهم إليها.
*** في القرآن «إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ» سورة يونس 10:21. حيث ثمة ملاكان حارسان يعتنيان بكُلّ إنسان ويَكْتبُان أعمالَه، ويستبدلان يومياً حيث يحل محلهما اثنان آخران. وما يكتبانه في صحف بحوزتيهما سينشرُ يوم القيامة.
**** هذا المقطع هو الذي أتاح لحافظ أن يحظى بدفن مشرف.
5
كَتبَ حافظ هذه القصيدة عن موتِ ابنِه.
* يَقول «روزنتسڤايج» في تحقيقه للديوان، إنّ الإشارة هنا للتراب والماء اللذين عجن الله منهما جسد آدم، وإنَّ حافظ، سمَّى الجسد البشري «منزل السرور» بقصد السخرية.
** طبقاً للخُرافةِ الفارسيةِ، فإنَ للقمر تأثيراً وخيماً على حياة الإنسان.
*** يقول «روزنتسڤايج»: أنّ عبارة: «لم أكنْ قَدْ تحصَّنتُ» تشير إلى أن حافظ لم يحتط بأن يزوِّج أبنه، ليضْمنَ وجود أحفاد يكونون سلوى له بعد موتِ أبيهم. لذلك لم يعد لديه الكثير ليخسره، ومن هنا لم يعد مبالياً كيف تكون حركته التالية في اللعبة.
7
* هذه الأبيات في غاية الغموض، كما هي القصيدة برمَّتها في الواقع. وقد بَحثتُ عن تفسيرِ لها في النسخ الأخرى من ديوان حافظ، لكني لم أجد أكثر من ترجمة للكلمات الفارسية.
** السدرة وطوبى شجرتان في رياض الجنة. الأولى مسكنُ الملاك جبريل. أما فيما يتعلق بشجرة طوبى فيَقُولُ المفسرون المسلمون: إن الله غرسها في قصر النبي محمد، إلا أن فرعاً منها سيصِلُ إلى منزل كُلّ مؤمن حقيقي، وإنها تحملُ الرمَّان والعنب والتمر وغيرها من الثمار ذات المذاق الرائع، إضافة إلى مذاق فواكه وأطعمة أخرى لا تعرفها ذائقة البشر. فإذا ما اشتهى أحد أن يأكل أي نوع من الفاكهة، فسيؤتى به فوراً، وإذا اشتهى اللحم ، فسرعان ما يجد سرباً من الطيور مطروحاً أمامه وكما يشتهي، ويضيفون أن أغصان هذه الشجرة ستتدلَّى تلقائياً لتغدو في متناول يد من يرغب بأكلَ ثمارها، وأنها ستزود من نعمتها لا الطعام وحده، وإنما ستطرح أكمامها، كذلك، ثياباً من حرير لأهل الجنة، وكساءً للبهائم التي تركب، فتصبح أعنتها وسروجها مزينة بزخارف أنيقة، وهذا كله مما تطرحه ثمارها، وأَنَّ هذه الشجرة شاسعة للغاية بحيث أن من يركب حصاناً سريعاً ويجري به من أوَّل ظلها فلن يبلغ الطرف الآخر من ظلها إلا بعد مائة سنة!
انظر: «مقدمة إلى القرآن»
*** يَعْني (الطريق إلى الجحيم سهل) أو على الأرجح، أن عدداً كبيراً من الذين ينظر إليهم على أساس التقوى متساوون في طمعهم بالمكافأة، إذ لا يوجد أي فرق بين الصوفي والمتمسك بالتقوى.
**** المقصود بـ «الندامى» المتصوَّفة الذين لا يبالون سواء واتتهم سُحبُ الاستحسان الإنساني أو فاتتهم، طالما أنهم سَيَحْكمُون على قيمتها مِن معيار مختلف.
8
* يقدِّم السير «هنري لايارد» الرواية التالية حول مجموعة دراويش سافر معهم، ويَظْهرُ من خلالها أن ازدراء حافظ لزيِّ الدراويش مبررٌ بعض الشيء: «كانوا مجموعة مثيرة ومتنافرة. أحدُهم أو اثنان منهم ممن يسميه الفرس «لوتي» شباب ذوو ضفائرِ محنَّاة بإتقان، يرتدون ملابس طويلة، وقبعات مخروطية مطرزة بألوان متعدِّدة: زُمرة من الفجَّار والفاسقين الذين أدمنوا كل أساليب الرذيلة، تحت ستار الفقر، وادعاء الزهد بالملذات، والتقوى. وآخرون كانوا رعاعاً شبه عراة، تتدلى شعورهم على ظهورهم، وجلود الغزلان على أكتافهم، وأقدامهم الحافية قذرة وتغطيها الحشرات، حاملين صولجانات حديدية ثقيلة، وبدوا أكثر ميلاً إلى الابتزاز مِنْ السُؤال عن الصدقة. يتجوَّلون وهم يصرخون: يا الله! يا محمد! يا علي!، وكل منهم تتدلى من كتفه قشرة جوز الهند منحوتة على شكل طاسات وسلال، وهي لا غنى للدراويش عنها، إذا يستخدمونها في حمل الطعام وللشرب. ويلفُّون حول رقابهم التعاويذ والتمائم، مع الخرز والخيوط الملونة والشرَّابات». ثمَّ يمضي إلى القول: «معظم الدراويش الفرس، رغم ادعاءاتهم الكبيرة بالقداسة، التي يفرضونها على علية القوم وسفلتهم، إلا أنهم قوم بلا أيِّ دين. ومع ذلك، فثمة من يصدق أنهم يصنعون الخوارق، ولديهم القدرة على إبطال مفعول السحر.
ورغم أن هؤلاء الدراويش الدجَّالين، عادة ما يكونون من الأوغاد، إلا أنهم يواصلون تأثيرهم على الجهلة من الفرس المؤمنين بالخرافات، وسواهم من مختلف الطبقات فهؤلاء يخافون منهم كثيراً، ولا يجرؤون على الإساءة إليهم. وبالتالي، لا يتجرأ أحد على مَنْعهم من الدخول إلى بيتِه، بل وحتى إلى غرف النساء، حيث يُنظر إلى أولئك الذين يمشون عراة تماماً، على أنه خُصُّوا بالقداسة ومحميون من الله وعلي، ويمكنهم الدخول دون وازع. وقد يحدث أن يطلبوا مبلغاً محدَّداً من المال من رجل غني، فإن رفض الدفع، يقيمون عند الباب أو تحت شرفة منزله، أو خارجها، ويسيِّجون قطعة أرض صغيرة، يبذرون فيها القمح، أو يزرعون الأزهار، ولا يبرحون حتى يدفع لهم ما طلبوا، وهم يواصلون الصياح بشكل مخيف ليل نهار، منادين محمد، وعلي، والأئمة، أَو ينَفْخون في بوق مصنوع من قرن جاموس لإزعاج الحيِّ بأكمله، بينما المالك ونزلاء البيتِ عاجزون. ولا يجرؤون أن يطردوا الرجال المقدَّسين بالقوة.
انظر: (المغامرات المبكّرة)
** معناه أن سجَّادة صلاة المسلم التقي لم تكن لها قيمة كافية لتدبِّرَ له ثمن كأس واحدة من خمر التصوّف. كما أنه لم يكن يستحقَّ أن يضع رأسه حتى على العتبات المتربة للحانة -مكان التلقين في العقيدة الصوفية.
*** أن تبقى مرتدياً لوناً واحداً: تعبير فارسي يدلُّ على الإخلاص. و«حافظ» يعني أن العنب الأرجوانيَّ المكتسي بلون واحد لهو أكثر قيمة من ثياب الرياء للدراويش، الممزقة والمرقَّعة بفعل الرحلة الطويلة في طريق الضلال.
**** لقد سعيتُ حتى الآن إلى تقديم التأويل الصوفي للقصيدة. ومع ذلك، فثمة قصة ملحقة بها تحيلها إلى وثيقة تاريخية وليست وثيقة لاهوتية، يتصل موضوعها بملك «الدكن» «محمود شاه بهمني» الذي سمع عن شهرة حافظ، وكان ذا ذائقة أدبية جيدة، فرغب بجذبه إلى بلاطه. وبناء على ذلك، أمر وزيره «مير فايز الله انجو» بأن يرسل للشاعر مبلغاً من المال بما يكفي لتغطية رحلته من «شيراز». ووافق حافظ على الدعوة. وصفَّى شؤونه في مسقط رأسه، مستخدماً بعض المال الذي أرسله إليه السلطان في سداد ديونه، وتقديم الهدايا لأطفال أخته، واحتفظ بما تبقَّى لكي يعينه في رحلته. ولكنه ما أن وصل بلدة «لار» حتى وجد أحد معارفه هناك في وضع مادي سيئ للغاية، بعد أن سرقَ منه اللصوص ما يملك مما أدَّى إلى تردِّي وضعه إلى حالة مزرية من البؤس. فشقَّ ذلك على حافظ وأشفق عليه وأعطاه ما تبقى من المال الذي أرسله له «محمود شاه» وهكذا لم يعد بمقدوره مواصلة رحلته بسبب افتقاره إلى الموارد والوسائل، وربما كانت تجربة مريرة علمته أن سجَّادة صلاته لن تجلب له كأساً واحدة من الخمر، وأنه بدون القطع الفضية الضرورية سيطرد مِنْ خارج أبواب الحانة. وسرعان ما أنقذه من هذه الضائقة تاجران من أصدقائه، كانا في طريقهما إلى الهند، فعرضا عليه دفع نفقاته إلى «هرمز» ووضعه على متن أحد مراكب «محمود شاه» الذي وصل ليقلَّهم. قَبِلَ «حافظ» العرض، وقصد «هرمز» وصعد إلى المركب. لكن قبل أن يغادروا الميناء، هبت عاصفة عنيفة، فأقتنع الشاعر بأن أية منافع قد يجنيها من الرحلة لن تساوي ما سيلاقيه من بلاء في البحر. وتحت ذريعة توديع بعض الأصدقاء، نزل، وقفل عائداً إلى «شيراز» على عجلٍ، وأرسل إلى «فايز الله» هذه القصيدة كاعتذارية عن عدم الإيفاء بوعده.
ولما قرأها الوزير على «محمود شاه» أعجب الأخير بجمال الأبيات والإهاب الفلسفي الذي أخفى به حافظ مخاوفه من أخطار الطريق ومشقَّات دوار البحر، وبسخائه الفريد أرسل إلى الشاعر المتعثِّر هدية أخرى، تتكوَّن من بعض النفائس من ثروات أراضيه وبحاره.
9
* لم يكن «شاه شجاع» كما ورد في المقدمة، على وفاق دائم مع «حافظ» فمن جانب كان يشعر بشيءٍ من الغيرة من شهرة الشاعر، ومن جانب آخر لأنَّ حافظ كانَ مقرَّباً من منافس «شاه شجاع» السابق، «أبو إسحاق» ولذلك بحث الملك عن وسيلة ما ليقدح بها الشاعر، ولم يطل به الزمن حتى وجدها. فاتَّهمَ «حافظ» بإنكار البعث، مُستنداً في هذا الاتهام إلى المقطع الأخير من القصيدة -الأسطر الثلاثة الأخيرة من الترجمة الحالية -واستشهد به أمام الفقهاء مُستدلاً بها على كفره. فشقَّ ذلك على حافظ. وقبل أن يحين اليوم الذي يفترض أن يردَّ فيه على التهمة الموجهة إليه، عمد إلى إدخال بيتين آخرين في القصيدة، ذكر فيهما أن الأبيات الخطيرة لا تعبر عن رأيه هو، بل عن الهرطقة المسيحية. فتملص بنجاحٍ مبين، فهو في بيتيه هذين لم يبرِّئ نفسه تماماً فحسب، بل أوجبَ أن يعترف له بالعرفان لأنَّه سدَّد ضربةً قوية نيابة عن دين محمد، بفضحه إحدى ضلالات الملحد.
10
بصدد «جمشيد» انظر المُلاحظة عن المقطع 3 مِن الغزلية الثّانية. وهو الملك الرابع في السلالة البيشدادية الأولى، التي يفترض أنها ازدهرتْ قبل العهد المسيحي بثمانمائة عام. ويقول الفردوسي أنّه حَكمَ سبعمائة سنةَ. أما «كيقباد» فهو مؤسس السلالة الثانية «الكيانية» وقد نصبه على العرش البطل «رستم بن زال» وفي عهده، تغلب «رستم» على جيش «أفراسياب» فقتل ابنه في معركة «نهر أوكسوس العظيم» «أوكسوس الأصفر» أو «جيحون بالعربي» وهي قصة يعرفها كل من قرأ «ماثيو أرنولد»
ويقال أن «كيقباد» حكمَ مائة وعشرين سنة.
أما «بهمن» فهو أحد أفراد الأسرة الكيانية، ويعرف أكثر لدى الفُرْس بـ «أردشير درازدست» أو «أرتكشكسس لونغيمانوس» عند الإغريق. وقد وصل إلى العرش سنة 464 قبل الميلاد، وكان حفيدَاً لداريوس: «غشتسب الفارسي» الذي يُفترض أنه «أحشويروش» في التوراة الذي تَزوّجَ «إستير» وينسبُ له المؤرخون الفُرس عمراً خرافيَّاً طويلاً أيضاً، إذ امتدَّ حَكمه إلى مائة واثنتا عشرة سنة.
** «كيكاوس»: ابنَ كيقباد، الملك الثاني للسلالة الكيانية،
*** «كاي»: ربما هو «كيخسرو» الملك الثالث من السلالة نفسها.
***** قصة حبُّ «شيرين وفرهاد» مشهورة في الأساطير الفارسية. و«شيرين» يسميها البعض «مريم» وآخرون «إيرين» ويصفها اليونانيون بأنها روميَّة الأصل مسيحية الديانة، بينما يقول الأتراك والفُرْس أنّها كَانتْ ابنة الإمبراطورِ «موريكيوس» وزوجة «خسرو برويز» الذي وصل إلى العرش الفارسي سنة 591 م، و«خسرو برويز» هو الذي غزا القدس، وحملَ، كما يقول الفُرس، الصليب الحقيقي، الذي كان قد وضع في صندوق ذهبي ودفن تحت الأرض. وكان متعلقاً بزوجته «شيرين» لكنها منحت قلبها لحبيبها الفقير «فرهاد» اليائس من الوصول إلى سيدة أعلى منه منزلةً وشأناً، فهام في الصحراء والجبال من بلاد فارس وهو يلهج باسمها، ومن أجل تسلية ساعاته المضجرة أنجز المنحوتات على صخور «بيستون» -كما تقول الأسطورة_ فأرسل له الملك يخبرَه بأنَّه إذا ما شقَّ مجرى عبر الصخر وجعل الجدول يتدفَّق إلى الجانب الآخر من الجبال، فإنه سيتنازل له عن «شيرين»
أنكبَّ «فرهاد» على هذه المهمة، وما أن أوشك على إنجازها حتَّى أرسل له «خسرو» خبراً كاذباً عن موت «شيرين» وعند سماعه الخبر، ألقى «فرهاد» نفسه من أعلى الصخرة ومات، بيد أنَّ نهاية كهذه ربما تبدو أقلُّ مأساوية مما تعرَّض له «خسرو برويز» نفسه من قتل عنيف على يد ابنه الذي سرعان ما عرض على أرملة أبيه أن تتزوَّجه، فوعدته «شيرين» بالزواج إن سمح لها برؤية جثة زوجها للمرة الأخيرة. وحالما وصلت المكان الذي وضع فيه القتيل، سحبت خنجراً، وطعنتْ نفسها وسقطتْ ميتةً فوق جثته.
****** من الصعب تصور شيء أكثر روعة من مشهد نَمُوّ الخزامى البنفسجية الصغيرة على سفح تل فارسي أجرد. أو على قمة مضيقٍ كئيب فوق الجبال بين «رشت» و«طهران» ولقد رأيت حقولاً من زهور الأقحوان الصغيرة تشعُّ مثل الجواهر بين الحجارة والتراب.
*** ثمة موروث يقول إن هذه القصيدة أرسلت إلى ملك «غولكوندا»
11
* قصّة خَلْق آدم، والجزء الذي نافسته فيه الملائكة، رواها القرآن في الآيات التالية:
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ *وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ*وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»
القرآن، السورة الثانية (البقرة)
وقد أسهبت الأحاديث في تفسير هذه القصة وبالغت فيها. فهي تقول: «إنه طُلبَ من رؤساء الملائكة الثلاثة: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، تباعاً، أن يأتوا مِنْ الأرضِ بسبع حفنات طين بثلاثة ألوان مختلفة: حمراء، وبيضاء، وصفراء، ليخلق الله منها الأجناس البشرية. لكنَّ تضرُّع الأرضِ بأنَّ لا يَسْلبَ من مادتها شيئاً، صرف كُلاً منهم عن غايته، فعاد ثلاثتهم إلى السماءِ خالي الوفاض. وفي المرّة الرابعة أرسلَ الله «عزرائيل» ملك الموت الذي اقتطع الحفنات السبع من الأرض، ولم يَسْتمعْ لتضرُّعها، لكنه وعدَها أنّ كل إنسان يموت لا بد أنْ يعودَ إلى الأرض، من حيث أخذ تلك الحفنة. ومن ذلك الطين الذي أحضره «عزرائيل» شكَّلَ الله هيئة الإنسان، وبعدما أتمه تركه أربعين يومَاً ليجفَّ. وكانت الملائكة تأتي لتنظر إليه، ورفسه إبليس بقدمه، فوجده يصوِّت كما يصوِّت الفخار. وعندما جفَّ الطين وصار صلصالاً، نفخ الله فيه الحياة من خياشيمه، وطلب من الملائكة أن تسجد للإنسان الذي خَلقَه. لكن إبليس رفضَ، وقال أنا مَخْلُوقٌ مِنْ نار محضة، ولا أخضع لجسد خلق مِنْ طين، ولهذا السبب طردَه الله من الجنة. وسلمت بقيّة الملائكةِ بتفوق آدم بعدَ أنْ جعلَه الله يُخبرهم بأسماء كُلّ مخلوقات الأرض، رغم احتجاهم في البدء بأنه لا يليق بهم أنْ يَسجدوا له، لكن ولاءهم لله كان أعظمَ من أن يعصوه. »
كانت هذه الأسطورة ماثلةً في ذهن «حافظ» وهو يتحدث عن الملائكةِ بوصفهم بوَّابين عند بابِ الحانة، حيث يمكن للإنسان أن يدخل ويتلقَّى إرشادات من حكمة الله، ولكن بما أنه يتوجب عليهم أَنْ يطرقوا الباب دون جدوى، وأن يقولبوا الجسدَ الآدمي من الطينِ المُحتَقَرِ كما يقولب كأس خمر من صلصال. فعلى الأرجح أن ما يعنيه «حافظ» أنّ الإنسان نفسه هو الوعاء الذي يُسكب فيها الحبُّ الإلهي والحكمةُ: وعندما يَقُولُ بأنّ الملائكةَ قدَّمتْ له الخمر أولاً، فهو يَعْني إنهم أظهروا له بمثالِهم ما جعله سكراناً بتأمل الله.
** فيما يتعلَّق بالفاكهة المحرمة، يقول (سيل) في ملاحظة له عن السورة الثانية من القرآن (البقرة) «لدى المسلمين، وكذلك المسيحيين، آراء مختلفة. يقول البعض أنها سنبلة القمح، وبعضهم يرى أنها شجرة التين، والبعض الآخر كرمة العنب»
*** من المفترض أن يكون هناك 72 طائفة في الإسلام. يقارنها العديد من العلماء المسلمين بالفروع الاثنين والسبعين لعائلة نوح بعد البلبلة البابلية للألسنة وتشتت أبناء آدم.
13
* وفقاً للخرافات الفارسية، فإنَّ لدخان الحرمل المُحترق قدرة على درءِ العين الشرّيرةِ.
14
* كتبت هذه القطعة على قبر حافظ