قسطنطين باوستوفسكي*
لست أذكر، كيف وصلتني قصة رجل القمامة الباريسي جان شاميت الذي يكسب رزقه من خلال عمله في تنظيف ورشات الحرفيين في حيِّه.
عاش شاميت في كوخ في إحدى ضواحي المدينة. بالطبع، يمكن للمرء وصف هذه الضاحية بالتفصيل، وبالتالي إبعاد القارئ عن الموضوع الرئيس للقصة. ولكن، ربما من الأفضل، الإشارة فقط إلى أن الأسوار القديمة لا تزال قائمة في ضواحي باريس، في الوقت الذي وقعت خلاله أحداث هذه القصة. فالأسوار لا تزال مغطاة تمامًا بزهر العسل والزعرور، والطيور ما تزال تبني أعشاشها فيه.
يقع كوخ عامل النظافة قرب الأسوار الشمالية، بجوار منازل الحدادين والحذَّائين والباحثين عن أعقاب السجائر والمتسولين.
لو أن موباسان اهتم بحياة سكان هذه الأكواخ، لكتب المزيد من القصص الرائعة التي ربما كانت أضافت دررًا جديدة إلى تاج أمجاده.
لسوء الحظ، لم يحدث أن زار أي غريب هذه الأماكن، باستثناء رجال التحري، وحتى هؤلاء كانوا يأتون فقط في حالات البحث عن أشياء مسروقة.
وبما أن الجيران أطلقوا على شاميت لقب “نقّار الخشب”، فأول ما يخطر للمرء، أنه نحيف، وحادّ الأنف، وتتدلّى من قبعته خصلة شعر تشبه عُرف الطائر.
هناك تباين بين ماضي جان شاميت وحاضره. فقد خدم جنديّا في جيش “نابليون الصغير” خلال الحرب المكسيكية، وابتسم الحظ له في فيرا كروز، حينما أصيب بحمّى شديدة، الأمر الذي حدا بالقيادة لأن تعيده إلى وطنه قبل أن يشارك في أية معركة حقيقية. واستغل قائد الفوج الأرمل إعادته تلك فأوكله بمرافقة ابنته سوزان إلى فرنسا، وهي فتاة في الثامنة من العمر، بعد أن كان مضطرًا لاصطحابها معه أينما ذهب. لكنه قرر الآن إرسالها للعيش مع أخته في مدينة روان. لأنه اعتبر أن مناخ المكسيك قاتل للأطفال الأوروبيين. بالإضافة إلى ذلك، قد تخلق حرب العصابات العديد من المخاطر المفاجئة له.
هيمنت درجات الحرارة العالية على رحلة شاميت إلى فرنسا، عبر المحيط الأطلسي. والتزمت الفتاة الصمت طوال الوقت. حتى عند رؤيتها السمَكَ وهو يتطاير من المياه التي غطتها الزيوت، ظلت تنظر دون أن تبتسم.
بذل شاميت قصارى جهده لرعاية سوزان. كان يظن أنها تتوقع منه ليس فقط الاهتمام، بل الحنان أيضًا. وأي حنان يمكن أن يصدر عن جندي من فوج مستعمِر؟ وبماذا يسلّيها؟ بلعبة النرد؟ أم بأغاني العساكر السوقية؟ ومع ذلك، من الصعوبة بمكان التزامُ الصمت لفترة طويلة جدًا مترافقةٍ أحيانًا مع نظرات استغرابها. وفي النهاية، بدأ يحكي لها بشيء من الحرج عن حياته الخاصة، مستعيدًا بذاكرته أدق التفاصيل في قرية الصيادين على ضفاف القناة الإنجليزية حيث الرمال المتحركة وبرك المياه التي تنشأ بعد المد، وكنيسة القرية ذات الجرس المتصدِّع، ووالدته التي تعالج جيرانها من حموضة المعدة.
لم يستطع بمشاركة هذه الذكريات العثور على أي شيء يروق لسوزان، رغم دهشته من تلقّفها جميع تلك التفاصيل بكل مشاعرها، طالبةً منه تكرار سردها أكثر من مرة، بمزيد من الاستفاضة، فأجهد شاميت ذاكرته واستحوذ منها الكثير، في الختام فقد الثقة بأن كثيرًا من تلك التفاصيل غير موجودة بالفعل. فلم تعد ذكريات، بل ظلًا واهيًا للذكريات التي ذابت مثل أشلاء ضباب. ومع ذلك، لم يتخيل شاميت أبدًا أنه سيحتاج إلى العودة في ذاكرته إلى تلك الحقبة من حياته التي طواها الزمن.
ذات يوم زارته ذكرى خفية عن وردة ذهبية، احتار بحقيقتها، هل رأى فعلًا هذه الوردة التي صنعت من الذهب الذي اسودَّ مع الزمن، أم أنه سمع حكايات عن هذه الوردة المعلقة على صليب في منزل أحد صيادي القرية..
لا، رجَّح أنه رأى الوردة مرة واحدة ويذكر بريقها، على الرغم من عدم وجود شمس خارج النافذة، بل عاصفة رهيبة اجتاحت المضيق. وكلما توالت السنين، يتذكر ذاك البريق بعدة إشعاعات ساطعة تحت السقف المنخفض.
وذات يوم فوجئ سكان القرية بأن سيدة عجوزًا لا تنوي بيع مجوهراتها، رغم أنه يمكنها الحصول على الكثير من المال مقابل بيعها. وأكَّدت والدة شاميت أن بيع الوردة الذهبية يعتبر خطيئة لا تغتفر، لأنها هدية “طلسم الحظ” لتلك السيدة من عشيقها، قدمها لها حينما كانت فتاة، تعمل في مصنع سردين في أوديرن.
قالت والدة شاميت:
– يوجد القليل من هذه الورود الذهبية في العالم. لأنها تجلب السعادة إلى البيت الذي تكون فيه وليس للبيت وحسب، بل لكل من يلمسها.
وظل الولد شاميت ينتظر بفارغ الصبر الوقت الذي يرى فيه المرأة سعيدة. دون فائدة. فمنزلها تهزه الريح، وتجول فيه وتحول دون اشتعال النار في المدفأة داخله. فغادر القرية صبيًا دون انتظار التحولات في حياة العجوز. وبعد عام واحد فقط، أخبره وقّاد يعمل على باخرة البريد في مرفأ الهافر أنه بشكل غير متوقع، وصل من باريس ابن تلك العجوز وهو رسام ملتح بطبع مرح وشيء من الغرابة. ومنذ ذلك الحين لم يعد من الممكن التعرف على الكوخ الذي غدا مليئًا بالضجيج وعلامات الثراء. فالفنان، كما يقولون، يحصل على أمواله الطائلة مقابل لمسات فرشاته.
ذات مرة، عندما كان شاميت جالسًا على سطح السفينة، يمشط بمشطه الحديدي شعر سوزان المتشابك بفعل الرياح، سألته الفتاة:
– جان، هل سيقدم لي أحدٌ ذات يوم وردة ذهبية كهدية؟
أجاب شاميت:
– كل شيء ممكن، وسترسل الأقدار لك أيضًا، يا سوزي، شخصًا غريب الأطوار. فقد كان في سَرِيّتنا جندي نحيل ومحظوظ جدًا. وجد فكًا ذهبيًا مكسورًا في ساحة المعركة. فباعه واشترى بثمنه نبيذًا للسرية بأكملها. وراح رجال المدفعية المخمورون يطلقون قذائف الهاون في الهواء للتسلية، فوقعت إحدى القذائف في فوهة بركان خامد، وانفجرت، وفجأة بدأ البركان يطلق دخانه وحِممه. الله وحده يعلم اسم ذلك البركان! أعتقد أنه كان ينادى باسم كراكا- تاكا، والأهم في الأمر، أن انفجار البركان أدى إلى مصرع أربعين من السكان المحليين المسالمين. تخيلي فقط أنه بسبب فكٍّ، هلَك العديد من الناس! ثم اتضح لاحقًا أن عقيدنا هو من فقد هذا الفك. بالطبع، أُحيط هذا الأمر بالكتمان، فهيبة الجيش فوق كل شيء. لكننا كنا ثملين حقًا في ذلك الوقت.
– أين حدث هذا؟ – سألت سوزي بريبة.
– في منطقة أنام، في الهند الصينية. هناك، حيث حرارة الجو أشبه بالجحيم، وقنديل البحر مثلُ تنانير الدانتيل لراقصات الباليه. والرطوبة عالية جدًا لدرجة أن الفطر ينمو في أحذيتنا بين عشية وضحاها! ليشنقوني إذا كنت أكذب.
قبل هذا الحادث، سمع شاميت العديد من أكاذيب الجنود، لكنه هو نفسه لم يكذِب أبدًا. ليس لأنه لا يعرف كيف يكذب، ولكن ببساطة لعدم الحاجة للكذب. أما الآن، فهو يعتبر أن الترفيه عن سوزانا واجب مقدس.
أحضر شاميت الفتاة إلى روان، وسلّمها إلى امرأة طويلة القامة صفراء الشفتين، هي عمتها العجوز التي ترتدي ثوبا من الخرز الأسود وتلمع مثل ثعبان السيرك.
حين وقع نظر الفتاة عليها، تشبثت بمعطف شاميت بقوة، كأنها لا ترغب في البقاء معها.
-لا داعي للخوف!
قال شاميت هامسًا ودفع سوزان من كتفها.
– نحن الجنود أيضًا لا نختار قادتنا. تحلّي بالصبر، يا سوزي، كأنك جندي.
غادر شاميت وهو ينظر إلى نوافذ المنزل الذي يلفه الملل ولا تحرك ستائرَه الرياح. في الشوارع الضيقة تُسمع دقات ساعات المتاجر. وفي حقيبة ظهر الجندي شاميت، ذكرى من سوزي؛ شريط أزرق مجعّد من جديلة لها. لا أحد يمكنه التخمين، من أين لهذا الشريط تلك الرائحة اللطيفة جدًا، كما لو أنه قبع في سلة بنفسج ردحًا من الزمن.
قوّضت الحمَّى المكسيكية صحة شاميت. فأُبعد نهائيًا من الجيش دون أن ينال رتبة رقيب. وخرج إلى الحياة المدنية كجندي بسيط. ومرت السنوات بائسة ورتيبة. جرّب خلالها العديد من الوظائف الخدمية المختلفة، وفي النهاية أصبح عامل نظافة في باريس. ومنذ ذلك الحين، تلاحقه رائحة الغبار والقمامة. يشم رائحتها حتى في النسيم الخفيف الذي يجول في الشوارع آتيًا من نهر السين، وفي باقات الزهور المبللة التي تبيعها نساء مسنات أنيقات في الجادات.
توالت الأيام المشوبة بضباب أصفر، تتراءى خلاله من حين لآخر سحابة وردية بنعومة فستان سوزان القديم الذي تفوح منه رائحة نضارة الربيع، كما لو أنه حُفِظ أيضًا في سلَّة من بنفسج لفترة طويلة.
أين هي سوزان؟ وماذا حل بها؟ علم أن والدها مات متأثرًا بجراحه، فبدأ يخطط للذهاب إلى روان لزيارتها، وكان يؤجل هذه الرحلة مرة تلو أُخرى حتى أدرك أخيرًا أن الوقت قد مضى، وأن سوزان قد نسيت أمره. فيكيل لنفسه الشتائم، خاصة حينما يتذكر وداعه لها. وتذكر كيف أنه بدلًا من تقبيل الفتاة، دفعها نحو العجوز الشمطاء قائلا: “عليك بالصبر كجندي، ياسوزي.
من المعروف أن عمال النظافة يعملون ليلًا. هناك سببان يجبرانهم على القيام بذلك: الأهم من ذلك كله أن القمامة، كنتاج نشاط بشري غير مفيد، تتراكم دائمًا مع حلول المساء، علاوة على ذلك، لا ينبغي لعامل النظافة أن يُهين أنظار الباريسيين وحاسة الشم لديهم. وفي الليل لا يلاحظ أحد عملهم، باستثناء الجرذان.
اعتاد شاميت على العمل الليلي، بل ووقع في حب هذه الساعات من اليوم. خاصة الوقت الذي يشق الفجرُ فيه طريقَه ببطء فوق باريس، وينداح الضباب فوق نهر السين كالدخان، دون أن يرتفع فوق حاجز الجسور.
في أحد الأيام، في مثل هذا الفجر الضبابي، رأى شاميت وهو يسير على جسر المعاقين امرأة شابة ترتدي فستانًا أرجوانيًا باهتا بدانتيل أسود، تقف عند سور الجسر وتنظر إلى نهر السين. فتوقف وخلع قبعته المغبّرة وقال:
– سيدتي، الماء في نهر السين بارد جدًا في هذا الوقت. دعيني أرافقك إلى منزلك.
– ليس لي منزل الآن.
– أجابت المرأة بسرعة واستدارت إلى شاميت. فجأة سقطت القبعة من يده.
– سوزي! – قال بيأس ودهشة.
– سوزي الجندية! طفلتي! أخيرًا أراك أمامي. لا شك أنك نسيتِ من أنا، أنا جان إرنست شاميت، ذلك الجندي من الفوج الاستعماري السابع والعشرين الذي أوصلك إلى تلك العمة القذرة في روان. كم أنت جميلة! وكم يبدو شعرك بديعًا! إنني لم أكن سوى جندي عادي، ولم أكن أجيد تصفيفه على الإطلاق.
– جان!، صرخت المرأة، واندفعت إلى شاميت، فعانقته وأجهشت بالبكاء:
– جان، أنت لطيف كما كنت في تلك الأيام. إنني أتذكر كل شيء!
– آه، هراء!- تمتم شاميت، من يحتاج لطيبتي وحناني؟ ماذا حدث لك، يا صغيرتي؟
شدَّ شاميت سوزان إليه، وفعل ما لم يجرؤ على فعله في روان. فمسَّد على شعرها اللامع وقبّله، ثم ابتعد على الفور، خوفًا من أن تشم رائحة الفئران من سترتَه. لكن سوزان تشبثت به أكثر.
– ما خطبُك، يا فتاتي؟ كرر شاميت في ارتباك.
لم تُجب سوزانا. لم تكن قادرة على التوقف عن البكاء. فأدرك شاميت أنه في الوقت الحالي لا داعيَ لسؤالها عن أي شيء، وقال على عجل:
– لديّ مأوى عند السور. بعيدٌ من هنا. وهو بالطبع فارغ تمامًا. ولكن يمكنك تسخين الماء والنوم في السرير. هناك يمكنك الاغتسال والاسترخاء. والإقامة قدر ما ترغبين.
مكثت سوزان مع شاميت خمسة أيام. وفي اليوم الخامس أشرقت شمس غير عادية فوق باريس، وتلألأت جميع المباني المغطاة بالسخام حتى أقدمها، وكلُّ الحدائق حتى عرين شاميت نفسه تلألأ في أشعة الشمس مثل الجواهر.
من لا يشعر بالإثارة الخافتة جدًا للحسناء النائمة ويدرك ماهية الرقة واللطافة؟ شفتاها أكثر إشراقًا من بُتيلاتٍ مبللة، ومن رموشها التي بلّلتها دموعُ الليل. أجل، حدث كل شيء لسوزان، تمامًا كما توقع شاميت. تعرضت للخداع من قبل حبيبها الممثل الشاب. لكن تلك الأيام الخمسة التي عاشتها سوزان مع شاميت كانت كافية تمامًا لمصالحتهما.
ساهم شاميت في عملية المصالحة. كان عليه أن يأخذ رسالة منها إلى الممثل، ويُعلِّم هذا الرجل الوسيمَ اللباقة، عندما أراد أن يدس في جيب شاميت بعض النقود كمكافأة له.
سرعان ما وصل الممثل في عربة لاستعادة سوزان. وسار كل شيء كما ينبغي: باقة أزهار، وقبلات، وضحكٌ ودموع واعتراف وتوبة وصفح.
غادر الزوجان، وصارت سوزان في عجلة من أمرها لدرجة أنها قفزت إلى عربة الأجرة، دون أن تودع شاميت. ولكن في اللحظة الأخيرة تداركت الأمر واحمرت من الخجل، ومدّت يدها إليه مودعة.
– ما دُمتِ قد اخترتِ حياتك وفقا لذوقك، تمتم شاميت في إثرها:
– فلتكوني سعيدة!
أجابت سوزانا:
– لا أعرف شيئًا بعد. ولمعت الدموع في عينيها.
– عبثا تنفعلين، يا طفلتي. يا صغيرتي الجميلة.
– ليت أحدًا يهديني وردة ذهبية! – تنهدت سوزانا.
– ستحمل لي معها السعادة بالتأكيد. أتذكر قصتك على الباخرة، يا جان.
– من يدري! – ردَّ شاميت.
– على أي حال، ليس هذا السيد من سيحضر لك وردة ذهبية. آسف، أنا جندي. إنني لا أحب المخادعين.
تبادل الزوجان النظرات. هز الممثل كتفيه. وانطلقت العربة.
اعتاد شاميت التخلص من جميع النفايات التي يجمعها خلال النهار من المنشآت الحرفية. لكن بعد هذه الحادثة مع سوزان، توقف عن رمي غبار ورشات الصاغة. وبدأ يجمعه سرًا في حقيبة ويحمله إلى كوخه. فقرر الجيران أن عامل التنظيفات قد فقد عقله. قلّة من الناس يعرفون أن هذا الغبار يحتوي على كمية معينة من مسحوق الذهب، لأن الصاغة غالبا ما يفقدون بعض الذهب في عملهم.
قرر شاميت نخْل الذهب من غبار المجوهرات، وجمْعه في سبيكة متواضعة ليصنع منها وردة ذهبية صغيرة تُسعد سوزانا. أو لعلّ ذلك سيجلب السعادة لكثير من الناس العاديين، كما أخبرته والدته. من يدري! وقرر ألا يرى سوزان حتى تصبح الوردةُ جاهزة.
لم يخبر شاميت أحدًا. لأنه يخشى السلطات والشرطة. فمن يدري ما الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن القائمين على القضاء. يمكنهم إعلانه لصًا وزجُّه في السجن والاستيلاءُ على ذهبه. فهو في نهاية الأمر لا يمتلكه بصورة قانونية.
قبل انضمامه إلى الجيش، اشتغل شاميت عاملًا في مزرعة تعود لأسقف القرية، وبالتالي فهو يعرف كيفية التعامل مع الحبوب. هذه المعرفة بدت مفيدة له الآن. لقد تذكر تذرية القمح وسقوط الحبوب الثقيلة على الأرض، بينما تذهبُ الرياح بالغبار الخفيف.
فقد صنع شاميت آلة تذرية صغيرة لتنقية الذهب من الغبار ليلًا في الفِناء. وبقي قلقًا حتى رأى مسحوقًا ذهبيًا خفيفًا، استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى تراكم منه ما يكفي لصنع سبيكة صغيرة. لكنه تردد في إعطائها للصائغ ليصنع منها وردة ذهبية.
لم توقفه عن مشروعه قلة المال، فأي صائغ سيوافق على أخذ ثلث السبيكة لقاء إنجازه للعمل، وسيكون سعيدًا بذلك. لكن المشكلة لم تكن في الصاغة. فكل يوم جديد يقرِّب موعد اللقاء مع سوزان. وفي الأيام الأخيرة بدأ الخوف ينتابه مع اقتراب موعد اللقاء.
أراد منحها كلَّ الحنان المدفون والحبيس لفترة طويلة في أعماق قلبه. لكن من يحتاج إلى حنان رجل دميم الشكل ومعدم! لاحظ شاميت منذ فترة طويلة أن الرغبة الوحيدة لدى من كانوا يقابلونه هي الابتعاد عنه في أسرع وقت ممكن ونسيانُ وجهه الرمادي الرقيق ذي الجلد المترهل والعينين الثاقبتين.
كان هناك شظية مرآة في كوخه. ومن وقت لآخر ينظر إلى وجهه فيها فيلقي بها بعيدًا على الفور مع وابل من اللعنات، قائلًا: “من الأفضل ألا أرى وجه هذا المخلوق الأخرق الذي يدب على ساقين أنهكهما الروماتيزم”.
عندما أصبحت الوردة جاهزة علم شاميت أن سوزان غادرت باريس إلى أمريكا قبل عام، وإلى الأبد، كما قالوا. ولا يوجد من يعطيه عنوانها هناك.
في البداية شعر بالارتياح. ولكن بعد زمن قصير تحولت بصورة غامضة كل آماله من لقاء حميمي لطيف مع سوزانا إلى قطعة حديد صدئة. كانت هذه القطعة الشائكة عالقة في صدره بالقرب من القلب، فتوسل إلى الرب أن تنغرز في هذا القلب الضعيف وتوقفه إلى الأبد.
تخلّى شاميت عن ورش التنظيف. ورقد في كوخه لعدة أيام ووجهه إلى الحائط. كان صامتًا، لم يبتسم إلّا مرة واحدة، وهو يضغط على عينيه بكُم سترته القديمة. لكن لم يرَهُ أحد. ولم يأتِ الجيران إليه، فقد كان لدى الجميع ما يكفيهم من همومهم الخاصة، باستثناء شخص واحد فقط اهتم لحال شاميت، إنه الصائغ الذي صنع من السبيكة أرقَّ وردة وبجانبها، على فرع واحد، برعمٌ صغير. زار الصائغ شاميت، دون إحضار أي دواء مجدٍ.
وبالفعل، مات شاميت بهدوء خلال إحدى زيارات الصائغ، فرفع رأس عامل النظافة، وأخذ من تحت الوسادة الرمادية وردة ذهبية ملفوفة بشريط أزرق مجعّد تفوح منه رائحة الفئران، وغادر بهدوء وأغلقَ الباب خلفه.
أواخرَ الخريف، حينما اشتعلت عتمة المساء بالرياح والأضواء المتراقصة، تذكر الصائغ كيف تغير وجه شاميت بعد الموت. أصبح صارمًا وهادئًا، وبدت له المرارة على ذاك الوجه الجميل.
– ما لا تمنحه الحياة، يمنحه الموت. – قال الصائغ الذي يميل إلى الأفكار الرخيصة محدثًا نفسه، وتنهد بصخب.
وسرعان ما باع الوردة الذهبية لكاتب مسنّ، يرتدي ثيابًا بالية، ووفقًا لصائغ المجوهرات، لم يكن غنيًا لدرجة تؤهله لشراء مثل هذه السلعة الثمينة.
من الواضح أن قصة الوردة الذهبية التي رواها الصائغ للكاتب لعبت دورًا حاسمًا في عملية الشراء هذه.
نحن مدينون ليوميات ذلك الكاتب لأن هذا الحادث المؤسف في حياة الجندي السابق في الفوج السابع والعشرين الاستعماري، جان إرنست شاميت، أصبح معروفًا.
فقد ورد في ملاحظات الكاتب:
“كلُّ دقيقة، وكل كلمة قيلت بعفوية وعن غير قصد، وكل نظرة، وكل فكرة عميقة أو مازحة، وكل حركة غير محسوسة في قلب الإنسان، وكل حركة غير محسوسة للقلب البشري، تمامًا مثل الزغب المتطاير من أشجار الحور أو ضوء نجم في الليل، كلها حُبيبات من غبار الذهب. نحن، الكتّاب، نستخرجها خلال عقود من الزمن، هذه الملايين من الحُبيبات، نجمعها بشكل غير محسوس لأنفسنا، ونحولها إلى سبيكة ثم نصوغ منها “وردة ذهبية” على شكل قصة أو رواية أو قصيدة.
وردة شاميت الذهبية! تمثل بالنسبة لي، إلى حد ما، نموذجًا أوَّليًا لنشاطنا الإبداعي. إنه لأمرٌ مدهش أن أحدًا لم يكلف نفسه عناء السؤال: كيف يولد من هذه الذرات الثمينة تيار حي من الأدب.
ولكن، مثلما كانت الوردة الذهبية بالنسبة لرجل النظافة قد صُنعت لإسعاد سوزان، فإن إبداعنا يهدف إلى أن يسود جمال الأرض، ويدعو إلى النضال من أجل السعادة والفرح والحرية بأريحية قلب الإنسان، وأن تسود قوة العقل على الظلام وتتألق مثل شمس لا تغرب.
الهوامش
* كاتب روسي (1892- 1968) اشتهر بكتابة القصة القصيرة، له عدد من المجموعات القصصية، أبرزها: «زمن الآمال الكبيرة»، «الوردة الذهبية»، «قصة حياة».