رغم أنّ الدكتورة غالية آل سعيد، قليلة الكلام، على المستوى الشخصي، والاجتماعي، وحين يشبك بمناقشة الأمور العامّة اعتادت أن تشارك بالإنصات الجيد، إلاّ أنّها تسترسل حين ينصبّ الحديث عن الكتابة، وهمومها، وتجد نفسها منقادة للبوح عندما ترى ورقة بيضاء على طاولتها، إذ تسارع إلى الغوص في بياضها، لتسكب شيئا من روحها، وهواجسها، محاولة الإجابة عن تساؤلات تشغلها في الحياة، والكتابة.
في هذا الحوار، فتحت الكاتبة غالية الحاصلة على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ووريك البريطانيّة، ذاكرتها، وقلبها، لنا، علما بأنها تقبع بعيدة كلّ البعد عن وسائل الإعلام، تاركة كل المساحة لشخوصها للحديث عن حيواتهم على صفحات رواياتها الخمس، ويكفي أنّ هذا الحوار هو أوّل حوار للكاتبة في حياتها، رغم أن علاقتها بالكتابة الروائية تعود إلى حوالي عقدين من السنوات، بل لم تحاول أيّة وسيلة إعلام اقتحام عالمها، سوى مجلة نسوية قابلتها بالاعتذار، لذا حاولنا أن نتوسع بالحديث في هذه المساحة محاولين الاقتراب من عالمها الروائي، وتجربتها في الكتابة.
كتبتِ القصة القصيرة ونشرتيها في عدد من المجلات العربية، واختيرت واحدة من قصصك لتكون ضمن خمسين قصة قصيرة لكتاب العربي العام 2007-2008. لكنك انتقلت لكتابة الرواية، هل وجدت في الرواية الملاذ المبتغى، والهدف المنشود؟
نعم، كتبت القصة القصيرة، ولكن ليس بصورة منتظمة، وربما لم تكن البداية هي القصة القصيرة، بل الرواية، حقيقة لا أتذكر أيهما الأول وأيهما الثاني. وأصدقك القول، كتابة الرواية لم تأتِ نتيجة لدراسة، أو بتخطيط مسبق مني، لم أستيقظ يوما وأحدث نفسي قائلة: غالية اكتبي رواية، وعليك كتابة رواية (أيام في الجنّة)، وهي أول رواية كتبتها. كلا، لم يحدث حوار داخلي عندي حول كتابة الرواية، فكتابة الرواية أتت بتلقائية أدهشتني، وحتى الآن لا أعرف تماما كيف وصلت إلى كتابة الرواية.
l وقبل ولوج باب هذا العالم، ما الذي كان يشغلك، هل مارست الكتابة الصحفيّة، بحكم دراستك الأكاديميّة؟
– كانت اهتماماتي تدور حول المواضيع التي أكملت فيها أطروحة دراستي، تحديدا (دور الصحافة في السياسة) بالتركيز على معاهدة (كامب ديفيد). بعد تخرجي تصوّرت إنني سأكتب مقالات سياسية للصحف، ولكن لم يتم ذلك، ربما بسبب الاهتمامات الأخرى التي ظهرت، واستولت على حيز كبير من تفكيري، وتطلب مني إنجازها، لا أعرف بالضبط ما هو السبب. الذي أعرفه، أني لم أمارس الكتابة الصحفية، ولكن عيني لم تغمض عن النظر إلى قضايا الشعوب، وهموم الناس. ربما من هذا المنطلق حدثت صلتي بكتابة الرواية، وبدأت في طرح هموم الناس، وقضاياهم ليس بالصورة المباشرة، بل بالصورة الأدبية غير المباشرة، وفي الحقيقة، في كتابة الرواية متسع أكبر لعكس التصورات الخيالية وربما هذا هو الواقع الذي يحتم على الكاتب استبدال كتابة القصة القصيرة بالرواية، في الرواية تستطيع الشخصيات التعبير عن نفسها، وقضاياها بطريقة مفصلة، لديها متسع أكبر للعبث بالوقت من غير حدود.
l يرى الإيطالي اميريتو ايكو «إن وظيفة العنوان هي تشويش الأفكار لا توحيدها»، ما هي وظيفة العنوان في رواياتك؟
– ربما يكون ايكو صادقا فيما قال عن العنوان، ووظيفة التشويش، فعنوان أهم رواية من رواياته المتعددة هو «اسم الوردة». إنه يفعل ذلك ليشوش فكر المتلقي للرواية، كيف يحلل القارئ هذا الاسم من منطلق الرواية التاريخية؟ تتحير، وتظل هناك أسئلة عديدة تتعلق بقصد الكاتب من الوردة، واختيارها عنوانا للرواية.
المهم في نظري أن لعنوان الرواية عددا من الوظائف تتمثل في التعريف بالعمل قبل البدء في قراءته، توصيل رسالة إلى شخصيات الرواية نفسها، أو في توضيح موقف الروائي من العمل نفسه.
تفسير العنوان أمر ليس واضحا على وجه اليقين، وفي عناوين رواياتي اختلطت هذه المعايير كلها. عنوان (أيام في الجنّة) يريد البطل أن يخبر القارئ من البداية إنه عاش أيام متعة جميلة، ولكنها قصيرة، وتشبه النعيم. في رواية (سنين مبعثرة) يظهر لنا ندم البطل فورا، فقد بعثر سنين عمره ولم يشبع مطالبه، وطموحه، هذا ما صورته الأحداث من البداية للنهاية، وحدة قاتلة وعزلة عن العالم يقابلها في كتبه ويتجرعها في زجاجاته. في رواية (صابرة، وأصيلة)، نقابل البطل، ونتعرف على المكان الذي أتى منه حيث تقع مجزرة صبرة وشتيلة، وتنتهي الرواية باغتيال بطلة الرواية (صابرة) على يد أخيها، هذا العنوان ملخص لعدد من التراجيديات المؤلمة. أما في رواية ( سأم الانتظار) فالعنوان يعصف بذهن القارئ، ويحفز فضوله كي يسعى لمعرفة مصدر السأم، وسببه، والتأمل في الحلول المنتظرة، وآفاق المستقبل.
l تركّز أعمالك الروائية على الناس المهمّشين، وفيها تتناولين حياتهم، وتناقشين همومهم، لماذا التركيز على المهمشين دون سواهم من فئات المجتمع؟
– أتفق معك، نستطيع القول: إن شخصيات رواياتي جلّها من المهمشين، والملفوظين من قبل صفوف المجتمعات، وصفوتها. لهذا السبب، تجد شخصياتي تعيش بعشوائية على أطراف المجتمعات التي لفظتها. إن واقع هؤلاء الناس يعكس بوضوح اختلال السياسات في المجتمعات التي ينتمون لها، نحن نتحدث عن بؤساء، إن كانوا عربا، أو غربيين، يحدث ذلك على الرغم مما تملكه بعض هذه المجتمعات من موارد اقتصادية وفيرة، وهنا مربط الفرس، وسر التناقض.
ويكفيك التهافت الحاصل حاليا على الهجرة إلى الغرب على سفن الغرق، تلك السفن تقف شاهدا على اضطراب حياة هؤلاء المهمشين المنهكين. خذ عندك الشخصيتين (خلف) وصديقه (معوض) في رواية (سأم الانتظار)، هما يجسدان هذه الهجرة ومعهما المتعلم الناجح الطبيب (حامد حمدان)، وفي رواية ( أيام في الجنة)، وجدنا (غسان) في لندن، إلا أنه هو الآخر مهاجر وجد ضالته في اللجوء، هربا من وقائع حلت عليه في بلده. وفي المهجر، ربما نتيجة عدم قدرته على الاندماج في المجتمع، مثل حال عدد كبير من أمثاله، لفظه المجتمع، وتركه يعاني البطالة، والمرض والإدمان. ويمكن حدوث ذلك في شتى صنوف المجتمعات، يفشل الفرد، فيهاجر، وفي المهجر يعاني، بسبب عدم القدرة على الاندماج، أو مشاكل شخصية واجتماعية، الفرد هنا كمن يستجير من الرمضاء بالنار. والدكتور (نديم نصرة) الطبيب المحترم ربما لو تواجدت في مجتمعه العوامل المتطلبة لممارسة مهنته لما نزح الى الغرب، ولكنّه هو الآخر لسبب ما لجأ الى بريطانيا، وظل حنينه، وشوقه إلى بلاده، وإلى العالم الشرقي ملتهبا لم يروه حتى عشقه لـ(مليحة) العربية، زوجة (نافع).
l لكنك تعيشين وضعا حياتيا، واجتماعيا مختلفا، بعيدا عن هذه الفئة، سواء في المجتمعات العربية، أو غيرها من مجتمعات العالم؟
– كلامك صحيح، حياتي بعيدة عن حياة من أكتب عنهم، وهذا هو الواقع، إلا أنني لست بعيدة سمعا، ونظرا، وتفكيرا، عما يدور حولي من هموم، وقضايا الناس. تجدني التقط هواجس الناس في كل مكان أحلّ فيه، وفي الحقيقة في داخلي ألهج بلسان الشكر للذين قربوني من عالمهم وأنا البعيدة عنهم. ومن خلال حرية الكتابة الروائية قمت بتركيب، وإعادة صياغة لسيرة حياتهم، وتحدثت عن همومهم، وطموحاتهم وأحلامهم، وعن مخاوفهم. وهنا تقع المفارقة المفيدة للأدب، والمفجرة للعمل الروائي، كاتب غريب لا تربطه صلة مباشرة بشخصياته، وفي نفس الوقت يجتهد كي يصل لحياة تلك الشخصيات، ويجسدها للقارئ، يوجد خطان للسير، ولكنهما يلتقيان في مفترق الطرق، ويتلاحمان، ويتشاركان الأفراح، والأتراح.
لا أعرف تماما لماذا للشخصيات المهمشة الحضور الأبرز في رواياتي، ولكن أعود مرة أخرى وأقول، إن صح القول، في أي مجال من مجالات الآداب غالبا أنت لا تختار الشخصيات التي يدور تفكيرك حولها، فهي تحل ضيفة على روايتك، الشخصيات تختارك، وربما حتى الأمكنة هي التي تختارك. تقابلك الشخصيات من دون ترتيب مسبق، بعضها تقابلك في تعاملك اليومي، وتكون من مختلف دروب الحياة، والطبقات، ربما تلقاها من بين المسافرين معك في القطار، والطائرة، أو المنتظرين في عيادات الأطباء، والواقفين في طابور شراء الخبز، وتذاكر السينما، أو الجالسين من حولك في المطاعم، وفي صالونات الحلاقة، أو بين الباعة المتجولين. شخصيات الراوية هم كثر، وتجدهم في أماكن كثيرة، ومختلفة، بعضها ممن لا تعرفهم أبدا، أو قد تعرفهم من الوهلة الأولى. وجوه هؤلاء تنطبع في ذاكرتك ومن ثم تتسلّل بحذر حتى تجد طريقها إلى أعمالك الفنية، فهي تتمدد على سطور وصفحات رواياتك، أو قصائدك، أو قماش لوحاتك الفنية، فلا تجد مناصا من الرضوخ والانحناء لإرادتها، وتنفيذ مطالبها.
وبذلك، يتحوّل الكاتب إلى أداة تمكّن هذه الشخصيات، من أي مستوى اجتماعي، أو ثقافي كانت، الخروج من المحيط المحصور التي وجدت فيه، إلى عالم أوسع وأرحب أي عالم الرواية. الشخصيات تختارنا، وليس العكس، والمهمشون هكذا فعلوا معي، حتى صاروا واقعا في أعمالي الروائية كلها.
وكثيرا ما تمر من أمامي شخصيات، أعرفها، أم لا أعرفها، فأتطلع إليها، وأمعن النظر في وجوهها، في محاولة لسبر أغوارها، وقراءة همومها. أكاد أنطق بما يدور داخل رأس الشخصية من أسرار وخبايا، أشعر كأنني أقول لها أدرك همومك، ومتاعبك ومعاناتك، أو أعرف الذي يقف خلف فرحك، وحبك للحياة. ومن هنا تبدأ كتابة الرواية، من واقع متخيل في قالب فني دخلت فيه الشخصيات كما تختار هي، ذلك ينطبق على الشخصيات المهمشة، وغيرها من الشخصيات.
l يعتقد البعض أنّ الكتابة ينبغي أن تدور حول قضايا وجوديّة كبرى، دون الدخول في الحياة اليومية التي يعيشها المهمش، كيف تنظرين لهذا الطرح؟
– هناك قضايا كثيرة تمس، وتلمس حياة الفرد العادي، الفرد المهمش اجتماعيا وسياسيا، ولديه هموم كثيرة كالبطالة، والفقر، ومرارة الحاجة، والمرض، والحرمان من العمل، والسكن، وغيرها من المشاكل، والضغوط، والقضايا، والأمور الشخصية والاجتماعية الشائكة. رواية المهمش لا تتحدث عن السياسة المطلوبة في العمل الروائي من منظور المتلقي المثقف، إلا أنك ستجد السياسة مدفونة في المشاكل العادية، واليومية التي تمر بها الشخصيات المهمشة. شخصياتنا لا تحارب من أجل العيش بالفكر، ولا بالقلم، فقرها حرمها من فرص التعليم، ولكنها تحارب بالواقع الذي تعيشه حينما يضعه الروائي في مشاهد كثيرة، ومختلفة كحارة الصفيح، أو مذلة الإدمان التي يعاني منها المهمش. تلك هي السياسة، لحما وشحما، وليس شرطا عليها الظهور في ثوب الاستبداد العسكري، الفساد السياسي والإجرام، أو بطولات المثقف الذي يقرأ كتبا كثيرة، أو يكتب مقالات ملتهبة عن القضايا الإنسانية، أو يفكر بعمق في العمل الأدبي ونتائجه.
وأزيدك من الشعر بيتا، إن الروايات التي تصدرت الأولوية، ونجحت عالميا، أغلبها لم تتركب أحداثها على شخصية مثقفة تقرأ، وتفكر في العالم، ومشاكل الشعوب، أو شخصية واقفة في ساحة تتحدث عن القمع، أو تتحدى بصدر عارٍ طلقات رصاص العسكر. الروايات العالمية الناجحة معظمها تبدأ، وتدور حول حياة شخصيات عادية وشخصيات مهمشة. تتعلق الرواية بحياة ناس يعيشون في بيوت الصفيح، والبلدات المغمورة، والحارات الصغيرة المكتظة بالبشر، وبترع تحوم حولها البعوض، أو على قارعة الطريق، والشوارع في قاع المدن. نوع معيشة هؤلاء الناس تمثل صورا واضحة لقسوة الحياة، وواقع المجتمعات التي عزلتهم، وأخرجتهم من السجل الاجتماعي وحبست قدراتهم على المشاركة السياسية فيما يهمهم من القضايا التي تتحكم في حياتهم ومصائرهم.
روايات تشارلز ديكنز، وماركيز، ومحفوظ، ودستوفسكي، وإحسان عبد القدوس وغيرهم من الكتاب المعروفين محليا، وعالميا تبدأ بسرد حول حياة أناس عاديين، ومهمشين وعاطلين عن العمل، أو الذين ألقوا خلف قضبان السجون. تلك روايات ليست عن بطل شاهر السلاح في وجه سياسي، أو عسكري، أو عن المثقف عميق التفكير، ذاك سيأتي فيما بعد، وبطريقة مبطنة، وفنية تظهر الفساد السياسي، والعسكري وتحطيم القيم.
l وربما بسبب أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات العالم ككل؟
-نعم، فهم أكثر من غيرهم يولدون يوميا، ويتكاثرون، تنتجهم الأنظمة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية الفاشلة محليا، وعالميا. مثل هذه الأنظمة المختلة تخلق مهمشين، ومحتاجين أكثر مما تخلق الصفوة المرفهة من الناس، هؤلاء أعدادهم أقل بكثير من المهمشين، وتجدهم يعيشون في عزلة عن عالم الفقراء، والمهمشين. إذا ليس غريبا أن يكون في رواياتي للمهمشين حضور أكبر عن غيرهم من الفئات فهم الأغلبية في مجتمعات العالم، وأراهم في كل الأزمنة، والأمكنة. الأعداد الكبيرة من بؤساء العالم يجب أن تجد لها متنفسا، ومسرحا تلعب عليه أدوارها، ومن عليه تنشر قضاياهم، وآلامهم، وهمومهم، وربما وجدت في سطور الرواية أفضل مكان لذلك. الرواية للمهمش أشبه بسرير الطبيب النفسي، بينما المقتدر يلجأ إلى عيادات الأطباء النفسيين بسبب قدرته على دفع التكلفة الباهظة لجلسات العلاج، المهمش لا يجد غير حبر الروائي يغسل فيه همومه، فكيف نحرمه من قطرات حبر لا تسمن ولا تغني من جوع؟.
l عشت في بريطانيا سنوات طويلة، درست في جامعاتها حتى حصلت على الدكتوراه، ما هي تأثيرات تلك التجربة الحياتية على إنتاجك الروائي؟
– تلك الفترة لها تأثير كبير على أعمالي الروائية، لا شك في ذلك. ما حصل ربما كان بإرادتي، وربما كان خارج إرادتي، لست على يقين، أحيانا تجدني أرجح الاحتمال الثاني، إنها لعبة القدر.
أما سؤالك عن تأثير التجربة البريطانية، فذلك أمر معقد، فالفرد لا يستطيع عزل نفسه عن محيطه، وبخاصة إن عاش فيه فترة طويلة، كما هو الحال معي. لا تستطيع أن تغمض عينيك عن الشخصيات التي تدور في ذلك المحيط، لا سيما لو كانت لديك ميول فنية كالكتابة، أو غيرها من الفنون الأخرى. بسبب إقامتي الطويلة في الغربة تستطيع القول صارت أعمالي الروائية شبه محصورة، وهي تعكس المكان، والأفراد، والمجتمعات، وكما قلت آنفا الروائي مسير، وليس مخيرا فيما يختار من شخصيات، وأماكن وقضايا لأعماله الفنية. الشخصيات والقضايا هي التي تسير قلم الروائي وفرشات الفنان واصابع الموسيقي وصوت المغني وليس العكس، وهذا هو الحال معي.
في الحقيقة، كانت تجربتي مفيدة طوال اقامتي في بريطانيا، وعاصمتها لندن، فقد عشت في لندن بداية تحضيري لدراسة الدكتوراه، كما عشت خارجها. عرفت أناسا ولمست واقع حياتهم، أحيانا عن كثب، وأحيانا عن بعد. ربما لو لم أعش في بريطانيا لما وجدت فرصة معرفة هؤلاء الناس من مختلف الطبقات، والجنسيات، والأعمار، تعرفت على سير، وواقع حياتهم، حلوها، ومرها. بعضهم حمل آلام العزلة، والغربة، والصراع المستمر من أجل البقاء، أو من أجل التمسك بالهوية، واللغة، والتقاليد، تلك أمور ليس من السهل تحقيقها في المجتمعات الغربية، والمجتمع البريطاني بالذات. ساعات العمل طويلة، والوقت مقدس، وثمين وهو أثمن شيء، يهرولون لتقوية الصناعة، وتحقيق ما يسمى بالتقدم ليواكبوا مسيرة الدول الغربية الأخرى. وهنا يظهر سؤال في غاية الأهمية: من أين يأتون بالوقت للالتفات إلى الذي يجرى من حولهم، والتفاهم مع الأشخاص الذين يشاركونهم العيش في ذات الرقعة ولمس همومهم؟
للأسف الشديد، لا وقت للقيام بتلك المهمة الإنسانية الحضارية. مشاكل الإنسان الآخر، زميل العمل والجار، يتم تحويلها ببساطة إلى الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، تلك وظيفة الدوائر الحكومية المتخصصة في التعامل مع احتياجات الأفراد والمجتمعات.
l وما هو موقفك ككاتبة، وإنسانة من ذلك؟ هل خضت مع الخائضين؟
– إن الاهتمام بمن حولي، والانتباه للآخر، ساعدني في سرد الحقائق، وسبر واقع الناس، تلك هي رواياتي، نسيج من الخيال يسنده الواقع، ويرفع من قيمته. إن اتساع، وتشعب المجتمع البريطاني جعل منه رقعة تعج بمختلف المشاهد، والقضايا، والتداخل، والتضارب السياسي، والمالي، والقضائي، والاجتماعي، والإنساني، ذلك مسرح حي لمتصيدي فرص الالهام الفني مثلي. يكفيك الوقوف خارج محطة نفق القطارات في وقت الغروب، إنك لن ترى غروب الشمس كما نراها في بلادي، فسحبهم كثيفة تحجب أشعة الشمس، وضوءها. ولكنك سترى غروبا آخر، أسميه غروب يوم العمل، الفرحة منعكسة على وجوه المسافرين المهرولين في مختلف الجهات للعودة الى بيوتهم، أو إلى الحانات الكثيرة للاحتكاك ببعضهم البعض، وغسل همومهم، ومتاعب يومهم. من مثل هذه المشاهد، وهذه، والوجوه في المجتمع البريطاني كونت شخصيات رواياتي، ووضعتها في قالب فني، اعتصرت هذه الصور، والمشاهد المختلفة من واقع هذا المكان. تجد الدكتور (نديم نصرة) حاملا الذبيحة لـ(مليحة)، وهي تقطر دما، كأنها جثة غدر بها، ويريد محو اثار جريمته. المشاهد الكثيرة، والأدوار التي تقوم بها الشخصيات التي تعج بها الأرصفة غنية، ومدهشة، وثرة، من الصعب تجاهلها، أو التخلي عن متعة تركيبها بطريقة فنية في رواية، قصة، مسرحية، قطعة موسيقية، أو لوحة فنية.
لكنّك، رغم تلك الإقامة الطويلة، لم تتأثري بالتيارات الجديدة السائدة في الرواية المعاصرة، وفي البناء السردي، هل تجدين نفسك غريبة عن تلك التيارات؟
– الكتابة الروائية بالنسبة لي شخصيا لا تقف على تيار محدد، أو نمط معين، ولو إن التيارات الروائية مهمة، ترى فيها خبرة الكاتب وما وصلت اليه الكتابة المعاصرة من أنواع مختلفة.
الاختلاف في النوع، والشكل الروائي دلالة على التغيرات التي طرأت في شتى المجالات في عالمنا الحديث أهمها التقدم في العلم والاختراع، وبخاصة التقدم التكنولوجي، الذي جلب سرعة فائقة في نطاقات عديدة بعضها ايجابي وبعضها سلبي.
أقول: السرعة وضعت بصمتها على جوانب كثيرة من حياتنا بما في ذلك أسلوب كتابة الرواية المعاصرة. ضيق الوقت يفرض ألا تكون الرواية طويلة، كما كانت الرواية سابقا. في الغرب وصل الأمر إلى أن بعض دور النشر لا تقبل أي عمل روائي يزيد عن مئة، وخمسين صفحة، تلك الدور تعرف أن لدى القاري الحديث القليل من الوقت للقراءة. واليوم الناس تستعين بالتكنولوجيا، وكل شيء له صلة بالبرمجة المسبقة، وقريبا ستكون في متناول يدنا آلة إلكترونية تمثل أداة للكتابة الروائية، يعني نتوقع آلة ستكتب الرواية من بدايتها إلى نهايتها. ما الذي في استطاعتنا عمله لمقاومة هذا التيار الجارف من التقدم، الهائل والسريع، الذي يسيطر على جوانب كثيرة في حياتنا؟
إن التطور الذي نشهده هو عبارة عن مرآة تعكس تطوّر الفكر الإنساني، وعلينا التعامل والتعايش معه بتفكير وبإيجابية. في البدء كانت الفكرة، ومن الفكرة تبلورت الابتكارات، والاختراعات الكثيرة التي أصبحت لا عد ولا حصر لها. وخلف هذه الابتكارات وقفت جهود فكرية وعلمية ضخمة، من قبل المخترعين والمصممين، لتطوير الصناعة في كل ناحية وذلك من اجل جلب الراحة للإنسان. ولكن للأسف بعض تلك الصناعات جلبت شقاء الإنسان، خذ أسلحة القتال والدمار كمثال. الاختراعات وتطورات الصناعة لن تقف في مكانها ما دام عقل الانسان يتمتع بحرية التفكير والابتكار، لا قيود غير القوانين التي تراعي تأثير هذه الابتكارات على المستخدم وسلامته. عمل العقل لن يقف عند نقطة محددة، المشكلة تكمن في المجتمعات التي تحرم العقل نعمة التفكير وتحصره داخل قوقعة محكمة، وبالتالي تشل إرادة الفرد وانتاجه الفكري وإبداعه في الصناعات والتقدم التكنولوجي.
واليوم هناك من يبكي حزنا على تفكك وتحلل وغياب الاداة الكلاسيكية، في الرواية بل، وفي مختلف المجالات كالهندسة المعمارية، والموسيقى، والتعليم. في عالم الهندسة أصبحت البيوت تأخذ أشكالا غريبة تجريدية مائلة او طويلة، في مجال الطب نلمس تغيرات مهمة، ويقال سيأتي الوقت لن يرى الجراح مريضه إلا عند اجراء العملية على جسده، ولا داعي للمقابلة وجها لوجه وما فيها من تفاصيل. ندرة الوقت وتواجد الأداة الفنية للقيام بما كان يقوم به الاخصائي أدت الى هذا الوضع الغريب، ولكنه واقع التقدم الذي طرأ في العالم من خلال تطور العلم والفكر.
هل يمكن للبشرية إيقاف هذا التغير الذي قلب موازين، وترتيب الأمور، وجعله يسير في صالحها؟
-لا أظن اننا سنجد آلة تعيد الحال الى الذي كنا عليه. وهناك نقطة تحول أخرى مهمة، كثيرون يشتكون منها وهي ضعف الإتقان والجودة في مجالات شتى، وضياع الضوابط المعترف بها بخاصة في مجال التعليم.
قبل دخول مرحلة هذا التطور الذي شهده العالم منذ أربعين سنة او أكثر بقليل كان لدى الناس متسع كبير من الوقت، بسبب قلة أساليب الاتصالات من هواتف ذكية وآلات الكمبيوتر، والتلفزيون. خذ مثلا التلفزيون، كان عمله محصورا على قنوات قليلة ويبث لساعات محدودة، وبالأبيض والأسود، أما اليوم، فقد غرق العالم داخل قنوات عددها يصل إلى الآلاف وأكثر. وهناك سبل ترفيهيه كثيرة، ومواصلات سريعة ونوادٍ رياضية، وحدائق عامة، وغيرها من المؤسسات، صممت لتمتص وقت الفراغ في الصالح، والطالح. هذه المشاريع الترفيهية لها خصوصية أخرى عند المجتمعات الأوروبية، وهي إنشاء أعمال، ودخل تنتفع منه الحكومات وتجني منه الضرائب والعوائد.
في الماضي كان السفر محصورا على الفئة القادرة على تكلفته، أما اليوم، فقد أصبح السفر في متناول يد الجميع بسبب هبوط الأسعار، ذلك قرب المسافات بين الناس. لا داعي الآن للبحث عن معلومات من داخل كتيبات المعلومات، المعلومة تصلك بمجرد نقرة إصبع من باطن الكمبيوترات، والتلفونات الذكية، الوقت الذي كان الفرد يقضيه في التأمل، والفكر بدّدته السرعة، وسهولة العثور على كلما يريد ويشتهي.
والرأي عندي، يجب ألا نشغل أنفسنا بالمقارنة بين ما كان، وبما هو كائن، أو الحصول على إجابة لماذا اختلت الموازين، والضوابط في أشياء كثيرة، يقول الكبار في السن في زماننا هذا إنهم لم يطلبوا المعونة من أحد، وكانوا يقدّسون العمل، ويحبون القراءة. علينا التأكيد على أن الخصائص التي تمتعت بها الأجيال الماضية تم استبدالها ليس بإرادة الفرد، بل أجبر عليها، أجبره عليها التغيير الذي طرأ في شتى المجالات، كالأنظمة السياسية، والاقتصاديّة، والثقافية.
أصبحت المجتمعات في بعض الدول ترزح بأعداد كبيرة من البشر بسبب النمو السكاني، الأمر الذي يتطلب موارد كثيرة من سكن، وتعليم، وعلاج، وغيرها من احتياجات. بعض الدول أصبحت عاجزة عن سد هذه المطالب، وبعضها حد من الصرف العام، أو رفع الضرائب. هذا التقدم سيتحول هو نفسه إلى موروث، نتيجة تطور الفكر الإنساني، وسيخزن في متاحف التاريخ، كما حل بالموروث الذي سبقه، تلك هي صيرورة الحياة ودورتها الطبيعية.
تشغلك قضايا حيوية في عالمنا المعاصر مثل الحرية، والعدالة، وتمحورت أعمالك حولها، إلى جانب قضايا أخرى عديدة، إلى أي مدى وصلت رسائلك التي تبعثينها من خلال أعمالك الأدبية، والفكرية؟
– يقف عالمنا العربي شاهدا على هذا الواقع المؤلم من كوارث، وأزمات، وبخاصة في الآونة الأخيرة، فقد أصبح له نصيب الأسد من المأساة. يعج عالمنا العربي بالظلم، وعدم المساواة، والانقلابات العسكرية، والتعنت السياسي، والآن دخلنا مرحلة الشتات نتيجة الحروب التي خلفت دمارا كبيرا، ومرحلة التمرد المسلح غير المنظم مما جعل بعض مجتمعات العالم أشبه بميادين حروب، وقتال بعيدة كل البعد عن الاستقرار المطلوب، والسلام المنشود.
في الثمانينات لبنان كانت مشهدا واسعا للحروب غير المنظمة، ومن ثم تبعتها دول أخرى مثل افغانستان والصومال والعراق، والآن سوريا واليمن غيرها من دول العالم؟ هذه الكوارث، والأحداث أدت إلى تفكك المجتمعات العربية، وزادت البطالة، والفقر فيها، وعدم مشاركة الأفراد في الديمقراطية، وفي اتخاذ القرارات السياسة التي تهم واقعهم، ومن أهم القضايا المعاصرة في عالمنا العربي هي من دون شك القضية الفلسطينية. انتهت الحرب العالمية الثانية، وواجه العالم العربي حقيقة احتلال فلسطين مما جلب معاناة مميتة للشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها يعيش في أرض مع من أتوا من خارج فلسطين لاحتلالها، فبدأ الشتات، وتم منع الفلسطينيين من حق العودة إلى أرضهم. الذين بقوا في فلسطين حرموا من ممارسة أبسط حقوقهم الإنسانية، من حرية العمل، والتعليم، وغيرها من المطالب المهمة لكيانهم، وهويتهم. ولكنّ الشعب الفلسطيني جاهد، واجتهد رجالا، ونساء لجعل جذوة القضية تطفو إلى السطح حية في مخيلة، وذاكرة العالم. والآن هناك الحروب، والصراعات في العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن، وقبل ذلك كانت الاغتيالات، والخطف في لبنان، هذا هو الواقع الأبرز للمشهد العربي. أصبح العربي في شتات، ولجوء وعوز، وفي حصار، شمل ذلك شتى الجهات، والمجالات، ومن دون حق في المشاركة السياسية لاتخاذ القرارات التي تتحكم في سير حاضره، ومستقبله.
ولو نظرنا نظرة عامة، دول كثيرة حول العالم تواجه الحال ذاته، في أفريقيا، وشرق آسيا، وأمريكا اللاتينية. هذه الأحداث المريرة التي تمر بها شعوب العالم ولدت رغبة ملحة في اللجوء إلى أوروبا، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تقع على المغامرين في سبيل هذا اللجوء، غرقا في عرض البحر، وتشتتا ومذلة. التعنت والتقلبات السياسية، والنقص في الموارد التي تواجهها دول العالم النامي أظهرت وجهين للعالم متناقضين تمام التناقض. نرى جانبا متخما في العالم الغربي، وجانبا في حاجة، وعوز وهو العالم النامي، صار العالم الآن نصفين غير متساويين، دول تتمتع شعوبها بالتقدم في العلم، والتكنلوجيا، والصحة، والاستقرار وأسس الديمقراطية والحرية الفردية، واحترام حقوق الانسان، وغيرها من ميزات الحياة التي تعطي الفرد كرامته، ودول تفتقر شعوبها إلى أقل المقومات للحياة الضرورية ليعيش حياة كريمة.
خذ مثالا بسيطا، ولكنه مهم يبين لك الأخدود الذي يفصل التخمة، والعوز في عالم اليوم، وذلك في مجال الطب والعلاج. ستجد تطبيق الطب الحديث صعبا إن لم يكن مستحيلا بسبب غياب أسس مهمة كالنظافة، وشروط بيئة أخرى كثيرة، بكل أسف لا تتواجد في الدول الفقيرة والتي في أمس الحاجة للانتفاع من التقدم الطبي والصحي، وتجد أدوية كثيرة تصنع في الدول المتقدمة، وهذه الأدوية، والإمكانيات الطبية تكون فائدتها قليلة في المجتمعات الفقيرة حيث المقومات غير متوفرة. فمن أبسط متطلبات نجاح الوصفات الطبية نشير إلى المياه النظيفة ولكنها منعدمة في بلدان كثيرة في العالم النامي، بسبب تكلفة الماء وعدم وجود التقنية الفنية لإنتاجه وتخزينه.
وما دام هذا هو واقع العالم كيف لا تشغلني القضايا الملحة التي تعتمد عليها سلامة المجتمعات وتقدم الشعوب؟ رواياتي حتى ولو لم يكن أساسها السياسة إلا أنها تنطلق من صور تتناول القضايا الإنسانية، الألم، والقلق، والفقر، والعوز، والبطالة، والتي سببها فشل سياسات الدول التي تعيش فيها شخصياتي، وفشل السياسات الدولية المبنية على التضاد بين القويّ، والضعيف.
لا أعرف إلى أي مدى وصلت رسالتي، أو إن كنت نجحت في توصيلها، ربما لم تصل بعد، ولكن المهم في الأمر طرح القضايا الانسانية المعاصرة في قالب روائي، سأواصل في توظيف الرواية كي ألقي الضوء على آلام الشعوب، ولو بطريقة ربما لا ترضي ذوق الجميع، ويوما ما تصل الرسالة، لأنها تستند على الحق، وتنشد العدالة.
* قضايا المرأة العمانية والواقع الذي تعيشه، وهو واقع خصب، قادر على تحفيز المخيلة الروائية، لم توليها اهتماما واضحا في نصوصك الأدبية، ورواياتك، هل هو نوع من التقليل من أهمّية تلك القضايا؟
– أتفق معك في الرأي أن للمرأة العمانية، كما لدى نساء العالم ككل، قضايا ملحة ويجب طرحها، وتسليط الضوء عليها. من ناحيتي، سبب قلة التركيز على قضايا المرأة العمانية ليس تقليلا من قيمة قضايا المرأة عموما، أو عدم اهتمام بقضايا المرأة العمانية خصوصا، السبب يرجع إلى إقامتي الطويلة خارج عمان، وابتعادي عن المسرح الاجتماعي العماني، وشؤونه المختلفة. عندما تكتب عن موضوع، مثل الكتابة عن قضية مهمة كقضية المرأة، يجب أن تعطيه حقه وأن تعيش وتلمس الواقع عن كثب وتتمكن من عناصره ومكوناته، وللأسف ظروفي وواقعي لم يسهلا تحقيق ذلك.
بعد ذلك أقول لك، ذكريات السنين التي عشتها في مسقط، وفي الحي الذي ولدت فيه لم تفارقني أبدا. الأيام التي عشتها في مسقط في بيت عم أبي السيد نادر بن فيصل مع أخي، وبنات، وأبناء عمومتي، والزوار الذين كانوا يأتوا لزيارة عمتنا السيدة مزنة بنت نادر، طبعت في خيالي صورا ما زالت ماثلة في ذاكرتي، ووجداني. كانت النسوة تأتي من الخارج حاملات الأخبار، والقصص من قلب مسقط، ومن وسط حاراتها، يجري الحديث عن ورطة الخروج بعد الساعة العاشرة حيث يحظر التجول في مسقط من دون حمل قنديل.
وتقول واحدة من الزائرات، حملت القنديل لكن الهواء أطفأه، ووجب تفسير الأمر للشرطة، وتتحدث أخرى عن طرافة التعامل مع المبشرين، من خلال زيارات للمستشفيين، أو المدرستين في مسقط ومطرح. ويطول الحديث عن أسعار السمك أو الأقمشة، والأقمشة كانت تلعب دورا كبيرا ومهما في حياة المرأة العمانية التي عرفت بحبها للثياب، وللزينة حتى في تلك الأيام الصعبة. زينة المرأة وثيابها ترك لنا موروثا غنيا، وجميلا، ولقد قمت بحفظه في متحفي لأهميته ولما يجلبه من بهجة الى قلبي ووجداني.
في تلك السنين عرفت الكثير من القضايا التي كانت تهم المرأة العمانية من أهمها التعليم، ومن أبرزها مشاكل الطلاق. كانت مشاكل الطلاق تمثل عقبة كبيرة أمام المرأة العمانية بسبب عدم تقبل المجتمع للطلاق من ناحية ومن الناحية الأخرى مشكلة المبلغ المؤخر المطلوب دفعه في حالات الطلاق.
تبدو هذه الصورة التي ترسمينها للمرأة العمانيّة قاتمة، ألم تتغيّر بعد عهد الانفتاح الذي دخلته عمان بعد السبعينيات ؟
-الذي استنتجته بعد سفري، وعند مقارنتي لحال المرأة العمانية مع حال المرأة الأوروبية هو أن المرأة العمانية، حتى قبل الانفتاح، والتقدم اللذين شهدتهما عمان في عهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، وتنظيم حقوقها، ورعايتها، كان لها حق أخذ قضاياها بنفسها إلى المحكمة، وطرح هذه القضايا أمام الوالي والقاضي والشهود. الكثير من الناس لا يتصور أن المرأة العمانية لها هذه الصلاحية، أو أنها قادرة، أو حتى مسموح لها شرعيا، أو قانونيا.
* إذن أين تكمن المشكلة؟
– إن المشكلة كانت تكمن في القيود الاجتماعية فهي التي تقف حائلا في هذا الصدد، وواجهت المرأة العمانية صعوبة أخرى في أمر الطلاق، وهو عدم وجود المال الكافي لحصولها على المؤخر من الرجل الذي أوقع عليها الطلاق. وأحيانا يطلب منها دفع مبلغ من المال إن كانت هي التي رفعت دعوة الطلاق ضد الزوج، ولكن النساء لا يرضخن لهذه العقبة، كن يبعن المصاغ والحلي، أو يضطررن الخروج للعمل لجمع المبلغ المطلوب، رغم قلة الأعمال المتواجدة في ذاك الزمان في الستينيات من القرن العشرين.
المهم وحتى لو أني لم أتبحر في كتابة الكثير عن قضايا المرأة العمانية، الحمد لله هناك أديبات، وكاتبات، وروائيات عمانيات نقلن قضايا، وهواجس، وهموم المرأة العمانية بإتقان، وتميز وبراعة ووصلت أعمالهن إلى خارج حدود عمان وحظين باهتمام النقاد. رواياتي تدور حول مجتمع خارجي عشت فيه سنين طويلة أكثر من ثلاثين سنة، مع ملاحظة أن رواية صابرة واصيلة وقعت أحداثها في عمان.
كما ذكرت أعلاه مشاكل المرأة العمانية هي ذات المشاكل التي تعاني منها المرأة في العالم العربي، في مصر، لبنان، اليمن، ليبيا، والسودان كما في مجتمعات العالم الأخرى مثل: أمريكا اللاتينية. نحن هنا نتحدث عن مطالب تحقيق احترام حقوق المرأة، وحريتها في التعليم وحريتها الخروج لميدان العمل، ومشاكل رعاية الطفل حال خروجها للعمل، والمساواة في الدخل، وغيرها من حقوق أخرى كثيرة كإعطاء الجنسية للأولاد إن تزوجت من أجنبي. والذي يجب ذكره في هذا المضمار إن المرأة العمانية حتى في حقبة ما قبل السبعينيات من القرن العشرين، عملت، وشاركت في إعانة أسرتها، وفي أيامنا هذه مع ازدهار فرص التعليم المتاحة لها، التي تحققت في حقبة حكم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، نجحت المرأة العمانية في اقتحام ميادين العمل المختلفة ومن دون أي معوقات سياسية أو قانونية. أي معوقات تقابل المرأة، مردها لتقاليد اجتماعية بمعنى أن أفراد المجتمع، أو الأسرة هم الذين يعارضون اشتراك المرأة في ميادين العلم، والعمل، فلقد ظهرت المرأة العمانية قدراتها ولكن ما زالت هناك عقبات، وتحديات عليها تخطيها، واقناع أفراد الأسرة، والمجتمع تقبلها، والعمل على حلها. مثلا خذ مليحة في رواية جنون اليأس فهي ليست عمانية الا أن مشاكلها ربما قريبة من مشاكل أي امرأة في العالم وفي العالم العربي والعماني خاصة، قلة التعليم، وإجبارها على الزواج من رجل لم ترغب في الزواج منه، وقائع متشابهة هنا وهناك تقيد المرأة وتحد من طاقتها في التفكير الحر والعطاء الغير محدود.
بعد الدويّ الذي حققته رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) وروايات نسوية خليجية أخرى، ما هي رؤيتك للكتابة السردية النسوية في الخليج بشكل عام وفي عمان بشكل خاص؟
– الذي يجب قوله في هذا الموضوع إن المرأة الخليجية والعمانية حققت ثقة بالنفس بسبب الثورة التعليمية التي بدأت في الخليج العربي قبل السبعينيات من القرن المنصرم بقليل، وكانت على أوجها في أوائل السبعينيات في عمان. خرجت المرأة من العزلة التي كانت نمط حياتها بسبب قلة التعليم فبرز وجودها في شتى المجالات واليوم نراها في عالم الكتابة وكتابة الرواية خاصة، أصبحت المرأة الخليجية ومثلها المرأة العمانية رافضة لتقبل وتلقي المكتوب عنها وعن مجتمعها من منظور الآخر، من دون الإدلاء برأيها بل والمشاركة في طرح قضاياها وقضايا مجتمعها بنفسها.
أذكر قبل السبعينيات كانت المرأة العمانية كما، والرجل العماني سواء ينتظرون بفارغ الصبر وصول الأعداد الشحيحة، والمحدودة من المجلات، والكتب، والجرائد، تصل بصعوبة بالغة إلى مسقط من مصر ولبنان. تروي تلك المصادر ظمأ الناس للمعرفة والتطلع إلى العالم الخارجي، بخاصة للعالم العربي الذي كان يعيش حياة مغايرة ومختلفة عن الحياة في عمان.
الكتابة الروائية أصبحت متنفسا للنساء الخليجيات والعمانيات اللواتي لم يعرف عنهن الكثير ولم يقرأ لهن بسبب قلة ما كتب في الماضي، وضعف مشاركتهن في عالم الأدب والذي، وحتى فترة قصيرة انحاز للكتابة النسائية الآتية من جهات أخرى من العالم العربي. وتظل الأعمال الروائية النسائية الخليجية تعاني من النقد والتهم الملقاة عليها، ومن عدم الاعتراف بقيمتها الأدبية والاجتماعية. وحتى تركيبة هذه الأعمال الفنية لم تنج من هذا النوع من النقد اللاذع، ولكن ولو إن النقد والانتقادات كثرت يظل المهم في الأمر هو أن المرأة الخليجية والعمانية خرجت من نفق الصمت وشرعت في الكتابة عن هموم ومطالب مجتمعاتها. ما كتبه الآخرون عنهن سابقا، دفعهن لمسك زمام الأمر في أيديهن وبدأنا الكتابة عن مجتمعاتهن ونجحن في ذلك. قمن بدور فحص وفضح مجتمعاتهن من منظورهن الخاص ومن أعلم بما يدور في المجتمعات الخليجية والعمانية من النساء اللواتي يعشن فيها، وكما يقول المثل أهل مكة أدرى بشعابها.
* يحتلّ الموروث الشعبي العماني حيّزا من متحفك (متحف غالية للفنون المعاصرة)، إلى أي مدى وظفت هذا الموروث في أعمالك؟
– لم أكتب الكثير عن الموروث العماني بسبب السنين الطويلة التي قضيتها في الغربة، ولكن رواية( صابرة وأصيلة) من أعمالي الروائية التي تدور أحداثها كلها في عمان، وبذلك تستطيع القول إنني قمت بتوظيف الموروث العماني. في تلك الرواية تجد وصفا دقيقا لغرفة حارس المدرسة مصبح، تلك الغرفة تعكس نمط الحياة في ذلك الوقت، كذلك أزياء صابرة وأصيلة التقليدية، ولا تنسى التقاليد الأسرية والمجتمعية الموصوفة بتفاصيل دقيقة للغاية.
وقعت أحداث الرواية في عمان في الستينيات من القرن العشرين، حيث تعليم المرأة كان محدودا، وانعكس ذلك على واقع صابرة، وصديقتها أصيلة. تصدع بيئة صابرة الأسرية، والقيود التي فرضها عليها أخوها كل ذلك يعبر عن الواقع الذي كانت تعيشه المرأة العمانية في ذاك الزمان، الأمر الذي ينطبق على مختلف المجتمعات العربية والشرقية. وتجد تلهف صابرة للعلم كمثال آخر لواقع عاشته المرأة في المجتمعات العربية ككل وليس في عمان وحدها.
وحتى هذه الرواية كانت الهجرة محورها، لم تتناول هجرة العماني لكنها تمحورت حول مجيء المدرس الفلسطيني إلى عمان، وفي العهد الماضي هاجر العماني إلى الدول القريبة، وصارت تلك الهجرة موروثا مهما في المجتمع العماني. استقطاب المدرس الفلسطيني شهم من بلاده إلى عمان من التدابير التي اتخذتها الحكومة في عهد السلطان سعيد بن تيمور. شهم لم يهجر بلاده كالهجرة الجديدة التي ظهرت في هذه الأيام، والمتمثلة في هجرة العربي إلى الغرب، هجرته كانت من فلسطين إلى عمان وبذلك تختلف نوعا ما. ترك شهم أرض بلده فلسطين بسبب التصدع الذي كانت وما زالت تعيشه من قمع وزج في السجون وتقييد للحرية ومعاناة في شتى المجالات. وصول شهم إلى عمان في تلك الحقبة من الزمن دل على التعاون المشترك بين الدول العربية، جاء العرب ليعاونوا في النهضة التعليمية في عمان. إذا، الرواية في مجملها تعكس الواقع والموروث العماني ولو من حيز ضيق.
رغم انشغالاتك المتعددة فما زلت تواصلين الكتابة وأنجزت خمس روايات، لماذا هذا الإصرار على الكتابة؟
نعم، مشاغلي كثيرة وتكاد لا تنتهي ولكن اقول الحمد لله على ذلك، أقابل الصباح كل يوم بمسؤولية جديدة تتطلب مني حلها وإنجازها بتوظيف جهدي الفكري، بالإبداع او طلب معاونة. وإن كانت الكتابة بلية على الكاتب خاصة كتابة الرواية، فهي أحلى ما ابتليت به من بلاء. الكتابة تعني الكثير بالنسبة لي، فهي متنفس لشكوكي، وصدى لأفكاري، عكس للذي تشهده عيوني، وهي وسيلة للحديث عن معاناة الناس، وطرح قضاياهم، ولمس أفراحهم، وأتراحهم. والكتابة تأتي على شكل صور تتحول لكلمات، وتضوع بين فقرات الرواية وسطورها، إذا كيف أستطيع التخلي عنها؟ فهي تعني لي كل هذا، وأكثر.
من الملاحظ أنك تعيشين نوعا من العزلة عن الأوساط الثقافية، بعيدا عن الأضواء، ما السبب؟
سؤال محير، هي ليست عزلة اخترتها طوعا، وبمحض إرادتي، إنها مشاغل الدنيا التي أدت الى هذه العزلة، إن كان حقا نستطيع تسميتها عزلة، ولو كان اختلاطي قليلا في الأوساط الثقافية، فاهتمامي بكل ما ينتج أدبيا، وغير ذلك في الوسط الثقافي في عمان كبير. أتابع الوسط الثقافي من بعيد، وأفرح بنجاح الكاتبات، والكتاب العمانيين. إذا قرأت، أو سمعت عن عمل جديد أشرع فورا أبحث عنه، وحتى الأعمال الفنية أسارع لرؤيتها في صالات العرض. أعتبر نجاح أي عماني، وكل عربي في أي ميدان من ميادين الفنون، أو غيرها نجاحا لي، وأحزن كثيرا عندما يتوقف الكتاب العمانيون عن الكتابة والتأليف في أي مجال من مجالات الكتابة والصحافة.
وتجدر الإشارة هنا، جميع النقاد يقرون أن حضور العمانيين، ثقافيا وفنيا، كان بارزا في دول الخليج التي هاجروا اليها في أيام الستينات من القرن العشرين. وجودهم لم يكن مقتصرا على العمل بل شاركوا ثقافيا، منهم من كتب ومنهم من ألف الأغاني التي لا تزال منتشرة إلى يومنا هذا، وقبل ذلك وصلوا إلى حدود بعيدة، إلى افريقيا حيث عمروا تلك الرقعة، ونشروا الدين الإسلامي واللغة العربية، والموروث العماني ما زال صامدا حتى يومنا هذا.
حاورها: عبدالرزّاق الربيعي