عقل العويط
كاتب وأكاديمي لبناني
كان بودّي قبل أن أُولد، أن أكتب عن الوقت الذي ليس من ذهب. لم يتسنّ لي أن أوثّق ذلك في صرختي الأولى، لكنْ يسعني الآن حيث أُولد لتوّي في باريس، أن أجهر بأنّي أشعر بعبءٍ هائل وبمسؤوليّةٍ كبيرة، لأنّي في صدد هذا الإعلان. ليطمئن عتاة الكتابات الداخليّة. فقولي ليس إعلانًا بالمعنى الدعائيّ للكلمة. هو اصطلاحٌ ذهنيّ وتجريديّ فحسب. أقول ذلك ليترافق مع مناسبة صرختي الأولى. أستعيد قسطًا من حقّي في أن أعود القهقرى لالتقط جزيئات الهواء الزمنيّ الذي رافق ارتطام صرختي به.
بيني وبين كلّ آخر، ما بيني وبين سماءٍ احتفلتْ بي عندما صرختُ صرختي الأولى – التي تصرخ الآن – ثمّ تراجعتْ عن ذلك، مطالِبةً موثِّقي ولادتي بنكران ذلك، لكن من دون أن تفصح لماذا.
لا يهمّني أن أدخل في جدالٍ مع السماء. باريس تلدني الآن، وتصرخ هي صرختي الأولى فيَّ، ومفادها أنّي متعدّد، وأنّ الوقت الذي من ذهب ليس ذهبًا. ذلك يعني أنّي جالسٌ بصفاقة في المقاعد المقابلة لجلوس الحكماء. الأرجح أنّي صارخٌ صرختي غير المسموعة بالأذن تحت سماءٍ أخرى مضادّة.
يخيَّل إليَّ أنّي أجلس الآن في اللامكان، وهو مكاني المفضّل. فيه يحلو لجسدي أن يتموضع في أمزجة الكلمات، من دون أن يشعر بالاغتراب أو بالإرباك حيال الوقت، تبكيتًا أو إرهابًا أو فرضيّات.
وإذ أقول اللاّمكان، فذلك يستدرجني إلى حيث أعثر على الإحساس بالأمكنة كلّها، من دون أن أكون مضطرًّا إلى الإقامة في بعضٍ منها إقامةً تظلّ تشعر بالنقصان لأنّها ليست في أمكنةٍ هي الأمكنة كلّها.
في لبّ الإحساس نفسه، يخيَّل إليَّ أنّي أجلس تحت شجرةٍ ماطرة. أنا لا أجلس حقًّا، وليست هي شجرة، هذه التي أجلس تحتها، ولا هو المطر. لكنه افتراضُ نزفِهما الباقي في رأسي بعد استتباب السدود.
قد سبق أن رأيتُ مشهدًا موازيًا في ما قد يسمّيه البعض غربةً أولى، عندما كنتُ لمّا أزلْ جنينًا سابحًا في سماءٍ مقفلة من جهاتها. وكان المشهد كنايةً عن دموعٍ مهرقة لا علاقة لها بدلع العين.
جالسًا في المَتاه الذي هو مَتاهي. الشجرة ماطرة، لكنّ مطرها منها، وتشبه شخصًا وارفًا رأيتُهُ في تلافيف رأسي عندما وُلدتُ في مكانٍ آخر. لم يكن لي أن أُولد من قبل، والدليل أنّي أصرخ صرختي الأولى هذه، والناجمة عن ألمٍ في باطن وجودي، وفي الظاهر من عينيَّ، وهما تُبصران ما أبصر توًّا.
لكنّي لستُ أُبصر حقًّا، إنّما شُبِّه لي. إذ يعتريني ما يعتري المواليدَ الجدد من غبشٍ كيانيّ، ليس هو التباس العمى لكنْ مُعادِله اللاّواعي شعريًّا. فأنا أرى شيئًا لا يعبر أمام عينيَّ، إنّما في غربة رأسي. حتّى لَأقول في نفسي وأنا لا أعي نفسي، إنّ شخصًا آخر يولد معي، وهو يوثّق شعريًّا ما أراه وما أشهده. هكذا يكون لي أن أعي في ما بعد، أنّ ما عاينتُهُ عند صرختي الأولى، لم يكن ناجمًا عن جنحةٍ عقليّة ولا عن قصورٍ في النظر، إنّما هو اختلافٌ في مقاربة الفتنة البشريّة. أو المحنة. لا فرق.
كنتُ أقول إنّي جالسٌ في المَتاه الذي مَتاهي، وإنّ الشجرة ماطرة. في رأيي الطفليّ، إنّي لستُ أنا الجالسَ، وليست هي شجرة، ولا هو المطر أيضًا. لكنْ شُبِّه لي ذلك تشبيهًا ماكرًا. أذكر عندما صرختُ صرختي الأولى وهي الآن، أنّي رأيتُ غبشًا في عينيَّ، جعلني أضفي على الأشياء المرئيّة والكائنات المختلقة أشكالًا ومعانيَ، قد لا تكون أشكالًا ومعانيَ، من الواقع الملموس في شيء، لكنّها تجعلها قابلةً للانوجاد، ليس بفعل الحواسّ ولا تحت وطأتها، إنّما بمنطقٍ يقال إنّه شبيهٌ بما يسمّيه كلٌّ من الشعراء والفلاسفة، منطقَ الشعر أو منطق البهتان الوجوديّ. قد قلتُ إنّ ذلك ربّما يحدث لِمَن هم من أمثالي، وقد أعماهم بريق أحجار الصوّان في لحظة الخلق. أو هو قد يحدث للذين تدحرجوا، مثلي، على سلّمٍ حجريّ مذ كانوا يحْبون حبوًا، ولم يتسنَّ لأحد أن يعيد ترتيب رؤوسهم ترتيبًا يجعلها تحلم كما يُعطى الجميع أن يحلموا رائين، ولم يحظَوا بمَن يشغّل أدمغتهم ويدرّب حواسهم فتغدو منسجمةً ومتناغمة.
من أجل التوثيق الوجوديّ، يجب عدم الإغفال أنّي قد أعماني ضوءُ الصوّان في لحظة الارتطام تلك، وجعلني في حالٍ من المسّ الكهربائيّ لا يُستشعَر بالحواسّ. لقد انوصلتُ انوصالًا مُرعِشًا للعقل، في ديمومة جنحتَين اثنتَين معًا، جنحة الرؤيا، وليست جنحة العمى فحسب.
ليس هو الصوّان، إنّما فاعليّته المغمّضة في ألياف الكلمات، وخصوصًا عندما تتفلّت من أليافها، فلا يبقى منها سوى ما ينبغي للكلمات أن تتعمشق به خلال اندراجها في ثنايا الحبر. فهناك، تحفظ حقوقها في استشعار جرح التوثيق الوجوديّ، واستنطاق طبقات الشعر الدفينة فيه.
قد حدث لي أن تدحرجتُ تدحرجًا، ترك في ملهاة التوثيق تلك، ما يشبه المزق المُلهِب للكيان. عندما أجلس مثلما أجلس الآن، لا بدّ أن ينوصل جلوسي بربقة هذَين المزق والضوء المُعمي.
هذا على سبيل ملحقات التوثيق، أمّا على سبيل ما أنا فيه، حيث أنا، فلا مفرّ من إرسال تأوّهاتٍ من شأنها أن تجري مجرى الجلوس في لا مكان، أو الجلوس حتى عند مجرى النهر، وأيضًا عند مسرى غيومٍ متلاطمة في سماءٍ مفترَضة، بدون أن تندرج في مكانٍ وزمان، وبدون أن يسمعها سامعٌ أو يراها راءٍ. بل بدون أن يسمعها حتّى، هذا الذي أروي ما أرويه عنه، وهو أنايَ المضمَرة، التي تستطيع في مثل هذه الحال، أن تكون يقِظةً خارج جسميَ الحسيّ هذا.
المسألة ليست معقّدة إلى حدٍّ يثير الضجر. هي مسألة وقتٍ وذهب. وأنا قد صرتُ خارج الوقت، ولا يعنيني الذهب في شيء.
إذا كنتُ قد قلتُ لتوّي إنّي أجلس تحت شجرةٍ ماطرة، فأنا حقًّا جالسٌ، لكنّي في الآن نفسه، لستُ جالسًا البتّة. بل أنا مقيمٌ. ولستُ مقيمًا البتّة. ذلك كلّه تحت شجرةٍ ماطرة، في حين أنّ الشجرة هي في واقع الحال ماطرةٌ وليست كذلك. فأنا أصف جلوسًا يُشيع في دمي نوعًا من حمّى لن يتسنّى لي بالعقل أن أُورد ظواهرها لأنّها تفلت من مكانٍ لا صلة له بالعقل وأوصافه.
بودّي أن أقول إنّه شيءٌ يدوّخ منطق الجسم، ويدوّخ منطق الكلمات. الأحرى أنّه ينزلق من لا مكانٍ فيَّ. أعتقد أنّه شيءٌ يتّخذ شكلًا مريبًا، لارتباطه بمشاعر من شأنها أن تُحدِث فجوةً في القلب. كحالِ فجوةٍ متراكمةٍ في فراغ، يرتكبها مطرٌ مهرَقٌ من غيمةٍ شائنة. علمًا أن ليس من غيمةٍ، وليس من فعلٍ شائنٍ فيها. بل أكادني أقول، ليس من مطرٍ حتّى اللحظة، مع أنّي أصرخ صرختي الأولى هذه، وهي ترفرف تحت سطحٍ يبكي من فرط شقوقه، لا فقط من فرط الأسى. ثمّ تخرج صرختي هذه إلى أمكنةٍ لا علم لها بي، وتأخذني أخذًا إلى لغةٍ يقال إنّها تُكتَب تحت ضغطٍ، غير معلومةٍ شروطُهُ ومعاييرُهُ. هي اللغة التي أعتقد أنّها ترافقني، مذ أُصبتُ ببروق الحجر الصوّان. وأشرقتُ. وأيضًا مذ تدحرجتُ وأنا في الأقمطة، من على ذلك السلّم الحجريّ الناتئ. ما أكتبه ليس في الضرورة شيئًا يُستحَبّ توثيقه كشهادة ولادة، لكنّي أوثّقه لكي لا أقول يومًا إنّي أغفلتُ وقائعَ قد تكون مفيدةً في فهم الشرط البشريّ.
أجلس الآن في مقهى على مقربةٍ من آنسةٍ غامضة، هي اللغة. الآنسة الغامضة هذه، لا تجلس على مقربة، إنّما في دماغي. من شأن ذلك أن يحمل على الاعتقاد أنّي مصابٌ بلوثةِ جنون، بسبب ما أقوله عن آنسةٍ أشير إليها إشاراتٍ غامضة، لكنْ محدّدة، فأسمّيها لغة. فليُعتقَد ما يُعتقَد، فأنا براءٌ من الشطط كلّه. بل قد أكون متورّطًا التورّط كلّه، وأنا على علمي في منتهى الالتذاذ من جرّاء التورّط. ثمّ ليكنْ ما يكون، فلن تتغيّر شروط الشغف اللغويّ، ولا معاييره. ذلك أنّ ما بي، شأنٌ له علاقةٌ بالصرخة التي أصرخها الآن، وبالرؤية التي أراها لتوّي، وباللغة التي تقطفني من تلقائي الملتبس، وهي قد تحصّلتْ لي لحظةَ خروجي هذه من الرحم. وإذا أُعطِيَ الشغفُ اللغويّ هذا، القدرةَ على تغيير شروطه ومعاييره، فسيكون ذلك مدعاةً لإحساسي بأنّي جالسٌ حقًّا تحت شجرةٍ ماطرة، وبأنّ لي القدرة في الآن نفسه على الجلوس في مقهى، وثمّة على مقربةٍ منّي، بل في دماغي، شخصٌ لا أراه، إنّما شُبِّه لي أنّه آنسة.
لن يغفر الهجس لي، بسبب ما أهجس. كنتُ راغبًا في التملّص من القدرة على التوثيق، لكنّي أوثّق. ليس لأنّي جارحٌ في استنباط ما لا يُحاكى، إنّما لأنّ ما في الهواء يجعلني ملمًّا بغرابة تحويله وثيقةً عاطفية، ولأنّي أُفلتُ من الرؤية، بقدر ما تتفلّت الرؤية منّي. ينصاع أحدنا إلى الآخر انصياعَ الشيء إلى مراياه. حتى لأَعثر في الرؤية على ما ليس مرئيًّا. كحالي وأنا أنظر ما أنظره في هذه المدينة. أخجل من القول إني قليل الانتباه، لكني في المقابل متنبّهٌ إلى ما يجعلني قليل الانتباه. حتى لأَخشى ممّا ينبّهني إلى وجوده، وهو غير موجودٍ تحت مشاعر الحواسّ. لا يسلّيني المشهد، إنما انسحابُهُ من ناظريَّ انسحابًا يفترض لشدّة الغرق، أنّي أنا المنسحب فيه. لكنْ، ليس من غرقٍ ولا ثمّة بحر.
أنسحب فيكِ يا مدينة، كما ينسحب الماء في الماء. ينثال فهمكِ من على أصابعي، كإحساسي بشيءٍ يسيل منها، وهو ليس بماء. قد يكون الشتاء، وقد يكون افتراض الحميم من اللهاث، وقد تكون الكلمات. لا أدري. يحكمني منطق الهرب من المعنى، لأنّي بيتٌ متسعٌ لغير المعنى. يحكمني منطق البقاء في المعنى، لأنّي موهمٌ بوجود المعنى. في الحالين، تستطيع الأشياء أن تنمّي رغباتها، حتى لَينبت العشب والشجر والهواء والغيوم في ردهات الرؤية، فتصير هي علامات الاخضرار في الرؤية وأزمنتها.
كنتُ أقول لتوّي إنّي أجلس في مقهى، على مقربةٍ من آنسةٍ هي اللغة. أو أنّ ثمّة في دماغي آنسةً هي اللغة. لا أعرف لماذا يحلو لي أن أراها آنسة. فأنا لا أبحث عن امرأة، لكي يتراءى لي أنّها امرأة. كما لا يسعدني أن أغازل، لأنّ غزلي منشغلٌ بموضعٍ آخر. لا يسعني أن أعتبرها آنسةً، لأنّها ليست على هيئة بشر. كما لا يمكنني أن أصفها بالعكس. الواقع أن لا صفة لها، لأنّها معمِّرة وآنسة. لا أعرف كيف يُتفَهّم إحراجٌ أشعر به، من جرّاء ازدواجيّتها غير الواضحة. كما لا أعرف كيف تكون الآنسة لغةً ذات حروف، تنشأ من تراكبها كلماتٌ قد تصبح أشعارًا وقصائد، والأرجح أنّها تصير عند مستعملي الكلمات من أهل العامّة، وسيلةً للتفاهم اللّامجدي. ليتها ليست وسيلةً للتخاطب، لكي أرتاح قليلًا من عناء الأصوات البشرية، مفضِّلًا عليها لغة الشجر الماطر، مقرونةً بلغة الجلوس والهواء والغربة. وهذه، لا يعتورها نقصانٌ أو هزيمة.
قد لا أكون أجلس، إنّما أمشي. ثمّة في المشي هناك، ما يحول دون غلط الضياع أو الهيام. ففيه ما ليس في غيره من دنوٍّ داخل الذات، حتى لَتختلط الحال على «الموضوع»، حين يصبح هو الآخر ذاتًا في الذات.
يمحوني ما يمحو الأيّام من ذاكرتها. هذا هو المعنى، إذا كان ثمّة معنى في الصرخة أو في سواها. إشارةٌ إلى بدء المشي في بصيرة القلب، حيث يستبشر العمر بكينونته الجسمانية، ولا سيّما حين يأخذ الحبو هذه الكينونةَ إلى التدرّج في غرام ملائكة الطبيعة غرامًا من شأنه أن يربّي سماءً غير موجودة، ويشيّد إلهًا ليس على عرش، ويصنع حياةً لا تُعاش بالأيّام.
كنتُ أقول إنّي أجالس. لكنّي في واقع الحال قد لا أكون أجلس في مكانٍ معروفٍ من أحد أو في مكانٍ معروفٍ من الأمكنة. قد لا أكون أشعر شعورًا محدَّدًا. علمًا أنّي أجلس في هذا المكان بالذات، تحت هذه الشجرة الماطرة، في هذا المقهى، وهما موجودان ها هنا، في الحديقة الفلانيّة، في الشارع الفلانيّ، في المدينة الفلانيّة التي باريس. أنا أشعر هذا الشعور، حدّ أنّه لا يمكنني الاعتقاد أنّي مصابٌ بغلطٍ وجوديٍّ ما. هذه حال المضروبين ببريق أحجار الصوّان، بحيث أنّهم يكونون ولا يكونون، يجلسون ولا يجلسون، يشعرون ولا يشعرون. ثمّ هم يرون ولا يرون، ينصتون ولا ينصتون، يذوقون ولا يذوقون، يشمّون ولا يشمّون، ويلمسون ولا يلمسون. ليس من مبرّرٍ للزعم بأنّ شخصًا هو أنا، يصرخ صرخته الأولى، ليوهم أنّه يولد لتوّه، وأنّه لا بدّ من توثيق ولادته على هذا النحو. حوارٌ حول هذا الالتباس، من شأنه أن يفضي إلى متاهةٍ أخرى، غير متاهة ولادتي في هذه اللحظة، أو أن يفضي إلى إطلاق صرخةٍ هي غير صرختي الأولى. الوقت ليس من ذهب. يقع في خطأ جسيم، كلّ من يقول بذلك. يمكنني برمشة نجم، أن أنفجر في وجه الوقت مؤنِّبًا، أنا المُطلِق صرختي الأولى توًّا. لن أتأخّر لحظةً واحدة عن اعتبار الوقت حطبًا لنارٍ، كلاهما في شوقٍ إلى الاضطرام. يمكنني أنا الصارخ صرختي الأولى على مقربةٍ من هذه الآنسة، في حديقةٍ هي هذه الحديقة، في شارعٍ هو هذا الشارع، وفي مدينةٍ هي باريس، يمكنني أنا الخارج إلى ملاقاة مياهي، تقديم الوقت ووهبه بالمجان، إلى مَن يشاء من جامعي الأعمار والفنون واللغات الوجدانيّة.
هذا هو المطر فاتحًا مجراه في مسالك رأسي. شيءٌ قد أسمّيه الحفر المُنصِت، لكنّه ليس بالأذن. هو ليس بالكتابة، لكنّي أكتب. وليس هو بالحياة، لكنّي أواصل عيشي. فسحةٌ ثالثة، من شأنها إحداث اللبس المُرسِل نشيجًا لا يبكي، والمُرسِل صوتًا يمنح الغيوم فرصةً لتوثيق غيبوبة المساء، في حين أنّ الوقت ظهيرة.
هذا هو المطر. يسمّيني لغةً، وما أنا سوى خادم. يسمّيني معشوقًا، وما أنا سوى عشيق. يسمّيني وسيطًا، في حين أنّي لا أدري به، ولا هو يدري بي. على جسمي مياهٌ أعثر على مثلها في مسالك رأسي. فكيف يتسنّى لمطرٍ أن يخترق جمجمةً مغمضةً من جهاتها كافّةً، ليسيل كما تسيل مياهٌ من نبع أو من فجوة سماء؟ ليس رأسي نبعًا، وليس هو بسماء. وإذا كان ثمّة ينابيعُ مرموزٌ إليها في خراب رأسي، فلأن فيه غيومًا كتلك التي تهرع من وادٍ إلى جبل أو من حافّةٍ إلى حافّة، من دون أن تتحوّل مياهًا. يبكّيني مطرٌ كهذا المطر، علمًا أن عينيَّ جافّتان ويابستان. يسمّونني الشاعر العاطفيّ، وأنا لا أدري لماذا. لنفترض أنّي أشعر بالرأفة حيال الموت. ليس هذا اليأس الرائف سببًا كافيًا لملء الشغور في العاطفة. وإذا كنتُ أُغرِق الشتاء بمطرٍ مضاف، فلأنّي أنا الذي يبكّي المطر، لا هو الذي يبكّيني. مسألةٌ ينبغي لها أن تُرى من منظارٍ ملتبس الدلالة. كمدينةٍ تبلّل جسمها بجسمها، وليس بمطرٍ من هنا أو من هناك.
كنتُ أقول إنّي جالسٌ تحت شجرةٍ ماطرة، في مقهى هو لا مكانٌ بالنسبة اليَّ، على مقربةٍ منّي، أو في رأسي، آنسةٌ هي اللغة. لكنّي شبهُ نائمٍ الآن، من فرط الوله المندهش بعتمته، وأشعر برغبةٍ في تضييع الوقت وغيومه وكلماته. يجدر بي أن أُعدّ العدّة كي لا أُخطئ المقادير. أفترض أنّ هذه الغيوم، أعني غيوم الوقت، ترغب في أن لا أحول دون مصائرها. قد سمعتُها تناديني توًّا، سائلةً إيّايَ أن أُعدّها للهباء، بجعلها عدمًا أو شرابًا أو طعامًا أو هواءً أو مكانًا لنوم الهزيل من الحجر والبشر والطير، أو للوحوش منها. لماذا تطالبني غيومُ الوقت بذلك؟ لماذا تفعل بي كلماتُ الوقت ما تفعل؟ لا أعرف لماذا. لكنّي في حقيقتي، أعرف أنّ الوقت ذهبٌ حقًّا، لكنه ذهبٌ اصطلاحيّ.
أهو الصمتُ الملتبس ما يجعل الناس يشعرون بالجشع حيال الذهب، فيسعون إلى امتلاك صمته وتفكيك معناه غير المُدرَك إلاّ بالمداعبة بالنسبة إلى المؤمنين بجدوى الخمس الحواسّ؟! أولئك الذين غُشي على عقولهم وأخذتهم رعدة الوهم، في إمكانهم القول إنّهم في حِلٍّ من اللمس هذا، لأنّ اللمس ليس سبيلًا، بل التخلّي هو السبيل. وإذ أقول الذهب، فأنا أقصد الحقيقيّ الطبيعيّ، الماديّ منه والمعنويّ، فكلاهما يمكن التخلّص من صمته وبريقه والمداعبة، بطريقةٍ سهلة وأخّاذة. يكفي أن يؤمن المرء بأنّ الوقت ليس من ذهب، حتى يكون له ذلك. أنا قد آمنتُ منذ صرختي الأولى التي هي الآن، وقد طبّقتُ إيماني منذ مجيئي إلى هذا المكان. علمًا أن ليس ثمّة فاصلٌ زمنيّ بين صرختي ومجيئي إلى هنا.
هذا حقًّا ما آمنتُ به، أنا الصارخ لتوّي صرختي الأولى. منذ اللحظة هذه، لم يعد ثمّة سببٌ يحملني على أن أعير الوقت الباريسيّ أيّ مكابدةٍ أو اهتمام. أراني أشفق على الراكضين وراء غيمةٍ ضعيفة من غيومه، أو وراء كلمةٍ من كلماته، ليتمعشقوا بها. سأسمع بعد قليلٍ، وقد سمعتُ لتوّي، صدى ارتطامهم بالأرض، وهو يُحدِث ارتجاجًا عظيمًا في الأدمغة، يضاعف شعور هؤلاء المرتطمين بالذهب واستحالة القبض عليه، كما يضاعف عدم شعوري حياله، وضرورة تسليمه مجانًا إلى المحتاجين من جامعي الأعمار والعواطف واللغات والفنون الوجدانيّة.
أمّا السبب الآخر للقول بأنّ الوقت ليس من ذهب، فالشعور بأنّ النهر الذاهب إلى البحر يجب أن لا ترثيه أمّه، وأن لا أرثيه أنا، باعتباره صنوي وباعتباري صنوه. لماذا؟ لأنّ التملّك المستبدّ وحده يجعلني أعتقد أنّ ما ليس في يديَّ هو ضائعٌ منّي. قد حاولتُ أن أقول هذه الحقيقة إلى مستظلّي الهواء، لكنْ عبثًا. ذلك أنّ الهواء يحبّ السفر التبدّديّ، وليس في إمكان أيٍّ منّا أن يكمش هذا الهواء ويجمّده في فضاء، ولا حتى فوق رأسه. ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يقال إنّه ملاّك، وإنّه يظلّ يستظلّ الهواء نفسه.
لماذا أهجس بالوقت وغيومه وكلماته، في حين أنّي مغرمٌ بهذه المدينة وينبغي لي أن أمضي الوقت هاجسًا بها ومعطيها ما أملك من جسمٍ لكي تشعر بكرمي وترفّعي عن جشع الامتلاك؟ لأنّي، ببساطةٍ جارحة، وباستسلامٍ كامل، لا أملك طريقةً أخرى للتعبير عن العطاء الهاجس إلاّ هذه الطريقة: إهدار المشاعر لا تجميعها. تبديد غيوم الجسم وكلماته، لا مراكمتها، في مدينةٍ قد يكون الجميع يريدونها أن تكون ملك أجسامهم وطوع بنانهم. ثمّ إنّ الوقت الذي من ذهب، إذا أردتُ تقديمه إلى المدينة، فأكون كمَن يفعل العكس، على نحوٍ يفضي إلى نتيجةٍ مخالفة. وربّما إلى عواقب وخيمة. فهي لا بدّ من أنّها قد عافت الوقت وناسه. وكذا أقول عن الذهب. ثمّ إنّي إذا أردتُ بيع هذا الوقت، فأنا لا أملكه. وإذا كنتُ أملكه، فقد لا أجد ثريًّا ولا شخصًا مهتمًّا يشتريه منّي. فلِمَ لا أجعله إذًا، يفلت إفلات الغيوم والهواء والأنهار، كي لا يشعر بالضجر من جرّاء تراكمه المتألّم؟ فلأجعله إذًا يفرّ إليَّ، مثلما يفرّ نهر السين إلى نزوله في الأبديّة، أو في سواها من المنحدرات العمياء. كما الأعمى يهدر عينيه في ظلاله العمياء، أهدر الوقت باليقظة الجائعة، مثلما يمكنني أن أملأ ضجره بالنوم. في الحالين، لا هو ولا أنا نخسر سوى القليل من مشاعر العمر. هو أمامه متّسعٌ من الوقت، وأنا أمامي متّسعٌ من الوهم لأعوّض ما فاتني من وقت.
بعد قليلٍ يخيّم الليل. لا هو الليل ولا نقيضه، إنّما شيءٌ يشبه اكتمال الوقت مبدَّدًا في جسمٍ مبدَّدٍ من فرط اكتماله. فلأتمتّع به لئلّا يأتي صباحٌ على حين غرّة، فلا أعثر على عتمةٍ آكل طعامها. أصابني منذ قليل وجعٌ يشبه وجع المطر الذي لم يكن مستعدًّا للهطلان. فكيف يداوي مريضٌ أوجاعَ وجوده، إذا كان لا يريد أن يداويها؟ ثمّ كيف يداوي مطرٌ نفسه، إذا كان قليل الرأفة بأحوال الراغبين في إحجامه عن النزول؟ فكيف إذا كان عديم الإحساس بأحوال الراغبين في نزوله؟ ذلك يشبه عصفورًا على شكل حمامة، يغرّد كيفما اتّفق، لأنّه مسؤول عن إشعار الآخرين بجدوى المناجاة. فكيف أداوي وجعًا كهذا؟ وكيف أربح غيوم الوقت إذا كنتُ أريد بكاءها؟ وكيف تنطفئ غابةٌ هي الغابات كلّها، إذا كان جسمي سريع الاشتعال كعود كبريت؟ لا تنطفئ غابةٌ، لأنّها في الأصل تكون ملأى بنجومها. وهي ليس عندها نهارٌ، لأنّها تفترض أنّ الليل يُغني عن كلّ ضوء. ثمّ لماذا لا أقول بوضوح: يُسئمني هذا الضوء لأنّه يأخذ عينيَّ، مثلما يأخذهما ألمُ الرؤية. لا تتركه يفعل بكَ بعد الآن، يقول لي شخصٌ يسكن خلف عينيَّ، ويواصل قوله لي، مقترحًا طريقةً ناجعة للتعامل مع الضوء: متِّعه بإغماض عينيكَ لكي يشعر بالوحدة. فإغماضتكَ ليست مميتة. من طريق الكتمان، يمكنكَ أن تستفيد أكثر، بدون خوف الإصابة بجلطةٍ في الدماغ. يسعفكَ أنّكَ لم تعد قابلًا للألم، من فرط الألم الذي يلمّ بعينيكَ. يمكنكَ من الآن أن تبعث بهما ليحلاّ محلّك في تأثيث العالم بهما، لكي لا يتأوّه هذا العالم كلّما رآكَ بعينيكَ هاتين. لكنّ المسألة أنّي آنف تسديد الضربات إلى العالم، خوفَ أن أشعر بالملل إذا أصابه مكروهٌ، فأصير من جرّاء ذلك وحيدًا. إذا لم أتقاتل معه، فمع مَن أتقاتل؟ وإذا لم أبصق في وجهه، ففي وجه مَن أبصق؟ هذه المسألة تُعتبر شائكةً، ويصعب إيجاد حلٍّ لها. لكنّي أحلّها بيني وبيني، مستحسنًا أن أفرّج عن الكرب بالثأر من روحي، لئلا يشعر العالم والجيران بهول المأزق الذي أضع نفسي فيه. يدقّ الجرس، وعندما أذهب لأفتح الباب، أكتشف أن لا أحد كان هناك. فهل يُعقل أن يكون الجرس قد فعل ذلك من تلقائه؟ ربّما. ففي منطق الاحتمال، قد يكون عقلي طار منّي في تلك اللحظة، فشعرتُ، وأنا طائر العقل، أنّ أحدًا يعبث بي ويُشغلني بهذا الاحتمال غير المحتمل الحدوث. مسألةٌ احتماليّة ثانية، تفترض أنّي قد رغبتُ في أن يكون ثمّة أحدٌ ما، يحاول التفكير فيَّ خلال هذه اللحظة، فأحببتُ أن أجسّد تفكيره بهذه الطريقة. هو تعبيرٌ من جهتي عن عرفاني بالجميل تجاه هذا الشخص، لأنّه قد يكون فكّر فيَّ، فظننتُ أن قرع الجرس إنّما هو الناتج الطبيعيّ لتفكيره فيَّ، فهببتُ لفتح الباب، مع أنّ الجرس لم يدقّ في الواقع، ولم يكن ثمّة أحدٌ هناك.
لا أعتقد أنّ ذهاب العقل يفضي إلى حالاتٍ من هذا القبيل. بل الشعور بأنّ الوقت ليس من ذهب. وبأنّي إذا فعلتُ شيئًا كهذا، فإنّما أتيح للوقت أن ينشغل بنفسه لكي لا أشغله بي.
مرّةً، أحببتُ أن أمتحن قلبي لأعرف كم يحبّني. فلم أتوصّل إلى نتيجة تُذكَر. ذلك أنّه تركني في أوّل الطريق، عندما شاهد طيفها يعبر من أمامي. هكذا ظننتُه فعل. أو ظننتُ أنّ طيفًا قد مرّ فعلًا من أمامي، وأنّ هذا الطيف هو طيفها. في الحقيقة، قد صرتُ قليل الوثوق بقدرتي على التمييز بين الواقع والوهم، من جرّاء تعايشهما الأخويّ في ألياف جسدي ووقتي.
من قبيل التسلية الفلسفيّة، أفتح نافذتي لأسند المطر المنهمر لئلّا يتساقط مغمى عليه بشبق النشوة. من قبيل التسلية ذاتها أيضًا، أفتح نافذتي لأرشق الغيوم بفكرة استيقاظي المبكر من دون جدوى، في حين أنّ لا أحد يشهد فعلتَيَّ هاتين، لانشغال الجميع بالنوم الذي يلي السهاد بقليل. حتى الغيوم الشهيدة، لا تأبه لي، لأنّها مأخوذةٌ بانتشاء الهواء الذي يعاملها معاملة العشيق لمعشوقته. فكيف يكون هذا الهواء متنبّهًا؟ نهر السين لا يعيرني مشاعره، لأنّ مشاعره راغبةٌ في ترتيب الهواء للأشجار المتأوّهة على ضفّتين. وهو راغبٌ في تضييع الوقت على طريقته التي تستجمعه، مثلما يستجمع شاعرٌ استشعاره بالشعر، مع أنّه يتركه يذهب في الهواء، أو في ما يسمّيه صنوي: الهباء الطلق. لطالما كنتُ أقول للنهر إنّي شبيهه، لأنّي لا أفكّر في الذهب مجموعًا في صندوقٍ محكم الغلق، أو مودعًا خزانة مصرف. لا يؤسفني أنّ النهر يشعر شعوري. مثله تفعل شجرةٌ ماطرة. مثلهما يفعل كرسيٌّ في مقهى. ليس كرسيًّا بعينه، إنّما الكراسي مطلقًا، وخصوصًا تلك التي تجلس وحيدةً في مقهىً غارقٍ في ذاته من وراء زجاج. مرّةً، من وراء زجاج نافذة، رآني شجرٌ ماطر جالسًا في مقهى. كنتُ أرشف فنجانًا من القهوة، إلى جانبي لا أحد تقريبًا، ولا حتى ورقة ولا قلم. مع ذلك، كان الشعر يستجمع نفسه في فراغ المكان، كغيمةٍ مكثّفة من فرط شعورها بالمطر. كمرآةٍ تغلّف تلافيف رأسي المطعوجة، وتسطّر لي ببلّور عينيها مشاهدَ كالتي تعبر في شريط رأسي. كنتُ غنيًّا كمَن يحمل صندوقًا محكم الغلق مملوءًا ذهبًا، مع أنّ صندوقي كان فارغًا. مثله كان رأسي. ومثلهما كانت يدايَ فارغتين.
كنتُ أقول إنّ النهر يشعر شعوري. الكرسيّ في المقهى. والشجر الماطر من وراء نافذة. لكنّي كنتُ غافلاً عن الكتاب. عندما رأيتُه للمرّة الأولى، كان شعوره مكتَنَفًا بالغموض، لكونه ممتلئًا بالوقت الذي من ذهب. مع أنّي أفضّل الكتب غير المكتوبة، كتلك التي يذهب شِعرها مذهبَ النهر الذاهب إلى الأبديّة، فقد كنتُ شديد الامتلاء بذلك الكتاب، عندما دخلتُ إلى المكتبة ورأيتُه على تلك الحال. لا يؤسفني أنّه كتاب، لكنّها طريقتي المزدوجة في الشعور به، سائلًا في فتنة الزوال ومجموعًا داخل أوراقٍ، هي خلاصة الاصطلاح الذي يسمّى كتابًا. لطالما أخبرتُ الوقتَ وذَهَبَه، أنّ الكتاب يستطيع أن يكون شعرًا عظيمًا حتى إذا لم يُحفَظ على طريقة الذهب المحجور عليه. كالكتاب المبدَّد في وقت ناظريَّ، وخصوصًا من وراء نافذة مقهى. أو كالمبدَّد في تلافيف رأسي المنهمرة، ولا ينفكّ يتكوّن باستمرار كلما أتيحت له فرصة الاستيقاظ أو النوم. يجدر بالكتاب الجالس معي حول طاولة مقهى، إلى كرسيٍّ يتيم، أن ينضمّ إلى لائحة الكتب الموغلة في تهجين الشعر، إلى أن يصير الشعرُ لغةَ العالم. كالكتاب المغادر دومًا إلى لا مكان، حيث يستجمع شتاته ويجعلها في أوراقٍ، هي مادّة الهواء، ومادّة هبوبه مطلقًا. المطر يعرف حكمتي هذه. النهر أيضًا. ثمّ المقهى. ثمّ فنجان القهوة. كذا حال الدماغ يسيل في ثنايا ذاته، ولا أستطيع أنا الشاعر أن ألتمس كلامه. لطالما أحسستُ بأنّ هذه أو هؤلاء، مع النسيان، أصدقائي وذهبي الحقيقيّ، الذي ليس معمولًا به في المصارف. ذلك شأنٌ طبيعيّ، فلطالما كنتُ أقول: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما للشعر للشعر. ذاك ذهبٌ، وهذا ذهبٌ. ذاك نثرٌ، وهذا شعر. لا أفرض رأيي، ولا أطلب من أحد أن يأخذ بمقاييسي، فهي مرهونةٌ إلى الوقت الذي أعتقد أنّه ليس من ذهب، والذي تشعر به مدينةٌ كباريس، ويشعر بها معي هذا الشخص الجالس بقربي، أو في رأسي، ويكتب عنّي معايير هذه الفلسفة.
الوقت ليس من ذهب. أراني أصرخ صرختي هذه، وأنا مولودٌ لتوّي. متشدّدًا حيال هذه الفلسفة الشعريّة، تتيح لي صرخة الولادة في باريس، أن أتحرّر ليس من الذهب ولا من الوقت، إنّما من لزوم صناعة الشعر صناعةً إسقاطيّة، لأنّه ينصنع في الأزمنة والأمكنة الشتّى. وجميعها في رأسي. يصرخني الطفل الذي أنا، قائلًا إنّ باريس وقتُها هو الذهب مبدِّدًا ذاتَه. كم يحلو لي أن أكون مهرّجًا مقامرًا فأنضمّ إلى الفعل المتبدّد، مستحضرًا شعبًا جائعًا من الكلمات، أنثر فوقه أكياس جواهري، فيجمعها بسعادةٍ ويتسلّى. هكذا يكون في مقدوري أن أجعله يفرّ من يديَّ ومن أعماري، بدون أن أشعر بهلع ولا بخوف ولا حتى بندم. ثمّ ماذا تريدني أن أجني أيّها العمر إذا كان الوقت ذهبًا؟ أقول مخاطبًا روحي: تبدّدي يا روحي لأنّكِ ذهب. وهل أجمل من أن أراكِ تتبدّدين كما يحلو لشجرةٍ في عزّ الجنس، أو في أيّ فصلٍ خامس، أن تغادرها أوراقُها لتبقى في عري عزلتها، شأنَ غريبٍ جالسٍ على شرفة نهرٍ أو على شرفة البدد، ولا يكفّ عن اجتراح سفره بدون عواطف تُذكَر في الكتب أو بين التأوّهات؟
قد رأيتُ منامًا أروي فيه قصّتي مع تبديد الوقت والذهب، وقصّتي المقابلة مع صداقاتي العاثرة. ليس غريبًا أن أكون عاثر الصداقات، إلاّ قليلها القليل النادر الوجود، فلا بدّ لشخصٍ مثلي أن يسخر منه أصدقاؤه لأنّي عظيم الهبات في ما يتعلّق بعواطفي، في حين أنّ التبديد ليس من شيم الراغبين في الذهب ووقته. أُراكِم ديوني، لكنّي أفعل العكس بعواطفي، إهدارًا وتكريمًا، فأجدني أبدّدها تبديدًا يوازي الإحساس المحدق بالموت اللذيذ.
قد كان عندي إلهٌ فصرتُ بلا إله، لأنّي رأيتُه يحبّ القرابين. لم يعد عندي ما أقدّمه إليه بعدما بدّدتُ الوقت والذهب، وأهرقتُ قرابينهما. لذا يحلو لي أن أتناسى أنّه ينبغي تسلية باريس بعواطفي. فأنا، بصدقٍ وافر، أشعر بأنّها ليست راغبةً في العواطف. وأنا، على غرارها، قد أتخمتنا عواطفُ السماء بدموعٍ جارياتٍ ولغاتٍ معسولات. حتى لأَشعر أنّ باريس هذه ترغب في تجريد الذهب من معناه، ليصبح خلوًا من فكرة الذهب. ولتصبح هي في حِلٍّ من أعباءٍ مفترضة للذهب. حتى لأَقول إنّه يجدر بي أن أختبر علاقتها بالهواء الذي يرقّص صفحة النهر. كما يجدر بي أن أعاين غيومها، تلك التي تفترض أنّها كلّما عبرتْ، تركتْ في أماكن عبورها غبشًا في اللغة والتباسًا في عقل المعنى. قد لا يعنيها، وقد لا يعنيني الوصف. لكنّي أصف ذهبًا يشبه الوقت وهو ليس منه، إلاّ لأنّه لا يعود القهقرى، مع أنّي أعود أراه. قد رأيتُ شجرةً تصنع أوراقًا لتوّها. وقد رأيتها في آنٍ واحد تستعيد أوراقًا، ربّما هي تلك التي غادرتها قبل قليل. كيف يكون لشجرةٍ أن تشعر حيالي بما أشعر حيالها، مع أنّها تنصنع أو تستعيد ما لا أصنعه وما لا أستعيده؟ السؤال نفسه، أسأله للنهر الذي يذهب بذهبه، ويظلّ يذهب به، من دون أن يخسر منه شيئًا يُذكَر. حتى لَصرتُ أقول لنفسي، لا بدّ أن أكون أُصِبتُ بخبلٍ يذهب بالعقل من جرّاء الشعور الذي يذهب بالوقت وبذهبه، من دون الإحساس بالهلع ولا بالخوف ولا بالندم.
في ما سبق، أي قبل أن أصرخ صرختي الأولى، كنتُ كثير العواطف، ملحاحًا في الإفصاح عنها. يجدر بي أن أعترف بأنّي لا أزال كثير العواطف لأنّي مملوءٌ بها ملْأً قَدَريًّا ينضح مني كلّما طفح بي كيل الوقت أو كيل الذهب. الآن، أشعر بأنّي أخطأتُ كثيرًا في شأن العواطف وتوثيقها. خصوصًا مع قلبي، وهو أيضًا مهجع رأسي ولغتي. لو كان لي أن أعيد التوثيق، لقلتُ مثلما أقول الآن، بأنّي شاعرٌ عاطفيّ، وبأنّه لا بدّ للعاطفة من أن تأخذ مجراها، ولكنْ بدون عواطف تُذكَر في نسيج الكلمات، ولا في غمامها.
من شأن الكلمات أن تكون ذهبًا، ومن شأن الذهب أن يذهب هباءً كنظرةٍ تمتلئ بالأبد. قد كنتُ شاعرًا عاطفيًّا، ويهمّني أن لا أخون هذا القَدَر إلاّ بمقدار خيانته لي. فكلّما خانني، ازددتُ إيمانًا بضرورة كسره بشوكة العاطفة. لن أبيع الذهب. سأهدره. لن أستعيد الوقت. سأعثر عليه في الأبد.
لا أعرف لماذا أعتقد أنّ قلبي بات أكثر تمدّنًا ولياقةً حيال عقلي. المدينة أيضًا باتت تعرفني أكثر، وتحبّني أكثر، مذ صرتُ أقلّ تعبيرًا وأكثف صمتًا. أأكون على غرار جسدها، قد صرتُ أشدّ التباسًا، مع أنّي واضحٌ كنور صباح هذا الأحد في حديقة لوكسمبورغ أو في مقهى «لو بونابرت»؟ وإذا كانت تمطر الآن، فكم يشبه هذا الشجر الماطر، قولي بأنّ الوقت ليس من ذهب. قد قلتُ ذلك عندما صرختُ صرختي الجسدانيّة في الثامنة من صباح 6 آذار 1952. أو قبيل ذلك التوقيت بقليل. مثلما اعتراني ذلك الشعور، يعتريني الآن شعورٌ أو شعرٌ مماثل، بأنّ زوالي لا شأن له بالوقت الممهور بالهرب. ذلك أنّي منتشٍ كمطرٍ ممعنٍ في الانهمار، ولا سبيل إلى وقفه حتى بالقبض على غيومٍ، سرعان ما ستقول لي إنّها تحبّني لأنّي أحاول حمايتها من التحوّل إلى ماء. هذا هو شأني مع زبد النجوم أو مع زبد الصفحات. هذه خلاصة رأسي. لأنّي كلّما رغبتُ في منع حصول شيء، سبقني هذا الشيء في الحصول، في مكانٍ ليس هو المكان، وفي زمانٍ ليس هو الزمان. كما لو أنّه يمعن في استفزازي وإعادة توثيقي. كحالي مع غيومٍ لم أستطع الحؤول دون صيرورتها مطرًا. كحالي مع حياتي، لم أستطع الحؤول دون صيرورتها حياةً شعريّة. أتراه شغفها، ما يجعل الغيوم تنهار فجأةً ما إن تؤمئ إليها غيومٌ مقابلة، فتدفعها إلى أن ترمي بنفسها من علياء سمائها إلى حيث ليس سوى فراغٍ غارقٍ في الضدّ من طبيعتها وبللها؟ لستُ أدري. هذه هي حالي تمامًا. فكلّما رغبتُ في الامتناع عن ركوب الغرق، جعلني غرقي أشدّ رغبةً فيه، كما لو أنّي ماءٌ في ماء. كلّما ابتعدتُ عن الشعر، جعلني الشعر أعثر على ما لم أكن مهيّأ للعثور عليه فيه. ليست هي حياتي ما تفعل بي. فنحن، أنا وحياتي، نفعل ما ينثال بهبوب الوجد فينا. بما أنّي في هذه المدينة، فليست هي المدينة ما تفعل بي، إنّما شعورها بأنّي محبوبها الذي لا يرغب حتى في لفت أنظارها إليه. كراهبٍ لا يطلب شيئًا، سوى أن تصل صلواته وصولًا مجّانيًّا إلى سمائها، حتى بدون أن يعرف إلهُهُ، مَن الشخص الذي قد يكون رفعها توًّا إليه. ماذا يفيدني أن تعرف المدينة بأحوالي، ما دمتُ قد أصبحتُ حرًّا حتى من الشعور بالإطراء؟ فأنا بتُّ حرًّا من جرّاء ما أفعله من أمورٍ تلقى الاستحسان، في حين لا أتوقّف التوقّف الكافي لكي يصلني من هذا الاستحسان الحدّ الذي من شأنه أن يحثّ عقلي العاطفيّ على اختراع الحيل لمنع حدوث ما يشبه الرضوخ للإطراء. يعنيني أن لا أغمر المدينةَ بمشاعر اللغة والوجدان. لأنّ مدينةً كهذه، لا بدّ أن تكون مثقوبةً بالسأم من جرّاء ما ينالها من إطراء وما تتعرّض له من مراودة. وإذا كنتُ أعطيها كلّ ما يساوي جسمي، فليس لأنّي أرغب في مبادلة شيءٍ بمعادله، إنّما لرغبتي في حفر دماغي بالمزيد من الأزاميل كي أصل إليها الوصول الذي يحرّرني حتى من الشعور بروح الوقت، ويحرّرني من عبء امتلاكه. هذا فضلًا عن تحرّري من وجود هذا الوقت كلّه، وعن تحرّره هو منّي، رؤيةً ولمسًا ومشاعر. بذا، قد أكون أختلف في طرق أزاميل الشعر، وبذا أفترق في العواطف، من حيث التعامل مع ذهب المدينة ووقتها. وإذا كنتُ أنا الفقير إلى نفسي، قد ضجّرني الآخرون من فرط المشاعر، فكيف لا تضجر مدينةٌ من مشتهي أعمارها وأوقاتها، فضلًا عن مشتهي أجسادها؟ ليس عندي شيءٌ، وليس معي شيء. مشاعر أُولد بها مجلوّةً في ثنايا صرختي الأولى، وترغب في أن تحيا بمعزلٍ عنّي. كأنْ تذهب مذهبَ النهر، فتسافر سفر الأبد سعيدةً بعدم إحساسها بالهلع ولا حتى بالندم. فإذا كنتُ أنسى وصفًا، فإنّما لكي ينساني. وإذا كنتُ أتفاداه بوعيي، فلأنّه يعبر بي من دون أن يصطدم بقلبي. وإذا كانت صرختي مسموعةً ومرئيّةً، فليس من الضرورة أن تكون مشاعري هي أيضًا على هذه الحال. يسعدني أن أخاطبكِ يا مدينةً يسمّونها باريس، وأنا أسمّيكِ جسمي، كي يكون لي موضعٌ أنثويّ أودعه عواطفَ توازي عواطف نهركِ المغادر في ماء جروحه. وليس من إياب.
يقال إنّي شاعرٌ عاطفيّ. حسنًا. المطر أيضًا شاعرٌ عاطفيٌّ لأنّه يهمي بلا رقابة. فقد كان عليه أن يكتم، كي يُعفى من مغبّات العاطفة. مَن يبحث عن العواطف، في وقتٍ هو وقتٌ من ذهب، سيعثر على وقت، ولا بدّ من أن يعثر على ذهب. لكنّه سيبحث بدون جدوى عن العواطف، ولن يعثر على شيءٍ منها لأنّها ستكون غير خاضعةٍ لبحث الحواسّ، ولا للمراكمة. وإذا كان لابدّ من لغةٍ تفسّر مصطلحاتي، فسأفسّر الهواء بالهواء، والمطر بالمطر، فأقول: هي عواطف اصطلاحيّة غير قابلة للإدراك بالخمس الحواسّ. كداخلٍ لا يخربط دخولُه منطقَ المكان. كخارجٍ لا يترك عبوره شيئًا يؤلم ذاكرةَ المكان. هذا هو الشعر العاطفيّ. وهذه هي عواطفي. إذا كان لابدّ من استذكار الوقت والذهب، فينبغي لي أن أقول هذا هو الوقت وهذا ذهبه. كعواطف حين تستشعرها اللغات بالتفكيك فقط، فتجري معانيها مجرى نهرٍ مغادر، أو كهواءٍ لا يرغب حتى في مراكمة جسده.
كداخلٍ إلى جسد مقهى أو كعابرٍ في جسد نهر، وذلك قبل الشعور بالصرخة الأولى.
كخارجٍ من جسد مقهى أو كمجانبٍ جسدَ نهر، وذلك قبل الشعور بالصرخة الأولى.
كداخلٍ خارجٍ، وذلك بعد الشعور بوقت صرخته الأولى.
ذلك هو الوقت الذي من ذهب. وقد أُعطيته. ولأنّه لم يعد عندي منه ولا نزرٌ قليل، صرتُ كثير السبائك، وإن في زبَد الصفحات.