زكريا بن خليفة المحرمي
كاتب وباحث عُماني
يقدم المفكر الإماراتي حسين عبيد غباش في كتابه هذا دراسة معمقة عن التجربة الإسلامية في عُمان كنظام حكم وكتراث ديمقراطي عربي إسلامي. حيث يستعرض تاريخ عُمان السياسي والاجتماعي بين القرن السادس عشر إلى عام 1970م، وقد التزم في دراسته منهج فلسفة التاريخ من خلال تشريح العقل العُماني الذي صنع فكرة الإمامة ورعاها. وقد عالج فيه مفهوم الديمقراطية الإسلامية حيث يناقش المفاهيم المتعددة للديمقراطية محاولا تفكيك الأسس التي تقوم عليها لبناء مفهوم للديمقراطية متناسب والتجربة الإسلامية، وناقش مفهوم العلمانية والدولة الدينية والمسؤولية الفردية والحرية والمساواة والمواطنة. كما درس تقاليد الإمامة العُمانية باعتبارها نتاجا للمدرسة الإباضية، وقدم تعريفا للدستور الإباضي الذي اعتبره الأول من نوعه في العالم العربي والإسلامي، بل من الأوائل في العالم كله، وناقش الأسس التي قامت عليها الديمقراطية الإسلامية العُمانية، ودور القبيلة، ومؤسسات الإمامة، وقارنها بالدولة الحديثة، كما استعرض التاريخ السياسي لعُمان والصراع الاستعماري في المنطقة، وخلص إلى أن عُمان لا تقع فريسة لأطماع المستعمرين إلا في حالات التفكك الداخلي، وأن التصدي لأطماع المستعمرين مرتبط بإحياء فكر الحركة الإباضية، وأن التخلي عن الإمامة يؤدي إلى تصدع الهوية الوطنية. بالإضافة إلى تأريخه لسيرورة ظهور الكيان المعروف بـ”ساحل عُمان”، ومرحلة الانتقال من نظام الإمامة إلى نظام السلطنة، ودور بريطانيا في القضاء على الازدهار الذي عاشته عُمان في عهد السلطان سعيد بن سلطان، مؤكدا على أن الحركة الإباضية كانت القوة الوحيدة القادرة على مواجهة هذه الإمبراطورية البريطانية المتنامية، وقد خلص إلى ثلاث نتائج مهمة تتمثل في النموذج الأصيل للدولة الإسلامية الذي قدمه المذهب الإباضي، ومتانة التجربة الإباضية عبر التاريخ، وعمق التراث الديمقراطي الذي خلفته الإباضية للثقافة العُمانية اليوم، حيث صاغ المجتمع العُماني نموذجًا ديمقراطيًّا خاصًّا به، آخذًا بالاعتبار المحيط الثقافي والديني، وهو نموذج قابل للتكيف والتحديث في سياق الثقافة السياسية العُمانية المعاصرة.
كانت تسعينيات القرن الماضي حافلة بالكثير من الأحداث التي غيرت العالم، البداية كانت من حرب الخليج الثانية عام 1991 التي تم فيها تدمير العراق وإخراجه من معادلة الردع العربي، وفي نهاية العام ذاته تفكك الاتحاد السوفيتي وانكشفت دوله وصار كثير منها تابعا للغرب، ومنها ابتدأت حقبة القطب الأوحد الأمريكي المسيطر على العالم، مما حدا برئاسة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تنكيس راية المقاومة والقبول بتسوية أوسلو عام 1996، لقد مثلت هذه الأحداث انهيارا للمشروع القومي العربي الذي لم يستمر أكثر من أربعة عقود مما دفع الشعوب العربية ومفكريها إلى البحث عن بديل يمكن الاعتصام به ليكون أساسا لنهضة العرب ولحاقهم بركب الأمم المتقدمة وقدرتهم على مواجهة الصلف الصهيوني.
في فكر النهضة انقسم المفكرون العرب إلى عدة تيارات يمكن جمعها في اتجاهين كبيرين، الأول كان يرى أن لا مستقبل للأمة العربية إلا باستيراد الخطابات الغربية ليبرالية كانت أم ماركسية، وأن لا سبيل لبناء حضارة حقيقة إلا بتقليد التجربة الأوروبية والأمريكية، وقد واجه هذا الاتجاه اتهامات بالدعوة إلى الاغتراب وتجريد الأمة من هويتها، بالإضافة إلى إغفاله حقيقة الاختلاف البنيوي بين شروط الانتقال الحضاري الذي عاشته أوروبا والواقع العربي المعاصر. أما الاتجاه الثاني فكان يرى أن لا مستقبل للأمة إلا بالعودة إلى التراث الإسلامي، وإحياء فكرة الخلافة الراشدة، بيد أن هذه الدعوة لا تخلو -بحسب منتقديها- من انغلاق على الذات، ذلك أن إحياء تجربة منقطعة لأكثر من أربعة عشر قرنا أمر يشبه محاولات إحياء الموتى، فما فشل الصحابة والتابعون في الحفاظ عليه، وما عجز من جاء بعدهم من أئمة التابعين ومؤسسي المدارس الإسلامية في استعادته -وهم بحسب منظري التيار السلفي أصحاب خير القرون- هو إما أمر متعذر أو غير ذي بال، لذلك تم اعتبار الاتجاهات السلفية بأنها تعيش اغترابا مع الواقع، وأنها تقود الأمة إلى هاوية الفشل المحقق في لحظة تاريخية لا مكان فيها للفاشلين.
في خضم هذا الجدل تنبه المفكر حسين عبيد غباش بأن هناك تجربة عربية يمكنها أن تجمع الاتجاهين المتعارضين، فمن جهة مارست الديمقراطية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، ومن جهة أخرى هي تعد امتدادا لتجربة الخلافة الراشدة، وبالتالي يمكن تسميتها بتجربة “الديمقراطية الإسلامية”، إنها تجربة الإمامة الإباضية في عُمان. وقد نص غباش في مقدمة الكتاب على أن الهدف الأساسي من هذا العمل ” هو تقديم دراسة معمقة عن التجربة الإسلامية في عُمان كنظام حكم وكتراث ديمقراطي عربي إسلامي”(1). حيث يفتتح غباش كتابه بالقول: “ينم تاريخ عُمان وثقافتها، وهما في الأكثرِ مجهولانِ عن صنوفٍ من الأصالة، ويفتتحان على أبوابٍ من الخصائص المميزة، فلقد التصق هذا التاريخ منذ القرن الثاني للهجرة (الثامن الميلادي) ولفترة تزيد على ألف عام في جوهره بتاريخ حركة فريدة نشأت وازدهرت على خلفية مذهب إسلامي أقلّي هو المذهب الإباضي، وانطبعت هذه الحقبة بالسعي إلى تشييد إمامة عادلة وناجحة وفق النموذج الإباضي للدولة الإسلامية”(2).
يرى إخوان الصفا وابن خلدون وعلماء الاجتماع المعاصرون أن للبيئة والعمران دورًا في بناء العقل والتفكير(3)، لذلك نجد هذا الارتباط الوجودي بين عُمان وبين الإباضية، حيث يقول غباش: “منذ القرن الأول للهجرة ارتبط اسم الإباضية بعُمان”(4). ذلك أن مؤسس المدرسة الإباضية هو جابر بن زيد الأزدي العُماني (ت 93هـ)، وقد أقام مدرسته لا على أساس الآراء الفقهية أو المجادلات العقدية، بل أقامها على مبدأ إمامة العدل والشورى وعدم شرعية الحاكم المتغلب، ويقرر حسين غباش أن “مسألة الإمامة هي عمود المذهب الإباضي”(5)، ومبادئ الإمامة التي انحاز إليها جابر بن زيد إنما هي امتداد لتقاليد الحكم العُمانية قبل الإسلام، فقد جاء في المصادر التاريخية أن ملكي عُمان شاورا زعماء القبائل قبل الدخول في الإسلام، حيث يروي مسلم بن سلمة العوتبي (ت 512 هـ) ما نصه: “ثم بعث جيفر إلى مهرة والشحر ونواحيها، فدعاهم إلى الإسلام وأعلمهم بالإسلام، فأسلموا معه، ثم بعث إلى دبا وما يليها إلى آخر عُمان، فما ورد رسول جيفر إلى أحد إلا وأسلم وأجاب دعوته”(6). بالتالي يمكننا القول إن المدرسة الإباضية هي الممثل للفكر السياسي العُماني قبل الإسلام الذي يعود -بحسب غباش- إلى آلاف السنين(7)، كما أنها الحامل الفكري لتاريخ عُمان السياسي والاجتماعي والفكري بعد الإسلام، الإباضية -كما يقول غباش- ليست مجرد فرقة إسلامية “بل هي بالأحرى مدرسة فكرية تستند إلى خمسة مصادر تشريعية”(8).
وقد أنجز حسين عبيد غانم غباش دراسته المعنونة “عُمان الديمقراطية الإسلامية- تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث (1500-1970)” وهي في ما يبدو عبارة عن دراسة أكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة نانتير- باريس العاشرة “L’UNIVERSITÉ PARIS NANTERRE”، وقد كتبت النسخة الأصلية بالفرنسية، ثم قام أنطوان حمصي بترجمتها إلى العربية لتصدر في كتاب متوسط الحجم عن دار الجديد، بيروت، في عام 1997.
في هذا الكتاب يستعرض حسين غباش تاريخ عُمان السياسي والاجتماعي ويخص بالتفصيل الفترة بين القرن السادس عشر التي تزامنت مع الحضور الأول لقوى الاحتلال الأوروبية المتمثلة في جحافل البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز،إلى أواخر القرن العشرين وبالتحديد عام 1970م، وهو العام الذي قلبت فيه عُمان صفحة الماضي، ودشنت عهد الدولة الحديثة المعترف بها دوليا. كما يستعرض الكتاب التحديات الجيوسياسية التي مرت بها عُمان والمنطقة، وعلاقة ذلك بالوضع الاجتماعي والسياسي في عُمان.
في المنهج:
قسم هيجل مناهج الكتابة التاريخية إلى أصناف ثلاثة، الأول منهج كُتَّاب التاريخ الأصيل الذين يهتمون بوصف الأعمال والأحداث وأحوال المجتمع التي وجدوها ماثلة حولهم. الثاني: منهج كُتاب التاريخ النظري وهم من لا يحصرون أنفسهم في حدود العصر الذي يروونه بل يهدفون إلى التوصل إلى رؤية كلية للتاريخ الخاص بشعب ما أو بلد ما، وإلى محاولة الكشف عن مبادئ عامة والتعاليم الأخلاقية، وهو ما يمكن تسميته بالتاريخ البرجماتي “العملي”، أو إلى محاولة نقد الروايات التاريخية ودراسة حقيقتها ومعقوليتها، وهو ما يمكن تسميته بالتاريخ النقدي. النوع الثالث هو منهج كُتاب التاريخ الفلسفي، أو فلسفة التاريخ التي هي عبارة عن دراسة التاريخ من خلال الفكر(9).
بينما يذهب هايدن وايت في كتابه “ما وراء التاريخ” إلى أن هناك أربعة نماذج للشكل الذي يمكن أن يتخيله التفسير التاريخي باعتباره حجة استطرادية، وهي الشكلاني، والعضوي، والميكانيكي، والسياقي. حيث يميل المؤرخ الشكلاني إلى إصدار تعميمات حول طبيعة العملية التاريخية. أما المؤرخ العضوي فإنه يدرس “المبادئ” أو “الأفكار” التي تكشف العمليات الفردية. أما المؤرخ الميكانيكي فإنه يبحث عن القوانين السببية التي تحدد نتائج العمليات المكتشفة في المجال التاريخي. أما المؤرخ السياقي فهو يمزج بين الدوافع المشتتة للمنهج الشكلاني والدوافع التكاملية للمنهج العضوي(10).
لم يكن حسين غباش في هذا الكتاب “عُمان الديمقراطية الإسلامية” مجرد مؤرخ نظري بحسب تقسيم هيجل ولا مؤرخ شكلاني وفقا لتقسيم هايدن لأن دور هؤلاء المؤرخين النظريين والشكلانيين إنما يقتصر بحسب هيجل على ربط “العناصر الزائلة بعضها ببعض ويودعونها معبد منموزين لكي تكتسب الخلود”(11). بل كان حسين غباش مؤرخا عضويا لأنه ينطلق في بحثه لا من الأحداث الجزئية بل من فكرة “الديمقراطية الإسلامية العُمانية”، فيتتبع مساراتها نشوءا وارتقاءً، ويرصد الأوضاع الاجتماعية والسياسية المحايثة لها، محاولا القبض على المبادئ والأفكار الحاكمة لصعود الدولة العُمانية ونزولها. كما مارس حسين غباش في كتابه هذا دور فيلسوف التاريخ الذي يتحدث عنه هيجل فهو لا يكتفي بدراسة الفكرة وحدها وإنما يحاول تشريح العقل العُماني الذي صنع تلك الفكرة واحتضنها ورعاها وزرعها وسقاها وآمن بها وتبناها فصارت هي هو وهو هي لا تكاد تعرف من دونه ولا يكاد يذكر لها تاريخ سواها، إنها فكرة الإمامة الإباضية ربيبة العقل العُماني وصانعة تاريخه كما يقول حسين غباش “التاريخ العُماني في قسم كبير منه هو تاريخ الحركة الإباضية”(12)، وهل تاريخ البشر في جوهره شيء آخر “سوى تاريخ للعقل”(13).
لقد كرس حسين غباش كتابه لدراسة تاريخ عُمان والمنطقة ابتداء من القرن السادس عشر إلى أواخر القرن العشرين، وهي الفترة التي تميزت بالتوسع الاستعماري الغربي في جميع أنحاء العالم، كما اتسمت بانتقال صراع القوى الغربية من أوروبا إلى المحيط الهندي وشبه الجزيرة العربية والسواحل المجاورة لها، حيث تناوبت تلك القوى على احتلال المنطقة والتحكم بمقدرات ساكنيها ابتداء من البرتغاليين مرورا بالهولنديين والفرنسيين وانتهاء بالإنجليز الذين تنازعوا والفرنسيين في الطريقة الأمثل للتحكم لإذلال الشعوب(14).
في هذه الدراسة لا يكتفي غباش بالاعتماد على المصادر العُمانية أو العربية أو حتى الغربية المعهودة بل يذهب بالقارئ في جولة مثيرة داخل الأرشيفات السرية لكل من بريطانيا وفرنسا، ووثائق الأمم المتحدة، كما يرجع إلى دراسات أكاديمية في كل من كامبريدج وجامعة باريس، ومجموعة الوثائق الهندية، هذا بالإضافة إلى الدوريات الأكاديمية المنشورة باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية(15). وكثير من هذه المصادر لم يلتفت إليها الباحثون السابقون، وقد أقر الدكتور محمد اليحيائي في دراسته الأكاديمية حول نظام الحكم في عُمان بهذه الحقيقة قائلا: “فقد استفدنا من كثير من المعلومات التي تضمنتها الدراسة، ومن استعانة غباش بكثير من الوثائق، لا سيما الفرنسية”(16).
وكعادة الكتابات الرصينة لا تخلو دراسة حسين غباش من استقراء للدراسات السابقة حول التاريخ العُماني، ويقدم للقارئ قراءة ملخصة وناقدة للدراسات حول عُمان، ويصفها بأنها اقتصرت على معالجة مراحل معينة أو وجوه خاصة للتاريخ العُماني مثل تاريخ الحركة الإباضية، كما يؤكد بأن كثيرا من تلك المؤلفات إنما كتبت بأقلام مؤرخين استعماريين مثل لوريمر (Lorimer) وكيلي (Kelly)، ويعتب على المؤرخين العرب قائلا بأنهم “لم ينوهوا إما عن جهل وإما عن قصد بأهمية التجربة العُمانية، ومن توقف عندها لم يتمكّث”(17).
في الجانب الآخر يزكي المؤرخ العُماني عبدالله بن حميد السالمي ويصفه بأنه كان “مؤرخا كبيرا وصفه المؤرخ الروسي بوندارفسكي بأنه أبو التاريخ العُماني”(18). وهذا التقدير لمكانة السالمي العلمية كمؤرخ كبير متوافقة مع وصف المستشرق الإنجليزي جون سي ولكنسون للشيخ السالمي حيث قال: “وخير مرجع يعرض هذا الموضوع هو العمل التاريخي الكبير الذي يعتبر مهما في دراسة تاريخ الإمامة (تحفة الأعيان) المشار إليه بالتحفة في هذا الكتاب من تأليف نور الدين عبدالله بن حميد السالمي قبيل استعادة الإمامة في عام 1913م، وهو كتاب علمي مميز إلا أنه يتعين النظر إليه على أنه قد كتب لتشجيع المؤمنين الحقيقيين على إحياء الإمامة”(19). ومن المعلومات التي تكشف عن عمق استيعاب غباش للتاريخ العُماني ومصادره يشير إلى مفارقة تاريخية لا يكاد يعرفها سوى القلة وهي أن السلطان فيصل بن تركي (1888-1913) الذي كان الخصم السياسي للسالمي هو من “كلف نور الدين عبدالله السالمي، بكتابة تاريخ عُمان المعروف بـ تحفة الأعيان”(20).
أما من حيث المواضيع فقد عالج الكتاب ثلاث قضايا أساسية، وهي منصوص عليها في العنوان، القضية الأولى هي مفهوم الديمقراطية الإسلامية، حيث يعتبر هذا المصطلح مشكلا لربطه بين الديمقراطية وهي بحسب التقسيم الأرسطي حكم العامة وربطها بالإسلام الذي تحيل نصوصه القرآنية إلى ذم رأي الأكثرية كما في قوله تعالى “وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِن هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ” الأنعام:116. القضية الثانية تتمثل في تقاليد الإمامة العُمانية التي تتبدى ظاهريا وكأنها مفتقرة إلى النموذج الثابت والدستور الراسخ، بينما يحاول حسين غباش تسليط الضوء على مناطق خفية في التاريخ العُماني تكشف عن عمق تلك التقاليد وأصالتها الثقافية والمجتمعية. القضية الثالثة هي التاريخ السياسي لعُمان والمنطقة ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي الذي شهد وصول طلائع المحتلين البرتغاليين، ثم تلتهم فلول القوى الإمبريالية الصاعدة في تلك الحقبة، وسوف نحاول في الفقرات القادمة اكتشاف كيف عالج حسين غباش هذه القضايا.
الأولى: مفهوم الديمقراطية الإسلامية
من الواضح جدا أن حسين غباش اصطفى مصطلح الديمقراطية بوعي للتعبير عن الحالة العُمانية، فقد دشّن دراسته بمواجهة صريحة مع الاعتراض المتكرر الذي يردده المنخطفون بالمثال الغربي، قائلا: “عندما نذكر الديمقراطية، غالبا ما يتبادر إلى الذّهن نموذج الديمقراطية الغربية”(21). ثم يجيب على هذا الاعتراض بالعودة إلى النظرية السياسية واستعراض المفاهيم المتعددة للديمقراطية، من قبيل أنها جملة سيرورات ترمي إلى تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو أنها نظام برلماني انتخابي يضمن حقوق المواطن من خلال المشاركة المباشرة أو غير المباشرة، أو أنها حكومة الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، كما يورد التعريف الأكثر شيوعا، وهي أن الديمقراطية عبارة عن حكومة الأغلبية، وهو تعريف دحضه فيلسوف الثورة الفرنسية جان جاك روسو بالقول: “إذا أخذنا المصطلح بمعناه الدقيق، فإنه لم يوجد قط ديمقراطية حقيقية ولن توجد مثل هذه الديمقراطية أبدا. إنه لأمر مخالف للطبيعة أن يحكم العدد الكبير وأن يكون العدد الصغير محكوما”(22).
ثم يخلص غباش إلى أن التعريف الأنسب للديمقراطية هو ما اختاره مؤرخ الثورة الفرنسية ألكسيس توكفيل الذي يرى أن الديمقراطية هي “حكومة يشارك فيها الشعب بنصيب متفاوت”(23). ثم يضيف منطلقا من تأكيد مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) بأن لكل شعب قوانينه، وأن “لا بد لهذه القوانين أن تكون مناسبة للشعب الذي وضعت من أجله، بحيث لا يحدث إلا على سبيل الصدفة المحضة أن تصلح قوانين أمة لأمة أخرى”(24). ثم يخلص إلى القول “وإذا اعتبرنا الديمقراطية مجموعة من القوانين الموضوعة في كل بلد حسب خصوصيته الثقافية وتقاليده وقيمه، فإننا نستطيع أن نقول إن ذلك هو جوهر وأساس الديمقراطية مهما كان نظامها”(25).
من هذا الاستعراض التفصيلي لآراء منظّري الديمقراطية يطرح غباش تساؤلا مشروعا فيقول: “إذا كان لكل مجتمع خصوصيته وتقاليده وقناعاته وقيمه وثقافة خاصة به، فإن هذا يعني أن كل مجتمع يملك أيضا رؤية خاصة لتحقيق ذاته في العدالة والمساواة والأمن لكل أعضائه”، ومن هذه المقدمة يخلص غباش إلى نتيجة منطقية مفادها أن “مجتمعات عربية ومسلمة كانت -كل منها حسب ظروفه الخاصة وخصوصياته التاريخية والثقافية- قابلة لإفراز ديمقراطيتها الخاصة وبنائها”(26).
لم يغفل غباش لازمة العلمانية التي يرددها البعض باعتبارها ضرورة لقيام الديمقراطية، حيث يطرح تساؤلات المعترضين لفكرة الديمقراطية الإسلامية من قبيل: “ألا تستدعي الديمقراطية بحكم الواقع نظاما علمانيا؟ وأليست العلمانية شرطا لازما لسيادة الشعب، لسلطته وحريته؟”(27). فيجيب على هذه التساؤلات قائلا: “إن العلمانية إنتاج تاريخ وثقافة مسيحيين أوربيين، وإذا كانت العلمانية شرطا للديموقراطية الأوروبية، فهي ليست بالضرورة شرطا للديمقراطية الإسلامية، وليست حتما شرطا للديمقراطية العُمانية التي نقدمها هنا، كما أن مسيرة التاريخ الإسلامي ليست مماثلة لمسيرة أوروبا، وليس للإسلام التعريف المؤسسي نفسه الذي للمسيحية والذي جسدته الكنيسة وملاكاتها، فلم يعرف الإسلام سلطة كهنوتية، ومن أجل ذلك لم تطرح مسألة العلمانية على الثقافة الإسلامية”(28). وهذه الإجابة هي ذات ما قرره المفكر العربي محمد عابد الجابري من قبل حين قال: “مسألة العلمانية في الوطن العربي مسألة مزيفة… وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية”(29).
بيد أن التجربة الإباضية لا تكف عن إدهاشنا من خلال المفارقة التي يخلقها وصف المستشرق الإنجليزي جون سي ولكنسون للقانون الإباضي بالعلمانية البراغماتية قائلا: “يتبع القانون الإباضي العلماني هذا التوجه بالضبط ويتسم بالمرونة العملية في أحكامه”(30). وهو تشخيص ينبغي أن يحدث تسوية لدى العلمانيين الراديكاليين الذين يرفضون أي ربط بين الإسلام وبين التجربة الديمقراطية، فالعلمانية البراغماتية بمعنى المرونة التشريعية هي سمة للشريعة الإسلامية عامة وللفقه الإباضي خاصة.
يفرق حسين غباش في تأصيله لمفهوم الديمقراطية الإسلامية بين مفهومي الدولة الإسلامية والدولة الدينية “الثيوقراطية”، على اعتبار أن منصب الخليفة ليس منصبا إلهيا، بل هو منتخب من قبل الشعب، كما أن العلاقة بين الخليفة والشعب محددة بعقد البيعة، بالتالي فإن “شرعية الخليفة بل الخليفة نفسه من الشعب، والشعب الذي يمنح الشرعية يستطيع أيضا أن يسحبها. الأمة إذًا هي مصدر السلطة الشرعية في الإسلام”(31)، بالإضافة إلى أن تفويض السلطة وطاعة ولي الأمر منصوص عليه في القرآن فإن على هذا الأخير أن يستشير الأمة، “فتعاليم القرآن تعطي الشرعية لسلطة الأمة مجتمعة، أي إنها تكل الأمر لسيادة الأمة على نفسها ولحريتها”، كما أن طاعة الحاكم “مقيدة بشرط أساسي هو التزام أولي الأمر بجانب الشرع أي العدل والفضيلة”(32). وفي نفي الثيوقراطية يؤكد غباش بأن “الصفة الزمنية والنسبية والتعاقدية للسلطة في النظرية السياسية الإسلامية معينة بوضوح، فالسلطة زمنية، ومسؤولة أمام أمة من المؤمنين، “وهذه المسؤولية أمام شعب يتصف بانتمائه الديني هي التي تستطيع الانفتاح على إدارة ديمقراطية، وهي في الحقيقة جوهر الديمقراطية”(33).
كما تعرض غباش لإشكالية أخرى وهي المتعلقة بمسؤولية الفرد في الحياة السياسية الديمقراطية المعاصرة، حيث يؤكد على أن “ممارسة الشورى في ذاتها توطد مكانة المواطن في مجتمعه وتمنحه قيمته الصحيحة كما تمنحها لممثله: الإمام. فكلاهما يجد في الشورى المسؤولية والكرامة الإنسانية، وهما مدلولان رئيسان لوحدة الأمة واستقرارها”(34)، وهذا الربط بين المسؤولية الفردية وبين استقرار الأمة هو جزء من البناء الأخلاقي الذي تعززه الشريعة.
وقد تصدى غباش للمسألة الأخلاقية مجددا حين تعرض لمبدأ “الحرية” في المفهوم الديمقراطي الحديث، فيقرر أن “حضور الإسلام ودوره في المجتمع أساسيان، وليس ذلك للسهر على شؤون المجتمع والدولة فحسب، بل بوصفهما أيضا المصدر الرئيس للقيم الاجتماعية والأخلاقية”(35). فالحرية في الديمقراطية الإسلامية ليست أسيرة لقوى السوق كما تذهب إليه الرأسمالية الليبرالية ولا لمكانة الطبقة الاجتماعية كما يتوهم منظرو الاشتراكية، وليست هي منحلة من أي عقال ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي كما يدعو إليه مفكرو الفوضوية “الأناركية”، بل هي مرتبطة في الديمقراطية الإسلامية بالمساحة التي نظمتها الشريعة.
وفي تأصيله لمبدأ الحرية في الديمقراطية الإسلامية يؤكد غباش على مبدأ “المساواة” قائلا: “فإن مدلول الإنسان الحرّ في الإسلام هو مدلول حقوقي غير ميتافيزيقي، وأرضيته هي الشعور القوي جدا بمساواة مطلقة في الحقوق بين سائر أعضاء الأمة الإسلامية، فكل المؤمنين متساوون أمام القانون لأنهم إخوة”(36). كما يؤكد على حقيقة التمايز الثقافي بين الشرق والغرب، وهو تمايز ذو طبيعة أخلاقية، ويتمثل في النزعة الفردانية الغربية، حيث البحث عن السعادة الشخصية وتحقيق الذات وتأكيدها، في مقابل النزعة الجماعاتية الشرقية التي لا يمكن فيها تحقيق الذات الإنسانية إلا من خلال تحقيق أهداف الجماعة أو الأمة(37). وبالتالي فإن خضوع الفرد الطوعي لأمته لا يستلزم نفي الحرية الفردية عنه، بل إن هذا الخضوع هو تأكيد لمواطنته ولفرديته كشخص كامل الحقوق في مجتمع يقيس تكامله بميزان مشاركة أفراده. بل إن الإنسان يستطيع بهذا الخضوع بلوغ صورة عليا لإنسانيته(38).
إذن يرى حسين غباش أن السلطة في الإسلام تقوم على مجموعة أسس يمكن تلخيصها في “مبادئ العدالة والمساواة والشورى والإجماع”(39). وهذا يقوده إلى مواجهة السؤال الجوهري: “هل يمكن للديمقراطية بمعناها العام أن تتماهى مع المبادئ الإسلامية، لا سيما الشورى”(40). فيقدم عدة إجابات يمكن إيجازها في أن الشورى مبدأ قرآني جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) أساسا حقوقيا لمصلحة الشعب، وأنها شرط لارتقاء الأمة، وأن عدم تحديد النبي (صلى الله عليه وسلم) لقاعدة واضحة لها إنما جاء لإفساح المجال لها لتتطور وتتكيف مع تطور الأمة(41).
فإن كانت هذه هي الأسس للديمقراطية الإسلامية كما يقدمها حسين غباش، فهل يوجد في التاريخ الإسلامي تطبيق لهذه المبادئ يمكن الاستناد إليه باعتباره النموذج الذي يمكن الاستفادة من تجربته، هنا يقرر غباش هذه الحقيقة التاريخية التي انطلق منها الكتاب وهي أنه “في السياق التاريخي الإسلامي نجد أن تطبيق مبدأي الإجماع والتعاقد قد عُلّق واقعا منذ نهاية دولة الخلافة الراشدة، وبداية الدولة الأموية. وبالفعل، فإن الخلفاء العرب أنفسهم عينوا في بعض الحقب من قبل عسكريين عثمانيين في حين طبق العُمانيون هذين المبدأين على مستوى الإمامة وعلى مستوى الدولة والمجتمع، بل وفي كل الأمور، وذلك منذ القرن الثاني الهجري، (القرن الثامن الميلادي). بعبارة أخرى، امتدت هذه التجربة العُمانية مع بعض الانقطاع اثني عشر قرنا”(42).
بعد التقديم لمفهوم الديمقراطية الإسلامية العُمانية يؤكد غباش بأن هذه الديمقراطية لن تستأثر وحدها بدراسته بل سيسعى “بصورة أخص بدراسة منبت هذه الديمقراطية، أي الحضارة العُمانية، متوقفين بشكل أخص عند دراسة جذور الفكر الإباضي وأسسه، وسوف يرتكز بحثنا أيضا على منجزات الحركة الإباضية (الإمامات) وتطورها والتحديات والمحن التي واجهتها، كما سنعالج ظروف استمرارها لفترة غير مألوفة وأسباب سقوطها المتأخرة”(43).
الثانية: تقاليد الإمامة الإباضية
ينطلق حسين غباش من فرضية مفادها أن الديمقراطية دخلت “إلى عُمان مع المذهب الإباضي أي مع الدين وهذا الشكل من الديمقراطية، الأول من نوعه في العالم تجسد في نظام الإمامة الدستوري المعتدل والقادر بفضل دستوره على ضمان استمرار الديمقراطية وتجذرها التدريجي”(44)، ويؤكد على أن “مسارا أصيلا يميز السياسة والثقافة والتاريخ العُماني، ومفتاح هذه الأصالة هو دون ريب الفكر الإباضي وتجربته”(45)، ثم يقرر أن “التاريخ العُماني في القسم الأكبر منه هو تاريخ الحركة الإباضية في إطار الإمامة”(46)، وأنه “ليس من قبيل المبالغة أن يقال إن عُمان حافظت خلال كل ما عرفته من محن على قوامها كأمة بفضل البديل الذي يعبر عنه النموذج الإباضي”(47). كما يرى أن الحركة الإباضية “كانت تتخذ من دولة الخلافة المثل الأعلى في سعيها إلى بناء إمامة نموذجية لدولة إسلامية”(48)، وهو ذات ما أكده ولكنسون الذي اعتبر أن هدف إقامة الدول الإباضية هو “التطور التدريجي نحو تأسيس الدولة الإسلامية الحقيقية التي أسسها الرسول (صلى الله عليه وسلم)”(49).
وقبل الولوج إلى عالم الديمقراطية الإسلامية العُمانية يؤكد غباش “أن هذا البحث لا يرمي إلى اختزال الإمامة الإباضية إلى حدود المقارنة مع الديمقراطية الغربية، فقيمة التجربة الإباضية هي على وجه الدقة في أصالتها قياسا على زمانها(50). إذن على القارئ ألا يتوقع تعريفا تقليديا لماهية الدستور الإباضي، وإنما عليه الاستعداد لاكتشاف بنية دستورية استثنائية، لا تشبه الدساتير الغربية الناجزة التي اعتاد عليها، بل هو بحسب غباش “الأول من نوعه في العالم العربي والإسلامي، بل من الأوائل في العالم كله، فالأسس الأولى لهذا الدستور وضعت في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، السابع الميلادي، ويعتقد أنه كتب ثم أغني أكثر في القرنين الخامس والسادس للهجرة”(51). فهو هنا يشير إلى الميراث الفقهي الإباضي الغزير المتعلق بالإمامة، وطرائق عقدها، ودعمها، وفسخها.
وهذا المعنى الدستوري كان قد أشار إليه ولكنسون في دراسته حين قال: “يظل كل ذلك تاريخا قديما ما لم يبدأ المرء بمعرفة أن هيكل الدولة العُمانية المستقلة حتى منتصف القرن العشرين يعتمد كثيرا على الأنظمة الدستورية والممارسات المؤسسية التي تشكلت بسبب الخلافات التي نشأت في تلك الفترة، لأن تقليد شمولية الإسلام بمفهومه الفكري لشرعية الإمامة كان قد بدأ يأخذ الشكل الدستوري المناسب”(52)، وهو هنا يشير إلى تشكل الرأي الفقهي حول مسألة الإمامة.
أما الأسس التي قامت عليها الديمقراطية الإسلامية العُمانية، فهي سبعة بحسب غباش:
الأول: مبدأ الإجماع والتعاقد، حيث يستند نظام الإمامة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع إلى مبدأ الشورى الذي يؤلف قانونا ثابتا إلزاميا.
الثاني: مبدأ الانتخاب الحر للإمام الذي لا يشترط انتماؤه إلى جماعة العلماء، ولكنه يقتضي أن يكون نزيها مستقيما بصرف النظر عن لون جلده أو انتمائه القبلي.
الثالث: الدستور، الذي مثل الإطار العام للإمامة ومؤسساتها كما نظم مسيرتها عبر الزمن، ولقد لبى على بساطته فضلا عن ذلك مقتضيات المجتمع، الإمامة والوطن، وشكل التعبير الحقيقي لروح الديمقراطية العُمانية. كما كان العلماء عبر التاريخ يمثلون المجلس التشريعي الدائم للدولة(53).
الرابع: مؤسسات الإمامة، التي يعتبرها الأولى من نوعها في العالم العربي والإسلامي منذ النصف الثاني للقرن الهجري الأول، السابع الميلادي وتتألف من مجلس للعلماء أو مجلس الشيوخ المعروفين تاريخيا بـ “أهل الحل والعقد”، ويرى أنها أثبتت مرونة وفعالية، وأنها وضعت الشروط الضرورية للمشاركة السياسية في السلطة، وتضمن الانسجام بين القيادة والقاعدة(54). المؤسسة الثانية تتمثل في الولاة الذين يسميهم الإمام(55). المؤسسة الثالثة تتمثل في القضاء المستقل الذي يضرب مثالا له إجبار القاضي للإمام الخليلي المثول أمامه وحكم عليه لصالح البدوي في قضية الجمل(56). المؤسسة الرابعة هي بيت المال(57). المؤسسة الخامسة هي الجيش، الذي يتم استدعاؤه عند اللزوم، يقول غباش: “رفض الإباضيون على الدوام وجود جيش محترف خشية أن تتجاوز الإمامة مهمتها التقليدية، وأن يتحول الإمام المنتخب إلى حاكم مستبد… ومن هنا مبدأ الاعتدال الذي تغذيه الشورى”(58). المؤسسة السادسة هي العلاقات الخارجية التي “يقتضي أن تحترم الإمامة مبدأ الاعتدال وترفض مبدأ الخروج: فلا هجوم ولا حرب ضد طرف آخر ما لم تتعرض الإمامة للهجوم”(59).
الخامس: مبدأ استقلال القضاء والمساواة أمام القانون(60). حيث يرى أن الشريعة المصدر الرئيس للتشريع، وأن التطبيق الدقيق لمبدأي الإجماع والتعاقد هما الضمان للفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية(61).
السادس: يتمثل في قانون الزكاة الذي يرفد بيت المال ويلبي مطلب المساواة الاجتماعية ويوكل الإشراف على حسن إدارته إلى العلماء(62).
السابع: هو ما عبر عنه غباش بـ “نقاط استناد”، وهي المتمثلة في “التركيبة القبلية” للمجتمع العُماني، حيث يرى أن المؤسسة القبلية هي “المؤسسة السياسية الأولى، المؤسسة الأكثر توقا للحرية وتعلقا بها”(63)، وأنها استجابت لمبدأ الإجماع والتعاقد، أي مبدأ الشورى والانتخاب الحر للإمام، هذا فضلا عن كونها مصدرا لقوانين العرف العربية ومستودع قيم الديمقراطية حتى في أدق الشؤون اليومية(64). وفي هذا الكلام رد ضمني على ادعاء ولكنسون بأن الإمامة “تعد بشكل كبير ترجمة دينية للتقليد القبلي، وهو التقليد المستند إلى لا مركزية السلطة”(65). وفي دفاعه عن القبيلة لا يبدو أن غباش كان مأخوذا بالرغبة في الانتصار على رأي المستشرقين و المنبهرين بهم من مثقفي العرب، بل هو يروم الموضوعية التي تتجلى في استدراكه بالقول إنه في “حال انعدام التوازن القبلي في الإمامة، غالبا ما تفرز إذ ذاك عصبيتها القبلية التي يمكن أن تسهم في إسقاط الإمامة نفسها(66).
كما أضاف غباش جوابا استشرافيا لاعتراض سيأتي بعد قرابة العقدين للمفكر الفلسطيني وائل حلاق الذي ذهب في كتابه “الدولة المستحيلة” الصادر عام 2013 إلى استحالة قيام دولة إسلامية بالمعنى الحديث، لتناقض مفهوم الدولة الحديث الذي يشترط وجود حدود قومية وقانون يصنعه البشر، بينما الإسلام هو دين عالمي متجاوز للحدود والقوميات وشريعته إلهية لا يمكن للبشر تغييرها(67)، فيجيب غباش على هذا الرأي بالقول إن “للدولة مفهومين متميزين، الأول هو مفهوم الدولة التاريخي التقليدي، والثاني هو مفهوم الدولة الحديث بالمعنى الحقوقي والدستوري كما ظهرت مع بداية القرن السادس عشر، الدولة الإباضية، دولة الإمامة، تأخذ استثنائيا من المفهومين”(68). ويضيف بأنه “على الرغم من أن مؤسساتها لا تعمل مثلا بموجب نصوص دستورية أو قوانين مكتوبة فإنها مع ذلك تعمل طبقا لقواعد دستورية وأعراف تقليدية بل شبه مقدسة لا يمكن تجاوزها أو اختراقها”(69). أي إن الدولة في التجربة العُمانية قائمة بحسب غباش على الأخذ بسمات الدولة التقليدية وشيء من مميزات الدولة الحديثة، فهي بالتالي في منزلة بين المنزلتين، وهذا ملمح آخر من ملامح فرادتها ومكامن الدهشة فيها.
وفي إطار الأعراف التقليدية المقدسة يشير غباش إلى ظاهرة تجاهل المؤرخين العُمانيين لسيرة الحكام المستبدين الذين لم يأتوا عن طريق الشورى ولم يحكموا بما أنزل الله ووصفهم بلقب “الجبابرة” المأخوذ من التعبير القرآني {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}الشعراء:130، ويعلل غباش هذه الظاهرة بالقول إن “المؤرخين العُمانيين قد يتجاهلون عمدا التأريخ لنظام غير شرعي في نظرهم، الأئمة الجبابرة أي اللادستوريين، وهكذا يحكم عليهم بالنسيان”(70). وهو تعليل لا يخلو كذلك من رد ضمني على ولكنسون الذي رأى في هذه الظاهرة محاولة لـ “إبراز صورة ذلك المجتمع بما يطابق العصر الذهبي للدولة الإسلامية الحقيقية”(71).
لقد كان حسين غباش من أوائل من أشار إلى أن التحول في نظام الحكم العُماني من الانتخاب إلى التوريث قد تم في بداية الدولة البوسعيدية وتحديدا مع الإمام أحمد بن سعيد (1741-1783م) (72). حيث استفاد الإمام أحمد بن سعيد من رصيده السياسي للوصول إلى الإمامة بطريقة استثنائية أخضع فيها التقاليد للسياسة وليس العكس(73). وهو ما تؤكده دراسة الدكتور محمد اليحيائي المعنونة “نظام الحكم في عُمان، من إمامة الانتخاب إلى السلطنة الوراثية”(74). وهو رأي مخالف لولكنسون الذي يكاد يقول إن التوريث هو الأصل في تاريخ الإمامة حيث يقول: “في الحقيقة كانت الإمامة دائما مؤسسة مرتبطة بالسلالات الحاكمة بشكل وبآخر، ومصدر المرجعية الدينية للعشيرة أو الأسرة الراغبة في توحيد الدولة القبلية”(75).
وبينما انتهى ولكنسون في دراسته إلى أن الإمامة في عُمان محكومة “بالزوال لسببين، أولهما: أنها هيكل سياسي يمثل التحول الديني عن الشكل القبلي للمؤسسات السياسية، وكان يسجل تراجعا واضحا في كافة أنحاء العالم في القرن العشرين، وثانيهما أن الإباضية حركة سلفية تدعو إلى العودة إلى الأصول التي لم تستمر كما كانت”(76)، خلص غباش إلى أن “التجربة الإباضية تبقى ميراثا وطنيا لا يقدر بثمن، لا بالنسبة للإباضيين وحدهم، بل أيضا وبالتأكيد لمجموع العُمانيين، إباضيين كانوا أم غير إباضيين، وتبقى كذلك تجربة عربية إسلامية رائدة”(77)، وأن الحركة الإباضية حاضرة وفاعلة في الحياة الدينية والاجتماعية، وأن استلهام التراث السياسي الديمقراطي العُماني الغني وتثميره يمكن أن يبعث نموذجا مميزا للديمقراطية العُمانية في العصر الحديث(78).
الثالثة: تاريخ عُمان الحديث والصراع الاستعماري الأوربي في المنطقة
انطلاقا من قاعدة ابن خلدون التي تربط العمران واجتماع الناس وتدافعهم بالجغرافيا(79). يقرر غباش قاعدة معرفية جديدة وهي ارتباط التاريخ بالجغرافيا السياسية قائلا: “غالبا ما تحدد الجغرافيا السياسة وتطبع التاريخ بطابعها” ويؤكد أن عُمان ليست استثناء من هذا القاعدة حيث “فرض الوضع الاستراتيجي لعُمان على شعبها أدوارا، بل وأعباء تاريخية مختلفة”(80). ثم يصف تحول عُمان من “دور الوسيط بامتياز بين حضارات بلاد ما بين النهرين وآسيا وأفريقيا”، إلى أن صارت “خلال الفترة الاستعمارية أحد أكثر البلدان إثارة للأطماع، ولم يلبث أن فرض على العُمانيين مواجهة ضروب التوسع والتحديات الإمبريالية”(81). بحيث وجد البرتغاليون المدفوعون بروح الحرب الصليبية “في عُمان بسبب موقعها الجغرافي الفريد المحور الأمثل لسيطرتهم على الخليج ولاستراتيجيتهم الموجهة نحو الشرق”(82). و”انطلاقا من بداية القرن السابع عشر تعاقبت على منطقة الخليج عدة موجات استعمارية: هولندية، فرنسية وإنكليزية، وكان التوسع العسكري والسياسي- الاقتصادي يستلهم استراتيجية طويلة الأمد تستند إلى أيديولوجية استعمارية ترى في الحضور الأوروبي مكسبا وضرورة للقوى الاستعمارية”(83).
وبينما خلص المستشرق الإنجليزي جون سي ولكنسون في دراسته إلى أن تجربة الإمامة الإباضية مرتبطة بفكر البداوة، وأعراف القبيلة العربية، ورفض التمدن(84)، وأن ما اسماه بـ”النهضة الإباضية” التي قامت مع جاعد بن خميس الخروصي (1734-1822م) في بداية القرن التاسع عشر لم تكن سوى محاولة سلفية للعودة للأصول كرد فعل على زيادة النفوذ الأوربي(85). فقد كان لغباش رؤية تاريخية أكثر عمقا وموضوعية حيث رأى أن لعُمان خصوصية تاريخية فريدة حيث إنها لا تقع فريسة لأطماع المستعمرين إلا في حالات التفكك الداخلي، ويرى أن التصدي لأطماع المستعمرين مرتبط بإحياء فكر الحركة الإباضية وهو ما حدث قبل الاستعمار البرتغالي وخلاله، حيث نجحت الحركة “بمثابرة مدهشة في المحافظة على ممارسة انتخاب الأئمة داخل البلاد، وتوجت جهودها أخيرا في بداية القرن السابع عشر بإقامة الإمامة اليعربية (1624-1741) في عُمان، وكان لهذه الإمامة الفضل في إنهاء الاحتلال البرتغالي وتحرير منطقة شرق أفريقيا وتأسيس الدولة العُمانية- الإفريقية”(86).
إلا أن الدولة اليعربية لم تسلم من التنازع والصراع الذي حتم زوالها، ويعلق غباش على هذا الحدث بالقول “فليس من قبيل الصدفة إذًا أن يكون التاريخ العُماني قد كف بعد زوال الدولة اليعربية وانحدار البلاد عن أن يكون تاريخ الحركة الإباضية وحدها، فلقد أعقب التخلي عن الإمامة تصدع في الهوية الوطنية والثقافية طيلة العصر الحديث”(87). كما يذكر أن سيرورة ظهور الكيان المعروف بـ”ساحل عُمان” لم يبدأ إلا بعد سقوط الدولة اليعربية وظهور الدولة البوسعيدية(88).
لقد عاشت عُمان بحسب غباش منذ منتصف القرن الثامن عشر فترة حاسمة، حيث دخلت “مرحلة الانتقال من نظام الإمامة إلى نظام السلطنة” بما فيها من تشكيل هوية وطنية جديدة على خلفية التنافس الاستعماري في المنطقة بين فرنسا وإنكلترا(89). في تلك الأثناء تمكنت الإمبراطورية البريطانية ابتداء من القرن التاسع عشر من الإشراف شبه الكلي على الخطوط البحرية للمحيط الهندي والخليج وإنهاء الدولة العُمانية- الأفريقية، مما تسبب في دخول عُمان مرحلة انحدار بارزة(90).
وقد أدى اختلاف أبناء الإمام أحمد بن سعيد الذي امتدت فترة حكمه أربعة عقود (1741-1783) إلى تقسيم عُمان إلى ثلاثة أقاليم كما ينص عليه اتفاق بركاء عام 1793م حيث يحكم سعيد بن أحمد الرستاق، وأخوه سلطان يحكم مسقط، وأخوهما قيس يحكم صحار، وبهذا التقسيم خرجت عُمان الموحدة -التي كانت موجودة لأكثر من 1500 سنة- من المسرح السياسي العالمي(91). وقد استغلت بريطانيا هذه الهوة بين الداخل العُماني ومناطق الساحل للاندساس فيها وتحويلها إلى انقسام سياسي وثقافي(92). وفي الأخير تمكنت هذه الاستراتيجية البريطانية “من القضاء على الازدهار الكبير الذي عاشته عُمان في عهد السلطان سعيد بن سلطان (1806-1856) ولا عجب، فعُمان القوية هي الخصم الإقليمي للقوة البريطانية”(93).
كما يؤكد غباش على أن الحركة الإباضية كانت القوة الوحيدة القادرة على مواجهة هذه الإمبراطورية البريطانية المتنامية، وأن “الإرادة العامة للعُمانيين كلما تبدى مأزق في السلطة القائمة تعبر عن نفسها بالالتفاف حول الحركة الإباضية التي كانت توفر بديلا تاريخيا ثابتا، ومن أجل إصلاح حال البلاد، ظهرت في هذا الاتجاه محاولات جدية تمثلت بشكل بارز بثورة عزان بن قيس (1869-1871) وثورة الخروصي (1913-1920). ولقد تمكنت بريطانيا من إفشال الثورة الأولى واحتواء الثانية بتوقيع معاهدة السيب 1920″(94). فقد كانت “الحركة الإباضية على موعد دائم مع التاريخ، وربما مثلت ثورة الإمام الخروصي (1913-1920) التي استمرت سبع سنوات أطول ثورة عرفها العالم العربي، ويبدو جليا أن التعلق بالاستقلال الوطني هو أحد ثوابت الفكر والثقافة للعُمانيين”(95). بيد أنه ومع “نهاية إمامة الخليلي (1919-1954م) انتهت الإمامة كمؤسسة وكنظام سياسي”(96).
يختم حسين غباش كتابه بالقول إنه يمكن الخروج بثلاث نتائج مهمّة “من دراسة التطور السياسي لعُمان: فأما الأولى فتدور على النموذج الأصيل للدولة الإسلامية الذي قدمه المذهب الإباضي منذ الأزمنة الأولى، وأما الثانية فلبّها ديمومة “الأسطورة” ومتانة التجربة الإباضية عبر التاريخ السياسي للبلاد، وأما الثالثة فهي عمق التراث الديمقراطي الذي خلفته الإباضية للثقافة العُمانية اليوم”(97). وأن “المنطق التاريخي والخصوصية الثقافية والواقع الاجتماعي- السياسي للعُمانيين، يردنا إلى الاقتناع بأن نظام الديمقراطية الغربي لا يمثل نموذجا مثاليا قابلا للتطبيق، أو حتى مرغوبا فيه حيثما كان، ولا سيما أن المجتمع العُماني كان قد تصور وصاغ نموذجا ديمقراطيا خاصا به، آخذا بالاعتبار المحيط الثقافي والديني، ولا شك أن هذا النموذج قابل للتكيف والتحديث تدريجيا في سياق الثقافة السياسية العُمانية”(98).
ملاحظات على الكتاب:
يمكننا اعتبار كتاب “عُمان الديمقراطية الإسلامية” لحسين غباش أحد أهم المراجع الفكرية والتاريخية لمفهوم الإمامة في الفكر الإباضي، كما أنه أحد أهم المراجع لتاريخ عُمان الحديث وعلاقة عُمان بالشرق والغرب ابتداء من القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن العشرين، وقد تميز الكاتب بسعة الاطلاع، والجدة في البحث والموضوعية في التعاطي، وعمق التحليل، والقدرة على استخراج القواعد والمبادئ التي يمكن أن تتأسس عليها نظرية سياسية إسلامية تتبنى الديمقراطية وتلتزم بالتشريعات والأنظمة الدستورية.
بيد أنه علينا الإقرار بأن الكتاب لم يخلُ من حماس لتجربة الإمامة العُمانية بحيث تعاطى الكاتب مع تلك التجربة كما ينبغي أن تكون لا كما كانت في حقيقتها، فبينما يورد غباش صورة وردية عن تجربة الإمامة العُمانية وأنها امتدت مع ما اعتبره “بعض الانقطاع” لمدة اثني عشر قرنا، نجد الشيخ عبدالله بن حميد السالمي وهو عميد المؤرخين العُمانيين ومؤسس دولة الإمامة الأخيرة عام 1913م يقول بالنص: “أجمع المسلمون على صحة إمامة الجلندى والوارث وغسان وعبدالملك والمهنا والصلت وسعيد بن عبدالله وراشد بن الوليد والخليل بن شاذان وعمر بن الخطاب وناصر بن مرشد وخليفته سلطان بن سيف وابنه بلعرب بن سلطان وعزان بن قيس”(99). فإن كان مجموع الأئمة إلى عهد عزان بن قيس هو 58 إماما، فإن نسبة الأئمة المجتمع عليهم وهم أربعة عشر إماما لا يتجاوز الـ 24% فقط، بينما أغلبية الأئمة الأربعة والثلاثين المتبقين والذين يشكلون قرابة الـ 76% إماما فهم مختلف في شرعية إمامتهم، ناهيك عن ما جاء في كتاب “كشف الغمة” الذي قال: “وأكثر ملوك عُمان أهل جور وفساد وظلم وعناد وعضدهم على ذلك رؤساء القبائل والظلمة من البدو والأراذل، وساموا أهل عُمان سوء العذاب، وساسوهم شر مصاب، وعموا بالظلم الكهول والشباب، وأكثروا فيهم القتل والضرب والاغتصاب”(100)، وهو هنا لا يقصد حكام الدولة النبهانية وحدهم بل حتى من بويع بالإمامة لأنه قال قبل ذلك بأسطر: “قيل إنه احتاج في بعض الأزمان ملك من ملوك اليعاربة من أهل وبل من الرستاق إلى قاض فلم يجد قاضيا من أهل الدعوة”(101). ويبدو أن غباش ذاته كان مدركا للعيوب الكبيرة التي صاحبت تجربة الإمامة لكنه نظر إليها من زاوية أخرى حيث قال: “على الرغم مما يعتري نظام الإمامة من قصور في بعض النواحي، ومن ضروب الشقاق التي يمكن أن تنجم عنه، فلقد بقي بالنسبة للعُمانيين مرجعا أساسيا للتوازن والوحدة قائما على مبدأ الشورى والإجماع، وبعبارة أخرى، قائما على قيم ديمقراطية أصيلة”(102).
كما أن الكتاب لا يخلو مما يمكن تسميته بـ “الاستقراء الناقص” حيث توهم غباش أن الفكر الإباضي لم ينص على منع تنصيب الإمام القاصر(103)، بالرغم من أن كتاب “المصنف” للكِندي الذي كان أحد أهم مراجع كتابه يقول بالنص: “وإمامة الصبي وإن كان مراهقا لا تجوز ولا تثبت لأنه رفع عنه القلم فلم يكن عليه حساب ولا عقاب كيف يحاسب الناس ويعاقبهم، فمن هذا لا تجوز إمامته والله وأعلم”(104)، وقد أشار ولكنسون في بحثه السابق على دراسة غباش إلى النصوص الإباضية التي عالجت هذه المسألة كما نقل من جامع ابن الحواري نصا عن عدم جواز مبايعة الصبي(105).
وقد مايز غباش بين ما اسماه تيارات إباضية معتدلة نشأت على الساحل في حضن دولة البوسعيد وبين التيارات المحافِظة التي ظلت في داخل البلاد في المجتمعات التي حاولت إحياء الإمامة”(106)، دون أن يورد ما يدلل على صحة هذا الممايزة، ولعل ذلك يرجع إلى أن هذه الممايزة كان قد سبقه إليها ولكنسون الذي سمى عدة علماء اعتبرهم القادة الأوائل لهذه الحركة المعتدلة في المناطق التابعة لدولة البوسعيد، وهم القاضي أبو سليمان محمد بن عامر المعولي، وسالم بن سعيد الصايغي، ومهنا بن خلفان بن محمد البوسعيدي، وحمد بن خميس السعدي أخ جُميّل بن خميس السعدي مؤلف كتاب “قاموس الشريعة”(107).
كما أن الكاتب قد وقع في فخ مصطلح “الإمام الضعيف” في وصفه إمامة عزان بن قيس حيث قال: “ولكن بيعة عزان كانت بيعة الإمام الضعيف. لماذا؟ لأن الإمام إذا لم يكن عالما لم يكن في وسعه -حسب الدستور الإباضي- أن يحصل على بيعة الشراء، أي بيعة الإمام القوي”(108)، وهذا المصطلح هو من اختراعات ولكنسون الذي مثّل على الإمام الضعيف بنموذجين فقال: “من أروع الأمثلة على تعيين مثل هذا الإمام في العصر الحديث اختيار عزان بن قيس في 1868 وهو أحد أفرع البوسعيديين بالرستاق للإطاحة بالسلطان وإعادة الإمامة، وسبقه في ذلك الجلندى بن مسعود على الرغم من أن الفقهاء يحاولون طمس هذه الحقيقة”(109). ويبدو أن ولكنسون قد اشتبه عليه كلام أبي الحسن البسيوي الذي قال: “إن الإمامة على ضربين: إمامة شراء، وإمامة دفاع، فأما الشراء فينقسم على قسمين، الأول: فإمام شراء عالم من العلماء، بصير مميز قوي ورع على ما يؤمر به من صفات الإمامة. والقسم الثاني: فإمام عنده ما يتولى ببصر نفسه، ويبرأ ببصر نفسه، إلا أنه ضعيف في الشريعة والأحكام، فقد قيل: إنها تجوز إمامته، إذا كان قويا ورعا”(110). وجلي عن القول أن الضعف المقصود في كلام البسيوي إنما هو ضعف نسبي في الفقه، وليس ضعفا في الشخصية ولا في القيادة فضلا عن أن يكون تجريدا من النفوذ كما توهم ولكنسون وغباش من بعده.
إن مسألة أنواع الإمامات في الفكر الإباضي هي قضية غاية في التعقيد، وقد يعذر كل من غباش وولكنسون على الخلط فيها لاختلاط هذه الأنواع حتى على بعض محققي الإباضية كما نرى من تعليقات أبي إسحاق إبراهيم أطفيش على كلام يحيى الجناوني (ق 5هـ) الذي ربما يكون هو أول من قسم الإمامات الإباضية في ما سماه مسالك الدين فقال: “وللدين قوائم وأركان ومسالك ومجارٍ وحدود وأفراز وأحراز … ومسالكه أربعة: الظهور كأيام أبي بكر وعمر، والدفاع كأيام عبدالله بن وهب الراسبي، والكتمان كأيام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة وجابر بن زيد -رحمهما الله-، والشراء كأيام أبي بلال مرداس بن حدير”(111). فإمام الظهور يبايع حين تكون الدولة قائمة والمجتمع راسخ، وإمام الدفاع هو الإمام العسكري الذي يبايع حفظا للجماعة إلى أن تترسخ الدولة، أما إمام الشراء فهو شخصية فدائية يقود المستضعفين للخروج من أرض الجور، أو يقود الشراة لنصرة المستضعفين في الأرض، أما إمام الكتمان فهو القائد الذي يبدأ في تنظيم الصفوف في وقت انكسار شوكة المسلمين وتسلط المحتلين أو الطغاة الجبارين، فتوهم ولكنسون أن إمام الظهور إما أن يكون شاريا فيكون بذلك قويا أو يكون غير شارٍ فيكون بذلك إمامًا ضعيفا يتحكم به العلماء، وتوهم غباش على أثره أن عدم أعلمية الإمام تجعل منه إماما ضعيفا.
بالإضافة إلى أن هناك عدم ضبط في أسماء المدن العُمانية حيث كتبت مدينة بهلا “بهلة”، وكتبت مدينة المنترب “المنتيرب”(112)، وكتب اسم مفتي عُمان في الإهداء حمد بن أحمد الخليلي، والصحيح أحمد بن حمد الخليلي، ولعل عدم الضبط في الأسماء ناتج من عدم مراجعة أحد من العُمانيين لمخطوطة الكتاب قبل النشر.
أخيرا، يمكننا القول إن هذا الكتاب يمثل مصدرا معرفيا للباحثين في الفكر السياسي الإسلامي، ومرجعا تاريخيا للمهتمين بالتاريخ العُماني وللدارسين لتاريخ المنطقة، كما أنه موسوعة توثيقية مهمة للمشتغلين بالعلاقة بين الشرق والغرب والراصدين لسلوك القوى الإمبريالية الغربية في المنطقة العربية، وقد تمت صياغته بلغة علمية رصينة، وسبك لغوي بديع لا يخلو من شاعرية في بعض التراكيب والجمل والفقرات، وهو يعبر عن روح إبداعية تعتز بأصالتها، وتنفتح على منتجات الحداثة دون فقدان هويتها ولا استلاب مرجعيتها العربية والإسلامية.
1 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 28-29.
2 – حسين عبيد غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ترجمة أنطوان حمصي، طبع دار الجديد، بيروت، ط1 سنة 1997، ص 11.
3 – زكريا المحرمي، العقل الحكمة وصناعة الأفكار، توزيع قراء المعرفة، ط1 سنة 2021، ص 158-160.
4 – حسين عبيد غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص40.
5 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 67.
6 – سلمة بن مسلم العوتبي، الأنساب، تحقيق محمد إحسان النص، ط4 سنة 2006، المجلد الثاني ص 765.
7 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 36.
8 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 67.
9 – هيجل: العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، ط3 2007، ص 67-77.
10 – Hayden White, Metahistory, The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe, Fortieth-Anniversary Edition, Johns Hopkins University Press Baltimore. Published 1973, 2014. P 10-20
11 – هيجل: العقل في التاريخ، ص 68.
12 – حسين عبيد غانم غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث (1500-1970)، دار الجديد، بيروت، ط1 سنة 1997، ص 27.
13 – زكريا المحرمي، العقل الحكمة وصناعة الأفكار، قراء المعرفة، مسقط، ط1 سنة 2021، ص7.
14 – حسين عبيد غانم غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 28.
15 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 355-374.
16 – محمد اليحيائي، نظام الحكم في عُمان من إمامة الانتخاب إلى السلطنة الوراثية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1 سنة 2021، ص22.
17 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 28.
18 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 282.
19 – جون سي. ولكنسون: الإمامة في عُمان، ترجمة الفاتح الحاج التوم وطه أحمد طه، الأرشيف الوطني، أبوظبي، ط3 2010، ص 21.
20 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 242.
21 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 12.
22 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 13.
23 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 13.
24 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 14.
25 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 14.
26 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 14.
27 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 15.
28 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 15-16.
29 – محمد عابد الجابري، وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2 سنة 1994، ص 104.
30 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص281. النص الأصلي “Ibadi secular law follows precisely this approach and essentially pragmatic”
31 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 16.
32 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 16.
33 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 17.
34 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 17-18.
35 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 18.
36 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 18.
37 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 20.
38 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 24.
39 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 18.
40 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 18.
41 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 19.
42 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 19-20.
43 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 27.
44 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 24-25.
45 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 345.
46 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 27.
47 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 209.
48 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 25.
49 – جون سي. ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 20.
50 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 21 .
51 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 22.
52 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 16.
53 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 21-24.
54 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 78-79.
55 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 79-80.
56 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 80-81.
57 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 81-82.
58 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 82.
59 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 83-84.
60 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 80-81.
61 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 24.
62 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 81-82.
63 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 23.
64 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 23.
65 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 18.
66 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 24.
67 – وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، طبع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1 سنة 2014.
68 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 78.
69 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 78.
70 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 116.
71 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 20-21.
72 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 135.
73 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 130.
74 – محمد اليحيائي، نظام الحكم في عُمان، ص 178.
75 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 23.
76 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 130.
77 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 349.
78 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 349.
79 – عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق درويش الجويدي، طبع المكتبة العصرية، بيروت، ط2 سنة 2000، ص49-88.
80 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 25.
81 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 25.
82 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 25.
83 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 26.
84 – ولكنسون، الإمامة في عُمان، ص 58.
85 – ولكنسون، الإمامة في عُمان، ص 329.
86 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 25-26.
87 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 182.
88 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 163.
89 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 26.
90 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 26-27.
91 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 138.
92 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 138.
93 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 341.
94 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 27.
95 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 342.
96 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 349.
97 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 345.
98 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 349.
99 – عبدالله بن حميد السالمي، جوابات السالمي، تنسيق ومراجعة عبدالستار أبو غدة، الطبعة الثانية 1419هـ 1999م، ج6 ص 158.
100 – سرحان بن سعيد الأزكوي، كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة، تحقيق حسن النابودة، دار البارودي، بيروت، ط1 سنة 2006، مج 2 ص 945-946.
101 – سرحان بن سعيد الأزكوي، كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة، المجلد 2 ص 945.
102 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 181.
103 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 76.
104 – أحمد الكندي، المصنف، تحقيق مصطفى بن صالح باجو، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية سلطنة عُمان، ط1 سنة 2016، المجلد 7 ج 10 ص 307.
105 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 239.
106 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 134 و138.
107 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 330.
108 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 219.
109 – ولكنسون: الإمامة في عُمان، ص 225.
110 – أحمد الكندي، المصنف، تحقيق مصطفى بن صالح باجو، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية سلطنة عُمان، ط1 سنة 2016، المجلد 7 ج 10 ص 310.
111 – حيى ابن أبي الخير الجناوني، تعليق إبراهيم اطفيش، نشر مكتبة الاستقامة، سلطنة عُمان، ط 6، ص 28-29.
112 – غباش، عُمان الديمقراطية الإسلامية، ص 34.