تمهيد:
العنوان الأصلي لهذه الرواية هو (The Doomed Oasis) للروائي البريطاني المعاصر هاموند إنيس Hammond Innes تدور أحداثُ الروايةِ في عمان خلال الخمسينيات من القرنِ الماضي، ولهذا فإنها تُشكّل أهميةً قُصوى للأدبِ العربي الذي غضّ الطرفَ سردًا وشعرًا عن هذا الضّلعِ القَصيّ من جَسَدِ الأُمّة، خاصةً في تلك الفترةِ الزمنية الحرِجةِ التي كان مصيرُ العمانيين فيها يغلي على مَراجلَ لا وقودَ لها إلا النفط والآخِرة! سأقدم في هذا العمل نبذةً عن الروائي هاموند إنيس، وعن روايته »عمان: الواحة الذاهبة«، كما سأترجم فصلا منها لتعريف القارئ العربي بها، على أملِ أن تتم ترجمةُ الرواية كاملةً في المستقبل القريب.
هاموند إنيس (1913-1998)
روائيّ بريطاني من أصل اسكتلندي، وُلد سنة 1913 في هورشام، في منطقةِ سسيكس، جنوب إنجلترا. تلقّى تعليمَه العامَّ في مدرسةِ كرانبروك، وتخرج في جامعةِ كينت سنة 1931. من 1934 إلى 1940 عمل كصحفي في جريدة فاينانشل نيوز (أصبحت فيما بعد فاينانشل تايمز). في سنة 1937 تزوّج دورثي ماري لانج، الممثّلة وقريبةَ الشاعر والروائي الاسكتلندي الشهير، السيد وولتر سكوت. روايةُ إنيس الأولى، الطيف النذير، ظهرتْ في عام 1937، وبعدها نشر مجموعةَ رواياتٍ من أهمها: الكارثة الجوّيّة 1937، برنامج التّخريب 1938، حصان طروادة 1904.
عندما اندلعت الحربُ العالمية الثانية، تطوّع إنيس للبحريّة البريطانية. خدم في المدفعيّة الملكيّة (1904-1946)، أوّلاً كضابط مدفعيّة، ثم ترقّى إلى رائد في الجيش الثّامن. أثناء هذه الفترة نُشِرَتْ بعضُ أعماله عَلَى شكل حلقاتٍ في صحيفة ستردي إيفنينج بوست Saturday Evening Post، في الولايات المتّحدة. في سنة 1941 نشر إنيس روايةً، عنوانُها نذير الغزو، وكانت الروايةَ الوحيدةَ التي تناولتْ حرب بريطانيا، وكُتبتْ تحت خطّ النار. قبل الحربِ العالميّة الثّانية كان قد كَتب روايةَ (ميّت وحيّ)، التي ظهرتْ في عام 1946 وتحدثتْ عن السّوقِ السّوداء لروما ونابولي. بعد الحرب ترك الصّحافةَ ليتفرّغ كليا للكتابة، فكان غزيرَ الإنتاج، نشر ما يربو على ٥٣ رواية. وأصبح أحدَ كتّابِ الروايةِ المُثيرةِ، الأكثرَ شعبيّة، خاصةً أنه أخذ ينشر أيضًا أدبَ الأطفال تحت اسم رالف هاموند.
في السّتينيّات بدأ إنيس قضاءَ وقتٍ أكثر في الاشتغالِ على مواضيع رواياته، وهذا حَدَّ من سرعةِ النشر التي عرفها منذ الثلاثينيات. كان عادة يقضي ستّةَ أشهر في السفر، واكتشافِ الأماكن الجديدة، ويقضي ستّة أشهر أخرى في الكتابة. بعد رجوعه من التجوال عبر البحار، تشكل لديه اتجاهٌ قوي للحفاظ على البيئة، فبدأ في شراء الأراضي من سفولك، وويلز، وأستراليا، لحماية الطّبيعة وغرس الأشجار. في الثّمانينيّات ظهرتْ هذه النزعةُ جليةً في أعماله؛ المظلة العالية (1958) تناولتْ صحراءَ كلوندايك في كندا، والتيار الأسود (٢٨٩١) كانت روايةً عن التّلوّث.
من أعمالِ إنيس الهامة، والتي تُرجمتْ إلى أكثر من ثلاثين لغة: المتزلج الوحيد (1947)، الثّلج الأزرق (1948)، مملكة كامبيل (1952)، حطام ماري دير (1956)، الغضب الأطلسي (1962). ومن رواياته أيضا ما حُوِّل إلى أعمالٍ فنية في الإذاعة، والتلفزيون، والسينما. روايته صخرة مادون (1948) حُوِّلتْ إلى مسلسلٍ إذاعي في (ال بيبي سي)، وروايتُه المتزلج الوحيد تحولت إلى فيلم بعنوان المُحاصَر بالثلج.(Snowbound ) في سنة 1959، قامــتْ هوليــوود بتحويــل روايتِه حطــام مــاري دـير The Wreck of the Mary Deare إلى فيلم سينمائي، قام ببطولته تشارلتن هوستن Charlton Heston، وغاري كوبر Gary Cooper، ومايكل ردجريف.Redgrave Michae وقد أخذتْ الروايةُ، وكذلك الفيلم، هذا العنوانَ من اسم اليخت الذي كان يمتلكه إنيس، واستقلّه هو وزوجته في رحلةٍ طويلة طافا خلالها بشطآن بريطانيا وأوروبا. مُنِحَ إنيس عدّةُ جوائز، منها جائزة سي. بي. إي. (قائد، وسام الإمبراطوريّة البريطانيّة) في عام 1978، وجائزة (بوتشيركون، إنجازٌ مدى الحياة) في عام 1993. كما حصل على دكتوراه فخرية في الأدب من جامعة بريستول سنة 1958.
ملاحظاتُ النقادِ حول أعمال إنيس متباينة. ترى آن إيفوري أنّ الروايةَ عند إنيس »تجمعُ بين التشويق والمغامرة…. وأنها تتميّزُ بالسرعةِ، والإثارةِ، والمَشاهدِ المسرحيةِ، والدراما الحُرّة.«(٢) ويرى دينيس باركر بأن أبطالَ رواياتِ إنيس »رجالُ فعلٍ، لا تفكيرٍ. دُهاةٌ، رُواقيّون، من الطبقةِ الوسطى والمحافظة، يُحاربونَ، بعيونٍ ماكرةٍ تُطاردُ سلباً نازياً، لإقْرارِ قِيَمِ الحضارةِ ضدّ الأوغادِ الطمّاعينِ.« ويَخلُص باركر إلى أنّ إنيس »ليس فقط كاتبَ روايةِ إثارة، وإنما بالأحرى كاتبُ مُغامرةٍ رومانسيةٍ من طِرازِ رايدر هاجارد، وروبرت لويس ستيفنسون، وروديارد كيبلينج«.(٣) ويرى جون ويكمان بأنّ أبطالَ إنيس »ليسوا مثاليين ولا استثنائيين، ولكنهم بشرٌ وجدوا أنفسَهم في صراعٍ مع بيئاتِهم-البحر، والقطب الجنوبي، والصحراء- تماما كما يتصارعون مع بني جنسهم«.(٤) ويُلخِّصُ تريفور رويل رأيَه حول سَرْدِ إنيس قائلا: »نثرُه تقليدي، لكنّ وعيَه بالمكان، وقدرتَه على نَفخِ الحياة فيه قادرٌ على نقلِ القارئِ إلى أماكنَ قصيةٍ في العالم.«(٥).
عُمان، الواحة الذاهبة:
نُشرتْ هذه الرواية لأولِ مرة سنة 1960 في لندن، عن طريق دار النشر كولينز (Collins)، وفي نيويورك، عن طريق دار النشر نوبف Knopf، ثم أُعيد نشرُها إحدى عشرةَ مرة، كان آخرُها سنة 1998 عن دار النشر بان بوكس Pan Books في لندن. الرواية باختصارٍ شديد تدورُ حول شخصيتين هما تشارلز ويتكر، وابنه ديفيد. ويتكر رجلٌ من ويلز يتركُ موطنَه ليستقرَّ في الرُّبعِ الخالي، ويصبحَ مُسلِمًا، ويتكيفَ مع حياةِ الصحراء أكثرَ من البدو أنفسِهم (لنتذكرْ هنا رحّالةً بريطانيين، مثل لورانس، وجون فيلبي، وويلفريد ثيسيجر). ابنُه غير الشرعي ديفيد، يلحقُ به باحثا عنه بدافعِ القتل والانتقام، لتخليه عنه صغيرا. ثم يتبعُهما مُحامٍ ويلزي اسمُه أوبيري جورج جرانت ليجمع بينهما، ويحولَ دون ارتكابِ ديفيد جريمةَ قتل. تتحركُ الروايةُ في مستويين: المستوى الأول وهو الأهم، صراعٌ مستميتٌ لإنقاذِ واحةٍ في الربع الخالي يَرمِزُ لها إنيس باسم (صُرَيْفَة). كانت الواحةُ مهدَّدةً بالزوال، ما لم يُكتشفْ فيها النفط، لأن أميرَ بلدةٍ (دولةٍ!) مجاورةٍ لها، تُسمّى رمزيًّا (الحد) يسعى إلى تدمير أفلاجِها، وهي المصدرُ الرئيسي للحياة فيها. المستوى الثاني للرواية، وهو هامشي، رحلةُ ولدٍ يسعى إلى الالتقاءِ بأبيه.
تتكون الروايةُ من ثلاثةِ أقسام: القسمُ الأول بعنوان »الجلسة الأولى للمحكمة«، وهو لا يتعدى أربعَ صفحاتٍ، تصفُ مشهدًا للمحكمةِ التي نُصبتْ في البحرين، قبل الاستقلال!، لديفيد تشارلز ويتكر، مُتَّهَمًا بمقتلِ أبيه، بحضور المحامي أوبيري جورج جرانت، كشاهدٍ للادّعاء. حيث طَلبتْ منه المحكمةُ إدلاءَ شهادته، والتي ستكون مادةَ الرواية.
القسم الثاني، وهو معظم الرواية، بعنوان »الحقيقة الكاملة«. ويتكون من ستةِ فصول:
الفصل الأول (الهروب إلى صُرَيْفَة)، ومجملُ أحداثِه تقع في كارديف عاصمةِ ويلز، الموطنِ الأصلي لبطلي الرواية تشارلز ويتكر، وابنه ديفيد. وأهم حدثٍ فيه هو هروبُ ديفيد عبرَ سفينةٍ تعوّدتْ أن تُتاجرَ من كارديف إلى موانئ الجزيرة العربية. وفي قصة هذا الهروب نعلمُ أن ديفيد يصلُ إلى مسقط، وفيها راودته فكرةُ الهروبِ إلى الصحراء، لولا أنه عَلِم من أحدِ طاقمِ السفينة بأنْ لا منفذَ من مسقط إلى داخل عُمان، بحُكمِ جبالِها وبواباتِها. ونعلم أيضا أنه اتجه إلى رأس الخيمة ليُقِلَّه مركبُ السمبوق العربي إلى مكانٍ نفذ منه عن طريق اللاندروفر إلى الربع الخالي.
الفصل الثاني (تحقيقات الوصي)، وفيه نعلم أن ديفيد وصل إلى صُرَيْفَة، وأنه التقى بأبيه، كما أن أختَه سوزان التحقتْ بمستشفى في دبي كممرضة. ومن رسالةٍ أرسلها إلى أوبيري جورج جرانت، والذي طلب منه أن يكون وصيَّه بعد موته، نقرأُ انطباعَه عن المنطقة وهدفَه من البقاء فيها »…أنا متأكد بأن صُرَيْفَة ستجني ثمار جهودي. هذه الواحةُ تخوضُ معركةً خاسرةً ضدَّ الصحراء. وبدون المالِ فإنها هالكة. لقد قضيتُ فيها أمتعَ ستةِ أشهرٍ من حياتي«. أهمُّ حدثٍ في هذا الفصل هو ضياعُ ديفيد في متاهات الربع الخالي، وتضاربُ الأنباء عنه بأنه مات في الرمال. كما نعلم أيضا أن وصيّه أوبيري جرانت لحق به ليحققَ في قضية موته.
الفصل الثالث (الربع الخالي)، وفيه تبدأ رحلة جرانت إلى صُرَيْفَة في الربع الخالي بحثا عن ديفيد. ونعلمُ في هذا الفصل بأنّ تشارلز ويتكر تنكّر لابنه وعامله كخصم، رغم أن ديفيد كان ينظر إليه بقداسة، ويبجّلُ رؤيتَه حول مستقبل المنطقة:»في الربع الخالي، في الرمالِ، كان يحلمُ بأعمالِ التنقيب، من أجلِ أن يُثبتَ نظريةَ والده. كان يؤمن بأنّ النفطَ هو الأمل الوحيد. وإذا ما تم اكتشافُه هناك، فإن ذلك سيُدِرُّ المالَ الذي سيعيد بناءَ الأفلاج«.
الفصل الرابع (الواحة الذاهبة)، ويتمركز حول وصول أوبيري جرانت إلى صُرَيْفَة. يدور حديثٌ هام ومطوّل في هذا الفصل بين جرانت والكولونيل ويتكر، نتعرّفُ من خلاله على المشكلةِ الحقيقيةِ لهذه الواحة الصحراوية، وهي أنها مهددةٌ بالموت لأنّ أفلاجها، وهي شريانُ الحياة فيها، تنقطّعُ من حينٍ لآخرَ إما بعاملِ الرمال التي تُسْفيها ريحُ »الشمال« من الربع الخالي، وإما بعاملِ التدمير الذي يلحقه بها أهل إمارة الحد المجاورة لها. ويتكر يؤمنُ بأن الحل والمستقبلَ الأفضلَ يكمنُ في اكتشافِ النفط في صُرَيْفَة، ومع أنه ضلّ يحفر وينقّبُ فيها رَدْحًا من الزمن دون جدوى، فإنه مُصرٌّ على أن أعماقَها واعدةٌ به. ويخالفُه الرأي بعضُ المنافسين له في التنقيب من عمال »شركة تنمية حقول نفط عُمان«، الذين يرون أن ويتكر يُهدِرُ المال والوقت، وأنه يحفر في أرضٍ يَباب. ويشيرون إلى أنّ مكانَ النفط الحقيقي هو منطقةُ الحدود بين صُرَيْفَة والحد. وهنا تبرز عقدةُ الصراعِ بين الإمارتين، والتي ستؤدي إلى نشوبِ الحربِ بينهما، كما ستتطور الأحداثُ في الفصول اللاحقة.
الفصل الخامس (الرمال المتحركة لأم السميم)، وفيه نعرفُ بأن ديفيد لم يمتْ، كما كان شائعا، ولكنه كان متخفيا مع رجلين من قبيلة وهيبة في أم السميم في أعماقِ الربع الخالي، بالتنسيق مع خالد ابن الشيخ محمود أمير صُرَيْفَة. تتصاعد الأحداثُ هنا بنقلِ الكولونيل ويتكر مشروعَ التنقيب إلى الحدودِ الفاصلةِ بين صُرَيْفَة والحد، وكانت النتيجةُ نشوبَ الحرب بينهما. في غضون ذلك يُدبّرُ خالد إرسالَ مجموعةٍ سرية من البدو، وينضم إليهم أوبيري جرانت متخفيا في لباسٍ بدوي، تنطلقُ من صُرَيْفَة إلى أم السميم حيث يختبئ ديفيد، بدلالةِ سالم بن جعروف الدرعي. مهمةُ جرانت كانت إخبارَ ديفيد بأمرِ الحرب، ومحاولةَ إقناعِه بالتوجه إلى أبيه كي يكفَّ عن التنقيب في المنطقة التابعة للحد. ديفيد يقرر القتالَ ضد »الحديين« حتى الموت، فيشكّلُ كتيبةً من رفاقِه البدو ويتّجه إلى قريةٍ في الربع الخالي تسمى »الذيد«. هناك يعلم بأنّ الحديين قد نكّلوا بأهلِ صُرَيْفَة الذين لم تفلحْ أسلحتُهم التقليدية في مقاومة الأسلحة الرشاشة والمتطورة لأهل الحد. وأُشيعَ في الذيد بأنّ صديقَه الحميم خالد قد قُتل. يخرج ديفيد، ومعه رفاقه، من الذيد متجهين إلى »فلج محضة«، الفلج الوحيد الذي سلم من تدمير الحديين، وفي الطريق يلتقون بقافلةٍ من قبيلة الجُنَيْبيّين، ويخبرهم هؤلاء بأنّ الشيخَ محمود قد مات، وقد خلفه أخوه سلطان على إمارة صُرَيْفَة. حينها يقرر ديفيد الهجومَ على الحد وتدميرَ آبارِها نكايةً بما فعلوه بصُرَيْفَة، وفي طريقه يمر بمخيم أبيه الكولونيل ويتكر، ويحدث الصدامُ بينهما مرة أخرى؛ الأب يميل إلى السّلم والمحاولةِ في التنقيب عن النفط، والابنُ يصممُ على الثأر من الحديين والانتقامِ لخالد وأهل صُرَيْفَة. بعد محاولةٍ يائسة من ديفيد في أبيه كي يزودَه بالرجال، يقرّرُ الذهاب بأربعةٍ من بدو وهيبة، ومعهم المحامي جرانت، إلى الحد، ويتسللون إلى »مفتاحها«، وهو ما يرمز له في الرواية ب«قلعة الجبل الأكبر«؛ لأن من يملك هذه القلعةَ يملك الحد.
الفصل السادس (قلعة الجبل الأكبر)، ويتمحور حول استيلاءِ ديفيد ورفاقِه الخمسةِ على هذه القلعة الاستراتيجية في الحد. تحاصرُهم قوةٌ من قوات الأمير عبدالله، أمير الحد، ويستحرُّ القتال بهم، فلم يبقَ لهم خيارٌ إلا أن يقاتلوا حتى تنفدَ ذخيرتُهم، أو ينفدَ الماء من القلعة، والهلاكُ في كلتا الحالتين. تتطورُ الأحداثُ هنا بأن يتسللَ أوبيري جرانت ويقررَ الذهابَ إلى البريمي بهدفِ الاستعانةِ بالقوات البريطانية المرابطةِ هناك، وهي الآر إي إف.(RAF ) في الطريق يفضّلُ جرانت التوجهَ إلى معسكر الكولونيل ويتكر، لكونِه أقربَ من البريمي، ويطلعه على الأمر الصعب الذي يمر به ديفيد ورفاقُه، خاصة وأن اثنين منهم قد قُتلا. ويتكر يرفضُ نُصرةَ ابنه لعصيانِه له واتخاذِه طريقا فيه كل التحدي لأفكاره، والسلطاتُ البريطانيةُ ترفضُ التدخلَ احتسابا للرأي الدولي، ولأن أمير الحد تناصره بعضُ الدول العربية. الجديرُ بالذكر هنا أن وسائلَ الإعلام البريطانية تلقفتْ قصةَ ديفيد هذه وتحصنِه بالقلعة باهتمامٍ بالغ، بل إن البيبي سي أذاعتْ بأن وزيرَ الخارجية البريطاني تعرّض لسؤالٍ حول هذه القضيةِ من قِبَلِ مجلسِ العموم. إنقاذا لديفيد يذهب جورج جرانت، ومعه الكابتن بيري قائد (حرس ساحل عُمان المتصالح)، لمقابلةِ الشيخ عبدالله، أمير الحد، وإقناعِه بالحلِّ السلمي عن طريقِ دخولهما للقلعة ومطالبةِ المجموعةِ بالاستسلام. يوافقُ الأمير، ويدخلُ جرانت وبيري القلعةَ، لكن المساومةَ لم تنجح؛ لأن ديفيد قرر الاعتصامَ بالقلعة حتى يحققَّ أمير الحد شروطَه، أو تستجيبَ السلطاتُ البريطانية لطلبه بنصرة صُرَيْفَة. يغادرانِ القلعةَ، ويسمعانِ وراءهما إطلاقَ النار عليها من قبل قوات الأمير. تتصاعدُ الأحداثُ هنا بإرسالِ جورج جرانت تقريرا عن القصة برُمّتِها إلى الصحافة البريطانية، مما أثار ضجةً عارمةً أجبرت السلطاتِ البريطانية على اتخاذِ قرارٍ بتوجيه قواتِها في الخليج وعدن إلى صُرَيْفَة لتحريرِها من الحديين، وإنقاذِ مُواطنِها ديفيد. لكن الهجومَ لم يقعْ لأن أمرًا ما حال دونه، وهو مقتلُ الكولونيل تشارلز ويتكر، أثناء محاولتِه الصعودَ إلى القلعة لإقناعِ ولده بالاستسلام. ينتهي هذا القسم من الرواية باعتقالِ ديفيد متهمًا بقتلِ أبيه الكولونيل.
القسم الثالث (المحاكمة تتأجل)، وهو عبارة عن صفحاتٍ قليلةٍ تحكي قصةَ محاكمةِ ديفيد في البحرين، وكأن الروايةَ عبارة عن جلساتِ محاكمة، تخللتْها روايةُ أوبيري جورج جرانت للحدث كشاهدٍ للادعاء، وهو ما يشكل صُلبَ هذا العمل كما ذكرت. تتكشفُ هذه المحاكمةُ عن أنّ مقتل الكولونيل ويتكر يرجعُ لسببين لا ثالثَ لهما؛ إما أن ديفيد قد قتله، وإما أنه انتحر بنفسه. في الوقت الذي تأجّلتْ فيه المحاكمة استئنافا للاستجواب، يحدُثُ أنّ ديفيد يهربُ من الاعتقال، عن طريقِ مجموعةٍ من رفاقه البدو، وبهذا تسقط قضيتُه، لنعلمَ لاحقا بأنه استقر في صُرَيْفَة، يقود مجموعةً من بدو وهيبة والعوامر، وأن الأفلاجَ قد عادتْ إلى الواحة بسببِ اكتشافِ النفط فيها، مما جلب إليها الأمن والرخاء.
من المُؤكد أن هاموند إنيس كتب هذه الروايةَ عَقِبَ زيارته لعمان سنة 1954، حيث يذكر نيل مكليود إنيس، في مذكراتِه الشخصية »وزير في عُمان«، بأنه استقبل هاموند إنيس في مسقط، وأنه -أي هاموند- رافق السلطان في زيارتِه لرأس الدقم لتدشين مشروع التنقيب عن النفط في المنطقة. ليس هذا فحسب، ولكن نيل مكليود ينصُّ على أن هاموند كتب روايتَه هذه بناء على زيارته للمنطقة، وأنه بعد الانتهاء من كتابتِها أرسلها إليه طالبا منه »أن يدقّقها من حيثُ صبغتُها المَحلّيةُ، والضبطُ الإملائي للأسماء، والتعبيراتُ العربيةُ الواردة فيها«.(٦)
إذن إنيس استفاد من زيارته تلك في التعرّفِ على المنطقة ليس من حيث جغرافيتها فقط، والتي تتجلى ببراعةٍ في الوصفِ الرمزي لأماكن الصراع، خاصة صُرَيْفَة والحد وهما محورا الأحداث في الرواية، ولكن أيضا من حيث خصوصيةُ تاريخ المنطقة في الخمسينيات. فالنزاع بين عُمان والسعودية على البريمي في ذلك الوقت لم يكن ببعيدٍ عن مُخيّلة إنيس وهو يدير صراعَ الأحداث في روايته بين إمارة صُرَيْفَة وإمارة الحد. كذلك الصراع حينها بين معسكري مسقط و»عُمان الداخل« يتجلى بوضوح في الرواية. ومع أنّ هذه الأحداث التاريخية ألقتْ بظلالها على عمل إنيس، إلا أن الثيمةَ المحوريةَ للرواية تتجاوز الزمان والمكانَ، المستعارين أصلا لخَلقِ الأحداث. فمن الصعب التكهنُ بالاسمِ الحقيقي لكل من صُرَيْفَة والحد، وإن كانت الأحداثُ تجعل القارئَ المتسرّعَ يبادر بالظن بأن الواحةَ هي واحة البريمي، وأنّ إمارةَ الحد هي رمز للسعودية، للنزاع المعروف بين عُمان والسعودية حول البريمي في الخمسينيات. أقولُ من الصعبِ التكهنُ بهذا، لأن في الرواية ما يبدده من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإنه لا يخدمُ العمل فنيا، بل يجعلُه سردا تاريخيا ساذجا. نجد في الرواية توصيفا للمكان؛ فواحة صُرَيْفَة تقع في الربع الخالي، وهذا ما يبدّدُ الظنّ حول البريمي، كما أن إمارةَ الحد تقع تحت جبلٍ يُرمَزُ له في الرواية بـ»الجبل الأكبر«، وينقل إنـيس هنـا مقولةً شائعةً بين الناس هي »من يملك الجبل الأكبر، يملك الحد«، فهل الجبل الأكبر هو الجبل الأخضر؟! أم هو جبل حفيت؟! ولكنّ أيضا فإن الحد ليست هي نزوى أو البريمي، كما يتبين من الرواية. ولهذا فإنني أؤكد بأنه لا جدوى من التكهنِ بأماكنَ محددة، وحَسْبُنا أن نعرفَ بأن المكانَ العام لسردِ الأحداث هو عُمان، وأن هذه الأسماءَ هي أسماء تخيلية وليستْ واقعية، كما أشار إنـيس بنفسِه في مستهلِّ الرواية.
الروايةُ مُدهشةٌ للقارئ الإنجليزي، لأن الحربَ العالمية الثانية أفرزتْ بعدها أجيالا من الأوروبيين والأمريكيين، كانوا متعطشين لمعرفةِ الأماكنِ القصية والغريبةِ في العالم، والتي ربما وجدوا فيها تسليةً لهم عن الدمار الروحي الذي خلفته الحرب. ولهذا فإن »فتنةَ المجهول« في الربع الخالي، والجزيرة العربية بصورة عامة شكّلتْ ثيمةً أساسيةً لعددٍ من الأعمالِ الأدبية التي ظهرتْ في الخمسينيات وما بعدها. وهذا ما حرص عليه إنـيس في عمله هذا؛ إذ نراه في الغلاف الداخلي للرواية يصرُّ على اقتباسِ مقطعٍ من القصيدةِ الشهيرة »الجزيرة العربية«، للشاعر الفرنسي والتر دي لامير:
«مَجْنونٌ بِبلادِ العَرَبِ،
سَحَرَتْهُ،
سَرَقَتْ عَقْلَهْ،
تَرَكتْهُ بلا أَرَبِ.«
وهذا المقطعُ، لطالما اقتبسه شعراءُ، وأدباءُ، ورحالةٌ كتبوا عن الجزيرة العربية، مثل الرحّالةِ بيرترام توماس الذي صدّر به أيضا كتابه »بلاد العرب السعيدة«، وهو قصةُ رحلاته في عُمان والربع الخالي. كما أن إنـيس طعّم روايتَه بعدد من الكلمات الغريبة على القارئ الإنجليزي، ومعظمها يتصل اتصالا خاصا بالثقافة في عُمان، مثل: الحلوى، والمجلس، والقلعة، والأفلاج، والشريعة (المكان المكشوف من الفلج، حيث يستخدمه الناس للغسيل والاستحمام)، والكُحْل، والبَرْزة (مجلس عام يعقده شيوخ القبائل، عادة ما يكون في ظل قلعة أو حصن)، ودولارات ماريا ثريزا (العملة الفضية التي كانت شائعةَ التداول بين العمانيين قبل السبعينيات). كما احتوتْ الروايةُ على أسماءِ قبائلَ عمانية معروفة مثل وهيبة، والدروع، والعوامر. واشتملت أيضا على أسماء أماكنَ عمانيةٍ واضحة مثل مسقط، والبريمي، ومحضة، والباطنة، وأم السميم في الربع الخالي. مثل هذه الأعمال الفنية التي تحكي عن أُمم قصية وغريبة، لا شكَّ كانت تجدُ هوى لدى الجمهور الإنجليزي، وهذا ربما ما يفسّرُ كثرةَ الطبعات التي انتشرتْ بها الرواية، حيث بلغتْ إحدى عشرة مرة. وهذا العملُ له أهميتُه أيضا للأدب العربي عامة، والأدب العماني خاصة. فالأعمالُ الروائية عن عُمان وخصوصية تاريخها في المنطقة، قبل السبعينيات، قليلة إن لم تكن معدومة. فماذا لدينا من أعمال روائية عن تلك الفترة غير الرواية اليتيمة لعبدالله الطائي، »ملائكة الجبل الأخضر«؟ وهي محدودة النشر فوق ذلك!
ملاحظات حول الترجمة:
٭ كلمة عُمان لم تردْ في العنوان الأصلي للرواية، ولكن أضفتها اعتقادا مني بأنّ مُجملَ العمل يدور حول عُمان كرمزٍ لبلدان الخليج التي جاء اكتشافُ النفط ليبعثَ فيها شريانَ الحياة، وينتشلَها من أيام الفقر المُدقع، حسبما توحي الرواية.
٭آثرتُ أن أُعرّبَ كلمة (Saraifa) إلى صُرَيْفَة، لأنها أولا تقتربُ من الكلمة الإنجليزية صوتيا، وثانيا لأنّ التصغيرَ ينسجمُ مع كلمةِ »واحة« وما توحي به من كونها قطعةً صغيرةً من النخيل في الصحراء.
٭حاولتُ أن أجمعَ بين الترجمة الحرفية، والترجمة الأدبية؛ لأن بعضَ فقراتِ النصِّ لا تحتمل الترجمةَ الأدبية، فحين يُجري المؤلفُ حديثا على ألسنةِ بعضِ الشخوص غيرِ المثقّفة، بَلْهَ الجاهلةِ، يكونُ من غير الدقة أن تنقلَه إلى لغة أدبية؛ لأنّ لغةَ الكلام في الأصل أرادها المؤلفُ أن تكونَ بسيطة ومكسّرة.
٭ آثرت أن أترجم كلمة ((Doomed إلى »الذاهبة«، بدلا من »الهالكة« وهو المعنى العام للكلمة الأصل؛ لأنني أعتقد بأن الكلمة الأولى تحمل معنى خاصا وهو أنها مهددة بالزوال، وهو بالضبط ما يوحي به الجو العام لنص الرواية.
القسم الأول: الجلسة الأولى للمحكمة
نادِ أوبيري جورج جرانت !
أوبـيري جــورج جـــــرانت !
لقد آن الأوان. فجأةً بدا فمي يابِسًا. كانت المحكمةُ تنتظر، وعرفتُ أنّ المحاكمةَ التي تنتظرني كانت طويلةً. وكنتُ أدركُ في قرارةِ نفسي أنّ بإخباري الحقيقةَ، الحقيقةَ كاملةً، قد أُدينُ رجلاً بريئًا. شعرتُ بلمسِ يدِها في يدي، وبالضّغطِ السّريعِ لأناملِها، فنهضتُ واقفا أتبعُ خادِمَ المحكمة، والعَرَقُ مُلصِقٌ القميصَ إلى ظهري. وقفتْ أبوابُ قاعةِ المحكمة مفتوحةً. تفحّصتُ الأشياءَ، لحظةَ تردّدٍ عند المدخل؛ كان المكانُ مُكتَضًّا، والجوُّ مشدودًا بالتّطلُّع.
بسرعةٍ مشيتُ خلالَ المحكمة؛ الوضعُ مألوفٌ لي، جُزءٌ من حياتي الوظيفيّة؛ دوري فقط هو الذي قد تغيّر. فحين دخلتُ المحكمةَ لأوّل مرّةٍ دخلتُها كشاهد. دقّقْتُ في القاضي، في وجهِه اللندني الشاحِبِ، وبَدْلتِه الاستوائيّة. لقد عُيِّنَ خِصّيصًا للنّظَرِ في هذه القضيّةِ الغريبة. بدا مُتعَبًا بعد الرّحلةِ الطّويلة؛ بدلتُه كبيرةٌ جدًّا ومُنكمِشَةٌ تقريبًا، وبدون الرّوبات القُرْمُزيّةِ بدا أقلَّ إشعارًا بالرهبةِ، والقانونُ فقد مَهابتَه. المحامي أيضا بدا عاديًّا بدون الباروكة والعباءة، وقاعةُ المحكمةِ نفسُها بدتْ عاديّةً-بكلِّ القمصانِ المفتوحةِ، والسِّتراتِ الفضفاضةِ الباهتة، وخليطٍ من البحرينيّين في أزيائِهم العربيّةِ المُنْسَابة. كان قانونُ الإجراءِ الجِنائيِّ في هذه المحكمةِ معتمدًا على قانونِ العقوباتِ الهنديّ، بل إنّه لا يختلفُ جوهريًّا عنه، وعندما تقدّمتُ نحو مِنصّة الشّهادة، مال القاضي قليلاً إلى الأمام، مُحدِّقًا فيّ بنظرٍ حسيرٍ.
على المِنصّة واجهتُ قاعةَ المحكمةِ المُكتضّة، لم يكنْ حَشْدًا من البشريّة المشوّهة، لكنّه خِضمٌّ من الوجوه ظلّتْ جميعا تُحدِّقُ بي في توقّعٍ واجم، وتنتظرُ القصّةَ الكاملةَ التي تيقنتْ الآن أننيّ الوحيدُ مَنْ يُمكنُه سَرْدُها.
نُودِيتُ كشاهدٍ، ليس للدّفاع، وإنّما للادّعاء. كلُّ كلمةٍ سألفظُها ستُسجَّل ويُسْرَع بها خارج البحرين بالتّليفون والرّاديو، وعلى بعد الآلافِ من الأميالِ فإنّ طبولَ الصحافةِ سَتُفيضُ بالقصّةِ التي ينتظرُها ملايينُ الناس. مُمثّلون لكلّ صحيفةٍ تقريبًا من صحائفِ لندن ونصفِ صحافةِ العالَم كانوا هنا، محشورين بصعوبةٍ في قاعةِ المحكمةِ غيرِ المُجَهّزةِ، لدرجةِ أنّهم بالكاد أمكنهم التنفس. وفي الخارج، في الحرارةِ الرّطبةِ الحارقةِ كان المصوّرون وعُمّالُ الفيلم الإخباري ووحدات تسجيل التليفزيون، وفي المطارِ في الجِهةِ المقابلةِ في جزيرة المحرّق، طائراتٌ خاصّةٌ انتظرتْ لتطيرَ بالصّوَرِ التي ستُعرَضُ عبرَ شاشاتِ التلفزيونات، ويشاهدَها ملايينُ البشر.
هنا وهناك في ذلك البحرِ من الوجوهِ كان أُنَاسٌ أعرفُهم، أُناسٌ قد شاركوا بدورٍ في الأحداثِ التي كان يجب عليّ أن أصفَها. كان هناك السّيّد فيليب جورد، مدير شركة (تنمية حقول نفط خليج عُمان)، بدا عجوزا ومُحطّمًا، وعيناه الثقيلتان نِصفُ مُغمْضتين، وبجانبِه؛ السيد إركارد، مُهَنْدَمٌ جدًّا وهادئ. كان هناك أيضا الكولونيل جورج والكابتن بيري، بِسهولةٍ يُمكنُ تمييزُهما؛ أنيقانِ في زيّيْهما من نوع الكاكي؛ قميصٍ قصيرِ الأكمام وبنطالٍ مَكويٍّ بعناية.(٧) تبعتني الآنسةُ سُوزان إلى الداخل، وقد صدمتْني رؤيتُها وقد جلستْ بجانبِ فتاةٍ غريبةٍ، نصفِ عربيّة ونصفِ فرنسيّة، كانت تُسمي نفسَها تِيسا. الكابتن جريفث، أيضًا كان موجودا، لحيتُه مُهذَّبة ومدبّبة- تُذكّرُني بكارديف والزّيارةِ التي بدأتْ بها هذه القصة.
ارفع يدك اليمنى.
فعلتُ ذلك وتحوّل بصري لا إراديًّا إلى السّجينِ في قفصِ الاتهام. كان يشاهدُني، وللحظةٍ التقتْ عيوننا. اعتقدتُ أنه ابتسم، لكنّني لم أكن متأكدا. كان لدي إحساسٌ بالدهشةِ، وبالصّدْمةِ تقريبًا. ربّما كان بسببِ بذلتِه الاستوائيّة، وشَعرِه النّاعمِ المُسَرَّح، لقد بدا رجلا مُخْتلفا. إنها فقط ذراعي التي ظلّتْ مرفوعةً ذكّرتْني أنّ هذا الرّجلَ هو الذي استحوذ إصرارُه على مُخيّلةِ العالم. الكتابُ الذي دُسّ في يدي أربك تفكيري.
رّددْ ورائي. كانت شفاهي يابسة. لقد استدرتُ بعيدًا عنه، لكني أدركتُ أنه ظلّ ينظر إليّ. أقسم بالله العظيم.
»أقسم بالله العظيم…..«
أنّ الدّليل الذي سأقدمه للمحكمة.
»أنّ الدّليلَ الذي سأقدِّمُه للمحكمة…« وعندما قلتُها كنتُ أتساءلُ كيف ستستجيب الجماهيرُ في الوطنِ لما كان عليّ أنْ أُخبرَ المحكمةَ به. حتّى اليومَ كان من الممكن أن تكونَ لديهم صورةٌ مختلفةٌ جدًّا للسّجين-صورةٌ ذهنيّةٌ مُنتقاةٌ من الصِّيَغِ الملموسةِ لإنجازاتِه، مسموعةٌ عبرَ الرّاديو، ومرئيّةٌ في التّلفزيون، ومقروءةٌ في الصحف والدّوريّات، صورةٌ مشرقةٌ، أكبرُ من الصورةِ الحيّةِ المختلفةِ كليا لشخصٍ أنيقٍ يقفُ هناك وحيدا في القفص، مُتَّهمًا بالقتل.
سيكون الحقيقةَ،
»سيكون الحقيقة…« ما كان عليهم أن يأتوا بالقضيّة أبدًا. كان بطلاً قوميًّا، وبصرفِ النظرِ عن حُكمِ المحكمة، فإنّ ردةَ فعلِ الجمهورِ ستكون عنيفةً. لكنّهم هل سيكونون معَه أم ضدَّه؟
الحقيقةَ كاملةً،
»الحقيقةَ كاملة… «
و لا شيءَ سوى الحقيقة.
» ولا شيءَ سوى الحقيقة.«
اسمك الكامل، من فضلك؟
»أوبيري جورج جرانت.«
ثمّ نهض محامي السُّلْطةِ الملكيّة، وواجهني:
»أعتقدُ أنك محامٍ بالمِهْنَة؟«
»نعم.«
»هل طُلب منك أنْ تعملَ لصالحِ السّجينِ عند اعتقالِه؟«
»نعم.«
»متى توقّفتَ عن العملِ لصالحِه؟«
»بمجرّدِ أنْ أدركتُ أنّ الادعاءَ يعتبرُني شاهدَ عِيان.«
»أعتقدُ أنك قد عملتَ لصالحِه فيما مضى؟«
»نعم.«
»متى ذلك؟«
»فقط منذ حوالي أربعِ سنوات.«
تدخّل صوتُ القاضي فجأةً، وقد كَوّب يدَه على أُذنِه ليسمعَ جيدا: »منذ متى؟«
»أربعِ سنواتٍ، سيّدي.«
تقدّم الادّعاءُ خطوةً أقرب، قابضًا بيديه ياقاتِ سترتِه، وجلدُ وجهِه هادئٌ كرَقٍّ في الحرارةِ الرّطبة. »سأطلبُ من الشّاهدِ أن يُعيدَ ذاكرتَه الآن إلى ما بعد الظُّهرِ، من الواحد والعشرين من مارس، لأربعِ سنواتٍ مَضَتْ. في تلك الظهيرةِ تلقّيتَ مكالمةً من مدام توماس الساكنة في 17، شارع إفيرديل، كارديف. وبسببِ تلك المكالمةِ ذهبتَ إلى ذلك العنوان.«
»نعم.«
»تستطيعُ الآن أن ترويَ للمحكمةِ ما حدث….«
القسم الثاني: الحقيقة الكاملة
الهروب إلى صُرَيْفَة
كان شارع إفيرديل يُوجدُ في منطقةِ جرانجتاون من كارديف. إنه من شوارعِ البيوتِ ذاتِ القِرميدِ الفيكتوري المُزعج، والأسقُفِ المائلةِ باتِّجاه الرّياحِ الغربيّةِ المَطيرة، والفتحاتِ المزوّدةِ بنوافذَ تُطِلُّ بشكلٍ عشوائي على مَشْهدٍ للنهر أو البحر مسدودٍ ببيوتٍ متشابهةٍ أخرى. على بُعْدِ شارعين يُمكنك أنْ تنظرَ عبرَ نهر (التاف) إلى مجموعةٍ مبعثرةٍ من الروافع، وإلى وَميضِ المَداخِنِ التي ميّزتْ أرصفةَ ميناء (بيوت). لطالما أغمّتني هذه المنطقةُ من كارديف، والتي كان لا ينقصُها إلا ملامحُ القسوة واللّونِ القذرِ لخليج (تايجر). كان الشّارع مهجورًا إلا من سيّارةٍ واحدة، سيّارةٍ سوداءَ صغيرة. بالخارج ظهر رقمُ (سبعة عشر) بارزا، ومن خلفِ غَلقةِ البابِ استطعتُ أنْ ألقيَ نظرةً خاطفة إلى البيت. لم يكنْ فيه شيءٌ يميّزه عن البيوتِ الأخرى عدا الرقم. كان هناك ضوءٌ في إحدى الحُجُراتِ في الأسفل، وستائرُ مزركشةٌ رائعةٌ معقودةٌ إلى الخلف من النّوافذ.
ضربتُ الجرَسَ، متسائلاً في نفسي عما سأجدُ بالدّاخل. المُقلقُ أنّ أحدًا لا يُمكنُ بحالٍ أنْ يدعوني إلى هذه المنطقةِ ما لم يكنْ في وَرْطة. والصّوتُ على الهاتف كان صوتَ امرأةٍ، منخفضًا، وعاجلاً، وقريبًا من الفَزَع. نظرتُ في ساعتي. الرابعة والنصفُ. كان الضّوءُ قد بدأ يَنحسِرُ من السّماءِ المُلبّدةِ بالغيوم. والرذاذُ الخفيفُ أعطى بريقا أسودَ لأديمِ الشّارع.
عبرَ الطّريق لمحتُ ستارةً تتحرّك، وعيونًا خفيّةً كانتْ تشاهد وتُثرثرُ عن شيءٍ ما تقريبا. عرفتُ السّيّارةَ السّوداءَ المركونةَ عند حافّةِ الشارع. كانتْ سيارةَ الدّكتور هارفي. لكنْ إذا كانتْ هناك وفاةٌ في البيت، فإنّ السّتائرَ يُفترضُ أن تكونَ مُسْدَلةً. كانتْ يدي تهمُّ بالضغطِ على زرِّ الجرسِ ثانيةً عندما طقطق تِرباسُ الباب والأصواتُ بدتْ مسموعةً: »… لا شيء آخرَ في استطاعتي أن أعملَه، يا مدام توماس. القضيّةُ تعودُ للشّرطة… أتمنّى أن تتفهّمي. وستكونُ سيّارةُ الإسعافِ هنا في أيّةِ لحظةٍ الآن.« فُتِح البابُ بقوّة وظهر الدّكتورُ هارفي مستعجلا، كاد أن يصطدمَ بي. »أوه، هو أنتَ، يا جرانت.« لقد بدا شابّا، أشقرَ الشّعر، حقيبةٌ سوداءُ في يدِه، لا معطفَ كالعادة، رجلا حازمًا جدًّا وفي عجلةٍ دائمة. »حسنًا، اعتقدُ أنّك ستكون قادرًا على أن تبرهنَ حقيقةَ هذه القضيّةَ في المحكمة. الولدُ قطعًا سيحتاجُ إلى نصيحةٍ قانونيّة.« لم ينقطعْ حبلُ الوُدِّ بيننا. كنا قد اختلفنا سابقا حولَ مُشكلةِ دليلٍ طبّيّ. »عليّ أن أذهبَ لإجراءِ عمليّةِ توليدٍ الآن. ليس في مقدوري عملُ أيِّ شيءٍ أكثرَ لذلك الشاب.« وانطلق راكضًا إلى سيّارتِه.
»السّيّد جرانت؟« كانت المرأةُ تُحدّقُ فيّ غيرَ متأكِّدة.
أومأتُ بالإيجاب. » أنا من مكتبِ جونز وإيفانز للمحاماة. اتّصلتمْ بي قبل قليل.«
»نعم، بالتأكيد.« أبقتْ البابَ مفتوحًا لي. امرأةٌ قصيرةٌ، أنيقةٌ، بين الأربعين والخمسين، عيناها غائرتانِ حزينتان. شَعرُها أخذ في المشيب، وقد تركتْه مُسْترسِلا إلى الخَلْفِ، وفي الخلفيّةِ المُظلمةِ للممرِّ بدا وجهُها أبيضَ باهتا. »ادخلْ في من فضلك؟« وأغلقتْ البابَ خلفي. »لم يُرِدْني ديفيد أنْ أتصلَ بك. لكننيّ اعتقدتُ أنّك لنْ تمانعَ، لأنّ شركتكم تُديرُ بعضَ أموالِنا.«
إنها المرّةُ الأولى التي نتعاملُ فيها معها على كلّ حال. اعتقدُ أنها اتّصلتْ بي لأنّها تعلمُ بأنّني كنتُ مُستعدّا في ظروفٍ معيّنةٍ أنْ آخذَ قضيّةً بدون أتعاب. »ما المشكلةُ، مدام توماس؟« سألتُها، لأنّها كانتْ تقف جامدة وكأنّها كرهتْ أنْ أتوغّلَ أكثرَ في داخلِ البيت.
تردّدتْ، ثمّ قالتْ في همسٍ: »حسنًا، الأمر يتعلق بديفيد. لقد عاد-و بعد ذلك… آه يا إلهي، من الصعبِ جدًّا أن أشرحَ لك الوضعَ كليا.« الآن، بعد أن أغلقتْ البابَ االرئيسي، لم يكنْ بوسعي أنْ أفهمَ معالمَ وجهها، لكنّني فهمتُ من صوتَها، الذي كان يتهدّج حَدَّ السكوت، أنّها كانت مرعوبة وتجاهدُ في السيطرةِ على نفسها. »لا أعرفُ ما سيفعلُه«، أضافتْ هامسةً. »كما أنّ سوزان ليستْ هنا. ولطالما استطاعتْ تهدئتَه، حين لمْ أستطعْ.«
»سوزان هي ابنتك، أليس كذلك؟« أدركتُ أنّ الأسئلةَ يمكن أن تخفِّفَ من تَوتُّرِها.
»نعم، ذلك صحيح. إنّها تعملُ بالمستشفى، لكننيّ لمْ اتّصلْ بها لأنها لا ترجعُ إلى البيت مباشرةً.«
و»ديفيد، هو زوجك؟«
»لا، ديفيد ابني. هو وسوزان توأمان. إنها تفهمُه، بعضَ الشيء.«
»وهو في مشكلةٍ ما الآن؟«
»نعم.« ثمّ أضافتْ على عَجَل: »إنه ليس ولدًا سيئًا، ليس سيئًا فعلاً.« تنفّستْ بسرعة وكأنّها تحاولُ أن تستجمعَ نفْسَها. »لو لمْ أكتبْ له رسالةً، لما حدث ما حدث. لكننيّ اضطررتُ أن أفعلَ كلَّ ما يمكن أن يُساعدَه، ثمّ جاء إلى البيت وكان هناك شيءٌ من الشّجَار، والسّيّد توماس قال أشياءَ ما كان ينبغي أن يقولَها، وفجأةً اشتبكا معا. لم يكنْ خطأَ ديفيد. المسكينُ أُصيب بصَدْمَةٍ فظيعة. والسّيّد توماس، كان في حالة سُكْر، ثمّ -« تنفّستْ ثانية وكأنّها تبتلعُ الهواءَ كلَّه. »حسنًا، ثمّ حدثتْ له هذه السّكتةُ الدّماغيّة، واتصلتُ بالدّكتور هارفي فورًا ثمّ اتّصلتُ بك لأننيّ عرفتُ أنّها قد تعني وَرْطةً لديفيد.« لقد نَفَثَتْ بالحكايةِ كلِّها في عَجَلَةٍ بالغة وكأنّها لم تَعُدْ تملكُ منها شيئًا بعد الآن. »بدا زوجي في حالة سيئة جدًّا، تعرف؟«، أضافتْ بوَهَن، »و لم أَدرِ ماذا سيحدث. فقط لم أعرفْ ماذا أفعل، سّيّد جرانت-فعلتُ غايةَ الجُهْد، كما يمكن أن تقول. ثمّ جاء الدّكتور هارفي وقال إنّه لا أمَلَ في حياتِه واتّصل بالشّرطة، لذا فإني سعيدةٌ أنك جئتَ الآن. ستعرفُ ما يتوجّب فعلُه وما ينبغي أن يقولَه ديفيد لهم. إنه ليس ولدا سيّئًا«، أعادتْ ذلك بصوتٍ تحوّل فجأةً إلى الدّفاع. »إنه مجرّدُ طائش، تعرف؟«.و أضافت بسرعة: »السّيّد توماس ضربني، تعرف؟«
»كان هناك شِجارٌ عائليّ، بعبارةٍ أخرى؟«
»نعم. نعم، يمكنكَ أن تُسمّيَه ذلك. لكننيّ لا أودُّ أن تعتقد، لكون السّيّد توماس سكران نوعا ما، بأنه كانتْ هناك مشكلةٌ بيننا. هو لطيفٌ بطبعِه؟«
»أُصيبَ بسكتةٍ دماغيّة، تقولين؟«
»نعم ذلك صحيح. ذلك ما قاله الدّكتور هارفي.« بدتْ أنها قد تمالكتْ نفسَها. »تفضّلْ الآن السيد جرانت، إنه يستلقي على الكَنَبةِ في الصالون. وديفيد هناك أيضًا. أظن أنّك تريدُ أن تتحدثَ معه. لكنْ لا تحاولْ أن تستعجلَه، من فضلك«، أضافتْ ذلك هامسةً، وأعطتني انطباعًا بأنها كانت خائفةً من ابنِها. »يحتاجُ لقليلٍ من المُداراةِ، إذْ كانت لديه صدمةٌ، كما قلتُ-صدمةٌ مُخيفة.« فتحتْ الباب وأفسحتْ لي الطريقَ كي أدخل. »هذا السّيّد جرانت، ديفيد- المحامي السّيّد جرانت.«
كانت الغرفةُ مضاءةً من السّقف، بضوء صارخٍ قاسٍ، أظهر لي الكنبةَ التي كان يستلقي عليها الرجل. وميضُ أزرارِ قميصه كان يشير إلى طَوْقِه وأكمامِه المفتوحة. عيناه كانتا مغمضتين، وكان يتنفّس بصعوبة. وملامحُه المتورّدةُ، المتداعيةُ بالأحرى، كانت نحيلةً إلى الحدِّ الذي أظهرتْ عظامَه من وراءِ اللحم. كثرةُ العُروقِ في أنفِه تدلّ على أنه كان عربيدا. هناك على رفِّ المِدْفأةِ الغازيّةِ استند بمرفقه شابٌّ في حوالي العشرين من عمرِه. كان يرتدي سِتْرةً ذاتَ جيوبٍ ضافية عديدة، وبنطلونا ضيّقا. وجهُه كان أبيضَ كوجهِ أمِّه، وله نفسُ سِماتِها أيضًا، عدا أنّ أرْنبةَ أنفِه كانتْ أكثرَ استدقاقًا، وفَكّه أقوى. لم يغيّرْ موضعَه حين دخلتُ الغرفةَ، بل إنه لم يرفعْ بصرَه. كان ساهِمًا ينظرُ إلى المدفأة، وجمودُه كان يثيرُ الغرابة.
قريبًا من قدميْه كان نِثَارُ زجاجٍ مكسورٍ من الواجهةِ المحطّمةِ لأحدِ تلك الدواليبِ الصّينيةِ المُبالغِ في تَزْويقِها. الزخارفُ الخرزيّةُ ذاتُ اللونِ الماهوغاني، كذلك الزّجاج الذي قد كُسِرَ أثناء المشاجَرَة، والطُّرَفُ التي مُلئتْ بها الخزانةُ، وهي معظمُها تَذْكاراتٌ صينيّةٌ بيضاءُ، لا تتناسق والسّجّادةَ الباليةَ. وهناك مزهريّةٌ أيضًا قد سقطتْ من المائدةِ قربَ النّافذة. لم تكنْ مكسورةً، وبجانبها يوجدُ ألبومُ صُوَرٍ مُتِّسخَةٍ من فَرْطِ التقليبِ، تناثر إلى قُصاصات. كان هناك شيءٌ ما مروِّعٌ حول مشهدِ الغُرفةِ بالكامل-الفوضى التي خلّفتْها المشاجرةُ، والأبُ الذي يستلقي هناك نصفَ ميّتٍ على الكنبةِ مُلَفّعًا ببطّانيّة، والأم والابنُ اللذان يقفان، يواجه أحدُهما الآخَرَ بصمتٍ مُطْلَق.
شعرتُ بالتّوتّرِ الذي بينهما. لم يكن بغضا، لكنه كان شيئًا مُستحكِمًا؛ شعورٌ عنيفٌ جدًّا لدرجةِ أنّ الرّجلَ على الكنبةِ، وأنا، وحالةَ الغرفةِ، جميعَها لمْ يشعروا بها.
»حسنًا الآن.« خاطبتُ الولدَ بنبرةٍ واقعيّةٍ كما يمكن أن تكونَ في ذلك النّوعِ من الجوّ. »افترضْ أنّك تخبرُني عمّا حدث.« لكنّه وكما يخاطبُ حائطًا من الطوبِ، نظر إليّ نظرةً منطويةً مُتَجَهِّمَة.
»لقد أخبرتُك ما حدث«، ردّتْ أمُّه في هَمْس.
»بالطّبعِ، مدام توماس، لكننيّ أريدُ سماعَه من ابنك.« بدتْ مُرْهَقةً حدَّ الموت. التفتُّ إلى الولدِ ثانية. »حدثتْ لك صَدْمة«، قلتُ له بلُطْف. »إنّه من الطبيعيّ أن تكونَ مذهولا قليلاً بما حَدَث….« قلتُ ذلك، رغم أني كنتُ أعرفُ أنّ الولدَ لم يكنْ مذهولا. مَفاصِلُ يدِه التي أمسكتْ برفِّ المدفأةِ كانت بيضاءَ من الضّغط، وكانت العضلةُ بمؤخّرةِ فكّه تتحرك. كان يكبحُ نفْسَه مثلْ غلايةٍ تحت ضغط، وكنتُ غيرَ متأكّدٍ من الأُسلوبِ الأفضلِ للتّعاملِ معه. أدار بصرَه عنّي الآن وأصبح يبحلقُ في أمّه. أحسستُ بالشّفَقَةِ على المرأة. »اصغِ إليّ، أيُّها الشّاب«، قلتُ. »أعلمُ أنّ الدّكتورَ هارفي قد اتّصل بالشّرطة. سيكونون هنا الآن في أيّة لحظة. إذا أردتني أن أكونَ محاميَك، فمن الأفضلِ أن تبدأَ في التّكلّمِ الآن، قبل أن يصلوا.«
حركةٌ خفيفةٌ لكتفِه كانت كلَّ إجابتِه. لمْ تكن هزّةً أكثرَ منها اختلاجًا عضليًّا وكأنّه نفد صبرُه كيْ أذهب.
»السّيّدُ جرانت يحاولُ المساعدةَ فقط، ديفيد.«
»اللعنة ! ما الفائدةُ بحقِّ الجحيمِ من رجلٍ محامٍ الآن؟ لقد انتهى الأمرُ، والنقاشُ لن يُغيّرَ شيئا«. جاء صوتُه مُتهدِّجًا. ثمّ تحوّل إليّ، ورمقني بنظرةٍ حادّةٍ شاحبة، وأمرني أن أخرجَ، بكلماتٍ عنيفة وبذيئة.
»ديفيد!« لكنّها كانت مرعوبةً، لم تكنْ لديها أيّةُ سيطرةٍ عليه.
»حسنا«، قلتُ، وتحرّكتُ نحو المكتب، حيث تركتُ قُبّعتي. »أتمنّى، من أجلك،« أضفتُ، »أنّ حالةَ أبيك غيرُ خطيرة.«
»إنّه ليس أبي«. »وانفجرتْ الكلماتُ غاضبةً من بين أسنانِه المُطْبقة. »كنتُ قد قتلتُه لو كان أبي.« التفتُ لأجدَه أَنْشَبَ عينيه الشّاحبتين في أمِّه. »ما قصدتُه، ماما، أنني أُقسِمُ سأقتلُ الخنزير-إذا أمكنني أن أجدَه في أيّ وقت.« كانت الكلماتُ عنيفة وقاسيةً لدرجةِ أنها أفزعتْني.
»إنه ليس طبيعيًّا« تمتمتْ أمُّه. »لا يعرفُ ما يقول.« كانت يداها تُمسكانِ بمَرْيلتِها حول وسطها، وعيناها الشقراوتان، كعيني الظبية، واسعتين من الخوف. عرفتْ أنه كان جادًّا فيما يقول.
»من الأفضلِ أن تضبطَ نفسَك،« قلتُ له. »لقد أسأتَ بما فيه الكفايةُ في يومٍ واحد، ولا داعيَ لأنْ تُخيفَ أمَّك أكثرَ أو تُهدِّدَها.«
لكنّه الآن لم تعُدْ لديه القدرةُ على كبحِ جِماحِ نفسِه. »اخرجْ من هنا«. قالها بهدوءٍ، وهذا يعني أنه كان يعني ما يقول. »ما حَدَثَ هنا لا علاقةَ لك ولا لأيِّ شخصٍ آخرَ به. إنّه بيني وبين أمّي.« كان يتحدّثُ عبرَ أسنانٍ صاكّة، وكأنّه يحاولُ إبقاءَ بعضِ السّيطرةِ على ما كان يتفوّه به. ثمّ فجأةً اندفعَ بلسانٍ حاد وعاصفٍ، دون تحكُّم: »عندما تعلمُ فجأةً بأنّك غيرُ شرعيّ، وأنّ أختَك غيرُ شرعيّة، أيضًا، تريدُ أن تعرفَ أكثرَ بقليلٍ عنه، أليس كذلك؟ تريدُ أن تُناقشَه مع أمِّك-تسألُها بعضَ الأسئلةِ، تكتشفُ من أنت فعلاً بحقِّ الجحيم.«
أرخى ذراعَه وأشار بحزنٍ إلى الألبومِ على الأرضيّة. »انظر إلى ذلك؟ دفتر ملاحظاتِ حول الخالِ تشارلز. اشتركتْ أُمّي في وكالةٍ لقُصاصاتِ الصُّحُف. كلُّ قصّةٍ نشرتْها الصُّحُفُ عنه- كلُّها هناك، أُلصِقَتْ بحِرْصِ العاشقِ. أمّي تتعلّقُ بسريرٍ مُبْتَذَلٍ لحُبٍّ قديم. يا إلهي ! إنّها تُثيرُ فيك البُكاء. وأنا وسوزان ظَهَرْنا من تحتِ لِحافِ العار والخِزْي، وقد غُرّرَ بنا في أنْ نُناديَ ذلك السّكّيرَ المسكينَ أبانا.« رمَقَني بنظرة وكأنّه يُريدُ أن يَفتكَ بي. » كنتُ أبلغُ من العُمرِ ثمانيَ سنواتٍ حين اختلستُ نظرةً في مُحتوياتِ ذلك الكتابِ لأوّلِ مَرّة. القَرَابَةُ هي، كما ادّعتْها، بأنّه خالي. وهذا ما جعلني مُهتَمًّا بالجزيرةِ العربيّة. اعتقدتُ أنّه كان بَطلًا قويًّا. لكنّه بالأحرى مُجرّدُ وَضيعٍ، حَقيرٍ، قَذرٍ أهمل أمّي وتخلّى عنها. حسنًا، ما رأيكَ في ذلك، هاه؟ أنتَ محامٍ. ربّما بإمكانكَ أن تُخبرَني ما كان يتوجّبُ عليّ فعلُه تجاه ذلك؟« ونظر إليّ بحدّة وكأنّني كنتُ مسؤولاً بشكلٍ ما عمّا حدث له.
ثمّ فجأةً تحرّك، وبخُطوةٍ سريعةٍ وَقفَ أمامي وجهًا لوجه. »الآن اذهبْ إلى الجحيم واخرجْ مِنْ هنا، واتركني أتحدّث مع أمّي لوَحْدِنا، هل تفهم؟« كانتْ في عينيه نظرةٌ مُتوحّشة، نظرةٌ رأيتُها فقط ذاتَ مَرّةٍ على وجهِ صَبيّ، كنا في مشاجرة.
لقد عرفتُ كيف أتعاملُ معه بعد ذلك. لكن هذا الولد كان مختلفًا. لقد كان جِلْفًا للغاية. حسنًا، لِنَقُلْ أنّني لستُ لطيفًا بمعنى الكلمة، لكننيّ لا انتقدُ الأشياءَ عن عَمْد وترصُّد. ومن جِهةٍ أخرى نظرتُ إلى مدام توماس، ورأيتُ كمْ كانتْ مرعوبةً منه، فلمْ يكنْ هناك بُدٌّ من أنْ أُصِرَّ على رأيي، جاهلا ما سيفعلُه بالضّبط، لأننيّ شعرتُ أنّ التوتُّرَ بدأ يستجمعُ داخلَه ثانيةً. كان كالزُّنْبُرَك الذي يتحوّى بشدّة.
وما إنْ صوّتتْ صافرةُ سيّارةِ الإسعافِ أسفلَ الشّارعِ حتّى انطفأ العُنْفُ منه فجأة. توقّفتْ سيّارةُ الإسعافِ خارجَ البيت وبعد لحظاتٍ دخلَ عاملا المستشفى ومعهما نقّالة.
انتباهُنا نحن الثلاثة انصبّ بعد ذلك على الرّجُلِ المُمتدِّ على الكنَبَة. غمغمَ بصوتٍ عاجِزٍ وهما ينقلانِه، وأخبرتْهما مدام توماس باسمِه، وقد بدا عليها القلَق. كانتْ لنَبْرةِ صوتِها تلك الصِّفَةُ الخاصّةُ بأُنَاسٍ تقاسموا حياتَهم معًا، وبدا أنّها أثّرتْ فيه، لأنّ عينيه رَمَشَتَا بُرْهةً ثم تَمْتمَ باسمِها: »سارة.« جاء الاسمُ سريعًا من شَفَتيْه المُلْتويتين، مَخْفيًّا بمحاولةِ تحريكِ عضلاتٍ شَلاءَ جُزئيًّا. »سارة-أنا آسف«. كان ذلك كلَّ شيء. عيناه انْطفأَتا، ووجهُه أصبح هامدًا ثانيةً، ونُقِلَ إلى المُستشفى.
تبِعتْهمْ مدام توماس،تُجْهِشُ بالبكاءِ بشكلٍ جنونيّ. البابُ انغلق بنفسِه، والغرفةُ أطْبَقَ عليها الصّمْتُ. »ما كان عليّ أنْ أضربَه. لم يكنْ خَطَأَه.« انصرَفَ الفتى هازًّا كتفيه. أدركتُ فجأةً أنّه كان يبكي. »آه، يا إلهي«، قالها وهو يَنْشِج. »كان ينبغي أنْ أعلم. لو كان عندي أيُّ إحساس، كان ينبغي أنْ أعلم.«
»لمْ يكنْ بمقدورِك أنْ تعرِفَ أنّه ستحدثُ له سكتةٌ دماغيّة«، قلتُ له. حينئذٍ التفّ نحوي، وقال: »أنت لا تفهم.« كانت الدّموعُ تَتَرَقْرَقُ في عينيه. »أنا وهو-أَبْغَضْنا بَعْضَنا البَعْض. يُمكنني أنْ أُدْرِك سبَبَ ذلك الآن. لكنّه على الأقلّ وَقَفَ بجانبِنا، هذا التّعِسُ.« وأضاف بلسانٍ حادّ: »كنتُ أراه أكثرَ من والدي الحقيقيّ. لو أنّ لي قُوّةً فأُمْسِكَ بذلك النّذل..« ثَمّ توقّف وأطْلَقَ ضحكةً واهنِة غريبةً. »النّذل ! ذلك مضحك، أليس كذلك؟، أنا أسمّيه نذلا«.أشاح بعد ذلك بوجهِه، ومسَحَ دموعَه بظاهر كفّيه. »أتمنّى أننيّ لم أضربْه«، قالها بهدوء.
» سيكونُ على ما يُرام.«
»أتعتقدُ ذلك؟« لكنّه هزّ رأسَه. »لا، إنّه سيموت. ذلك ما قاله الطبيب. كان الأبَ الوحيدَ الذي عَرَفْناه أنا وسوزان، والآن لقد قتلتُه.«
»دَعْك من هذا الهُرَاء. الأمرُ ليس بهذه الدراما. حَدَثَتْ له سكتةٌ دماغيّة، وعلى أيّة حال كان من حقِّك أن تدافعَ عن أمّك عندما يضْرِبُها رجل.«
نَظَرَ إليّ. »هل قالتْ ذلك؟« ثمّ قَهْقَه، وبعد لحظةٍ قال: »نعم ذلك صحيح- ضَرَبها.«.و أضاف: »يا إلهي ! يا لها من فوضى دمويّة«. أحدَثَ بابُ سيّارةِ الإسعاف ضجيجًا في الشّارعِ بالخارج، وانطلق ليُحدِّقَ عبرَ النّافذة. تحركتْ السيارة وانصرفتْ. وكأنّ مغادرتَها قد استفتحتْ حَبْلَ أفكارٍ جديد كلّيّا، دارَ حولي وقال: أنتَ محامي ويتَكَرْ، أليس كذلك؟«
لم يعنِ لي الاسمُ شيئا، لكنْ دون شكّ فإنّ ترخيصَ مدام توماس تتعاملُ معه شركةُ إيفانز منذ زمنٍ طويل، وسيقومُ به كاتبي كنوعٍ من الروتين. »ويتكر هو اسمُ أبيك، هو- أبوك الطّبيعي؟«
»ذلك صحيح. أبي الطّبيعيّ.« نطق الكلمةَ ببطءٍ مُتَلَذِّذا بها لأوّلِ مرّة. ثمّ قال: »أريدُ عُنوانَه.«
»لماذا؟«
»لماذا، بحقِّ الجحيم في رأيك؟« عاد إلى النّافذةِ ثانية. »من حقِّ المرء أنْ يعرفَ أين يسكنُ أبوه، أليس كذلك؟«
»ربّما«، قلتُ له. »لكننيّ للأسف لا أعرفُ عنوانَه.«
»ذلك كَذِب.« عاد إليّ، يبحلقُ بعينيه في وجهي. »حسنًا، إنه لديك في ملفّاتِك، أليس كذلك؟ يُمكنك أنْ تبحثَ عنه.«
»إذا كان زبونًا عندي، ليس إذًا من حقّي أنْ أُفْصِحَ عنه لأَحَد-«
»حتّى ولو كان ابنَه؟«.
»نعم، حتّى ولو كان ابنَه«. فكّرتُ بتردّد؛ إذا أعطيتُه إيّاه سيهدأُ غضبُه، ثم أنّه برغمِ كلِّ شيءٍ من حقِّه أن يعرفَ أين كان أبوه. »إذا كان لديّ عنوانُه«، قلتُ له، »سأخاطِبُه إذا أحببتَ وأحصلُ على إذنِه-«
»أوه، لا تقلْ لي هذا الهُرَاء. أنتَ تعرفُ جيّدًا أين هو«. ثم أمسكَ بذراعي: »هيّا أخبرْني. إنّها الجزيرةُ العربيّة- إنّه في مكانٍ ما في الجزيرةِ العربيّة. أخبرْني بحقِّ السّماء.«
أَدْرَكَ أنّ هذا ليس هو الأسلوبُ الأفضل، ثمّ بدأ في التّوسّل: »من فضلِك، ليس لديّ وقتٌ كثير، وعليّ أن أعرف. هل تسمع؟ عليّ أن أعرف.« كان في صوتِه إلحاحٌ مُستميت. ثمّ قَبضَ على ذراعي بشدّة: »دَعْني أحصل عليه.« اعتقدتُ أنه كان على وشك أن يهاجمَني، وأعصابي المتوتِّرةُ كانت مهيأةً له.
»ديفيد !«
كانتْ مدام توماس تقفُ عند المدخل قلقة وحائرة. »لا أستطيعُ أنْ أتحمّلَ أكثرَ من ذلك.« تناهى إليه صوتُها لحِدِّته، فاسترخى ببطء وتراجعَ عنّي. »سأعودُ لذلك العنوان«، قالها مُغَمْغِمًا. »إن آجلاً أو عاجلاً سأحضرُ إلى مكتبِك وآخذُه منك.«عاد إلى النّافذة ثانيةً، ينظرُ إلى الخارج. »أريدُ التحدُّثَ مع أمّي الآن.« قالها مصوِّبا نظرَه نحوي، ينتظرُني أنْ أخرج.
تردّدتُ، مُلْقيًا لمحةً في مدام توماس. كانتْ لا تزالُ جامِدةً كحَجَر، وعيناها، وهي ترمق ابنها، كانت واسعتين مذعورتين. سمعتُ مجرى نَفَسِها البطيء. »سأذهب وأعملُ بعضَ الشّاي«، قالتْها ببطء، وعرفتُ أنّها أرادتْ الهروبَ إلى مطبخِها. »تريدُ فنجانًا من الشاي الآن، أليس كذلك السّيّد جرانت؟«
لكن قبلَ أن أجيب وأعتذرَ لها، كان ابنُها قد توجّه إليها. »من فضلِك، ماما.« كان صوتُه مُلحّا. »ليس هناك وقتٌ كثير، كما ترين، وعليّ أن أتحدّثَ معكِ.« كان يتوسّلُ إليها- الآن طفلٌ وديعٌ يتوسّلُ إلى أمِّه، ورأيتُها تضعفُ أمامَه فوراً. تناولتُ قبّعتي مِنْ فوقِ المكتب. حسَنًا، مدام توماس«، قلتُ لها. »سأتركُكِ الآن.« كان هناك تليفون قديمٌ على المكتب، بين مجموعةٍ من الكُتبِ حول الكلابِ السلوقيّة وطُرُقِ سباقِها. »بإمكانكِ دائمًا أنْ تتّصلي بمكتبي إذا أردتِني.«
أومأتْ في صمت. كانتْ ترتجفُ قليلاً، وأدركتُ أنّها كانتْ تخافُ من اللّحظةِ التي ستُتْرَك فيها وحيدًةً معه. لكنْ لم يكنْ هناك مُبرِّرٌ لبقائي. هذا شيءٌ يخُصُّهما وَحْدَهما. »خُذْ نصيحتي«، قلتُ له. »عندما تصلُ الشّرطةُ، كنْ متعاونًا معهم أكثرَ من تعاملِكَ معي إذا أردتَ تجنّبَ المشكلة. واستمعْ لأمّك.«
لم يَنْبِسْ بكلمة. النّظرةُ العابسةُ عادتْ إلى وجهِه. اصطحبتْني مدامُ توماس إلى الباب. »أنا آسفة، قالتْ لي. »إنه متضايق.«
»إنّه ليس أمرًا غريبًا.« تذكّرتُ كيف كان شعوري حينَ علمتُ أنّ أبويّ كانا مطلّقين. لقد سمعتُ الخَبَرَ أوّلاً من صبيٍّ في المدرسة، ووسمتُه حينها بالكذّاب والخِنْزيرِ الصّغير. ثمّ حين اكتشفتُ أنّ الأمرَ كان حقيقيًّا، انتابتْني رغبةٌ بقتلِ أبي، ولكنْ اكتفيتُ برسالةٍ أُخبِرُهما فيها بأنّ هذا عملٌ وحشيٌّ مَحْضٌ غيرُ مُبَرَّر. »مِن المؤسفِ حقًّا أنكِ لم تُخبريه مِنْ قبْل.«
»لقد أردتُ ذلك دائمًا«، قالتْ. »لكنْ بطريقةٍ ما…« وهزّتْ كتفيها، إشارةَ يأْسٍ، وحين خرجتُ إلى سيّارتي كنتُ أتمنّى أنّه كان بإمكاني أنْ أفعلَ أكثرَ لمساعدتِها.
حين خرجتُ من شارعِ إفيرديل، مرّتْ بي سيّارةُ دوريّة. كان فيها أربعةٌ منهم، من بينهم الرّقيبُ ماثيسون من دائرةِ التحقيقاتِ الجنائيّةِ بكاردف. لقد بدتْ قوّةُ الشرطةِ التي استجابتْ لاتّصالِ الدّكتور هارفي كبيرةً من اللازم، لكننيّ لم أرجعْ. كانتْ الساعةُ قد عدّتْ الخامسة وأندروز ينتظرُني في المكتبِ لجَرْدِ أعمالِ اليوم.
كان أندروز كاتبي. وكان أيضًا يقومُ بدوْرِ المُنَسِّقِ، وعاملِ البدّالة، والسّاعي. البائسُ الفقيرُ، جاء إلي ولمْ أكنْ أملكُ إلا مكتبًا بغرفةٍ مزدوجة وأثاثٍ قَذِر؛ هو جملةُ ما ترَكَه لي عمّي من تجارةٍ كانت مُزدهرِةً ذاتَ يوم، بتفاؤلٍ لم يكنْ في مَحلِّه، لأنّني، رغمَ اجتيازي امتحاناتِ القانون، لم أتدرّبْ أبدً. وكانت الحربُ قد وقعتْ فوجدتُني مُضطَرًّا للذهابِ إلى تانجانيقا لممارسةِ زراعةِ الشاي، المغامرةُ التي انتهتْ بشكلٍ سيّئ، حيثُ تركتْني مُفْلسًا حين تُوفي عمي، حتّى لقد بدا ميراثُ ذلك المكانِ البائسِ بمثابةِ ابتسامةٍ للثّروة.
»أتعرفُ شيئًا عن مدام توماس؟« سألتُ أندروز، وهو يساعدني على خَلْعِ مِعْطفي. لقد قام بإسْدالِ السّتارةِ، وبوجود النارِ المشتعلةِ في المَوْقِدِ، بدا المكانُ مُريحا رغمَ الغبار وأكوامِ الملفّات وصناديقِ العملِ السّوداء التي غطّتْ الأرضيّةَ حتى بابِ الخِزانةِ المفتوح. »إنّها مسألةُ مساهَمةٍ صغيرةٍ تقولُ إنّنا نديرُها لها.«
»مدامُ توماس، أليس كذلك؟« جلستُ على طاولةِ المكتب ووقف هو تجاهي؛ طويلا ومُحْدَوْدِبًا قليلاً، وبدا الجلدُ مشدودًا كالرَّقِّ عبرَ عظامِ وجهِه الطويل. »تعرف، السيد جرانت، أنّ نصفَ عملائِنا تقريبًا لهم اسم توماس.« كان هذا جزءًا من اللّعبةِ التي يجعلُ بها دائمًا أبسطَ الأشياءِ تبدو مُعقَّدة.
»إنّه أحدُ عملائِك القدامى«، قلتُ له. »شيئٌ قد ورثتُه فيما يبدو دونَ دِرايةٍ من الرجُلِ العجوز«.
»من السّيّد إيفانز، تقصد«.
كان ذلك، أيضًا، جزءًا من اللعبة، ولأنّ عملَه كان متميِّزا اضطررتُ أن أسايرَه. »حسنًا، أندروز. من السّيّد العجوز إيفانز«. ضوءُ نارِ المِدفأةِ وَمَضَ على وجهِه المُجعَّدِ البائِسِ. لقد كان يعمل مع عمّي منذُ أنْ كان تحتَ التدريبِ، وقد أقام معه باستمرارٍ خلالَ مرضِه الطّويلِ حتّى حينِ وفاتِه منذ سنتين. اللّه وحدَه يعلمُ كمْ عمرُه؛ رقَبتُه النّحيلةُ، المُغطّاةُ بشَعرٍ صلْبٍ، انتصبتْ من ياقتِه الوَسِخِةِ المُتيبِّسةِ مثلِ جسدِ دجاجةٍ منتوفةِ الشَّعر. »حسنًا ماذا عنه؟« قلتُ له وقد نَفدَ صَبري. »ورثتُ شيئًا قليلا بمفهومِ تجارةِ الأعمالِ إلى حدِّ أنّه لا يعني شيئًا. هل سمعتَ باسم ويتكر؟«
»ويتكر؟« وتحرّكتْ تفّاحةُ آدمَ في عنقِه بتشنّج. »أوه، نعم، بالطّبع. الكولونيل ويتكر. مسألةُ تصريفِ أعمالٍ صغيرة. اعتادتْ المجيءَ إلينا فصليًّا من البحرين على شكلِ حِوَالةٍ بنكيّة، وكنّا نصرفُها له ونحوِّلُها إلى عنوانٍ في جرانجتاون«.
طلبتُ منه أن يأتيَني بالملفّ. لكن بالطّبعِ لم يكنْ هناك أيُّ مَلفّ. على أيِّ حال، حين كنتُ أوقّعُ الرسائلَ، تمكّن هو من استخراجِ بعضِ السّجلاتِ المتعلقةِ بالاتفاق. كُتِبَ على ورقةِ الشّركةِ بخطِّ عمي المُتحدِّر والذي يعودُ شكلُه إلى ما قبل الحرب. وفيه: تعهّد تشارلز ستانلي ويتكر بالدّفع فصليا إلى سارة دافيز مبلغ خمسة وعشرين جنيها لمدة خمسةَ عشر عاما أو، في حالة موتِه، فإن مبلغًا مُقتطعًا من التركة مساويا للرصيد المتبقي سيقدَّم بشكلٍ مستمر… الإشارةُ إلى فحوى كلِّ هذا الاتفاقِ كانت مُتضمَّنةً في الفقرةِ النّهائيّة، والتي تنصّ: هذا الاتفاقُ يلزمُ ورثتي ولا بدّ أن يوافقَ عليه من قبل سارة دافيز المذكورة آنفا موافقةً كاملةً بكل مطالباته الحقيقيّة والمفترضة. كان الإمضاءُ في الأسفل خربشةً بالكاد تُقرَأ، وتحته كتبتْ سارة دافيز اسمَها بخطِّ تلميذةٍ واضح.
»إذا تسألني، السّيّد جرانت، فإنّ الكولونيلَ وضعَ هذه السّيّدةَ الصّغيرةَ في وَرْطة.«
الضّحكةُ الساخِرةُ التي صاحبتْ ملاحظةَ أندروز الأخيرة ضايقتْني. »السّيّدةُ الصّغيرةُ، كما تدعوها، هي الآن امرأةٌ في منتصفِ العمر، تَعِسَة وخائفة«، قلتُ له بحدّة. »و عليه فإنّ لها ابنا في التاسعةَ عَشَرَ من عمره، وللتّوِّ فقط اكتشفَ أنه غيرُ شرعيّ. وله أيضًا أختٌ توأم. إنها حالةٌ ليستْ مُسَلِّية«. و»ويتكر-هل ما زال حيًّا في الجزيرةِ العربيّة؟« تساءلتُ. »هل تعتقدُ أنّ الرّجلَ يعلمُ بأنّ لديه ابنًا وابنةً هنا في كاردف؟«
»لا أعلم، سيّدي«.
»هل لدينا عنوانُه؟«
»البنكُ في البحرين. العنوانُ الوحيد الذي كان لدينا«.
و البحرين في الخليج. لكنّ آخرَ عمليّةِ دفعٍ اسْتُلمتْ كانت منذ ثلاث سنوات مضتْ. قد يكون الآن في أيّ مكانٍ في إنجلترا، متقاعدا ربّما. »من المُؤسِفِ أننا لا نملكُ عنوانَه«، قلتُ. كنتُ أعتقدُ أنّ الابنَ يجبُ أن يشبهَ أباه: الأنفُ المُسْتدِقُّ الطرفِ كالمنقارِ، والفكُّ القويُّ كانا ميزتينِ جسديّتين لم تلائما أحوالَه. »هذا هو كلُّ ما لدينا عن ويتكر، أليس كذلك«.
أَوْمأَ أندروز بالإيجاب.
»إذًا أخبرْني كيف عرفتَ أنّه كولونيل؟ ليس هناك ذكرٌ للكولونيل في هذا الاتفاق«.
فيما يبدو أنّ أندروز قد قرأ رتبتَه في أخبارِ بعضِ الصحف. »شيئٌ ما يتعلّقُ بعقودِ امتيازاتِ النفط، فيما أعتقد. كانت هناك صورةٌ، أيضًا، لبعضِ الشّيوخِ في عباءاتِهم المُنسابةِ، والكولونيلُ ويتكر في الوَسَط يرتدي شورتاتٍ صفراءَ داكنة وبرنيطةً عسكريّة«.
»كيف عرفتَ أنّه كان نفسَ الرّجل؟«
»حسنًا، لم أكنْ متأكّدا. لكننيّ لا أعتقدُ أنّه يمكنُ أن يكون هناك اثنان منهم بالخارج في تلك المنطقة«.
ربّما كان على حقّ. »سأسألُ عنه الكابتن جريفث ».الرّجلُ الذي قَضَى حياتَه مبحرًا بسفينتِه من وإلى الموانئ العربيّةِ ينبغي أن يعرفَه، وهو من المفروضِ أن يأتيَ إلى مكتبي في الخامسة والنصف. »هل ملكيّةُ عقارِه جاهزةٌ الآن؟«
أحضَرَها أندروز من تحتِ رُكامِ الملفّات. رزمةٌ ضخمةٌ بدت وكأنّها احتوتْ على سَنَداتٍ تكفي لتغطيةِ ممتلكاتٍ بمساحةِ عشرين ألفِ فدّانٍ بدلاً من كُوخٍ صغيرٍ في شِبْهِ جزيرةِ جاور. المِلكيّةُ تنقصُها الخارطةُ، وإلا كلُّ شيءٍ مرفقٌ بها؛ الصكُّ، وجميعُ الوثائقِ الرسميّة.
طلبتُ منه أن يتصلَ بالرّجلِ الذي كان يعملُ الخريطةَ فورًا. »يريدُ جريفث كلَّ الوثائقِ قبل أن يُبْحِرَ اللّيلة«. رنّ التّليفون. كانت مدام توماس وعرفتُ من نَبرةِ صوتِها أنّ شيئًا ما قد حدث. »جاءوا بعد أن غادرتَ مباشرةً، وأنا قلقةٌ جدًّا، السّيّد جرانت، لا أعرفُ ماذا أفعل. وسوزان قد رجعتْ الآن وقالتْ إنها ستتّصلُ بك. أنا آسفة جدًّا على إزعاجِك، وأقدِّرُ لك طيبتَك وتعاونَك معنا دون مُقابِل، لكنّك طلبتَ منّي الاتّصالَ بك إذا احتجتُ للمساعدة ولذا فكّرتُ ربّما..«
»فقط أخبريني بما حَدَثَ، مدام توماس«، قلتُ لها.
»حسنًا، تعرف، لقد أخذوا ديفيد معهم، و…« تعطّل صوتُها بعد ذلك. »أنا قلقةٌ للغايةِ عليه، السّيّد جرانت. لا أعرفُ ماذا سيحدث. وهو عنيدٌ جدا، كما تعلم. بمجرّدِ أنّ لديه فكرةً في رأسِه… هو دائما كذلك منذ أن كان صغيرا. لا شيءَ يجعلُه يغيّرُ رأيَه أبدًا حين يُقرِّر«.
»لا تقلقي أبدًا بما يدورُ في رأسِ ابنِك. ماذا حدث حين وصلتْ الشّرطة؟«
»قالوا فقط أنّه يجبُ أن يذهبَ معهم«.
»إلى قسمِ الشّرطة؟«
»لا أعرف«.
»للتحقيقِ، أليس كذلك«.
»لم يخبروني. سألتُهم لماذا قَبَضوا عليه، ولكنّهم لم يجيبوا. لقد كان في وَرطةٍ، كما تعرف، وهم تصرّفوا وفقَ ذلك-
»هل قال الرّقيب ماثيسون أنه رهن الاعتقال؟«
لا، لم يقلْ ذلك بالضّبط. قال فقط إنّه عليه أن يأتيَ معهم. لكنه الشّيءَ نفسَه، السّيّد جرانت، أليس كذلك؟«
»هل وَجّه له تُهمة؟«
»لا. لا، لا أعتقدُ ذلك. قال فقط أنّه سيذهبُ معهم، وقد فعل. لم يحاولْ المقاومةَ أو ما إلى ذلك. لقد أخذوه ولا أدري الآن ما سيحدث له«.
»مدام توماس«، قلتُ لها، »هناك شيءٌ ما أريدُ أن أسألَكِ عنه. هل يمكنُ أن تخبريني أين الكولونيل ويتكر الآن؟«
بلُهاثٍ سريع وتردُّدٍ قالت: »لا. لا، لا أعرفُ. لكنّه قد يكون في مكانٍ ما في الجزيرةِ العربيّة«
»ما زال حيًّا حتّى الآن، إذًا؟«
»أوه، نعم«.
»هل تلقيتِ خبرا منه؟«
تردّدتْ ثانية. »لا. لا أبدًا، لم أتلقَّ خبرًا منه أبدًا«. وأضافتْ بسرعة: »فقط الإعانة. كان مُلتزِمًا بخصوصِ الإعانة«. ثم تنهّدتْ: »لم آخُذْ منها قطُّ فلسًا لنفسي، وإنّما أنفقتُها على ديفيد. إنه فتى حاذِق وماهر، تعرف-عقلُه وقّاد. أعتقدُ أنه سيصبحُ مهندسًا«. استمرّتْ في التحدُّثَ بلغتِها السّريعةِ، عن الكتبِ التي قد اشترتْها وكيف أنها أرسلتْه إلى المدرسةِ اللّيليّة، وتركتُها تتكلّمُ لأنّ الكلامَ بدا يهدِّئُها. »لم يستطعْ أن يحتملَ الموقفَ عندما توقّف الدعم. وبدأ يتسكّعُ هائجا في الأرصفةِ باستمرار، وقلبُه يحدِّثُه بالذهابِ إلى الجزيرةِ العربيّة. وقد بدأ يتحدّثُ العربيّةَ، تعرف«. قالتْها بفخر، وبنفسِ اللغةِ أضافت: »حاولتُ إثناءَه عن عَزْمِه، لكنْ دون جدوى. أصبحتْ لديه كتبٌ عن الجزيرة العربية، تعرف، ويعرفُ كلَّ أولئك العربِ في منطقةِ تايجربي. كلُّ ما يتعلّقُ بالعربِ يجري في دمِه. والقُصَاصَاتُ التي جمعتُها في كتابٍ عن ويتكر، يُفترَضُ أنني لم أسمحْ له برؤيتِها«. ثمّ أضافت: »من المُؤسفِ أنّك لم تكنْ هنا عندما حضرتْ الشرطة. أعرفُ أنّهم ما كان لهم أن يأخذوه لو كنتَ هنا«.
»حسنًا، لا تقلقي عليه بعد الآن«، قلتُ لها. »سأتّصلُ بهم وأكتشفُ ما الأمر. هل عرفتِ عن حالةِ زوجِك؟« لكنّها لم تتلقّ أيَّ خبرٍ من المستشفى. »حسنًا، ذلك جيّد«، قلت. »لو أنّ حالتَه سيئةٌ، لأخبروك. سأتّصلُ بكِ إذا استجدّ جديدٌ عن ابنك«. أنهيتُ المكالمة. قلتُ لأندروز: »أوّلُ شيءٍ افعلْه غدًا، اتصلْ بالصحف وانظرْ إذا كان لديهم أي شيءٌ في ملفّاتِهم عن ويتكر. ما يحتاجُه الولدُ الآن هو الأب، أبٌ يمكنُ أن يَنظرَ إليه باحترام«.
أسرعتُ في إنهاء باقي الأعمال، وبمجرّدِ أن انصرف أندروز اتّصلتُ بعيادةِ الدّكتور هارفي. »جورج
جرانت يتحدّث«، قلتُ حين رفع السماعة. »أيّةُ أخبارٍ جديدة عن توماس؟«
»نعم«، قال، »و هو خبرٌ سيّئ، للأسف. تلقيتُ مكالمةً للتوِّ من الممرِّضة. وتقولُ إنّه مات في سيّارة الإسعافِ في الطّريقِ إلى المستشفى«.
»هل اعتقلتْ الشّرطةُ ذلك الولد؟«
»نعم«. من الممكنِ جدًّا أنْ تُوجَّهَ إليه تهمةُ القتلِ الخطأ. »هل قام أحَدٌ بإخطارِ مدام توماس بأنّ زوجَها قد مات؟«
»الممرضةُ تتصلُ بها الآن«.
»إنها أيضًا مسألةُ وقت، »، قلت. لقد أثبتوا كيف يكون القانونُ أحيانا عديمَ الروحِ بشكلٍ لا يُصدَّق. لكن في الحقيقةِ، كان قلقي على الولدِ أكثرَ من قلقي على الأمّ. »لقد أخذوا ديفيد توماس رهنَ الاعتقال«، قلتُ له.
»ذلك جيّد«.
أغضبَني تعليقُه. »لماذا اعتقدتَ أنه من واجبِك إبلاغُ الشّرطة؟ هل عرفتَ أنّ الرّجلَ كان سيموت؟«
»توقعتُ ذلك«. ثمّ، بعد توقّف، أضاف: »كان مراهِنًا، تعرف. حول كلابِ الصيْد. وكان سّكّيرا، ومدخّنًا شَرِهًا، ومُفْرِطًا في كلِّ شيء، إذا كنتَ تفهمني. هذا الصنفُ يموتُ بسرعة. لكنّني لم أكنْ متأكدا، بالطّبع«. ثم أضاف: »بصراحة، لم أتوقّعْ أن الولدَ سيبقى هناك حتّى تصلَ الشّرطة. اعتقدتُ أنه سينصرف. وربّما فعل ذلك لو لم تكنْ هناك«.
»لم أكنْ هناك«، قلتُ له. »لقد غادرتُ المكانَ قبلَ أن يصلوا«.
»أوه، حسنًا، لا فرقَ في ذلك. إنه ولدٌ سيئ«.
»ما الذي يجعلُك تعتقدُ ذلك؟«
»إنه لأمرٌ غريبٌ جدا«، قال معلِّقًا بحدّة، »إننيّ لا أوافقُ على ضربِ الأولادِ لآبائِهم. الحُرّيّةُ أُسيئَ استعمالُها إلى أقصى حدٍّ من قِبلِ هذا الجيلِ الجديد. إنّ هذا الولدَ صعلوكٌ، بل متشرِّدُ شوارع وأرصفة«. وأطلقَ ضحكةً سريعةً خرقاء. »إنّها ظروفُ الحربِ، بالطبع، لكنّ ذلك لا يعذرُهم كلّيّا«.
ثمّ سألتُه أن يخبرَني ما يعرفُه عن الولد. لكنّه لم يكنْ يعلم كثيرًا عنه. فعائلةُ توماس بدأتْ تذهبُ إليه فقط منذ بدايةِ خِدمةِ التّأمين الصّحّيّ، ولم تقعْ عيناه على الولد إلا مرّاتٍ قليلة. لقد نشأ مع عصاباتِ الشوارع، كما قال عنه، واختلطَ كثيرًا مع العَرَب، وقد تنقّلَ من عملٍ إلى آخر، كما أنه قد حُكِمَ عليه في قضيّةِ ضربِ زعيمِ عِصابةٍ مُنافسة. »أتوقَّعُ أنه قد أُطلقَ سراحُه من الإصلاحيّة مؤخَّرا«، قال. »و مشاكسون أجلاف كهذا هم الشّياطينُ في رأيي«.
»و لذلك اتّصلتَ بالشّرطة؟«
»حسنًا، لقد قَتَل أباه، أليس كذلك؟« بدا صوتُه في موقفٍ دفاعيّ.
»أنتَ لا تَأْبَهُ كثيرا بطبيعةِ الإنسان«، قلتُ له.
»لا. ليس مع ولدٍ كهذا. طعناتٌ بالسكّين وجُروحٌ بقَيْدِ دَرّاجة، حاولْ أنتَ أن تُعالجَها وحينَها ستتفقُ معي في الرأي«.
»ليكن«، قلتُها ولم أُضِفْ. لم يعرف أنّ توماس لم يكنْ أبًا للولدِ كما أنه لم يعرفْ سببَ الشّجارِ بينهما. »الحياةُ ليستْ كلُّها على خطٍّ واحدٍ كما ترونها في عياداتِكم«، وأنهيتُ المكالمة.
في ذلك الوقتِ كانت الساعةُ الخامسة والنصف، والكابتن جريفث قد وصل. كان رجلاً ضعيفَ الجسمِ بلحيةٍ مُدبّبةٍ، وضحكةٍ عاليةٍ مُتقطّعة، ويلبسُ بذلةَ صوفٍ بدتْ فضفاضةً عليه. كما أنّ جِلْدَه المَهْزولَ المُتغضِّنَ جعلَه يبدو ذابِلا. ومع أنّه لم يكنْ شخصًا مُثيرًا، فإنّ خبرتَه الطويلةَ في القيادةِ أعطتْه بَرَاعةً في جَعْلِ استيائِه مَلْموسًا. »وعدتَني بالوثائقِ قبلَ أنْ أُبْحر، يا رجل«. قالها باندفاع واتّهام.
»لا تقلق«، قلتُ له. » ستحصلُ عليها. متى تبحر؟«
»التاسعة والنصف ليلا«.
»سآتيكَ بها إلى السفينةِ بنفسي«.
يبدو أنّ ذلك أرضاه، ولأنّه أظهرَ رغبةً للمحادثة، سألتُه عن ويتكر. »الكولونيل تشارلز ستانلي ويتكر«، قلتُ له. »هل تعرفُه، بالمناسبة؟«
»نعم، بالطّبع. البدويّ، ذلك ما يُطْلقونه عليه هناك. أو البدويّ اللعين بالنسبةِ لأولئك الذين يكرهون شجاعتَه وكلَّ تَحَذْلُقاتِه العربيّة. إنهم البيض، مَنْ يطلقون عليه ذلك. ويُسمّيه العربُ العريف أو الحَجّي. نعم، أعرفُ الكولونيل ويتكر. لا يُمكنُ أنَ تُتاجرَ بين مواني الخليجِ بدون مقابلتِه مِنْ وقتٍ لآخَر«.
»مازال في تلك المنطقةِ، إذًا؟«
»أوه، يا إلهي، نعم. مثلُ ذلك الرّجُلِ لن يكونَ سعيدًا أبدًا بتقاعدِه إلى كوخٍ في جزيرةِ جاور.« لقد انطوتْ عيناه الزّرقاوانِ الصّغيرتانِ على ضَحِكٍ صامت. »لقد تحوّل إلى الإسلام، تعرف. وقد ذهبَ إلى مكّة للحج، ويُشاعُ عنه بأنّ عندَه عِدّةَ نساء، وأحيانا يميلُ إلى الصِّبْيَة…… لكن«-و هَزّ رأسَه. »هذه مُجَرّدُ أقاويل. لو صدّقتُ كلَّ نميمةٍ سمعتُها على سفينتي، فلنْ تبقى سُمْعةٌ لأحد. كلٌّ منّا له مَنْ يُحبُّه ويلعنُه…« وأخذ يُقهقهُ بصوتٍ عال. »لكنْ، يا عزيزي«، واستمرّ في حديثِه، »هناك شخصيّةٌ حقيقيّة. رجُلٌ مثلُ ويتكر نادرٌ في بريطانيا-و لن تجدَ مثلَه الآن. أعورُ يُغطّي عينَه بقِناع، وله أنفٌ عظيمٌ كالمنقارِ يجعلٍه يبدو مثلَ طائرٍ جارِحٍ دمويّ.«
»وهل قابلتَه؟«
»نعم، بالطّبع. وقد سافرَ معي على سفينتي، أيضًا – مِرارًا وتكرارًا. لطالما أخذتُه على السفينةِ مُرتديًا مَلاءتَه البدويّةَ الفضفاضةَ، ومُنْتَطِقًا خِنْجرَه الفضيَّ اللامعَ، ولافّا عِقالَه العربيَّ الأسودَ فوق غترته؛ نعم، ولطالما لفتَ الأنظارَ على مَتْنِ السفينة وهو يؤمُّ بحُرّاسِه الصلاةَ مُسلَّحينَ حتّى الأسنان«.
»يعني من طِرازِ لورنس؟«
»حسنًا…« بدا متشكّكًا. »ليس لديه بالضبطِ تلك المكانةُ مع السّياسيّين. إنه بدويّ. وتغييرُ ديانتِه يجعلُه مختلفًا عن لورنس، كما تعلم. لكنّ رجالاتِ النّفط يعاملونَه جميعًا كالإله-أو كانوا كذلك. له نظريتُه الخاصّةُ حول تنقيبِ النفط- نظريّةُ ويتكر، يسمّونها. وهو يرى أن شركةَ تنمية حقول بترول خليج عُمان يجبُ أن لا يَقتصرَ تنقيبُها على المنطقةِ المزعومةِ بالنفط، والتي تمتدّ من العراقِ عبرَ الكويت، والظهران، والبحرين وقطر، وإنما يجبُ أن يصلَ إلى الجنوبِ الشّرقيِّ على خطّ جِبالِ الحَجَر، عبرَ البريمي وحتّى الإمارةِ المستقلّةِ صُرَيْفَة. في الواقع، مِنْ غيرِ المعروفِ فيما إذا كان الرجلُ مُصيبًا في رأيِه هذا ما لم يكتملْ التّنقيب والحَفْر. وكان هناك رجلٌ يُسمّى هولمز، إذا كنتَ تعرفُه-كان مهتمًّا بالحديثِ عن نفسِ الموضوعِ في البحرين، وقد ثبت أن رأيَه كان صحيحًا«.
»بخلافِ ويتكر؟« حاولتُ أن أثيرَه، لأنه توقّف، وعقلُه منهمكٌ في الماضي.
»لا. لقد كلّف الشّركةَ الكثيرَ من الأموال ولا نتيجةَ سوى آبارٍ جافّة. والأشياءُ الآن تتغيّرُ هناك«.
هزّ رأسَه بحُزن. »هناك جيلٌ جديدٌ وصَلَ إلى قِممِ شركاتِ بترولِ الشّرق الأوسط هذه، رجالٌ تقنيّون ما يعنيهم هو النفط، وليس العرب. ويتكر والعالَم الذي يمثّله-زائلٌ لا محالة، لقد انتهى. لا وجودَ له في صحاري الجزيرةِ العربيّة الآن، حيث النفطُ يتدفق ونصفُ العالَم يحاولُ انتزاعَ حصّةٍ منه. كما أنّ ويتكر ينتهجُ سلوكَ شيخِ القبيلة. وهو ربّما يدّعي أنه من سُلالةِ النبيّ نفسِه، كما يتصرّف أحيانًا«.
كانت صورةً هائلةً تلك التي رسمَها جريفث لويتكر، وحين قَفَلَ راجعًا إلى سفينتِه شعرتُ أنّ مكتبي الباهتَ أصبح أكثرَ إضاءةً بفعلِ لونِ لغتِه الموسيقيّةِ فيه. وضعتُ فحمًا أكثرَ على النّار وتهيأتُ لإنهاءِ عملِ اليوم.
و بعد نصفِ ساعةٍ تقريبًا قطعني عن العملِ صوتُ جَرَسِ البابِ الأساسيّ. لقد أفزعني، لأنّه من النادرِ جدًّا أن يزورَني أحدٌ دون موعدٍ بعد ساعاتِ العمل، ولمحةٌ خاطفةٌ في مفكّرتي أكّدتْ لي أنْ لا موعدَ عندي ذلك المساء.
تبيّن أن زائري كان فتاةً، وحين وقفتْ هناك في العاصفةِ الثلجيّةِ تتشبّثُ بدرّاجتِها، بدتْ مألوفةً لي إلى حدٍّ ما. كان لها وجهٌ دائريّ، وجهٌ جذّابٌ، أكثرُ منه جميلا، يستمدُّ سِحْرَه أساسيًّا من تشكيلةِ العظم. افترَّ ثَغرُها، متوترةً قليلا، عن أسنانٍ بيضاءَ لامعة، وعيناها الشاحبتانِ لهما وَميضٌ برّاق. أتذكّرُ أنني أُخِذْتُ بعينيها في تلك اللحظة. كانتْ طِفلةً تمتلئُ صّحّة وحيويّة.
»السّيّد جرانت؟ أنا سوزان توماس. هل أستطيع التحدثَ معك للحظةٍ، من فضلك؟« جاءت كلماتُها مُندفعةً، سريعةً، لاهثة.
»بالطّبع«. وفتحتُ البابَ لها. »تفضلي«.
»هل يمكنُ أن أضعَ درّاجتي بالدّاخل؟« كان هناك تردّدٌ طبيعيٌّ في صوتِها مما جعله جذّابًا بشكلٍ مُميَّز. »كان لديّ واحدٌ سُرِق منذ أسابيع قليلة«. دفعتْه إلى الداخل، وإذ أخذتُها إلى مكتبي، قالت: »كنتُ خائفةً جدًّا ألا أجدَك، ولا أعرفُ أين تسكن«.
في الوَهَجِ الساطعِ لموقدِ مكتبي استطعتُ أنْ أتملاها بوضوح. أنفٌ مُستدقّ الطرفِ، وفكٌّ قوي- كان كلاهما يميزانِها، عدا أنّ مَلامحَ وجهِها تميّزْت برقّةِ الأُنوثة. وبخلافِ أخيها، لم يكنْ لديها أيُّ شَبَهٍ بالأمّ التي رأيت. »حولَ موضوعِ أخيكِ، أعتقد؟«
أومأتْ، نعم، ونفضتْ البَرَد عن شَعْرِها الأشقر، بينا أناملُها النحيلةُ فكّتْ بخفّةٍ معطفَها البنيَّ الذي بدا مستهلَكًا. »رجعتُ للتوِّ من المستشفى. أمّي كانت بمفردِها. واجهتُ صعوبةً كبيرة…« تردّدتْ لحظةَ شكٍّ، إذْ أنها حدّقتْ فيّ بعينيها الواسعتينِ الصّافيتينِ، ولكنّها امتلكتْ العزيمةَ لتقول: »لقد طعنتْ في السنِّ، إذا فهمتَ ما أعنيه. وهذا وحده يكفيها«.
إنّها في التاسعة عشر من عمرِها، وقد عرفتْ كلَّ شيءٍ عن الحياة، كلَّ الحقائقِ المُرّةِ الصعبة. »هل أنتِ ممرّضة؟« سألتُها.
»في مرحلةِ التدريب«. قالتْها بشيءٍ من الفَخْر. ثمّ أضافتْ: »يجبُ أن تعملَ شيئًا ما بخصوصِه، السّيّد جرانت…اعثرْ عليه، أوقفْه عن محاولةِ قتلِ…….عن قتلِ شخصٍ آخَر«.
نظرتُ إليها فزِعًا. »عمَّ تتحدثين؟« قلتُ لها. كانت تبالغُ بشكلٍ دراميّ، بالطّبع. »لقد سمعتِ عن -« وهنا توقّفتُ، غيرَ متأكّدٍ بماذا أناديه. »عن السّيّد توماس؟«.
»نعم«. أومأتْ. وجهُها، كوجهِ أخيها، كان خَجُولا وشاحبًا. »أخبرتْني أمّي«.
»اتّصلَ بها المستشفى، إذًا؟«
»منذ نصفِ ساعة. لقد مات في سيّارةِ الإسعاف، كما قالوا«. لم يكنْ في صوتِها عاطفة، لكنّ شفتَها ارتعشتْ قليلاً. »أنا قلقةٌ على ديفيد«.
»كنتُ على وَشَكِ الذهابِ إلى قسمِ الشّرطة«، قلتُ لها. »كان حادثًا، بالطّبع، لكنْ هناك دائمًا احتمالٌ بأنّ الشّرطةَ قد تراه بشكلٍ مختلف«.
»لديه سِجِلٌّ سيّئٌ، تعرف. ولكن لم يسبقْ لهما أن اشتبكا معا. كنتُ أعرفُ أنّه ليس أبي- أبي الحقيقي«.
»أخبرتْكِ أمّكِ، أليس كذلك؟« اعتقدتُ أنّه من الغريبِ أن تُخبرَ ابنتَها وليس ابنَها.
»أوه، لا«، قالت. »لم تخبرْني أبدًا. لكنّه شيءٌ ما تعرفُه بالفِطرة«.
»إذن لماذا بحقِّ السّماءِ لم يعرفْ أخوك؟« قلتُ لها.
»أوه، حسنًا، الأولادُ بطيئو الفهمِ، تعرف. والأمرُ ليس شيئًا يُمكنُ أن تصرّحَ به بعفويّة، أليس كذلك، السّيّد جرانت؟ أقصدُ أنه شيءٌ تشعرُ به في أعماقِك، وهو نوع من السّر«. ثمّ قالت: »ماذا هو فاعلٌ، في اعتقادِك؟ هل كان جادّا عندما قال إنه سيقتلُه؟ أنا لم أكنْ هناك، كما تعلم. لكنّ أمّي مقتنعةٌ بأنه عازمٌ في أمرِه«.
»يقتلُ مَن؟« قلتُ لها.
»أبانا. الكولونيل ويتكر. لقد أَقسمَ أنه سيقتلُه، أليس كذلك؟ ذلك ما تقولُه أمّي. أنتَ كنتَ هناك. هل قال ذلك؟«
»حسنًا، نعم«. أومأتُ. »لكننيّ لم أحملْه مَحْملَ الجِدّ. لقد سَبّبَ له الأمرُ برُمَّتِه نوعا من الصّدْمة. بالإضافة إلى ذلك، » أضفتُ، »ليس بمقدورِه أن يفعلَ شيئًا الآن، حتّى إذا كان جادًّا. وحين يُطلَقُ سَراحُه، سيكونُ قد اعتاد على الفكرة«.
نظرتْ إليّ، وقالت: »أنتَ لم تسمعْ، إذًا؟«
»أسمع ماذا؟«
»ديفيد قد هَرَب«.
»هرب؟« إذن، هي هنا لهذا السبب. الأحمقُ، المجنونُ، الأبلهُ الصغير! »كيف عرفتِ أنه قد هرب؟«
»لقد اتّصلتْ الشّرطةُ، وقالوا أنه هرب من سيّارتِهم، وأنّ من واجبنا إخبارَهم إذا عاد إلى البيت. لذلك جئتُ لرؤيتك. أمّي فقدتْ صوابَها تقريبًا. تعرفُ أنها ليستْ قلقةً على ديفيد فقط، وإنما أيضا على الكولونيل ويتكر- أبي. لا أفهمُ الطّريقةَ الّتي عاملها بها، ولكننيّ أعتقدُ أنّها ما زالتْ تُحبُّه حتّى الآن….. والآن لا تعرفُ ماذا تفعل«. اقتربتْ منّي بعد ذلك، ولمستْ ذراعي في إشارةِ توسُّل. »من فضلكَ، السّيّد جرانت، يجبُ أن تفعلَ شيئا ما. يجبُ أن تساعدَنا. إني مَرعوبةٌ حتّى الموتِ من أنّ أمّي ستذهبُ إلى الشّرطة وتخبرُهم بما قاله ديفيد. ذلك ما أرادتْ أن تفعلَه، في الحال. قالتْ إنّه من واجبِها، لكننيّ أعرفُ أنها لا تعني ذلك. إنها فقط مذهولةٌ من جرّاءِ ما فعله ديفيد. وهو لديه سِجلٌّ سيّئ، كما تعلم. لذا قرّرتُ أن آتيَ إليك، وقد وعدتْ أمي أنها لن تفعلَ شيئًا حتّى أرجعَ إلى المنزل«. ثم تراجعتْ، مُنْهَكةً، وعيناها النجلاوانِ ترنوانِ إليّ بترقُّب.
لم أدرِ ماذا أقول. لا شيءَ بمقدوري أن أفعلَه. ولا جدوى من خروجي وبحثي في المدينةِ عنه. في ليلةٍ سيئةٍ كهذه، الشّرطةُ عن بَكْرةِ أبيها ستتفرّغُ للعثور عليه. » أين كان مكانُ هروبِه؟«
»في مكانٍ ما قربَ شارع كاوبريدج، كما قالوا«.
» وأبوكِ- هل لديكِ فكرةٌ كيف يمكنُ أن أتّصلَ به؟«
أشرقتْ عيناها بُرْهةً. »آه، لو أنكَ تستطيع !« لكنْ بعدها هزّتْ رأسَها. »ليس لديّ أيُّ فكرةٍ أين يكون الآن. أمّي أيضا لا تعرف. هل أرتكَ دفترَ قُصاصاتِها الصحفية؟«
»لا«.
»لا، بالطّبعِ لم تفعلْ، مازال مُلقىً هناك على الأرضيّةِ، حيث المكانُ فوضى رهيبة«. ثمّ قالتْ: »لقد تصفّحتُه بنفسي لأنّه كانت لديّ نفسُ الفكرة. لكنْ آخِرُ قُصاصةٍ حصلتْ عليها أُمّي، وتحمل صورةً له في البصرة، كانت منذ ثلاثِ سنوات. لا أعرفُ إنْ كانتْ عنه أخبارٌ في الصحفِ بعد ذلك. كان يُناهِزُ الخمسين، وربّما تقاعد. وإذا كان هذا صحيحًا، فمن المُحتَمَلِ أن يكونَ الآن في مكانٍ ما في إنجلترا، أليس كذلك؟ ذلك ما يفعلُه كلُّ الذين قضّوا حياتهم بالخارج عندما يتقاعدون. هل تعتقدُ أنّ ديفيد يعرفُ مكانَه؟«
»لا«، قلتُ لها. »لقد حاول معرفةَ العنوانِ منّي«. لا جدوى من إخبارِها بأنه قد تكونُ لديه نفسُ فكرتي، وهي محاولةُ البحثِ في ملفّاتِ الصحف. »على أيّ حال«، أضفتُ، »سيعملُ جاهِدًا للتّهرّبِ من الشّرطة. أعتقدُ أنّكِ يمكنُ أن تهدّئي من رَوْعِ أمّكِ. الشّرطةُ ستقبضُ عليه و…….و الوقتُ سيتكفّلُ بالباقي. ستراه أمّكِ في السّجن، وتتكلّمُ معه، وبمرورِ الوقت سيكون قد تَقبّل الوضعَ بالمَرّة«.
تروّتْ في الأمرِ للحظةٍ ثمّ أومأتْ. »نعم. يبدو ذلك معقولا«. ثمّ قالتْ: »هل تعتقدُ بأنّه لذلك هَرَب؟… أقصدُ، هل يُريدُ قتلَ الكولونيل ويتكر فعلا؟ قَتْلَ أبيه؟«
»في الوقتِ الحالي، ربّما نعم«. لا أحدَ يعرفُ ما ذا يدور في خَلَدِ الصبيّ. ربّما ببساطةٍ كان غيورًا من تعلُّقِ أمِّه بحبٍّ قديم. لكننيّ لم أستطعْ أن أخبرَها بذلك. »في رأيي، إنها الصّدمة«، قلتُ لها. »ردّةُ فعلٍ طبيعيّة جدًّا. وعندما يُعيدُ التّفكيرَ في الأمرِ، سيصبحُ معتادًا عليه-«.
»لكنْ لماذا هرَب؟ لم يفعلْها أبدًا فيما مضى. لقد اُعْتُقِلَ مرّتينِ، تعرف، لكنّه لم يُحاولْ أبدًا الهروب«. وعندما لم أقلْ شيئا، هزّتْ كتفيها غيرَ مكترثة. »أوه، حسنًا، أتوقّعُ أنّ كلَّ شيءٍ سينتهي على خير«. ابتسمتْ على عَجَل، لكنّ الابتسامةَ لم تمتدّ إلى عينيها المُغْرَوْرِقتينِ بالحزن وفقدانِ البريق. »كان من السُّخفِ أن آتيَ، فعلا«. تهيأتْ للخروج، مرتديةً معطفَها. »كان عليّ أن أعرفَ أنّه ليس بمقدورِك أن تفعلَ شيئًا. إنّها أمّي التي انتابني القلقُ عليها. ديفيد في مُعْضِلةٍ تامّة….حرّكتْ كتفيها وكأنّها تُثبّتُ نفْسَها. »أعتقدُ أننيّ ربّما سأذهب وأرى الدّكتور هارفي. لعلّه سُيعطي أمي مُسكّنا، شيئًا ما يُعينها على النوم، حتى لا تستمرَّ في التفكير به، وتتخلص من الأفكار السّخيفةِ في رأسها«. انصرفت ولوّحتْ بيدِها: »مع السلامة، السّيّد جرانت. وشكرًا لك. أشعر بأنني أفضلُ قليلاً الآن على كلِّ حال«.
رافقتُها إلى البابِ الرئيسيّ، وحين كانت تُخرج درّاجتَها طلبتْ منّي أن أتّصلَ بها إذا استجدّ أيُّ جديد. »يمكنكَ دائمًا أن تجدَني في المستشفًى إذا كان الأمرُ مُهمًّا. أفضّل ألا تتّصلَ بأمّي. هل تعدُني؟«
»بالطّبع«، قلتُ لها.
ما إن غادرتْ حتى جاء أندروز بالخريطةِ إلى المكتب. بإنهائي لموضوعِ المِلكيّة وبعضِ الأعمالِ الأخرى، صارتْ السابعة والنصف. هناك وقتٌ كافٍ للذهابِ إلى قِسْمِ الشّرطة في طريقي إلى الميناء. ما كان يحتاجُه الولدُ هو أن يُعْطَى بعضَ الأملِ في الحياة.
كنتُ أفكّرُ في هذا حين ارتديتُ معطفي بسرعة، متعجّبا من عَبثِ الحياة، كيف يُولَد بعضُ النّاسِ لآباءٍ سعداء في زواجِهم، وآخرون… طفولتي لم تكنْ بتلك السعادة. هززتُ كتفي؛ الحياةُ معركةٌ على كل حال. الجنسُ، والمالُ، والسّعادةُ-كلّها نضالٌ، مثلَ محاولةِ بناءِ تجارةٍ متداعية. لقد تحلّيتُ بكلِّ الشجاعةِ، وكلِّ القوّةِ، التي يمكن أن يمتلكَها المرءُ، فقط لمحاولةِ فهمِ شيءٍ من الحياة، وعندما لم تنجحْ الأمورُ…. وضعتُ المِطفأةَ بعنايةٍ أمامَ النّار المحتضرة، شاعرًا بالأسفِ على الولد، آسِفًا على نفسي.
أتصوّرُ أنّني كنتُ متعبًا. كان أسبوعًا مُحْبِطًا، واليومُ يومُ الجُمعة، وعطلةُ نهايةِ الأسبوعِ على الباب. شعرتُ برغبةٍ للشّراب. كانتْ هناك الحانةُ التي كنتُ أرتادُها أحيانًا في منطقةِ الميناء، مكانٌ مُزعجٌ، لكنّه حيوي وممتلئٌ بالفحولةِ والحديثِ عن الأماكنِ البعيدة، حانةُ بحّارةٍ كانت دائمًا تعطيني وهمًا بجُزُرٍ خارجِ الأُفُق. بكؤوسِ ويسكي قليلة، يمكنُ للخيالِ أن يُحلِّق، مُتخَطّيًا مُشكلاتِ المالِ الرّخيصة ويومياتِ المحامي التّافهة.
خرجت وأغلقتُ بابَ المكتبِ الداخليّ خَلْفي، مُهتديا بالشعاعِ الأبيضِ لمصباحي اليدويّ، عبرَ المكتبِ الخارجيّ الفارغِ، بخشبِه الماهوغانيّ الأخرقِ، وألواحِه الزّجاجيةِ المُسْمَطَة. كنتُ قد وصلتُ إلى البابِ الرئيسي ويدي كانتْ على التّرباسِ حين تذكّرتُ مُعاملةَ الكابتن جريفث. مع أنني تركتُها مُسْندةً على رّفِّ الموقد حتّى لا أنساها.
رجعتُ إلى مكتبي بخطواتٍ وئيدةٍ على الأرضيّةِ الخشبيّةِ العاريةِ. سوف لنْ يسامحَني أبدًا لو تركتُه يُبْحِرُ دون حُلُمِه المستقبليِّ المدوّنِ كلُّه بلغةٍ قانونيةٍ مُبْهَمَة. الإنسانُ يحتاجُ إلى حُلُم، شيءٍ ما يسعى من أجلِه. لا يمكنك أن تعيشَ دون هدف. كان الأمرُ بالنِّسبةِ له تقاعدًا، وبالنِّسبةِ لي فإنّ ذلك الكوخَ الطينيَّ الصّغيرَ المُطلَّ على طولِ خليجِ روسيلي، كان مجرَّدَ مكتبِ محامٍ بدهان وأثاثٍ جديدين، وعملاءَ يتسابقون لخدماتي. أمسكتْ يدي بمِقبضِ البابِ، ثمّ فجأةً، سمعتُ رنينا لزجاجٍ يتكسّر ويسقط. جاء الصّوتُ من خارجِ البابِ عاليًا على نحوٍ مُخيفٍ في ذلك السُّكونِ المُطْبِق.
أطفأتُ المصباح وتركتُ البابَ مُوارَبًا، كلُّ عَصَبٍ في جِسمي مشدود ومُترقّب. سمعتُ صريرَ تِرْباسِ النّافذةِ، وخدشَ الأحذيةِ على حافّةِ الشّبّاك، وهفيفَ السّتائرِ حين دُفِعتْ جانبًا. أهو اللّص؟ لكنْ ليس إلا الأحمقُ سيتوقّعُ إيجادَ النّقودِ طليقة ومبعثرةً في مكتبِ محامٍ. ربّما كان يبحثُ عن وثيقةٍ معيّنة؟ لكننيّ لا أتذكّرُ أنّني في الوقتِ الحالي أتولّى مُعاملةً مُهمّةً بشكلٍ كافٍ يبرّرُ اقتحامَ المكتب. سمعتُه يتعثّرُ بالكرسي وبعدها استطعتُ أنْ أسمعَ تنفّسَه العميقَ يقتربُ حين عَبَر الغرفةَ إلى الباب. خمّنتُ أنه سيتّجِهُ إلى مفتاحِ الإنارةِ، ففتحتُ البابَ إلى أقصى حدٍّ، وفي نفسِ الوقتِ أضأتُ مصباحي ثانية.
وَقَفَ ديفيد توماس هناك، مكشوفًا بنورِ المصباح. شَعرُه الأشقرُ كان مُلتصِقًا بسببِ المطر. وجهُهُ مُخطّطٌ بالدّمِ من جُرحٍ على جبينِه، والخدُّ الأيسرُ مَكْدوم ومُتّسِخٌ بالوَحْل. كان هناك وَحْل على ملابسِه أيضًا-بُقَعٌ مبتلّةٌ سوداءُ ملتصقةٌ بملابسَ مُخْضَلّة. سِترتُه كانتْ مُمزّقةً من ناحيةِ الكتِف وبنطلونُه كان مُخَرّقًا على نحوٍ سيّئٍ جدًّا لدرجةِ أنّ لحمَ ساقِه ظَهرَ من الشّقّ. كان يتنفّسُ بصعوبة وكأنّه كان يجري.
»ماذا بحقِّ الجحيمِ تفعلُ هنا؟« قلت وأشعلتُ النّور. كان وجهُه شاحِبًا كالميّتِ، وعيناه فاغرتين بصورةٍ غيرِ طبيعيّة. بدا مَرْعوبًا ترتعدُ فرائصُه. »حسنًا، لا أتوقّعُ أنهم سيفكّرون في البحثِ عنك في مكتبي«. أغلقتُ الباب ومررتُ بمحاذاتِه وأسدلتُ السّتائر. ثمّ وضعتُ فحمًا أكثرَ على المدفأةِ حتّى ظهر اللهَب. وباستمرارٍ كنتُ أشعرُ به واقفًا هناك، يشاهدُني في صمتٍ، مندهشًا جدًّا، وربّما مرعوبًا جدًّا من تّحرّكي. دفعتُ الكرسيَّ القديمَ المخصصَ للعملاءِ قريبا من المدفأة. »حسنًا«، قلتُ له. »اخلعْ سترتَك وتعال واجلسْ جنبَ النّار وجفّفْ نفسك«. فعلَ ما أخبرتُه به، متوجِّسًا جدًّا من أي تَحرُّكٍ يأتي من يسارِه. »الآن«، قلتُ له، »فقط أخبرْني ما الذي بحقّ السّماءِ جعلك تفعلُ مثلَ هذه الفِعْلة الغبيّة«.
للحظةٍ اعتقدتُ أنّه كان على وَشَكِ أن يشتبكَ معي، التصرُّفُ الذي يفعلُه ذلك النّوع من الأطفالِ عندما تسوءُ الأمور ويبدأُ النّاس يسائلونهم. مظهرُ الولد الجِلْفِ العابِسِ عاد إلى وجْهِه مُجَدّدًا. »خُذْ وقتَك«، قلتُ له. »لا داعيَ للعَجَلة، لديك كلُّ المساء إذا أردت«. فكرتُ في محاولةِ التّملّقِ بعد ذلك. »لا يتمكّنُ كثيرٌ من الأشخاصِ الهروبَ من الشّرطة فَوْرَ اعتقالِهم. كيف فعلتَها أنت؟«.
الشّفاه المُلْتَزّة استرختْ قليلاً، وظهر شَبَحُ ابتسامة. »الحظ«، قال. كان يرتجفُ، وحرّكتُ النّارَ ثانيةً حتّى اللهب. »أحضروا سيّارةً لتأخذَني إلى أحدِ سجونِهم الحقيرة. قلتُ في نفسي سأشعرُ بحرّيّةٍ أكثر في السجن«. قالها بنَبْرةِ صوتٍ ساخرة.
»و هربت«.
»نعم. هذا صحيح. كان واحدٌ فقط منهم في الخلفِ معي، وقفزتُ من السيّارةِ عندما كانوا يقطعون شارع كاوبريدج. وقعتُ على الرّصيف وكدتُ تقريبًا أفقدُ الوعي. كانوا سيقبضون عليّ إذًا. لكنْ كانت هناك حانةٌ أعرفُها، فألقيتُ نفسي فيها وهربتُ من الخلف«. وأضاف: »فكرتُ أننيّ سأجدُك في مكتبِك«. قالها بنوعٍ من الاستعراض.
»أختُكَ كانت هنا منذ فترةٍ وجيزة«.
»سوزان؟ ماذا كانت تريد؟« كان متأهّبًا للردِّ فورًا.
»كانت تريد أن أساعدَك«.
»تساعدني؟« وأطلقَ ضحكةً ساخرةً. »الطّريقةُ الوحيدةُ التي تستطيعُ أن تساعدَني بها هي إعطائي ذلك العنوان. ذلك ما جئتُ من أجلِه«.
»أمّكَ جِدُّ قلقةٍ عليك«.
»ليس مُهمًّا«.
نَفَدَ صبري عليه بعد ذلك. »ألا تستطيعُ أن تَتَفهّمَ بأنّ أفعالَكَ تؤثّرُ على أُناسٍ آخرين؟ توقّفْ عن هذا الاستهتارِ المَقيت. لقد أخبرتْ الشّرطةُ أمَّكَ بأنكَ قد هربتَ، والآن هي شِبهُ مجنونة……«
لكنّه كان غيرَ آبِهٍ لما يسبّبُه من حسرةٍ للآخرين. »كان ينبغي أن تفكّرَ في ذلك قبل أن تكتبَ لي تلك الرسالة«، قال. »كانت شبهَ مجنونةٍ، إذًا. هل أخبرتْك سوزان بأنه كان لدي شهران آخران للبقاءِ في معهدِ الإصلاحيّة؟«
»لا«.
»حسنًا، كان قد تبقّى لي شهران فقط، وكنتُ سأخرج من الإصلاحيّةِ بريئًا. ثمّ كتبتْ لي رسالةً تُهدّدُ فيها بالانتحار. أبوك يدفعني إليه، قالتْ، ولا يمكنُ أن أحتملَه بعد الآن. ثمّ عند مجيئي إلى البيتِ وجدتُ أنها تتهرّب وتُخفي عنّي السرَّ باستمرار، ساخرةً منّي بأنني ابنُ ذلك العجوز الأحمقِ المَخْمور. يا إلهي! وتتكلّمُ أنتَ عن كوني مُستهتِرًا«.
»إنه ليس بالأمرِ السّهلِ على المرأةِ أن تُخبرَ ابنَها به«.
»كان لديها تسعةَ عشرَ سنةً. خلال هذه المُدّةِ كان يجبُ أن تكونَ قادرةً على أن تستجمعَ شجاعتَها وتخبرَني. ولكنّها دفعتْ ذلك العجوزَ أن يسخرَ مني ويقذفَها في وجهي«. كان يحدّقُ في النّار، أكتافُه مُحْدَودِبةٌ، ووجهُه باعثٌ على الأسى. »هل سوزان تعرف؟« سأل أخيرا. »هل تعرف أنّها غيرُ شرعيّة؟«
»نعم«.
»و ما شعورُها تجاه ذلك؟«
»قالتْ إنها قد عرفتْ منذ زمنٍ طويل-طويلٍ جدّا«.
»إذنْ لماذا بحقِّ الجحيمِ لم تخبرْني؟«
»قلتُ، منذ زمنٍ طويلٍ جدّا. أعني أنّ أمّها لم تخبرْها. وإنما عرفتْ بنفسِها«.
بدا مُتَجهِّمًا بعد ذلك. »ما كنّا نُخفي عن بعضِنا أيَّ شيء«.
»إنه سرٌّ ليس من النوعِ الذي يودُّ المرءُ أن يبوحَ به لأحد«، قلتُ له.
»بالفعل، هو كما ذكرت«. وفجأةً ضرب بقبضةِ يدِه على ذراعِ الكرسيّ. »يا إلهي ! لو أني فقط عرفتُ مُسبقًا«.
»لَمْ يكنْ ليساعدَك«.
أطرقَ لحظةً ثمّ أومأ. »لا، أعتقدُ أنّك على حق«. وأضاف: »لطالما تساءلتُ لماذا كان العجوزُ يبغضُني«. انحنى فجأة والتقط السِّيخ وأذكى به النار. »إنني أمقتُه، أيضًا«، قالها بضراوة.
»حسنًا، هو الآن ميّت«، قلتُ له. »هل عرفتَ ذلك؟«
أفلتَ السِّيخَ من يدِه حتّى أحدثَ ضجّةً في المَوْقِد، وأومأ: »نعم، أخبروني بذلك. قضى في الطّريق إلى المستشفى، عليه اللعنة«.
موقفُه من موتِ الرّجل صدَمني. »بحقِّ السّماء !« قلتُ له. »أليس في قلبك أيُّ عَطْفٍ على الرّجل الذي كان أبا لك؟«
»لم يكنْ أبي«، صَرَخ في وجهي. » لقد أخبرتُك ذلك من قبل«.
»كان أباك في نظرِ القانون«.
»إذنْ، القانون يجب أن يتغَيَّرَ، أليس كذلك؟ لا يمكن أن تجمعَ النقيضين ببيانٍ قانوني«.
»لقد أخذ بيدِك باستمرارٍ منذ نشأتِك«.
»حسنًا، لقد ساعدني. لكنّه كرِهني في نفسِ الوقت. لطالما أحسستُ بذلك. كان يستمتعُ بضربي. وعندما لم أسمحْ له أن يفعلَ ذلك، لجأ إلى طرقٍ أخرى للنَّيلِ منّي، فقد كان يسخر منّي لأننيّ كنتُ أقرأُ كثيرًا، كما كان يسخرُ من أصدقائي العرب. هل تعرفُ ما فعله حين كنتُ في الإصلاحيّة؟ لقد مزّق كلَّ كتبي حول الجزيرة العربيّة. وما تركه لي فقط كتبٌ تتعلق بالتقنية. كنتُ أقتني الكثيرَ منها حول النفط، والجيولوجيا، وعلم الزّلازل، والجيوفيزياء. ترك لي تلك الكتبَ لأنه اعتقد بأنها لا تعنيني«. حدّقَ فيّ: »الآن هو ميّت، وأنا مبتهجٌ. مبتهج، هل تسمع؟« ارتفع صوتُه، وفجأةً اغرورقتْ عيناه بالدمع وبدأ يبكي. »لم أقصدْ قتلَه«، أجهش بالبكاء. »حقيقةً، لم أقصدْ ذلك«.
انهار تمامًا وأخذ يتنهّدُ كطفل، فذهبتُ إليه وربّتُ على كتفِه.
»كان حادثًا عارضًا«، قلتُ، محاولا تهدئتَه.
»لا يصدّقون ذلك«.
»هل قدّموا تهمةً ضدّك؟«
»لا، لكنّهم يعتقدون أننيّ قتلتُه. أعرفُ أنهم يعتقدون ذلك«. وانفجر: »لم يتركوا لي فرصة«.
»بالتّأكيد هروبُك لم يكنْ في صالحِك«. كنتُ أتساءل فيما لو استطعتُ إقناعَه بأن يأتيَ معي إلى قسْمِ الشّرطة ويسلّمَ نفسَه. تردّدتُ ثمّ اتجهتُ إلى التّليفون، لكنّه نهض على قدميه فورًا.
»ماذا تريد أن تفعل؟ تتّصلُ بالشّرطة؟« كان هناك هَلَع في صوتِه.
»لا«، قلتُ له. سأتصلُ ببيتكم- سأجعلُ أمَّكَ تأتي إلى هنا، وأختَك، أيضًا«.
»لماذا؟ ما الفائدة من ذلك؟«
»إذا قدّمتْ أمُّكَ تصريحًا، تشرحُ فيه بالضّبط ما حدث..«
»لا جدوى«، قال. »لن تفعلَها. إنها ستفضّلُ شَنْقي…«
»أوه، لا تكنْ سخيفًا«، قلتُ له.
»إنّها الحقيقة«، وبكى. »أخبرتْني ذلك بنفسِها-بعد أن ذهبتَ أنت«. تبعني إلى طاولةِ المكتب وصوتُه كان شديدا وفي غاية الجِدّية. »هي تعتقدُ أننيّ سأقتلُ ويتكر، إذا وقعتْ عليه يدي في أيّةِ لحظة. إنها تحبُّه. برغمِ كلّ هذه السّنوات، مازالت تحبُّ الرّجل. لا أفهمُ ذلك، لكنْ تلك هي الحقيقة. هل تعتقدُ أنّ الخنزيرَ بعد أن عاملَها تلك المعاملة، بعد أن قد تخلّى عنها بسهولة…« أخذ منديلاً ملطّخا بالدّم من جيبِه وتمخّط. »عندما رجعتُ إلى البيتِ ذلك اليوم بعد الظّهرِ كان العجوز يُوبِّخُها. سمعتُ صوتَه مرتفعًا من الشّارع. لم يدعْ كلمةً سيئةً إلا وقَذَفَها بها. أعتقدُ أنه كان أكثر سُكرًا من المعتاد. كان في يدِه سجِلُّ القُصَاصات الصحفيّة التي جمعتْها أمي، وعندما طلبتُ منه أن يصمتَ، عيّرَني بأنني دَعِيّ، قال إنّه ليس بوسعِه أن يحتملَ جِراءَ رجلٍ آخر. ثمّ التفتَ إلى أمّي وأضاف: »يكفيني أن أحتملَ عاهرةَ رجلٍ غيري. برغم كلّ ما فعلتُه للتّستّر عليكِ«، قال، »تتسلّلينَ فوْرَ خروجي من البيتِ لتسْرَحي في صُورِ عشيقك«. ورماها بالسِّجِلّ. لذلك هجمتُ عليه«. توقّف، ينظر إليّ، عيناه جِدُّ مشرقتين. »كان ذلك السِّجِلُّ ممتلئًا بقصاصاتٍ صحفيّةٍ، وصورٍ له. لقد ترعرعتُ مع ذلك السِّجِلّ، ترعرعتُ مع الرجُل نفسِه. أعرفُه، أعرفُ أسلوبَ حياتِه، كلَّ شيء عنه. إنّه مثلما أخبرتُك- كان نوعًا من الآلهة بالنسبة لي. أردتُ أن أكونَ مثلَه، قاسيًا، مستقلا، مغامرًا في الأقاصي البعيدة. حاولتُ الحصولَ على عمل كبحّارٍ على السّفن التي تُبحرُ من موانئ كارديف، لكنْ حينها كنتُ صغيرًا جدًّا. حتّى أنني حاولتُ الإبحارَ مُتسلّلاً ذاتَ مرّة. والآن لا أراه أكثرَ من مصدرِ خِزْي قذر ونتن، حيث ترك امرأةً لتَتحمّلَ توأميها وحيدةً. أخبرتُ أمّي أني سأقتلُه ساعةَ أقبضُ عليه. هل تتذكّر؟ كنتَ هناك عندما قلتُ ذلك«.
»أومأت«.
»حسنًا، صدّقتْني. هي مقتنعةٌ بأننيّ فعلاً سأقتلُه إذا أمسكتُ به«.
»ولم تَعْنِ ما قلتَه- هل هذا ما تحاولُ أن تخبرَني به؟«
رجع إلى النّار ووقف يحدّق فيها لحظة. ثمّ جلس ثانية على الكرسيّ، جسمُه مُنْهَك. »لا أعرف«، قالها مُهَمْهِمًا. » بحقٍّ، لا أعرف. كلُّ ما أعرفه هو أنّي يجب أن أجدَه«.
»و لذلك جئتَ هنا، لتبحثَ في مكتبي عن عنوانِه؟«
»عرفتُ أنّه سيكون لديكَ في مكانٍ ما في ملفّاتك«.
»حسنًا، ليس عندي«..تردّدتُ. لكنْ، برغم كلِّ شيء، كان له حقٌّ في معرفةِ مكان أبيه. »هل تعدُني بشيءٍ ما؟ هل تعدُني أنك إذا وجدتَه، ستتذكّرُ أنّه أبوك وأنّ الدّمَ شيءٌ لا يمكن أن تمحوَه بالعنف؟«
نظر إلي وظلّ صامتًا لوقتٍ طويل. وأخيرا قال: »لا يمكنُ أن أعدَك بأيِّ شيء. لا أعرفُ كيف سأتصرّف«. كان صادقا على الأقلّ. »لكننيّ سأحاولُ أن أتذكّرَ ما قد قلتَه«. ثمّ بتعليقٍ عاجل ومفاجئ: »يجبُ أن أجدَه. يجب أن أجدَه. من فضلِك، من فضلِك حاولْ أن تفهم«.
حاجةُ ذلك الطّفل… كانت الشّيءَ الذي افتقده كلَّ حياتِه. كانتْ حاجةَ أمِّه مكتسبة ومُوسَّعةً. خطايا الآباء… لماذا بحقِّ الربّ يؤدّي الإحساسُ بعدَمِ الأمانِ إلى العُنْفِ بين ذوي القُرْبى؟ »حسنًا«، قلتُ له. »أوافقُ على ذلك«. ورويتُ له ما قد أخبرَني به جريفث. »لكنّك تعرفُ أيَّ صِنْفٍ من الرّجال أبوك. على أيّةِ حال، إنه هناك، مازال بالخارج. وإذا أردتَ الاتّصالَ به، أعتقدُ أن خِطابًا إلى شركة تنميةِ حقولِ نفطِ خليجِ عُمان-«
»الخِطابُ لا جدوى منه. لقد كتبتُ إليه سابقا-مرّتين. ولم يُجبْ أبدًا«.أخذ يُجيلُ بَصرَه فيّ. »الكابتن جريفث هذا، هل إيميرَلدْ آيلْ سفينتُه؟ إنها تُبحرُ بانتظامٍ إلى الخليجِ«. وعندما أومأتُ، قال: »إنها السّفينةُ التي حاولتُ السفرَ متسلِّلا عليها. كنتُ في الرابعةَ عَشَرَ يومَها. هي في الميناء الآن، أليس كذلك«.
»نعم«.
»متى تبحر؟«
»اللّيلة«.
»اللّيلة؟« نظر إليّ، وفجأةً، مُتَعَطِّشًا مثل كلبٍ أُغريَ بالنُّزْهة، قال: »اللّيلة. متى؟ في أيّ وقت؟«
نهضَ على قدميه، نافضًا كلَّ التّعب عنه. »بربّكَ، قلْ لي في أيّ وقت؟«
تردّدتُ. ليس من عملِ المحامي التورّطُ في قضيّةٍ جنائيّة. لذا كان من واجبي أن أقولَ له بجلاء: »من الحكمةِ أن تُسَلِّم نفسَك إلى الشّرطةِ الآن«.
لَمْ يسمعْني. عيناه مأخوذتانِ بالمظروفِ الذي تركتُه مسندًا على رفِّ الموقد. »هل ستأخذ هذا إلى السّفينةِ اللّيلة؟«
أومأتُ، فهوى بيدِه على المظروفِ، وتمسّكَ به. »سأسلّمُه نيابةً عنك«. تعلّقَ بالمظروف وكأنّه كان تعويذةً، وعيناه أشرقتا بالأملِ الذي مثّله له. »هذا كل ما أحتاجُ إليه. المُبرّرُ للصّعودِ على مَتْنِ السفينة. ولن يضبطوني هذه المرّة، حتّى نكونَ في البحر«. نهض على مِشْطي قَدَميه وألقى نظرةً من خلال النّافذة،، وكأنّه على وشكِ الانطلاقِ عبرَ الطريقِ التي جاء منها. لكنّه من جهة أُخرى أعتقدُ أنّه أدرك بأننيّ ينبغي أن أتّصلَ بالشّرطة. »هل ستسمحُ لي أن آخذَه؟« جاء صوتُه مُلِحّاً، وعيناه تتوسّلان. »أعطني فرصةً واحدةً على ظهرِ السفينة إيميرَلدْ آيلْ … من فضلِك، سيّدي«.
كانت »سيّدي« دلالةً على مدى اليأسِ الذي انتابه.
»من فضلِك«، قال ثانيةً. »إنّه أملي الوحيد«.
ربّما كان مُحِقًّا في ذلك. وإذا لم أَدَعْه يأخذه، فأيُّ فُرصةٍ أخرى لديه في الحياة؟ لقد هرَبَ من الإصلاحيّة. كما قد هَرَب من الشّرطة. وبسيرةٍ كهذه سيكون محظوظًا أن يَفْلتَ ثلاثَ سنوات من عُقوبةِ القتلِ الخطأ. بعد ذلك سَتُجمَّد قضيّتُه، مُجْرِمًا مدى الحياة. ثُم أنّ له أُختَا أيضًا. فتاةٌ لطيفة. يا لَلْحَسْرة.«مِنَ المُفْترَضِ أن أكون محاميًا«، ذكّرتُه… أو ربّما كنتُ أذكّرُ نفسي. »و ليس وكالةَ سفرٍ لِصبيَةٍ هاربينَ من الشّرطة«.
»لكنّك سَتَدَعُني أُسلّمُه، أليس كذلك؟«
ماذا بحقّ الجحيمِ يمكنُ أنْ تصنعَ عندما يُواجهُك فتى بكلِّ هذه البراءة والهِمّةِ المُتَألِّقة. »حسنًا«، قلتُ له. »تستطيعُ المحاولةَ إذا شئتَ. لكنّ اللّه وحدَه يعلم ما سيفعلُه جريفث«.
»كلُّ ما أريدُه هو فرصةُ الالتقاء بأبي«.
أدركتُ ثَمّةَ أنّ عقلَه قد تخطّى كلَّ العقبات؛ لقد بدأ ذهنيًّا يمخرُ عُبابَ ساحلِ الجزيرةِ العربيّةِ بحثًا عن أبيه. »كلّ ما أعطيه لك«، حذّرتُه، »المُبَرِّرَ لركوبِ تلك السّفينة. ستبحرُ في التاسعة والنصف. ويجبُ عليك أن تُسَلِّمَ الوثائقَ ليدي الكابتن جريفث، مفهوم؟«
»سأُسلِّمُها له. أعِدُك«.
»هل السّفينةُ مألوفٌة لك؟«
كنتُ أعرفُ كلَّ زاويةٍ بها، ذاتَ مرّة. وسأتذكر كلَّ شيءٍ فورَ صعودي على ظهرِها«.
»حسنًا، من فضلك تذكّرْ أنّني محامٍ. وعندما يُقبضُ عليكَ، كما سيحدثُ في النّهاية، لا تُورّطني. سنَدّعي أنّك جئتَ إلى مكتبي للحصولِ على الاستشارةِ القانونيّة، وأنكَ رأيتَ المظروفَ الذي قد نسيتُه فاختلستَه فجأةً. اتّفقنا؟«
»نعم، سيّدي«.
»سآخُذُكَ الآنَ إلى مَرْفأِ بيوت إيست، قلتُ له. »بعد ذلك سأتركُك«. تردّدتُ. لم تكن فُرْصةً كافيةً تلك التي أعطيها له. لا ملابسَ لديه عدا ما يستترُ به الآن، ولا مالَ ربّما، ولا حتّى جوازَ سَفَر. لكنْ على الأقلّ فعلتُ ما بوسعي أن أفعلَه-ما كنتُ آمُلُه من شخصٍ أن يقومَ به تجاهَ ولدي لو أنه أوقع نفسَه في ورْطة كهذه. لكنْ ليس لديّ ولد، لا أحدَ لديّ. »يُستحسنُ أن تغسلَ الدّمَ من وجهِك«، قلتُ له وأريتُه مكانَ الغسيل. »و سيلزمُك شيءٌ تُخْفي به ملابسَك المُممَزّقة«.
تركتُه في دورةِ المياه وذهبتُ إلى خِزانةِ الملابسِ في الطابقِ السفلي. كان هناك مِعطفٌ قديمٌ منذ أن تولّيتُ المكان، وقبّعةٌ سوداءُ أيضًا. قام بقياسِهِما بعد أن انتهى من تنظيفِ نفسِه. المعطفُ لم يكن سيئًا في مقاسِه عليه، والقبّعةُ كانت مقبولةً. تساءلتُ ماذا سيكون رأيُ عمّي لو عرف فيما استُخدمِتْ هذه الدِّمَنُ الباليةُ التي تركها. ولأننيّ أردتُه أن يُدرِك كم كانتْ فرصُه ضئيلةً، قلتُ له: »إذا قُبِض عليك قبل أن تُبحِر السّفينةُ، لا تُحاول وتستمرّ في الخِداع مع الكابتن جريفث. أخبرْه الحقيقة وقلْ إنّك تُريدُ تسليمَ نفسِك إلى الشّرطة«.
أومأ، وجهُه شاحِبٌ، وعيناه ابيضتا تقريبًا من التّوتّر العصبيّ الذي كان يستشري داخلَه. المِعطفُ الغامق والقبّعةُ السّوداءُ أبرزا شحوبَه، وأبرزا أيضًا أنفَه المنقاري وفكّه القويّ. في ملابسِ مُحامٍ مهملة وقديمةٍ بدا أكبرَ بكثيرٍ من أعوامِه التسعةَ عشرَ.
كان هناك مَخْرَجٌ خلفيٌّ للمكتب، فأخرجتُه منه. البَرَدُ ما زال يتساقطُ، ولمْ يكنْ أحدٌ في الشّارعِ حيث أوقفتُ سيّارتي. انطلقنا في صمتٍ عبْرَ شارعِ بارك بالاس ثم كاسل استريت، ثمّ عَبَرْنا سِكّةَ الحديد إلى متاهةِ شوارعٍ صغيرةٍ تُؤدّي إلى الميناء. خفّفتُ السُرعةَ في طريقٍ ضيّقةٍ مظلمة وأخبرتُه أن يقفزَ إلى الكراسي الخلفيّة ويستلقيَ تحتها مُلتحِفًا بِساطًا كنتُ قد احتفظتُ به لكلبي.
مِنْ حُسْنِ حظّه أننيّ أخذتُ هذا الاحتياط، لأنّ الشّرطةَ في مَدخلِ المَرْفأِ كانتْ متأهِّبة وكان هناك شرطي تعرّف عليّ؛ فقبل أسبوعين، كان قد قدّم شهادة في قضيّة دافعتُ عنها. أخبرتُه بمهنتي فأذِنَ لي بالعبور. لم أتوقّعْ أنّ الشّرطةَ قد أخذتْ تراقبُ الميناء، ويداي كانتا تَرْشَحانِ عَرَقًا حين عبرتُ القُضبانَ الملساءَ لسكّةِ الحديد.
كانتْ إيميرَلدْ آيلْ ترسو في الطّرَفِ الأخَر لمرفأِ بيوت إيست، قريبا من الهَويس. كانتْ عملياتُ الشحن قد اكتملت والسفينةُ تستعدّ للإبحار، حيث البُخارُ قد بدأ يصّاعَدُ من مداخنِها. الرّوافعُ على طول رصيفِ الميناء ما زالت تتحرّكُ في الليلِ بأصابعِها الفولاذيّة النحيلة.
توقّفتُ تحت إحدى المظلات. كان البَرَدُ قد تحوّل إلى الثّلج وأخذ يُغطّي الأرضَ، حتّى أنّ رصيفَ الميناء بدا أبيضَ كالشّبَحِ تحت أنوارِ السّفينة. »حسنًا، تَفضّل«، قلتُ له. »تلك هي السّفينة«.
اندفع مذعورًا من تحتِ البِساط. »هل يمكنكَ أن تجيءَ معي؟« سألني فجأةً مفزوعًا باقترابِ اللّحظة. »لتتحدّثَ مع الكابتن جريفث…«
لم أُجِبْ على ذلك، وإنما ببساطةٍ ناولتُه الطّرْد. أعتقدُ أنه أدرك أنّ طلبَه كان مستحيلاً، لأنه لم يسألْني ثانية. بعد لحظةٍ انفتح البابُ الخلفي وسمعتُه يخرج. »أُريدُ-أُريدُ أن أشكرَك«، قالها مُتلعثمِا. »مهما يحدثُ-لن أَخْذُلَك.«
»حظّا سعيدًا !« !قلتُ له.
))شكرًا«. ثمّ انطلق يمشي عبْرَ الرّصيف، ليس بتردّدٍ، وإنما بخطوةٍ ثابتةٍ حازمةٍ. شاهدتُه يصعدُ السُّلّمَ، ثم توقّفَ يتكلّم مع أحد الطّاقم، كان عربيّا، ثمّ اختفى عن الأنظارِ خلال بابٍ في سطح منصّة رُبّان السّفينة.
أشعلتُ سيجارة وانتظرتُ هناك، أتساءلُ ما سيحدثُ الآن. لا أعتقد أنه كانت لديه فرصةٌ كبيرة، لكنْ من يعرف؟، فقد كان شابًّا داهية.
أنهيتُ سيجارتي وأشعلتُ أخرى. كنت أفكّرُ في الشرطيّ على البوّابة. كان علي أن أُدرِكَ أنّ أولَ ما ستفعلُه الشرطةُ هو ملاحقةُ هروبِه. والرّجلُ عند البوابةِ قد تعرّف عليّ. حاولتُ تحليلَ دوافعي في فعلِ مثلِ هذا الشّيءِ المجنون، لكننيّ لم أتمكنْ من معالجتِها. أخذ البرْدُ يسري في السّيّارة حيتُ كنتُ أنتظر، وحتّى الآن لم يحدثْ شيءٌ عدا أنّ الثّلجَ بدأ يتكثّف والرّصيفُ صار ناصعَ البياض. صفّر زورقٌ في النّهر، ضائعا، كنعيبِ بومةٍ في ليلةٍ شاتية. كانت الساعةُ التاسعة والثلث.
بعد عشرِ دقائقَ صوّتتْ صفّارةٌ من مكانٍ قَصيٍّ على إيميرَلدْ آيلْ، وظهر رجُلانِ بسرعةٍ من كوخٍ في نهايةِ الرّصيف. حرّكا بقوّةٍ سُلّمَ السفينةِ إلى الشّاطئ ثمّ وقفا بجانبِ حبالِ المرسى. صفّارةٌ أخرى والحبلُ الأماميُّ أصبح رُخَاءً، وقَعَ بقوّةٍ على الرّصيف. الدّخّانُ الأسودُ أخذ ينفثُ من القِمْع، وما إنْ أُفلِتَ الحبلُ من مؤخّرةِ السفينة، حتى انفرجتْ فجوةٌ بين جانبِها ورصيفِ الميناء. حينئذٍ أدرتُ مُحرّكَ السيّارةِ، وفتحتُ التدفئِةَ، وأخذتُ أُدخّن، وإيميرَلدْ آيلْ تشقُّ طريقَها في نهرِ التاف. وعندما اختفتْ أنوارُها أخيرًا خلفَ المناكبِ البيضاء لأضعانِها، قدتُ سيارتي راجعًا إلى عُزلةِ شقّتي، آملا من اللّه أنني فعلتُ الشّيءَ الصّحيح.
قصّةُ ما حدثَ له بعد ذلك وصلتني جزئيًّا من الكابتن جريفث عند عودتِه، وجزئيًّا من خِطَابٍ أرسله ديفيد نفسُه إليّ. عندما تركني على الرّصيفِ هناك وصَعدَ على إيميرَلدْ آيلْ، لم تكنْ في ذِهنِه خُطّةٌ واضحة. كانت السّفينةَ الوحيدةَ التي تتاجرُ بانتظامٍ من كارديف إلى المرافي العربيّة، وقد شكّلتْ له فتنةً لا تقاوم منذُ أن كان يتسكّعُ في أرصفةِ الموانئ. كان المضيفَ الصّومالي وليس أحدَ البَحّارة مَنْ قابَلَه في قِمّةِ سُلّم السفينة، وعلى البديهةِ، دونما تفكيرٍ تقريبًا، استفهم منه ديفيد فيما إذا كانتْ مساكنُ الرّكابِ محجوزةً بالكامل. أخبره المضيفُ بالنّفي: هناك ستُّ قَمْراتٍ، وثلاثٌ فقط منها مشغولة. شاعرًا فجأةً بثقةٍ أكثر، طلب رؤيةَ الكابتن.
كان الكابتنُ جريفث في قَمْرتِه الخاصّةِ في منصّةِ رُبّان السّفينة، وعندما دخل عليه ديفيد كان مشغولا في مكتبِه يفحصُ حِساباتِ الشّحن. استلم منه الطّرْدَ، لمَحَ فيه، ثمّ رفع بصرَه نحو ديفيد. » أنتَ تعملُ مع السّيّد جرانت، أليس كذلك؟«
أنا – أنا أقضي له بعضَ المأموريّات.«
»السّاعي، هاه؟ حسنًا، لقد أتيتَ في وقتِك. سنُبحِرُ بعد رُبعِ ساعة«. حدّق جريفث فيه من تحتِ حواجبِه الكثيفة. »ماذا جرى لوجهِك، أيّها الولد؟ هل كنتَ في مُشَاجَرَة؟«
»لا. لا، سّيّدي. أنا-أنا حدث لي سقوط«.
»يبدو أنه كان سيّئا. وجهُك شاحِبٌ كوَرَقَة«.انحنى إلى الأسفل، سحبَ دُرْجَ مكتبِه، وجلَبَ زُجاجةَ وسكي. »سأعطيكَ شرابًا لآلامِك«. أطلقَ ضحكتَه المقهقهةَ المُدويةَّ، ملأ كوبين حتى النصف وناول أحدَهما لديفيد. »حسنًا، أيها الرفيقُ الصّغيرُ، يُمكنكَ أن تتمنّى لي الحظَّ، لأنّني أصبحتُ مالكَ أرضٍ ويلزيّا الآن«. وضرَبَ بيدِه حُزمةَ الوثائقِ بغرورٍ صارخ. »هناك لحظاتٌ، تعرف«، أفضى إليه بما في نفسِه وهو يتجرّعُ شرابَه، »أشعرُ فيها، مثلَ اليهوديِّ التائه، بأنّي محكوم عليّ بالطوافِ من ميناءٍ قذرٍ إلى آخر، دائما أبدَ الدّهر. هذه«، ولمستْ يدُه الحزمةَ ثانيةً، »هذه قد تساعدُني على أن أحتفظَ بسلامةِ عقلي حينَ تفورُ درجةُ الحرارةِ، والرطوبةُ تكون كثيفةً جدًّا لدرجةِ أنكَ تشعرُ بأنّ رئتيكَ مَحْشوّتان بالقُطنِ الرّطب، وأنك لنْ تتنفسَ أبدا الهواءَ النّظيفَ ثانية؛ عندما تكون الظروفُ كتلك، سآخذُ هذه الوثائق وأقرأُها فقط لأُقنِعَ نفسي بأنّ لديّ فعلاً مكانا صغيرًا على شِبْهِ جزيرةِ جاور، حيثُ المطرُ يغسلُ الهواءَ من الغبار والحرارة والذبابِ اللعينِ المُضْجِر.«
»ذلك الخليجُ ما تشيرُ إليه، أليس كذلك؟ إذن ربّما تعرفُ أين يعيشُ الكولونيل ويتكر الآن؟« لم يعتزمْ طرْحَ ذلك السّؤال، لكنّ المُسْكِرَ الغريبَ الذي تناوله استنفرَ عصبيّتَه.
نظَرَ إليه جريفث بسرعة. »شيءٌ غريب«، تمتم مُضيفًا: »سألني جرانت نفسَ ذلك السّؤال فقط بعد ظُهْرِ اليوم، هل الكولونيل ويتكر أحدُ عملاءِ الشّركة؟«
»أنا-أنا لا أعرفُ، سيّدي«.
»إذنْ ما الذي جعلك تسألُ عنه؟«
تردّدَ ديفيد. لكنْ حتى ينجحَ في السَفَرِ مُتهرّبًا على السفينةِ، لا بأسَ من إخبارِ الكابتن جريفث الحقيقةَ الآن. »إنه أبي«.
»أبوك !« بَحْلَقَ فيه بعينيه الزّرقاوين. »يا إلهي ! لم أعرفْ أنّ البدويَّ كان مُتزوّجًا.«
»أبي الطّبيعيّ، سّيّدي.«
تغضّنتْ عينا جريفث فجأةً. »أبوك الطّبيعيُّ، تقول؟ حسنًا واللّه ذلك جيّد.« استلقى إلى الخلفِ على كرسيّه الدّوّار، ورفعَ رأسَه إلى الأعلى، وقهقه عاليا. ثمّ توقّفَ فجأةً. »أنا آسف، يا ولد. الموضوعُ حسّاسٌ بالنسبةِ لك، أفهمُ ذلك. هل سبق أن رأيتَ أباك؟«
»لا، سيّدي.«
حسنًا، لو رأيتَه، لعرفتَ لماذا ضحكتُ. هناك أقاويلُ كثيرة بأنّ لديه أبناء وبناتٍ في البادية، لكنْ أبدًا لم يهْمِسْ أحدٌ بأن له ابنا في ويلز. سأخبرُه، المرّةَ القادمة عندما يسافرُ معي-سأفاجئُه بذلك…« لكنّ ديفيد وُفِّرَ عليه باقي الكلام، لأنّ أحدَ مساعدي القبطان كان قادما إليهما. تنحنحَ ثم قال: »زورقُ السّحبِ جاهزٌ الآن، سيّدي.«
»جيّد جدًّا، السّيّد إيفانز«. نهضَ جريفث واقفا. »يَحْتاجون إليّ على المِنَصّة«. توقّفَ أمامَ ديفيد، يُحدّقُ في وجهِه. »نعم يُمكنني أن أرى التّشابُهَ الآن. هل من رسالةٍ تريدني أن أوصلَها له؟« وعندما هزّ ديفيد رأسَه في صمتٍ، ربّت على ذراعِه. »حسنًا، سأخبرُه أننيّ رأيتُك عندما يسافرُ معي المرةَ القادمة. والآن مِنَ الأفضل أن تنزلَ من السّفينةَ بسرعة وإلا ستجدُ نفسَك في الجزيرةِ العربيّة.« وانطلق، يُقهقِهُ، إلى المنصّةِ في الأعلى.
وجد ديفيد نفسَه يقفُ وحيدًا خارجَ قَمْرةِ الرّبّان. كان هناك زُقاقٌ يَصلُ بين دَفّتي السفينة. تستهلُّه أبوابٌ بنّيّةٌ مرقّمَةٌ على الجانبين. وقفَ يَتَحَسّسُ، كلُّ عَصَب فيه مشدود. استطاع أن يسمعَ الأصواتَ على المنصّة وفي الصّالون، لكنْ ظهرُ السّفينةِ الذي كان عليه واقفًا بدا مهجورًا تمامًا. مشى برِفْق، وقطعَ الزُّقاقَ بعيدا عن قمرةِ الربّان إلى أقصى حدٍّ ممكن. البابُ الأوّلُ الذي حاول فتحَه كان مقفولا، والثاني كان مُوارَبًا، لمَحَ من خلاله بعضَ الأمتعة ووَجْهًا مُجَفّلا لرجلٍ يستلقي منبطحًا على سريرِه يقرأُ كتابا. أحدث زورقُ السّحبِ دويًّا قريبًا جدًّا منه جعَلَه يقفز. كانت القمرةُ رقمُ أربعة خاليةً، فانسلّ داخلَها وقفلَ الباب. وبعد ذلك ظلّ واقفًا لفترةٍ طويلة، ساكنًا لا يتحرّك، يتنفّسُ بصعوبة، ويُصِيخُ السمعَ لأصواتِ السّفينة، مُنتظرًا لحظةَ الصُّراخِ المفاجئِ حين يتمُّ اكتشافُه بأنّه لم ينزلْ إلى الشاطئ.
فترةُ الانتظارِ تلك، عشرُ دقائق على الأكثر، بدتْ له أطولَ فترةٍ عرفها في حياتِه. ثمّ سمِعَ صفّارةً حادّةً كصفّارةِ الشّرطة فَفزِعَ إلى مِقْبضِ الباب، بالغريزة، بحثًا عن مهربٍ ما. لكنّ التلغراف-المُنبِّهَ في سقفِ الغرفةِ رنّ، وانبعثتْ الحياةُ في السّفينة فجأة، شَعَرَ بنبضِها الرقيقِ تحت قدميه. حينها جثا على السّرير غيرِ المُرتّب، وبحذرٍ سَحَب السّتارةَ ليغطيَ بها الشّبّاك. أمكنه أن يرى السياجَ على مَتْنِ السّفينة، وبعده رقعةً ممتدةً من الماءِ يتساقط عليها الثّلج، وكان الماءُ يَنْداحُ إلى دوائرَ صغيرةٍ أشبهَ بِغَرْزةِ المسمار. عرف حينئذٍ أنّ السّفينةَ كانت تتحرّك.
خلع قُبّعتَه ومِعْطفَه، واستلقى على السّريرِ مُلْتحِفًا بطّانيّةً، يُصغي بآذانِه إلى كلّ صوت. رنّ جرسُ الوجبةِ المسائيّة، وكانتْ هناك حركةٌ في القَمْرةِ المقابلة؛ تدفّقُ حنفيّة، وسحبُ حقيبة. الصوتُ الحادُّ للصّفّارة على المنصة أُجِيبَ بعد لحظة بصافرةِ الوداع من زورقِ السّحب. زاد ضربُ المُحرّكات، وأخذتْ السّفينةُ تمخُرُ عُبَابَ الماء.
قضّى ليلَه، مُتَقلِّبًا من جانبٍ إلى آخر على سريرٍ ضيّق. وحين حلّ النّهارُ، ظلّ مستيقظًا، ومتوتّرا، وجائعا. سمع خطواتٍ في المَمرّ، وأبوابَ القَمْراتِ تُفتح وتُغلق، وفي مكان ما كان هناك غِطاءُ نافذةٍ يَصطكّ ذهابًا وإيابًا. بدتْ ساعاتُ النّهارِ سَرْمَديّةً، دون أن يأتيَ إليه أحدٌ، أو يحاولَ في مِقْبضِ بابِ قَمْرتِه. كان كأنْ لم يكنْ موجودًا، وبحسِّ الاغتراب، شَعَرَ بأنّه مهجورٌ، ضائعٌ، مَنْسِيٌّ في هذا العالَمِ الغريبِ الذي دفعتْه إليه الأحداثُ. لم تكن لديه ساعةٌ، ولا حتّى فكرةٌ عن الزمن. كانت السّماءُ مُكْفَهِرّةً لم يترك سحابُها المتراكمُ مجالاً للشمس. كان صَخَبُ الحَرَكة قد أنهكه، وعند دُنوِّ الغَسَقِ أمسى مريضًا، ودون جدوى حاول التّقيّؤَ في المِغْسلة. بدا أنّ أحدًا لم يسمعْ صوتَ بُؤسِه، أو يَعنِه أمرُه. ارتطامُ البحرِ بالسّفينة، جعلها تهتزّ، فكان كلُّ شيءٍ فيها مُزعِجًا، وكلّما ارتطمتْ بالموجِ، خلّفتْ رَجْفةً شَعَرَ بها تجري خلالَ جسمِه المُنْهَكِ، وكأنّه نفسَه كان يُواجِهُ العاصفة.
تبعتْ اللّيلةَ ليلةٌ أخرى، لكنّه استطاع النومَ أخيرا. ثم توالتْ الأوقاتُ بين نهار وليل، أَغْفلَ فيها حسابَ الأيّام. وذاتَ يومٍ حين بزغتْ الشمس وهدأ البحرُ، شَعرَ أنّه لن يحتملَ وحدتَه بعد الآن. لقد آن الأوانُ لمواجهةِ المستقبل.
فوقَ رأسِه، وفي مُتَناوَلِ يدِه، كان هناك زِرُّ جَرَس. قضّى نصفَ اليوم، مُحَدِّقا في ذلك الزرّ الأصفر، قبل أن يتمكنَ من استدعاءِ شجاعتِه للضّغطِ عليه، وعندما جاء المُضيفُ الصوماليُّ مفزوعًا من رَنّة الجرس طلَبَ منه أن يأخذَه إلى الكابتن.
كان جريفث جالسا في مكتبِه، الذي لم يتغيرْ فيه شيءٌ يُخفّفُ من رَبْكةِ ديفيد يومَ أنْ قابله لأولِّ مرّة، باستثناءِ أنّ القَمرةَ الآن ممتلئةٌ بضوءِ الشّمس وأنّ السفينةَ قد عَدّتْ ساحلَ البرتغال. أخذ الصّوماليُّ يشرحُ بحماسة وعينا جريفث الزّرقاوان الصّغيرتان تحدّقانِ فيه. أسكتَ الكابتنُ الرّجلَ بحركةِ يده. »حسنًا، إسماعيل. يُمكنكَ أن تتركَنا الآن.« وحين استدار المضيفُ للانصراف، بعينينِ مذهولتين، أضاف جريفث: »انظرْ. لا تتحدثْ عن هذا. الرّكّابُ ينبغي أن لا يعرفوا أنّ مُتهرِّبًا كان يختبئُ في السفينة.« وعندما انغلق الباب وصارا وحيدين، تحوّل إلى ديفيد: »الآن أيُّها الفتى، هل تستطيعُ أن توضِّحَ لي لماذا بحقِّ الشّيطان تَسلّلتَ إلى سفينتي؟«
تردّدَ ديفيد. كان صعبًا عليه أن يعرفَ من أين يبدأ، رغْمَ أنّه خلا بنفسِه أربعةَ أيام يفكّرُ في الموضوع. كان مرعوبًا، أيضًا. هذا الرّجلُ الصّغيرُ، في معطفِه الأزرقِ المُتهالك وشريطِه الذّهبيّ المزركَشِ على الأكمام، كان أكثرَ إخافةً له حتى من القُضاةِ الذين أدانوه، فمستقبُله في يدي هذا الكابتن. »حسنًا، ابدأ، يا رجل، ابدأ.« قال لديفيد، ولحيتُه اهتزّت بنفادِ صبر، وعيناه الزّرقاوان كادتا تخترقانه.
أتمنّى أنه تذكّر نصيحتي حينَها، لكنْ من المُحتَمَلِ جدًّا أنّه كان ضعيفًا ومضطربًا، لن يستطيعَ اختلاقَ قصّةٍ مُرْضيَة. على كلّ حال، أخبره القصةَ بصراحةٍ، منذ استلامِ رسالةِ أمِّه الهيستيرية وهروبِه من الإصلاحيّة، تمامًا إلى مأساةِ عودتِه إلى المنزل في شارع إفيرديل. وكان جريفث يستمعُ بدون تعليق، عدا أنّه في مُنتَصَفِ القصّة أحسّ بالشّفَقَةِ على ضَعْفِ ديفيد، لأنه كان يعتمدُ على حافّةِ المكتبِ لمساندةِ نفسِه، فطلَبَ منه أن يسحبَ كرسيّا ويجلسَ عليه. وأخيرًا عندما طلبَ منه أنْ يُفَسِّرَ امتلاكَه للوثائقِ التي تَعَلّلَ بها لرُكوبِ السّفينة، التزمَ بالتّفسيرِ الذي قد اتّفقنا عليه.
لكنّ جريفث كان يَقِظًا جدًّا معه. »لذا أخذتَ الرّزْمَةَ من مكتبِ السّيّد جرانت وقرّرتَ تسليمَها بنفسِك؟«
»نعم، سيّدي.«
»تقولُ إنّك وجدتَ بابَ مكتبِ السّيّد جرانت مفتوحًا. ذلك يعني أنه خرج للحظةٍ فقط. عندما عاد ووجد الرزمةَ مفقودةً، فمن الطبيعيّ أنه سيأتي إلى السفينة ويُقدّمَ لي بعضَ الإيضاحات. أنت تكذبُ، إذَنْ.«
لم يكنْ له بُدٌّ حينها من أنْ يُخبرَ الكابتن جريفث الحقيقةَ، وعيناه الزّرقاوان تُحدّقان في عينيه بارتياب. وما إنْ أنهى القصّةَ، حتّى كان جريفث يتمدّدُ على كرسيّه الدّوّار ويُقَهْقهُ عاليا بفمٍ مفتوحٍ للآخر، لدرجةِ أنّ ديفيد استطاع أنْ يرى حركةَ لَهَاتِه في التجويفِ الأحمر لحُنجرتِه. »حسنًا، سأكون ملعونا !« قال جريفث، ماسِحًا عينيه. و»جرانت تَسَتّرَ عليك…« ثمّ شرَعَ في استجوابٍ بدا أنه سيستمر طويلا.
أخيرًا نهض ووقف لفترةٍ طويلةٍ يُحدّقُ من الشّبّاك في ضوء الشّمس يرقصُ على الأمواجِ صَنَعها اختراقُ السّفينة للماء، بينما جلس ديفيد هناك، خَدِرًا ويائسًا. »حسنًا، أصدّقك«، قال جريفث، وظلّ مُحَدِّقا في البحر. »من غيرِ المُمكنِ أبدً أن تكونَ قد اختلقتَ كلَّ ذلك.« ثم عَقِبَ ذلك صمتٌ طويل. »أقنعتَ جرانت بأن يُساعدَك-و كيف استطعتَ ذلك، لا أعرفُ، على اعتبارِ أنه لم يُقابلْ أباك أبدًا. كان يُخاطرُ بسُمعتِه، وبكلِّ شيء. ليس لديك جوازٌ، بالطّبع؟ ذلك يعني أنّك لا يمكنُ أن تنزلَ في أيّ مكانٍ بالطّريقةِ القانونية. ثم أنه لم يكنْ بينك وبين أبيك أيُّ اتصال، مِمّا يعني أنه لن يعترفَ بوجودك أبدًا-صحيح؟«
وعندما لم يَنْبِسْ ديفيد ببنتِ شَفَة، استدارَ جريفث نحوَه بسرعةٍ من الشّبّاك، نافشًا لحيتَه بشكلٍ عُدْواني: »و أنت تسافرُ متهرّبًا على سفينتي، تتوقّعُني أن آخذَك إلى الجزيرةِ العربيّة. كيف بحقِّ الشّيطان تعتقدُ أنني سأفعلُ ذلك، هاه؟«
»لا أعرفُ، سيّدي.«
»ربّما اقترحَ جرانت لك شيئا ما؟« لكنّ ديفيد هزّ رأسَه بحُزْنٍ، وجريفث ردّ بِحِدّة : »المحامي-كان ينبغي أن يكونَ لديه وعيٌ أكثر.« وتحرّك بتثاقلٍ عبرَ القَمْرَة، ووقف يُحدّقُ في وجه ديفيد. »هل سيعترفُ بك أبوك الآن، هل تعتقد؟ كم عُمرُك؟«
»تسعةَ عَشَرَ.«
»وهل تعتقدُ أنّ الكولونيل ويتكر سَيُسَرُّ بالحصولِ على زَنِيمٍ أنجبَه منذ عشرين سنة، هكذا يظهرُ فجأةً بلا جوازٍ، ولا أيِّ شيء-و خرّيجُ سجونٍ فوق ذلك؟«
نهض ديفيد بعد ذلك. »أنا آسف، كابتن جريفث«، قالها بانقباض. »لم أُدْرك…« لم تجئْ الكلماتُ بسهولة، وفمُه بدا جافًّا ومُتراصًّا. »لطالما حلمتُ بهذا- بالخروجِ إلى الجزيرةِ العربيّة. أعتقدُ أنّها تجري في- دَمِي النّغِل.« قالها بقَسْوةٍ، لأنه بات مقتنعًا الآن بأنّ العالَمَ ضدّه، كما قد كان دائمًا-و كما سيكون. »سأواصلُ طريقي«، أضاف بسَأم، »و عندما نصلُ إلى عَدَن يُمكنك أن تُسلّمني للسّلطات.«
أومأ جريفث. »ذلك أوّلُ اقتراحٍ عمليّ تقدِّمُه. وهو ما يجبُ عليّ أن أفعلَه بالضّبط.« انصرف ووقفَ للحظةٍ غارقًا في التفكير. »أبوك أسدى إليّ معروفًا مرّة. أُدينُ له بشيءٍ ما لذلك، لكنّ السّؤالَ هو هل ما سأفعلُه معك سيكون رَدّا للمعروف…« هزّ كَتِفيه غيرَ مُبالٍ، وغار في كُرسيِّه، يضحكُ في قَرارةِ نفسِه. »في الموضوعِ شيءٌ من الطرافة، تعرف.« ديفيد كان مُندهشًا، وغَمَرَه شُعورٌ مُفاجئٌ بالسعادة، وهو يشاهدُ جريفث ينادي وكيلَه على السفينة. »السّيّد إيفانز. تعالْ إلى القمرة للحظةٍ، من فضلِك«. بعد ذلك، نظر إلى ديفيد قائلا: »حسنًا الآن، لأجلِ السّيّد جرانت، مَنْ لمْ أشتبهْ يومًا في خروجِه على القانون، ولأجلِ أبيك، الّذي سُيصابُ بصَدْمةٍ طولَ حياتِه، سأُوظفُك معي على السفينة كبَحّار. لكنْ افهمْ هذا،« أضاف، »إذا عملتَ أيّةَ مشكلةٍ في عَدَن، سأسلّمُك للسُّلطات.«
لم يستطعْ ديفيد الكلامَ مِنْ فَرْطِ السعادة والذهول. جاء الوكيلُ، وقال له جريفث: »اهتمّ بهذا المُتهرِّب، السّيّد إيفانز. اطلبْ له بعضَ الطّعام من المطبخ ثمّ عيّنْ له عَمَلا. لقد شغّلتُه معي. واحرصْ على أنْ لا يعرفَ الرّكّابُ كيفيّة تَسَّللِه إلى السفينة. اسمه-ويتكر.« لمَحَ ديفيد وَميضَ الدُّعابةِ في العينين الزّرقاوين.
»شكرًا، سيّدي«، تمتم، لكنّه حين انصرفَ، كلُّ ما شغل بالَه كان ذلك الاسم، الذي نُطِقَ بصوتٍ عالٍ للمرّة الأولى. ويتكر. يلائمُه نوعا ما، إنه شيءٌ يَخُصُّه، يُمثِّلُ له رمزًا أيضًا، وهو بمثابةِ إعلانٍ بأنّ الماضيَ قد ولّى، وأنّ المستقبلَ آتٍ.
الآن كلُّ شيءٍ تجلّى على البحر المتوسّط وعبرَ قناةِ السّويس؛ الحياةُ على السّفينة، ودِفْءُ الشّمسِ المتزايد، ومَشَاهِدُ أمكنةٍ طالما حلُمَ بها فإذا بها الآن حيّةٌ تستغرقُه كُليًّا. كلّ يومٍ يأتي يَحْبَلُ بوعودِ الجزيرةِ العربيّة. لكنْ عندما دخلوا البحرَ الأحمر، بمياهِه الصافيةِ كالمرآة، وتلالِ صحراءِ الحجاز تتلألأُ على ميسرةِ السفينة، عرف أنّهم أصبحوا قريبين من عَدَن. وهناك قد تنتظرُه الشّرطة.
كان الوقتُ ليلاً عندما رستْ السفينةُ في عدن، وحين وقف على سطحِها، استطاع أنْ يرى أنوارَ كوكبةِ الباطية، والشكلَ الأسودَ لتلالٍ بُركانيّةٍ شامخةٍ باتّجاه النّجوم. إنه ميناؤه العربيُّ الأوّل. فيه تنفّسَ هواءً حارًّا من مخلّفاتِ النفط. وبدلاً من الإثارة، انتابه بعضُ الخوف.
قدِم عمّال الجمارك والهجرةِ إلى داخلِ السفينة. وقف بجانبِ السياج، متواريا خلفَ أحدِ القوارب، وشاهدهم يتسلّقون الجانبَ الآخر للسفينة من زَوْرَقِهم. عملُه انتهى ولا شيءَ يشغلُه الآن سوى إمكانيةِ اعتقالِه. نَمَتْ إلى سمْعِه تمتمةٌ خافتةٌ من اتجاه المدينة، وسَمعَ زعيقا غريبا لعربيٍّ يُجدِّفُ قاربَه على غير هدى. انساب زورقٌ آخر إلى جانب السّفينة. الوكيلُ البريطاني، هذه المرة. وفيما بعد اثنان من الرّكّابِ نزلا إلى الزورق، وأُتبعوا بأمتعتِهم. كان المسؤولون يغادرون، أيضًا، وشاهد الزورقين ينأيانِ عن السّفينة، كطَرَفي سهمينِ مُخيفينِ يتسكعانِ في الظلمة. تنفّسَ بهدوءٍ ثانيةً، مستمتعًا بالهواءِ الدافئ العَطِر… ثمّ سَمعَ المُضيفَ يناديه. »الكابتن يريدُك في القمرة.«
ببُطْءٍ توجّه إلى منصّةِ رُبّانِ السّفينة. كان الكابتن جريفث جالسًا على الكرسيّ الجلديّ، وجهُه مُبتهجٌ قليلاً، وعيناه مشرقتانِ، وقدحُ وسكي على مَقْرُبةٍ منه. »حسنًا، أيها الرفيق الصّغير، يبدو أنّك آمن. لا أحدَ على الأقلّ مهتمٌّ بك هنا.« وأضاف: »ربّما عليك أن تشكرَ السّيّدَ جرانت على ذلك. للأسفِ أننيّ لا يمكنني أن أُرسلَ له رسالةً؛ لا شك أنّ الرّجلَ قَلِقٌ من صنيعِه معك.«
»سأكتبُ له بأسرعِ وقتٍ ممكن،« تمتم ديفيد.
»لديك وقتٌ كافٍ لذلك عندما تنزلُ بأمانٍ إلى الشّاطئ. لكنّه من بابِ العَدلِ فقط، أخبرُك أنني إذا فشلتُ في الاتّصالِ بأبيك، ستكملُ أنتَ الرّحلة وتسدِّدُ تكاليفَها في كارديف.« وبعد إلقاءِ هذا التّحذير، استمرّ : »سأنزلُ إلى البرِّ في الصّباحِ، وسأُبرِقُ للكولونيل ويتكر في (جودكو)، وهي شركة تنمية نفط خليج عُمان. قد تصلُ إليه البرقيّةُ، وقد لا تصل. الأمر يتوقّفُ على مكانِ تواجدِ أبيك، فهو رجلٌ ليس من السهلِ الاتصالُ به. في غُضونِ ذلك، سآمرُ السّيّدَ إيفانز أن يُعطيكَ عَمَلا يبقيكَ بعيدا عن أنظارِ الرّكّاب. يُوجد معنا رَجُلا نفطٍ في هذه الرّحلة، كما يوجد أيضًا مسؤولٌ من مكتب بي آر بي جي، أي المقيم السّياسيّ للخليج ?545;العربي?547;. احرصْ على عدمِ الالتقاءِ بهم. وحين تصلُ إلى الشّاطئ، لا أريدُ من أحدٍ أن يقولَ بأنه رآك على سفينتي. وبهذا وجد ديفيد نفسَه معزولا.
في الصّباحِ رأى الكابتنَ جريفث ينزلُ إلى الشاطئِ على زورقٍ تجاري. وظلّوا طوالَ اليومِ مشتغلين بالشحن والتفريغ. في المساء صَعَدَ السفينةَ أربعةُ ركّاب، يرتدون ثيابًا بيضاءَ، وبعضَ العربِ، مُتّجهينَ إلى المُكلا، بعثروا أنفسَهم وأمتعتَهم على ظهرِ السّفينة. ثمّ سُحِبتْ المَرساة وانتقلتْ السّفينةُ إلى الرصيفِ للتزوّدِ بالوقود. أبحرتْ إيميرَلدْ آيلْ في منتصفِ اللّيل، مُتّجهةً شمالَ الشّرق على محاذاةِ السّاحلِ الجنوبيِّ للجزيرة العربيّة، ساحلِ المُر والبخور والبُنِّ، ساحلِ مَلِكةِ سبأ.
كانتْ رحلةً يُمكنُ أن تُسعدَ قلبَ أيّ شاب، لكنّ ديفيد رأى القليلَ فيها، لأنه حُصِرَ في أعماقِ السّفينةِ للنجارة والصبغِ، وكلُّ ما رآه في المكلا، ذلك المدخلِ إلى حضرموت، كان لَمْحَةً عابرةً لعددٍ من البيوتِ العربيّةِ المُسَطّحَةِ، ناصعةِ البياضِ في ضوءِ الشّمس، حيث بدت وكأنّها قِطَعُ شطرنجٍ عاجيّةٌ مطروحةٌ على سفحِ جبلٍ قاحِل. في الليلِ فقط كان يُسْمَحُ له بالصعودِ على متنِ السفينةِ، بينما قضّى ساعاتٍ جامدةً في أعماقِها، مُستِمتعًا بجمال وأسرارِ بحرِ العرب، ووميضِ مياههِ الحيّة. من موقعِه المناسبِ استطاع أن ينظرَ إلى الأمواجِ الرقراقةِ، وإلى الماءِ ينزاحُ بعيدًا عن السّفينةِ في رباطينِ عظيمين، لهما أَلَقٌ كضوءِ القمر، وفي الأمامِ، في الظلامِ الدامسِ للبحر، رأى دوائرَ الضّوءِ الكبيرةَ كالأجرامِ تَتَشَظّى إلى ألْفِ قطعةٍ فسفوريّةٍ حيث كسّرَ مرورُ السّفينةِ أسرابَ السمكِ، ومثلُ الحُرّاس، كانت أسماكُ القِرْشِ ترافقُ السفينةَ مُشكِّلةً مساراتٍ من الضّوء وهي تشقُّ طريقَها النَّهِمَ خلالَ الأعماق. ومن حينٍ لآخَرَ، كانت تمرُّ بهم ناقلاتُ نفطٍ قادمةٌ من الكويتِ، والبحرينِ، والظهران.
دخلوا جُزُرَ كوريا موريا ليلاً، وللحصولِ على مَشْهدٍ أفضلَ لها، تجاهلَ الأوامر وتسلّل إلى ظهرِ السفينة. كان يقفُ بمحاذاةِ أحدِ القواربِ عندما انفتحَ بابُ مسكنِ الرّكاب وظهَرَ منه شخصان. جاءا باتجاهِ مؤخّرةِ السّفينة، يتحدثانِ بصورةٍ جادّة، فاختفى أكثرَ خلفَ القارب، مُنْحنيًا إلى الأسفل وكأنّه يحاولُ ضبطَ شيء ما.
»….المرّة الأخيرة كنتُ في مكتبِ البحرين. لكن حتّى في أبوظبي قد سمعنا الإشاعات.« كانت اللهجةُ شماليًّة.
»حسنًا، ذلك هو الوضع. اعتقدتُ أننيّ سأحذّرُك. لم أردْ أن أكونَ مثلَكَ أنحازُ للجانبِ الخاسرِ، وأجدُ نفسي مطرودًا فقط لأنني لم أعرفْ ماذا كان يجري.«
»أجَلْ، جيّد، أشكرُك. لكنّ جورد… الأمرُ يحتاجُ إلى شيءٍ من التعوّد، يجبُ أنْ تعترف. لقد كان مسؤولا عن الشّركةِ هنا لزمنٍ طويلٍ جدًّا.«
»لم أعرفْ عن ذلك، أيها العجوز. أنا جديدٌ هنا، وفي رأيي، إركارد هو الرّجلُ المناسب.«
لم تكن الأصواتُ أكثرَ من هَمْسٍ أثناءَ اللّيل. كان عاملا النفطِ يتكآنِ على السياجِ في النهايةِ الأخرى للقارب، وديفيد كان على وشكِ أن يتسلّلَ بعيدًا عندما سمعهما يذكران اسمَ أبيه. »هل صحيحٌ أنّ سببَ المشكلةِ هو الكولونيل ويتكر؟ تلك هي الإشاعة.« تجمّدَ في مكانِه، يستمعُ باهتمامٍ حيث أخذ أحدُهما يضحك ويقول ساخِرًا: »حسنًا، نعم، بشكلٍ ما، أصبح البدويُّ المتوحشُ مغرورًا. ونظريّتُه تلك، مُجرّدُ هراءٍ تافه. إنه لا يفكّر في الشّركةِ، فقط في أصدقائِه العرب.«
»أوه، لا أعرف. الشّركةُ مدينةٌ له كثيرًا.«
»من حيثُ امتيازاتُ التنقيب، وسلسلةٌ من الآبارِ الجافّة-نعم. الرجلُ غِرٌّ لا خبرةَ له. أُحذّركَ، إنتوهيستل-تكلّمْ بهذا عندما يزورُك إركارد في أبوظبي، وسيطردُك في الحال.«
»إنّه جورد، مَنْ أتعاملُ معه.«
»طيب. لكنّي متأكدٌ من أنّ إركارد هو الذي سيقومُ بالجولةِ التّفتيشيّةِ القادمةِ لمواقعِ التّطوير.
و ما لم تظهر له…..«
خفتَتْ الأصواتُ حين ابتعدَ الرّجلان، يمشيانِ ببطءٍ نحو قمراتِ الركاب. تحرّك ديفيد بسرعة، مُنزلِقًا أسفلَ السّلّم إلى مَوْقعِه في باطنِ السفينة. أراد أن يكونَ وحيدًا، لأنّ المحادثةَ القصيرةَ التي تنَصّت لها أعطتْه لمحةً غريبةً عن العالَمِ الذي تعلّق به.
توقّفتْ السّفينةُ في جزيرةِ مصيرة حيثُ تتمركز ال (راف)، أو القواتُ الجويّةُ الملكية، ثمّ استأنفتْ طريقَها ثانيةً حتى وصلتْ رأسِ الحدِّ ليلاً، ومن هناك أبحرتْ عبرَ الشمالِ الغربيِّ لخليجِ عُمان. في ظهيرةِ اليومِ السّابعِ منذ خروجِها من عدن أرستْ السفينةُ في مسقط، في خليجٍ ضيّق وصخريٍّ لدرجةِ أنّ ديفيد بالكاد صدّق عينيه؛ فالمشهدُ كأنه ساحلُ ببيمبروك شاير في ويلز، عدا أنّ بلدةً عربيّةً مُشْمِسة وبيضاءَ تقفُ قريبةً من حافّةِ الماءِ على رأسِ الخليج. على جانبي الخليجِ حملتْ الصّخورُ أسماءَ بعضِ السفنِ التي زارتْ مسقط منذ سنةِ ٠٠٨١. احتشدتْ حول السّفينةِ قواربُ محليّةٌ طويلةٌ ذاتُ ألواحٍ عريضةٍ من جذوعِ النخل، وعليها عربٌ لمعتْ جباهُهم السمرُ في ذلك اليومِ المُشْمِس.
ظلتْ السفينة في مسقط يومًا كاملا، وفي الليل راودتْ ديفيد فكرةُ الغوص والهروب. كان الشّاطئُ قريبًا جدًّا. لكنّه تساءل عن مصيرِه بعد ذلك. وفي محادَثةٍ عابرةٍ مع أحدِ الطّاقم، عربيٍّ من الشمالِ، من ساحلِ خور فكان، علم أنّ مسقط مُحَصَّنَةٌ بجبالٍ بركانيّةٍ شَرِسةٍ للغاية. وأنّ لها مُنْحَدَرًا يصلُ إلى خمسينَ مِيلا تقريبًا، وكلُّ طريقٍ يؤدّي إليها مَخْفورٌ ببُرْجِ مُراقَبَة، وخلفَ الجبالِ تكمنُ صحراءُ الربعِ الخالي. عرَفَ أنّه لا مَفَرَّ، ولذلك بقي في السفينةِ حتّى أبحرتْ في ظهرِ اليومِ التالي.
كان يتناولُ وجبتَه المسائيّةَ عندما أُخْبِرَ بأنّ عليه أنْ يذهبَ إلى منصّةِ الربّان. الكابتن جريفث كان هناك، جالسًا على كرسيّه الخشبيّ، يُحدّقُ في النجوم، وبصُحبتِه رّبّانٌ عربيّ، ظلّ منشغلا بالبوصلة وقيادةِ السفينة.
»أوه، أنت هنا.« التفتَ إليه جريفث. »عندما نزلتُ في مسقط اللّيلةَ الماضيةَ كان هناك عبدٌ مِنْ صُرَيْفَة ينتظرُني برسالةٍ من أبيك. أعتقدُ أنه يَسرّكَ أنْ تعرفَ بأنّه راغبٌ في أنْ يستلمَك.« وحينما تمتمَ ديفيد بشكرِه، ابتسم له وقال: »يمكنني أن أقولَ بأنني أنا أيضا مرتاحٌ لذلك.«ثم أضاف: »هناك سفينةُ سمبوق عربيةٌ تنتظرُك الآن في رأسِ الخيمة لتُقِلَّك.« اللّيلةَ سنعبرُ مضيقَ هرمز إلى الخليج. لو حالفنا الحظُّ ينبغي أن نرى السمبوق في حوالي ساعةٍ بعد الفجر. أنت تتحدّثُ العربيّةُ الآن، حسبما أُخْبِرْتُ.«
»قليلا،« قال ديفيد. »لكنّي أجدُ صعوبةً في إفهامِ الآخرين- أعتقدُ أنه بسببِ اللّهجاتِ المختلفة.«
»و هل تعتقدُ أنّك يمكنُ أن تتحدثَ كعربي؟« وبدون انتظار إجابةٍ، أضاف جريفث: »الركّابُ يحاولون ممارسةَ العربيةَ بمجرّدِ أن يروا رجلا عربيا من طاقمِ السفينة.« ثمّ أمسك بذراعِ ديفيد. »حظّا سعيدًا الآن. ونصيحةً أخيرةً قبلَ أن تذهب-تعاملْ معه بحَذَر. أبوك ليس رجلا عاديًّا، أؤكدُ لك ذلك. فهو شيطانٌ عندما يغضب. لذا تمهّل واحترسْ.« وبذلك صرَف النظرَ عنه، ورجعَ ثانيةً إلى مقعده، يحدِّقُ من خلالِ الزّجاجِ في أنوارِ السفينة، وهي تقتربُ من الأفقِ المظلم.
ترك ديفيد المنصّةَ، مذهولا وكارِهًا، لأنه منذ الآن بدا مستقبلُه مجهولا ومُخيفًا. في الفجرِ سيتركُ السّفينةَ، ورفقةَ الرّجالِ الذين عاشرَهم في الأسابيعِ القليلةِ الماضية، وتلك الرّابطةَ التي تصلُه بالوطن، كلُّها ستمضي بعيدًا، وتتركُه وحيدًا في بلدٍ غريبٍ، بين أناسٍ غرباء. لقد أدهشه عدَمُ إحساسِه بالإثارةِ، أو الفرح-شَعَرَ فقط بالوحدة والوحشةِ، اللتينِ لم يعرفْهما قط عدا في هذه اللّحظةِ التي ودّع فيها صِباه.
وَجَدَه وكيلُ الربانِ جالسًا على سريرِه، ينظرُ سارحًا إلى الفضاء. »تفضّلْ، ويتكر.« وقذَفَ حُزْمةً من الملابسِ بجانبِه. »اشتريتها من علي محمد-كوفيّة، وعِقال، وغترة، ونعال، وخنجر. بثلاثِ جنيهات، وقد خصمتُها من أجرِك.« وَضعَ بعضَ النقودِ الشّرقِ إفريقيّة على الملابس. »أَخبَرَكَ العجوزُ ماذا تعمل، أليس كذلك؟ حسنًا، لا تنسَ أن تُحيّي النوخذة ب(السلام عليكم)، وبعضِ الكلماتِ العربية. ثم اذهبْ إلى محلٍّ للدّهان واصبغْ وجهَك ويديك. وَجهُكَ الآن مُحْمَرٌّ كمؤخّرَةٍ طِفْلٍ أبيض.«
تنكّرُه في زيٍّ عربيٍّ للمرّةِ الأولى في حياتِه ساعدَه على قضاءِ الوقت، لكنْ حتّى الآن فإنّ ساعاتِ الليل الطّويلةِ قادمة. استلقى مستيقظًا يفكّرُ فيما سيأتي به الغدُ، وفي الرّجلِ الذي لم يعرفْ أنه كان أباه حتّى ذلك اليومِ المأساويّ. ثمّ فجأةً طلع الفجر، وعلى الفورِ، ظهر أحدُ الطّاقمِ العربيِّ جاء لإخبارِه أنّ سفينةَ السمبوق موجودة. حينها جلَسَ ينتظرُ، كلُّه توتّر وترقّب. ثمّ تباطأ صوتُ المحرّكات وتلاشى أخيرًا. كانت تلك لحظةَ المغادرةِ النّهائيّة. تأكّد من أنّ الخنجرَ مُستويةٌ على حزامِه، وأن الغترة والعقالَ يلفّانِ رأسَه بشكلٍ صحيح. ذهب بسرعةٍ إلى آخِرِ ظهرِ السّفينة وانتظر هناك عند السلّمِ الرئيسي. وفي الجهةِ المقابلِةِ كان أحدُ الطّاقمِ ينتظرُه هناك لمساعدتِه. فجأةً اقترب محرّكُ ديزل بهديرِه المزعجِ في ذلك الصّباحِ الهادئ. سَمعَ ارتطامَ المركبِ الشّراعيِّ بجانبِ السفينةِ، وزعيقَ أصواتٍ عربيّة، وكان الرّجلُ بالسّلّمِ يُشيرُ إليه.
خرج بسرعةٍ، رأسُه إلى الأسفل، مُسْتترًا بغترته. أمسكتْ ذراعَه يدٌ داكنةُ البشرة، تشدُّ من أمرِه. نَظرَ بسرعةٍ إلى أعلى، ولمح الكابتنَ متكئا بمرفقِه على السياجِ فوق ظهرِ السفينة، وفي الأسفلِ على سطحِ القارب، رأى رجلا بدينًا وقصيرًا مُتَدثِّرًا بعباءةٍ باهتةٍ يشاهدُه. بعد ذلك لم يَرَ من السفينةِ سوى جانبِها الصّدِئ.
وصل العُمّالُ فأخذوا بيدِه حين قفز إلى الظهرِ الخشبيِّ المتهالكِ للمركبِ الشّراعيِّ الذي سُيقلُّه. حيّاهم بالعربيّةِ كما أَخبرَه الكابتن وفي نفسِ اللّحظةِ سمعَ رنينًا بعيدًا لتلغرافِ السفينة. تزايدتْ دقّاتُ مُحرّكاتِ إيميرَلدْ آيلْ، وبرحيلِها خَلقَتْ فَجوةً بينه وبين ماضيه. انصرفَ عن التفكيرِ في السفينةِ واجدًا نفسَه على قاربٍ طويلِ القيدومِ مصنوعٍ من خشبٍ مَعْطوب، أَنْهَكَه القِدَمُ، حتّى أنه ابيضّ بفعلِ الحرارةِ المتّقدةِ للخليج. شِراعُه خِرْقةٌ مُرقّعةٌ بدتْ كجَناحٍ قَذرٍ لإوزّةٍ ميّتةٍ في صباحٍ خانق. كان البحرُ من حولِه ساكنًا كمرآة، وأبيضَ كزجاجٍ مَصْهورٍ، وما إنْ تحرّك القاربُ حتّى تحطّمَ ذلك السكونُ.
كان هناك ثلاثةُ أشخاصٍ على مركبِ السمبوق؛ النوخذةُ، أو الكابتن، وهو شيخٌ كان يعبثُ بلحيتِه باستمرار، وقد خَضَبَها الشيبُ، وصبيٌّ بدا عليه الهُزال، ورَجُلٌ ضخمُ الصّدرِ، أسودُ كزنجيّ، جلدُه صقيل. أخذ النوخذةُ يدَ ديفيد في يدِه ومسَكَها لفترةٍ طويلة، بينما اقتربَ الآخَرانِ منه، يُبحلقانِ في وجهِه، ويتحسّسانِ ملابسَه-ستُّ عيونٍ سُمْرٍ أخذتْ تُحدّقُ فيه، مَأْخوذةً بالفُضول. فيضانٌ من الأسئلةِ، انهالَ عليه. وكثيرًا ما كان الرجلُ العجوزُ يُبجِّلُه باللقبِ الهنديِّ »صاحب«. وكلّما قال ديفيد شيئًا، أَنْصَتَ له الثلاثةُ باحترام، معَ أنّ عربيتَة المُكسّرةَ لم تكنْ مفهومة.
ألقى ديفيد نظرةً أخيرةً على إيميرَلدْ آيلْ، وكمْ كان الأمرُ مُذهِلا له أن يجدَها اختفتْ تمامًا، قد ابتلَعَها الضّبابُ الرّطبُ لذلك الصباح. ولبعضِ الوقتِ ظلّ يسمعُ هديرَ محرّكاتِها، لكنّ الصوتَ أخيرًا اختفى وأصبح وحيدًا مع عَرَبِه الثّلاثةِ على بحرٍ ساكنٍ راكدٍ يكادُ أن يكونَ لسطحِه لمعان.
أحسّ حينَها بالغُرْبةِ، وبأنه أكثرُ وحدةً مما كان. لكنّ هذا المزاجَ لم يستمرّ، ففي أقلِّ من ساعةٍ انقشع الضّبابُ، وبعيدًا صوبَ الميناء ظهرتْ التُّخومُ الغامضةُ لحَشْدٍ من الجبال. بعد هُنيهةٍ صارتْ السّماءُ صافيةً، والقُبّةُ الزرقاءُ انعكستْ في البحر، والجبالُ برزتْ شامخةً، هاويةً من السّماءِ على شكلِ منحدراتٍ حمراءَ عموديّةٍ لتنتهيَ كسرابٍ عند حافّةِ الماء. في الأمامِ، وَقفَ مركبٌ شراعيٌّ طويل، وبعده بدا العالَمَ يتلاشى-لا جبالَ، ولا أيَّ شيءٍ، سماءٌ لا نهايةَ لها. للمرّةِ الأولى فقط أَدرَكَ لماذا كان الرّجالُ يتكلّمون عن الصّحراءِ كبَحْر.
المُحرّكُ القديمُ للسمبوق انطفأ مرّتين، وفي كلِّ مرّةٍ كان الصبيُّ يقوم بتشغيلِه. أما النوخذةُ فظلَّ مشغولا بتوجيه دَفّةِ المركب. وفي مؤخِّرةِ المركب كان هناك موقِدُ فحمٍ ظلّ مشتعلا منذ بدايةِ الرحلة، حيث لم يتوقفْ طبخُ الطعامِ عليه، إلى أن جاءتهم أخيرًا كَوْمةٌ من الرُّز واللحمِ التهموها بأيديهم. هبّتْ ريحٌ خفيفةٌ فحرّكتْ وجهَ البحرِ، ثم تعاظمتْ إلى أنْ أسقطتْ الشّراعَ، وأطفأتْ المحرّك.
هذا الهدوءُ المفاجئُ، جعلَ صوتَ الماءِ، وهو يترقرقُ حولَ المركبِ يبدو عاليا. تمّ إرخاءُ الشّراعِ الرّئيسيِّ حتىّ تحرّك السمبوق. »رأس الخيمة«. أشار النوخذةُ باتجاهِ الميناء. عند سفوحِ الجبال وبعيدًا تحت الأفقِ، تبيّن ديفيدُ الشكلَ القاتِمَ لبعضٍ من البيوت، وأجماتِ النخيل. وبعد ذلك بقليلٍ ظَهرَ السّاحِلُ في الأمام، مُنخفضًا ومستويًا، خطًّا متلألئًا من الكُثبان.
كانت الشمسُ تقريبًا في كبِدِ السّماءِ عندما اقتربوا من ذلك الساحل الرملي. عبرتْ قافلةٌ من الجِمالِ مُنتظمةً على طولِ رمالِ الشّاطئ، وقريبا تحتَ المُنحدراتِ المنخفضةِ كان هناك لاندروفر مركونًا، وشَخْصٌ يرتدي ملابسَ عربيّةً وقف بجانبِه. اعتقدَ حينَها أنّ الرجلَ كان أباه وأعدّ نفسَه لذلك الاجتماعِ الأوّلِ، مُتسائِلا كيف سيكون. لكنْ عندما جدّفَ النوخذةُ قاربه نحو الشّاطئ، تبيّن أنّ الرجلَ كان عربيًّا جاء لاستقبالِهم.
مُشكلةُ لكنتِه العربيّةِ برَزَتْ مرةً أخرى. كان اسمُ العربيّ يوسف ويتحدّثُ الإنجليزيّةً قليلا. » صاحب، الكولونيل ليس هنا. ستأتي معي إلى صُرَيْفَة الآن.« رنّتْ كلمة صُرَيْفَة في أذنِه عدّةَ مرّات وكأنّه كان أطرش.
»كم تبعد صُرَيْفَة؟«
نظر إليه الرّجلُ بغضب. بدا شخصًا قَميئًا جدًّا، طَرْفُ عمامتِه القذرةِ ألقاه على كتفِه، كما ارتدى سترةً أوربّيّةً ممزّقة وقذرةً جدًّا على دشداشتِه العربيّة. وجهُه مُسوَدٌّ من أثرِ بُقعِ النفط، هذا وشاربُه الأسودُ الصّغيرُ تحت أنفِه المُقوَّسِ أعطاه مظهرَ شرّير.
حاول ديفيد ثانيةً: » صُرَيْفَة… عشرةُ أميال، عشرون؟« وأكّد له ذلك بأصابعِه.
»صاحب، صُرَيْفَة ليست بعيدة بالسيارة.« الابتسامةُ بين فراغاتِ أسنانِه المَفْلوجةِ جاءتْ بوضوحٍ لتعنيَ التهدئة. »أنا سائقُ الكولونيل، صاحب. أسوقُ بسرعة.« ذلك بدا أنّه استنفدَ اعتمادَه على الإنجليزيّة، لأنّه تحوّل إلى النوخذة وشَرَع في فيضانٍ من المحادثة. وأخيرًا فإنّ النوخذةَ خطا إلى الأمام، قبّل يدَه ورفعَها إلى صَدرِه، مع بعضِ الانحناء. أعطاه ديفيدُ بعضَ النقودِ التي حصَلَ عليها من خِدْمتِه على السفينةِ، بينما ودّعه العجوزُ بخِطابٍ طويل.
أخيرًا أصبح في اللاندروفر الذي أخذ يهدِرُ عبرَ رمالِ الشّاطئ، وانحنى السّائقُ على السكانِ كراكبٍ يستحثّ حصانَه، وطرَفُ عمامتِه القذرةِ يرفرفُ خلفَه. بعد مِيلينِ أو أكثرَ تركوا ناحيةَ البحر وأخذوا في طريقِ الجِمالِ عبرَ المنحدرات.ألقى ديفيدُ نظرةً أخيرةً إلى الخلفِ لمَحَ فيها المركبَ الشّراعيَّ الذي أحضره إلى شطِّ بحرِ العرب، بعدها أخذ اللاندروفر يقفزُ بهم مُقْتفينَ أثرَ قافلةٍ للبدو رأوها في الرّمال. وعند مرورِهم بها رَمَقتْهم الجِمالُ بنظرةٍ مُتشامخةٍ، وهي تقطعُ الرّملَ دون جهدٍ تحت أحمالِها الجبليّة. ورفع لهم الرّجالُ أيديَهم مُكشّرينَ تحيّةَ الصّحراء. الدّعائمُ الفضّيّةُ لبنادقِهم القديمةِ لَمَعتْ في الشمسِ الحارقةِ، ولَمحَ ديفيدُ الومضةَ الشّرّيرةَ لنصولِ خناجرهم ورصاصِ محازمِهم. كان للمرّةِ الأولى يرى عالَمَ الصّحراءِ الذي سيكون سَكنَه.
الهوامش
١- لمزيد من التفاصيل عن حياة هاموند إنيس، انظر:
-St. James Guide to Crime & Mystery Writers / eds. by Jay P. Pederson, and Taryn Benbow-Pfalzgraf (London: St. James Press, 1996) -Patton, Lucy, The Guardian (12 June 1998), p.4 »Best-Seller Hammond Innes dies, aged 84«.
٢- Evory, Ann Contemporary Authors, 4 (Detroit, Michigan: Gale Research, 1981), p.282
٣- Barker, »Obituary:In the land fit for heroe« Hammond Innes, Dennis The Guardian (13 June 1998), p. 24.
٤- Wakeman, John World Authors 1950-1970 (New York: The H. W. Wilson, 1975), p.706
٥- Innes, (Ralph)In Contemporary« Royal, Trevor «Hammond.
تقديم وترجمة: هلال الحجري (شاعر واكاديمي – جامعة السلطان قابوس)