-1-
بَيتُه يذهب في دربٍ قصيرٍ للهلاكْ
بَيتُه صورتُه مِن أوّل العمرِ
إلى آخر شُبّاك وبابٍ في الحياةْ
-2-
صورةُ البيتِ حُلمٌ تنقّل
ما بين طفلٍ يطيرُ
وكهلٍ يقاوم صمتَ الإضاءةِ
في غرفة النوم،
حُلمٌ يطير به حُلمُهُ
كالفراشة في وَهَج النار يوما
ويوما يُرى يترجل عن حُلمه
سائرا في طريق المواتْ
صورةُ البيت وَهمٌ مضى
منذ أولِ أيامه في حروب النهايةِ
منذ الطفولة كانت له
غُرفٌ تتنفس روحَ النبي الأخير وقرآنَه
والجدارُ نوافذُ مفتوحةٌ للصبايا
ومُشْرَعةٌ للهواء الفسيحْ
-3-
بَيتُه صوتٌ من الضوءِ
الذي يَسْطع بين الذكرياتْ
-4-
بَيتُه شبَّ عشرين عاماً
مضى في متاهتهِ
وتكسّر فيه زجاجُ مَنامَتِه الهشُّ
هبّت عليه الرياحُ
وخاض حروبا إلى حُلمه المستحيلْ
-5-
بَيتُه شبَّ عن الطوقِ
وشبَّت فيه نارُ الشهواتْ
أحرقتْ نيرانُه صمتَ الطفولة
أحرقتْ أوجاعُه قلبا وروحاً
من عذاباتٍ رَمَتْها بالكهولةْ
-6-
في الثلاثينَ من عُمْرِ أزهارِهِ
باتَ بيتُ الفتى جسدا حائراً
تَتَهشَّم جدرانُه وخَزائنُه
والأواني التي تتكوَّم في الحَوضِ
حتى تشيخْ
الجدارُ الذي يتشقَّقُ
كهلٌ يسيرُ إلى حتفِهِ
بَيتُه هو أوراقُه ودفاترُه
في الخزانةِ أو فوقَ طاولةِ الأكلِ
أو في السريرِ
وبين الكراسي هناك كتابٌ يعود إلى أصله
ورقاً.. شجراً مائلا لاصفرار الكهولِ
كتابُ الهوى حيث أوفيدُ ما بين مسخٍ وعشقٍ
كتابُ الحنين إلى وطنٍ
وكتابُ فنونٍ مهيضُ الحروفِ بعزلتِهِ والغبارِ
كتابُ المنازلِ بين المنافي وغُربَتِها
والسريرُ الذي ظلَّ يحتضن الحبَّ عشرين عاما
وصارَ ملاذا لبعض قصائد لوركا
وأشعار درويشَ آخرَ أيامه
للرواياتِ بعضُ الزوايا
وبعض الزوايا تُعشِّشُ في روحها
صُوَرٌ لوجوهٍ مُهشَّمةٍ
تتدفَّقُ ألوانها من دمٍ وعيونْ
بَيتُه قمرٌ
يَتَحمَّل وِزْرَ منازِلِهِ صامتاً
ومنازلُهُ من نجومٍ طُفَيليةٍ
ترضعُ الضوءَ من دمه
ونجومُ منازله انتثرتْ
في فضاء العواصمْ
-7-
بيتُه الأولُ مرآةٌ ستروي
– ذاتَ يومٍ –
كلَّ ما يحفظه صندوقُهُ الأسودُ من أسرارِهِ،
الأسرارُ روحٌ مزَّقتْها الحربُ
بين الله والشيطانِ والإنسانِ
حربٌ من كلامٍ ورصاصٍ وشجرْ
-8-
آلةً أصبح من عشرين عاما
آلةٌ يدخلها المكتبُ
منذ الفجرِ حتى آخر الليلِ
وما أدراكَ ما المكتبُ:
آلاتٌ وحيتانٌ ورملٌ ورمادْ
آلةٌ من حَجَرِ البركانِ
ذابتْ روحُه في ريحها
عشرينَ عاماً وخريفاً من ربيعِ العمرِ
مرَّتْ في بياضٍ وسوادْ
آلةً آليةً صارَ
بلا نجمٍ سماويٍّ
بلا عصفورةٍ للحُبّ
لا خيلٌ ولا ليلٌ ولا أغنيةٌ
ولّى زمان الأغنياتْ
آلةٌ ترجع في آخرةِ الليلِ
إلى المنزلِ كي تنبشَ ليلَ الذكرياتْ
-9-
في حقيبتهِ كان قرآنُه
وأناشيدُه الخالداتٌ..
دعاءاتُ جَدَّتِه:
في الرحيلِ بعودته
في السجونِ سطوعاً لثورته
في المساجدِ نجما لشِلَّته
في طُفولتِهِ
قمراً فاتناً كان..
كانتْ له نجمةٌ للسهولِ
وأخرى لعُزلتهِ
نجمةُ الطفلِ
كانتْ تقاتل في السهلِ حينا
وحينا على حافةِ الوردِ في عين أنثى
فيخسرُ خيطَ طُفولتِهِ
ويضيعُ الفتى
يتشرَّدُ بين الخنادقِ
والمنزلِ المتدثر بالموت في الصلوات
ويغرقُ في ضوءِ صورتِهِ
ويَضيعُ الفتى بين شمسِ المجاهد (ذاك الذي لا يجاهد) يوما
ونجمِ الفدائيِّ يوماً
ويَسْطع ضوءُ الفدائيِّ في ضِفَّةِ النهرِ
يَسْطعُ أيلولُ بالموتِ والليلِ
يسطع موتُ الفتى بين إخوتِهِ
-10-
في الثلاثينَ عاد الفتى ساحراً
سحرتْهُ ليالي قصيدتِهِ
في الثلاثينَ عاد إلى التيهِ
والتيهُ صحراءُ تمتدُّ ما بين شرقٍ وغربٍ
يسيرُ إلى روحِهِ في الخفاء وفي صمتهِ
ويسيرُ إلى صوتهِ
أيُّ صوتٍ يقودُ خطاهُ
فيمضي إلى ليلِ حيرتِهِ
ليلُهُ الذئبةُ الهمجيةُ
تقضِمُ أيّامَه ساعةً.. ساعةً
ليلُه ملِكٌ يتربّعُ في بيتِهِ
ليلُه ملِكٌ قاتلٌ
يتربع في عرشِ غربتِهِ
ومضى العمرُ
في الأربعينَ غدا العمرُ
ثرثرةً عن بداياتهِ
وانقضى زمنُ من هباءٍ وثرثرةٍ
عن برودةِ أيّامِهِ
وثقوباتِ جعبتهِ
وقضى في البداياتِ خمسينَ حُلما
بلا رعشةِ الحُلمِ
ينكسرُ الحُلم عند ولادتهِ
مثلما تتكسّر أمطارُه في محاجرِ غيمتِهِ
ويظلُّ الأسى شاهدا في عناوينِ رحلتِهِ
هُوَ ذا
منذ خمسينَ تأكلُهُ ذئبةُ الوهمِ
تسرقُ أحلامَهُ
غير أنَّ الفتى الكهلَ
يمضي إلى حربهِ
ليجدِّدَ صورتَهُ
ويعودَ إلى بيته المتهدِّمْ.
عمـــر شبانة
شاعر من فلسطين