«في كتاباتي أتكلم عن نفسي، أبذل جهدي كي لا أموت في صمت. تأليف الكتب مرض يهدد من يصاب به بالجنون». أوفيد(1)
كان الليل قد أرخى سدوله، والشوارع هادئة/ وهناك، كان يقع ذلك البيت الذي عاشت محبوبتى فيه/ طويلاً كان ذلك المنزل ومرتفعًا/ وعلى الرغم من أنها غادرته، من قبل، إلى المدينة،/ فإنه ظل قائمًا في مكانه كما كان دائمًا/ وأمامه، وقف رجل، يحدق إلى أعلى
ويعصر يديه في ألم مبرح،/ وعندما رأيت وجهه، تملكني الرعب/ فقد كشف ضوء القمر لي عن وجهي نفسه،/ أيها القرين! يا رفيقي ذا الوجه الشاحب!/ لماذا تحاكيمرة أخرى عذاب الحب المبرح،/ ذلك الذي عانيت منه، كثيرًا، ذات ليلة ماضية/ في هذا المكان؟ (2).
في هذه القصيدة الغنائية الموسيقية الموجزة التي قدمها المؤلف الموسيقي الشهير فرانز شوبرت في السنة التي توفي فيها، عام 1828، وكانت بعنوان: القرين، يتذكر العاشق ذلك المنزل الذي عاشت فيه محبوبته التي فقدها، وعندما يعاود زيارتها في خلال تجوالاته الليلية، يجد نفسه لا يزال واقفًا هناك، حيث يضيء نور القمر وجهه، ويجد ذاته الأخرى تحاكي حركاته على نحو واضح، تعتصر يديها، وتقلد العذاب المبرح نفسه الذي كان قد شعر به ذات ليلة في الزمن الماضي، هناك، في المكان نفسه، أمام ذلك المنزل.
ترتبط فكرة الغرابة بفكرة القرين، فالقرين هو ظهور أو تجل شبحي لحالة داخلية تقوم بإحداث انقسام داخل الذات، وفي الوقت نفسه تقوم بإحداث التكامل لهذه الذات، على الأقل أمام نفسها، من خلال هذا الانقسام ذاته. إنها صورة محاكية ثانوية Simulacura ، أي صورة هوية تشتمل على الذات وموضوعها، الذات وهويتها الأخرى، الذات وكينونتها، الذات التي لا تتشكل إلا من خلال قرينها أو شبحها أو صورتها الخفية الأخرى كما أشار جوليان وولفريز.
في رواية عنوانها: «الآخر مثلي»، للكاتب البرتغالي «جوزيه ساراماجو»، يعيش مدرس لمادة التاريخ، وحيدًا، وتنحصر حياته في عمله في مدرسة ثانوية، وعلاقة حب ليست عميقة، يعاني شبه اكتئاب وكوابيس، ينصحه أحد زملائه باستئجار أحد الأفلام الكوميدية للترفيه عن نفسه، وفي الفيلم يرى نفسه، أو بالأحرى يرى شبيهه، في مشهد صامت في دور ثانوي، تنقلب حياته رأسًا على عقب بعد ذلك، ويحضر الأفلام كلها التي قام شبيهه بالتمثيل فيها، ويرى الأدوار الثانوية التي قام بها: موظف في مصرف، ممرض في مستشفي، بواب أمام ملهى ليلي، ثم مدير فرقة مسرحية.. إلخ، ثم يصبح شغله الشاغل أن يلتقي شبيهه وجهًا لوجه، يهاتفه ثم يلتقيه. هنا الشبيه أيضًا يماثل الغريب، بل هو غريب يهز استقرار الذات وواقعها، ويجلب إليها وقائع جديدة، هكذا لم يقلب ظهور الشبيه حياة مدرس التاريخ الذي رأى شبيهه – الممثل الثانوي – في بعض الأفلام، بل قلب هذا الظهور وهز تلك الحياة المستقرة نسبيًّا التي كان يعيشها ذلك الممثل مع زوجته أيضًا. هكذا تتطور الأحداث في الرواية بأشكال وعلاقات غريبة غير متوقعة.
ربما كان ذلك الشبيه قد جسد هنا، بالنسبة إلى مدرس التاريخ، نوعًا من الحلم، المتخيل، المتعلق بنوع من الوجود والشهرة التي لم يحقق هو نفسه شيئًا منها، ربما كان ذلك الشبيه المماثل له في الملامح والصوت والجسد، هو ذلك الجانب الآخر من الذات، الذي حلمت به، ورأت فيه نوعًا من التحقق، ومن ثم الاستمرارية أو الخلود الذي لم يصل صاحبه إلى شيء منه، لكن، وكما يقال، فإنه عندما يرى المرء شبيهه أو قرينه، فإن ذلك قد يكون نذير الموت، فإن نزعة عدوانية تتلبس كل شخصية من هاتين الشخصيتين شيئًا فشيئًا، نحو الآخر، ثم إنه عندما يموت أحدهما في حادث سيارة يظهر شبيه آخر له، يقوم بمطاردة ذلك الشبيه الحي(3). ويستمر الحكي، يستمر التكرار والتوالد للقرائن والأشباه ما دامت الحياة باقية.
القرين وزملاؤه في الغرابة
يحمل الأشباه (الأقران) الخياليون تاريخًا أدبيًا على ظهورهم – كما يقول كولن ديفيز- وهم يحضرون إلينا مكتسين الحلة الخاصة بحياة مفعمة بالخوف والغرابة والتخطي أو التجاوز للحدود، وكذلك فإن العزلة والشعور بالوحدة الكبيرة والوحشة القاتلة هو قدرهم، حيث يكون مجرد ثلاثة منهم أشبه بالحشد أو الزحام الذي يهربون منه، أما وجود اثنين فقط فقد لا يمثل صحبة طيبة، إنهم وحدهم، وحدهم دائمًا، مع ذاتهم، مع قرينهم، حيث يقودهم سلوكهم الانعزالي نحو مسارات مرعبة، تضيق على نحو متزايد، كما تقترن الأفعال الشريرة أو الشيطانية أو المرضية التي يقومون بها، أو تحدث لهم، وتقودهم نحو إلى تحالفات خاصة مع زملائهم في الغرابة : الأشباح، المستأذبين، الظلال، الغيلان، ونابشى القبور والعابثين بجثث الموتى(4).
هكذا تسقط الملابس أو الأقنعة، وتنشق الشخصيات، وتتحول إلى ذوات منقسمة ذات طبيعة أخرى غير التي كانت تبدو عليها لنا في الظاهر أو في البداية. هنا تكون طبيعة القرين أو الذات الأخرى طبيعة سيكولوجية، بمعنى أن التوجه الخاص من وراء الكتابة حولها أو تجسيدها في الأدب، يكون ذا مقصد تحليلي نفسي، ولكن في حالات أخرى تكون هذه الشخصيات ذات طبيعة مضادة للمجتمع، موجودة في مناخ اجتماعى يتسم بالعداوة، أو الظلم، أو الفوضى والتفكك، وهنا نجد أنفسنا أمام ما يمكن أن نسميه «القرين الاجتماعي»، وبالطبع ليس هناك ما يمنع من أن تكون هذه الشخصية المنقسة نفسها ذات مستويات متعددة أيضًا ومنقسمة، بعضها سيكولوجي، وبعضها اجتماعي، فهناك دائمًا في قصص الازدواج نوع من الإحالة الاجتماعية والنقد الاجتماعي، وكذلك الإشارات المتكررة إلى الضغوط الخاصة بالزمان والمكان والآخرين، التي تعانيها الشخصيات المنقسمة في هذه الأعمال(5).
وترتبط قصص الازدواج بشكل عام بالقصص والأعمال الأدبية السابقة عليها، والخاصة بعمليات التحول : تحول الإنسان إلى حيوان أو العكس، والسيد إلى عبد أو العكس، الإنسان إلى شيطان أو العكس، وبكل ما يرتبط بعمليات تغير الهوية وتحولها وتجاوزها للحدود الطبيعية الخاصة بها. لكن ما يميز قصص الازدواج ورواياته عن غيرها، هو هذا الاقتران والتلازم والتصاحب المحدد لشخصين معًا، لأسباب نفسية أو اجتماعية، ليست هناك أسباب سحرية أو عوامل متيافيزيقية ترتبط بهذا الازدواج في الشخصيات والانقسام في الهويات، حيث هنا هبوط من عالم السحر والميتافيزيقي إلى عالم النفس والمجتمع والغرابة الحياتية. وحتى لو حضر عالم الميتافيزيقا هنا في صورة أرواح أو أشباح أو غيرها، فإن السبب المفسر لها غالبًا ما يكون مرتبطًا بخلل في البنية النفسية أو الاجتماعية التي يقع عليها هذا الانقسام. وإضافة إلى ذلك كله، فإن قصص التحولات الأولى غالبًا ما تكون مرتبطة برغبات حلمية، بأمنيات التحقيق لرغبات في عالم الخيال لا يمكن تحقيقها واقعيًّا، أما في قصص الازدواج فالأمر مرتبط بهروب ما، خوف ما، مطاردة ما، رعب ما، استحالة وعزلة، وفي الحياة لا يمكن مقاومتها إلا بمثل هذا التحول، حتى لو تمثل هذا التحول في أن يصبح الإنسان حشرة كما حدث بالنسبة إلى جريجور سامسا في قصة التحول أو «المسخ» الشهيرة لفرانز كافكا، التي تحول فيها جسد جريجور إلى ما يشبه الحشرة المخيفة، في حين ظلت روحه وأفكاره تنتمى إلى عالم الإنسان، وظل توقه إلى الموسيقى مميزًا لعالمه الغريب المنقسم بين إنسان وحشرة، بين بدائية الغريزة وفجاجتها وسمو الروح الموسيقية. وهكذا فإن الانقسام الاجتماعي هو انقسام داخل المجتمع، انقسام بين طبقات المجتمع وفئاته وأفكاره وأعرافه ومستوياته، انقسام يتجسد، ويتم تركيزه عبر ذلك الانقسام أو الازدواج السيكولوجي(6).
هكذا يوجد الانقسام والتعدد على مستوى الخلية البشرية، والمخ البشري، والجسد البشري والحيواني، والشخصيات البشرية، والمجتمعات الإنسانية، وخلال عمليات الإبداع والقراءة أيضًا…إلخ. بل إن المحلل النفسي السويسري الشهير كارل جوستاف يونغ قد أقام أحد أهم جوانب نظريته المتعلقة بالسلوك الإنساني والأدب والفن والأساطير حول تلك الازدواجية النوعية الموجودة لدى كل إنسان حيث قال إن كل ذكرٍ توجد بداخله أنثى ما – يسميها يونغ الأنيما – وداخل كل أنثى جانب ذكري يسميه يونغ الأنيموس. وقد عالج بعض الباحثين موضوع «القرين» بوصفه اختبارًا قاسيًا يتعلق بمدى ثبات الهوية الذاتية في الأدب خلال القرن التاسع عشر في ألمانيا، وذلك لأن تجسيد القرين في الأدب إنما يعبر أيضًا عن الذات الإنسانية عندما تنقسم وتتمزق على نحو مَرَضي، وبدرجة قليلة أو كبيرة، فيما بين الواقع والخيال من خلال تلك الحالات التي أطلق عليها الكاتب الألماني هوفمان الازدواجية المزمنة Chronic Dualism (7). وفي ذاته، يقوم هذا الموضوع بتقدير أو قياس التحولات في العلاقات بين الاتجاهات الواقعية والخيالية في الكتابة التي هيمنت على العصور الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والطبيعية والحداثية وما بعد الحداثية أيضًا، وقد استأثر هذا الموضوع باهتمام الأدبـــاء، ولا يزال يستأثر باهتمامهم حتى الآن.
جذور القرين والغرابة
تمتد فكرة القرين بجذورها في ذلك الرعب الذي يخشى معه الإنسان أن يُحْرَم التواصل مع ذاته، ومع الآخرين، وهى احتمالية تنعكس في ذلك الاضمحلال أو الاختفاء للقرين النرجسي وتحوله إلى نذير للموت، أي إلى حضور منفصل ومضاد للذات. ولدى الأفراد العاديين، فإن هذه القوة الغريبة (العالم) التي تصبح متكاملة مع الذات، أو جانبًا خاصًا منها، تنمو وتتطور وتتحول إلى «ملكة خاصة»، أو قدرة خاصة» تعارض الجوانب الأخرى من «الأنا»، وتقوم بمراقبة الذات ونقدها داخل العقل، وهذا ما يتحول إلى ما يسمى «الضمير الحي».
أما في الحالات المرضية، فإن شعور المرء بأنه مراقب، أو أنه يراقب أفكاره وانفعالاته وتصرفاته، قد يجعله يعزل لا شعوريًّا هذا الجانب منه، يجعله مفككًا، بعيدًا عن بقية ذاته، ويتم الامتداد بتلك الحالة المرضية وتقويتها كما يشير بعض المفكرين عندما يُعد هذا القرين شريرًا، ومن ثم فإن المرء وكنوع من الدفاع عن الذات يبتكر خطة بديلة لمواجهته(8). وأخيرًا، فإنه عند الانتقال من الواقع إلى الفن أو الأدب، فإن تلك الدراما التي تحدث بين الخطة الشريرة أو الضارة الخاصة بالضمير القائم بالاضطهاد وخطة الذات الدفاعية المضادة، تكون مماثلة للحبكة الخاصة بالحكاية المتعلقة بالغرابة، بكل تلك السلاسل المتعاقبة الغريبة والمخيفة بين الأسباب والنتائج الخاصة بها والألفة وفقدان الألفة. هكذا يمكن القـول إن تلك الأشكال ما وراء الطبيعية أو الغامضة والغريبة من الحضور التي لدى شخصيات «بو»، التي تعانيها هذه الشخصيات، تكون متضمنة في حياة هذه الشخصيات ذاتها.
إن معظم شخصيات «بو» ودستويفسكي شخصيات لا تتعرف تلك الحالات من الحضور (أشباهها أو أقرانها) كجزء خاص من نفسها، ونتيجة لذلك فإنها تفشل في فهم علاقاتها معها في ضوء شروط إنسانية(9)، ولعل هذا الإحساس غير المحدد بالذات أو العالم هو نفسه ما شعر به فرويد حين أحس بأنه موجود في متاهة من الشوارع داخل إحدى المدن الإيطالية الصغيرة، حين كان يبدأ ويعود إلى الشارع نفسه ، ذلك الذي حاول ألا يعود إليه مرات عدة. وهكذا فإن الإنسان قد يشعر بأن إرادته حرة، ولكنه في الوقت نفسه يشعر بأنه مجرد من الحيوية الإنسانية، وأنه يخضع تدريجيًّا لقـوانين التكرار الآلية، ومـن ثـم فـإنه بوصفه إنسانًا قد يعتبر نفسه نصف حي ونصف ميت، ويكون على الكثيرين تحمل مثل هذه الحالة حتى نهاية حياتهم.
هكذا فإن احتمالات شعور الإنسان بالفقدان للتوجه، والانفصال عن ذاته، وعن الآخرين، وعن الواقع، والعودة إلى مراحل مبكرة وغير عقلانية من السلوك، هو أمر مفهوم في ضوء الأدب والأعمال الفنية والمعتقدات الدينية، تلك التي حاولت أن تجد معنى لحياة الإنسان، وحاولت أيضًا أن تساعده على استخلاص المعنى من حياته باللجوء إلى قوة عظمى وراء هذا الكون، وهكذا تكون أفكار وقيم الضمير والإرادة الحرة والمسؤولية والذنب والقوانين الأخلاقية، كما عبرت عنها الشرائع السماوية، والديانات عامة، وغيرها، مؤكدة تلك الحالة من البحث عن معنى، ومن تنمية وعي الإنسان بأنه حر، وأن حريته محدودة، وأنه عاقل، ولكن عقله قاصر أيضًا، وأنه عليه ألا يتجاوز حدود هذه الحرية العقلية وإلا وقع في براثن مشاعر الذنب والخوف والرعب، وأحيانًا الجنون، كما أن عليه أن يسعى أن يحل صراعاته ضمن محاولاته لأن يصبح جزءًا من الكل، من الواقع والحياة والمجتمع والوطن والعالم والكون، ألا يكون غريبًا عن نفسه، أو عن الآخرين. ولكن ماذا لو كان ذلك العالم، ذلك الواقع، ذلك الوطن، هؤلاء الآخرون هم من يستبعدونه؟ من يجعلونه غريبًا عنهم؟ من يقومون بإقصائه؟ من يجعلون الواقع بالنسبة إليه من خلال اضطهادهم له، ومن خلال أفعالهم التي لا يستطيع تمثلها داخل نسق الوعي الخاص به «ليس كما ينبغي أن يكون»؟ هنا قد تكون احتمالات ظهور الغرابة ممكنة. وليس مصدر الغرابة الواقع والآخرين فقط، فقد يكون مصدرها الذات، تلك الذات التي تدرك نفسها أو واقعها بشكل محرف أو مشوه، أو قد تكون واقعة تحت براثن ضغوط وعوامل قلق وعداء وعنف قاهرة لقدرتها على المقاومة، إنها تخلق كل تلك البدائل، وتفرز كل تلك الحالات التي تنضوي تحت المفهوم العام للغرابة، وقد تواجه هذه الغرابة بالفن والأدب والفلسفة والإبداع.
فالإنسان عندما يُحْرَم ثقته المطلقة بذاته وواقعه، وعالمه، عندما يمثل ذلك العالم قوى السلطة المطلقة فيه تهديدًا لذاته، فإنه قد يشعر بالتضاؤل والانسحاب في حضوره. ولأنه قد يشعر أن لديه أسراره الخاصة، ملكاته وقدراته الخاصة، وتميزه الخاص، فإنه قد يخفي هذه الأسرار عن الآخرين، «يكتمها» بعيدًا عن الرؤية أو الظهور، كى ينظر إليها بمتعة مألوفة خلال خيبته ومرارته الخاصة به، إنه يعيش بألفة مع الشيء الذي يخفيه ويجد سلواه معه. ولقد كان بو يدهش قراءه كفنان غريب من خلال تلك الأفكار الكثيرة التي دخلت عقله، وقام بحمايتها، كأنها موجودة في بيتها الأليف الخاص، ثم عندما أطلقها فإنها أصبحت غريبة بالنسبة إلى الآخرين.
تاريخ القرين وأنواعه
خلال العقود المبكرة من القرن التاسع عشر أثيرت أسئلة كثيرة حول موت الجسد وسرقة الروح، حول موضع الهوية وثبات الشخصية، وظهرت المحاكاة المتهكمة في عصر التنوير للحكايات الخرافية الشرقية حول الجان، وتجسد ذلك كله بعد ذلك أيضًا في تلك الاختراعات الأدبية للأشباح، ولما يشبه الأشباح لدى كتاب أمثال ألبرتو فون شاميسو، وهوفمان، وهانز كريستيان أندرسون، وظهرت كثير من القصص التي تقطنها الاشباح أو تنتابها كما لدى إدجار آلان بو مثلا. هكذا اجتاح «القرين» ميدان الترفيه الفني الشعبي، حيث قدم الازدواج مجموعة من الأقنعة المثيرة للاضطراب، لكنها المألوفة أيضًا، الأقنعة التي تحكي الذات من خلالها عن نفسها، وحيث يحدث – عبرها – تغير أساسى، تبديل وتعديل، بين الذات الداخلية والذات الخارجية، مما يحفز ظهور حبكات قصصية سردية غريبة حول الهوية(10).
والقرين مفهوم مركب، بل ملغز أيضًا، فهو قد يعني الذات الثانية، أو الوجود الفعلي الثاني، أو الممكن، خلال الزمن نفسه الذي تعيشه الذات الأولى، وأحيانًا ما يكون سابقًا لها، أو لاحقًا زمنيًّا، كما في الحبكات القصصية الخاصة برحلات الروح، كما في قصص التناسخ والحلول والمسوخ، وهو قد يعني أيضًا الشبيه الذي هو توءم زائف، وقد يكون وهو الأكثر شيوعًا شخصًا لا يشبه الذات من الناحية الخارجية، لكنه يجسد حقيقتها الداخلية العميقة، وفي ضوء هذا المعنى الأخير، فإن القرين، مع أنه لا يشبه الشخص الأصلي كلية من الناحية الظاهرية فإنه من خلال تجسيده أو تمثيله لطبيعته الداخلية الحقيقية يكون الأكثر تشابهًا معه، مقارنة بذلك الذي يشبهه من الناحية الخارجية فقط، والأمر هنا محير، وفي ضوئه قامت الحبكات الخاصة بروايات وقصص وأفلام سينمائية كثيرة حتى يومنا هذا.
كي يتم تكرار المرء، أي نسخه، وازدواجيته، فإنه ينبغى أن يوجد في ظل شخص آخر، هنا يكون القرين ظلا للذات الحقيقية، هنا القرين والقناع والأشباح ظلال للذات الحقيقية، محاولة لإخفائها بإظهار بديل لها، محاولة منها للتخفي، كأصل حقيقى وراء صورة محاكية ثانوية خاصة بها، وهنا قد ينطوي القرين كذلك على حالتين على الأقل.
1- حالة يكون القرين فيها شبيهًا بالذات تمامًا من الناحية الجسمية، ويختلف عنها سيكولوجيًّا، وهنا نوع من المحاكاة الحرفية التي أحيانًا ما تكون مرضية، كما نجد ذلك في رواية «القرين» (أو «المثل») لدستويفسكي.
2- حالة يكون القرين فيها مختلفًا تمامًا من الناحية الظاهرية عن الذات، لكنه يجسد أيضًا طبيعتها الداخلية الحقيقية، هنا القرين أشبه بذات أو مرآة محرفة، أو قناع أو ظل، كما نجد ذلك في روايات مثل: صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد، وكذلك الحكاية الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد لروبرت لويس ستيفسون. وهنا تبادل في الأدوار بين الحضور والغياب، حيث تغيب الذات الحقيقية، ويحضر نيابة عنها ظلها أو قرينها، وقد يغيب القرين وتحضر الذات في صورتها الأولى الحقيقية. وتعني فكرة القرين عمومًا أن هناك شخصًا ما آخر يعيش معك، يعيش من خلال هويتك الخاصة، وأن تلك الهوية قد سُرِقَتْ، أو أُبعِدَتْ، أو أُخفيت.
هكذا فإن فكرة القرين فكرة مستمدة في جوهرها من تلك السلسلة من الأفكار المترابطة حول سرقة الروح وتعددها، وحول الأرواح الهائمة والموتى الأحياء، وما شابه ذلك من أفكار(11).
تعنى فكرة القرين أيضًا أن الإنسان يمكنه أن يتغير ويتم إخفاؤه وحجبه في شكل آخر، أو أن القرين يمكن أن يكون كائنًا غريبًا موجودًا بداخلك، وحشًا يزعم أنه يشاركك وجودك، لكنه يشعر بأنه موجود في جسد غريب عنه، أو أنه غريب كريه قد يتوحد معك داخليًّا، ويهيمن عليك، فيصبح هو الممثل لداخلك الحقيقي، وقد يحدث هذا دون أن تعرف ذلك، أو أن تكون على وعي به, هنا القرين يقترب من المرض والجنون، حالات لا يدرك الإنسان ما الذي يحدث بداخله معها، شياطين أو أصوات وصور وأحداث تحركه وتحوله وتجعله شخصًا آخر ليس الذي نعرفه.
وقد يكون القرين كذلك أفكارك ومشاعرك الخفية، غير الحقيقية التي تسقطها على آخر، بديل، شخص، عمل فني، أدبي.. إلخ، هنا يكون القرين كما قالت إميلي ديكنسون في قصيدة لها عام 1863ـ هو «ذاتنا الموجودة خلف ذاتنا، وقد تم إخفاؤها». هنا لا يحتاج المرء كما قالت ديكنسون أيضًا « أن يكون غرفة حتى تروده الأشباح وتنتابه»(12).
هكذا يتجسد الشكل الأكثر ظهورًا للقرين والازدواج من خلال فردين أو كائنين اثنين غير متماثلين، الذات والآخر، أو الذات الأخرى، ويعمل الشكل السردي المألوف أكثر من غيره هنا على تجسيد حالات من القرين الشرير الأخرى إلى الوحوش. ونجد ذلك في رواية فرنكنشتين لماري شيللي، والذكريات والاعترافات الخاصة لخاطئ يبرر خطاياه لجيمس هوج، وكذلك الدكتور جيكل ومستر هايد وغيرها، وترتبط هذه الشخصيات الأخيرة بتلك الذات الداخلية السرية لك، وهي تعمل على الإخفاء لك، والكشف لك، الإخفاء لك أمام ذاتك فتهرب من لومك لنفسك وخوفك منها، ثم الكشف لك من خلال آخر أمام ذاتك وأمام العالم، ويكون هذا الآخر هو الموضوع الذي يخضع للوم والعقاب والتهديد، الذي تستطيع أنت كما تظن أن تهرب منه. وبينما يعبر القرين عن التهديد للشخصية، من خلال إمكانية الكشف لجانبها السيئ من ناحية، ومن خلال وضع مصيرها في يد شخص آخر، شكل غريب عن الذات، فإنه أي القرين من ناحية أخرى، هو وسيلة للنجوى والبوح، وسيلة تأمل الذات أن تعبر من خلالها عن أحلامها ومخاوفها الخاصة، عن رغبتها في أن تكون مختلفة، في حين تظل هي الشخص نفسه أيضًا، محاولة للهروب من قيود الذات وضوابطها، محاولة للطموح والتمتع بحريات ورغبات محروقة من إشباعها الآن، وقد يكون الإبداع هو الوسيلة المناسبة للإشباع، حيث العمل الفني أو الأدبي هو القرين المقبول الذي نقدمه إلى الآخرين، ونخفي من خلاله مساوئ أنفسنا وأنانيتنا ونرجسيتنا، ونريد أن نقول لهم من خلاله مشاركتهم لنا في متعة الإبداع، إننا لسنا نرجسيين هكذا، ولا أشرارًا هكذا.
منذ أواخر القرن الثامن عشر، عَبَّرَ القرين الغريب عن تلك العلاقات والرغبات الحميمة الحديثة الخاصة بالشياطين الداخلية، عن الرغبة في التعدد والكثرة والاختلاف، وليس التكامل والوحدة والاتفاق، كما يكشف الظل الخاص بالقرين. إضافة إلى ذلك كله، فإن التهديد الخاص للشخصية إنما يأتى عن طريق التلاعب بالجسد والعقل ، وأيضًا ذلك التهديد الرهيب الخاص «الكل في الواحد».
لقد تم نسخ هذا الموضوع وغزله مع تكنولوجيا الإنتاج، أولا على نحو بصري، ثم بعد ذلك، على نحو بيولوجي، وهنا التمثيل ذاته ينشط بوصفه شكلا من أشكال الازدواج: التمثيل الذي يوجد في العلاقة السحرية الخاصة بالعالم القابل للإدراك، حيث يمكن للساحر أن يمارس بعض القوى والطاقات لجعل شيء ما يبدو ظاهريًّا، وكأنه أصبح حيًّا ويرتبط بذلك كله، وتأتي بعده فكرة النسخ والاستنساخ البيولوجية، وهي الفكرة المرعبة التي تجعل الكيانات المستنسخة تسلك وكأنها نسخ، لكنها لا تستطيع ولن تستطيع أن تصبح فردًا واحدًا أو كائنًا واحدًا تنتمي إليه هذه النسخ (13). وأخيرًا، فإن الشياطين والأشباح، والشرائح التي يتم إسقاطها، والصور الفوتوغرافية، كلها مرتبطة بفكرة القرين وصورته من خلال ذلك التداعي العميق الذي يتعلق بها، والخاص بالشيطان الذي يستحضر الوهم والخداع الإدراكي، وهذه العلاقة هى ما يقوم على أساسها مبدأ الازدواج نفسه، وهى أشبه بتشكيلة ممثلة لمبدأ التناسخ والمسخ ، صناعة التماثيل والآلهة القديمة، والقرابين والنسخ والأشكال المتماثلة المجسدة لمعتقدات وآلهة ورموز تتكرر وتكثر صورها. هكذا ظل القرين الغريب للإبداع الأدبى القوطى وأتباعه ينتابون أدب القرن العشرين ويرودونه، لكنه أصبح أقل ألفة، بل ربما في بعض الأمثلة جذابًا ومغريًّا.
وحيث إن ميديا الاتصال قد بدأت تنقل وتوصل «الأشباه» والأقران هؤلاء في شكل أصوات مسجلة ووجوه مصورة فوتوغرافيًّا، وعلى نحو أكثر ألفة، وواسعة الانتشار، فإنها ربما لم تعد سرية، لم تعد مرتبطة بالخوف والعزلة والظلام، بل بقاعات العرض والوجود معًا، والتعليق للحكم العقلاني والحضور للعرض مع آخرين.
القرين والشر
وقد تم تفسير الخيال الأدبي الخاص بالازدواجية والقرين بأنه محاولة للتعامل مع الوجود الخاص بالشر في النفس البشرية وفي العالم، وهى المحاولة التي أدت إلى تحديد الذات، ووجود دوافع تدميرية خاصة بذات أخرى، قد تطارد الخاصة بالمرء، بوصفها تلك الذات الأخرى شبحًا يطارد المرء بسبب عدم انصياعه لنوازع تلك الذات الأخرى ورغباتها، ولعل هذا ما قد يفسر ما نجده في بعض الأعمال الأدبية من أنه بينما يُمَكَّن القرين ذلك الشخص أو الذات الأصلية الأولى المنعزلة من مهاجمة أعدائها، واقعيًّا أو خياليًّا، فإن ذلك القرين قد يسلك أيضًا مثل عدو، عدو ينطلق من الداخل ويجتاح كل دروع الذات الحصينة، يحاول أن يقمع نوازع الذات، في الوقت نفسه الذي يتم إشباعها فيه، وخلال ذلك يكون القرين، الذي يتلبسها ويقمعها، مغويًا لها في الوقت نفسه، حاميًا لها، أبًا، شيطانًا، طاغية. وبينما يوجه القرين عدوانه وانتقامه وخداعه نحو الذات، فإن الذات تكون هي التي تقوم في واقع الأمرـ بكل هذه السلوكيات نحو نفسها.
هكذا كانت الأشباه (الأقران) في الأدب، غالبًا عدوانية، انتقامية، توجه عدوانها وانتقامها غالبًا نحو الذات الأولى، هذا على الرغم من وجود بعضها الآخر المتسم بكونه لطيف المعشر، يقظ الضمير، ودودًا، وفي الحالات التي كان القرين فيها كذلك فإنه غالبًا ما يطلق عليها الاسم نفسه الخاص بالذات الأولى، في حين يكون اسم «الذات الأخرى» محايدًا، ولو أن هذا ليس هو القاعدة، فقد وجدنا قرين دستويفسكي الذي كان عدوانيًا مزعجًا له الاسم نفسه الخاص بالشخصية الأولى (جوليادكين).
في التراث الأدبي الرومانتيكي ارتبط الازدواج بالغش والخداع وغياب الأمن والأمانة، وكان ظهور القرين غالبًا نذيرًا بشر يوشك على الوقوع، وإرهاصًا، أيضًا، بالموت. وفي التراث الأدبى عمومًا، ارتبط هذا الموضوع بفقدان الإنسان أو حتى المجتمع لروحه، وهيمنة الشيطان والشر والخوف عليه، ومن ثم امتلاء روحه بالعتمة والظلام، ومن ثم كانت أيضًا تلك الصعوبة وربما العجز عن الابتعاد عن التفكير أو التوقف عن الإنتاج عقليًّا للكائنات الطيفية المخيفة كالأشباح، والعفاريت، وغيرها بوصفها تجليات قد تخارجت من الروح وتجسدت خارجها كـ«أنا» أخرى لها، غالبًا مخيفة. إنها تجسيدات غريبة خاصة بالآخر الغريب الغامض الذي قد يكون جزءًا من الذات، وقد تجسد في صور مختلفة خارجها، وقد يكون هو الآخر الفعلى الذي تخشاه الذات، أو تحاول أن تتجنبه أو حتى أن تحيده، أو حتى أن تتحالف معه، ومن ثم كانت المقولات الشائعة حول التحالف مع الشيطان، أو حول من باع روحه للشيطان (فاوست مثلا)، وكانت أيضًا كل المقولات الحديثة التي قد تنظر إلى الآخر على أنه شيطاني أو شرير في ذلك العالم الذي انتشرت فيه مزاعم شتى حول محاور الشر، ومحاور الخير(14).
وهكذا فإنه مثلما تكون الذات الأولى في أدب الازدواج والقرين غريبة، تسعى إلى البحث عن آخر، تنتج آخر، تحاول أن تحمي من خلاله ذاتها، أو تحقق من وراء قناعه، نوازعها ورغباتها، ثم تكتشف أن هذا الآخر هو الذي يسعى وراءها، وبدلا من أن يحقق لها رغباتها ، يطمسها أو يمحوها، فكذلك يكون الآخر أيًّا كان غريبًا، سواء أكان هذا الآخر، ذاتًا أخرى أنتجتها الذات، أم كان آخر فعليًّا موجودًا في ذلك المجتمع، الذي نعيش فيه، أو العالم الذي نوجد به جميعًا، أم كان موجودًا، متصورًا، متذكرًا، مستحضرًا من عوالم ما وراء الطبيعة والغيبيات، ومن هنا فإن ارتباط موضوع القرين بالغرابة والغريب ارتباط واضح وحقيقى لا يمكن نكرانه في هذا السياق.
مُسَلَّمات حول القرين
في كتابه عن «القرين: الرؤى المزدوجة في الأدب الألماني» (2003) يطرح «أندرو ويبر» تسع مُسَلَّمات يعدها ضرورية حتى نفهم جوهر فكرة القرين والازدواجية في الأدب والسينما وغيرهما من فنون الإبداع، ونحن نجمل هذه المسلمات فيما يلي:
1- التكرار البصري: وذلك لأن القرين، هو أولا وقبل كل شيء شكل بصري Visual من أشكال التكرار الإجباري أو القهري. فكثير من النصوص التي تعاملت مع هذا الموضوع قد تعاملت مع الخصائص البصرية المميزة له، ومن ثم فإن هناك بصرية خاصة أيضًا مميزة لهذه النصوص. وهكذا أيضًا فإن الشخص هنا وهو يرى ذاته قد يشاهد ذاته الأخرى ، بوصفها ذاتًا أخرى، أو شيئًا آخر موجودًا على نحو بديل.
2- الكلام المزدوج: إذا كانت الرؤية البصرية المزدوجة Double Vision التي يرى من خلالها المرء نفسه وقرينه هي المجسدة للافتراض الأول لدى ويبر، فإن الافتراض الثاني لديه يقول إن الكلام المزدوج Double Talk أيضًا، أي تلك الحالة من الكلام المتكرر المضطرب للذات، هي التي تلخص الشرط الثاني المصاحب لظاهرة القرين لديه. فالقرين لا ينشط بصريًّا فقط، بل لغويًّا أيضًا، إنه لا يخلق نوعًا من الاضطراب في الرؤية البصرية، بل نوعًا من الاضطرب في اللغة والكلام أيضًا، هنا تكون اضطرابات اللغة لديه (كظاهرة فردية وجماعية) متجسدة لديه، من خلال ترديده للكلمات والأفكار، وكذلك تكرارها وتشويهها ومحاكاتها، هنا يقوم الشخص المزدوج بالترديد الأعمى للكلمات، بتكرارها، بتحريفها، بمحاكاتها على نحو جاد أو ساخر.
3- اضطراب الأداء: ويترتب على هذا الاضطراب الذي يحدث في الجانبين البصري واللغوي من الهوية أن يظهر نوع ثالث من الاضطراب، ألا وهو اضطراب الأداء performance، فالقرين شخص متخيل يقوم بالأداء، إنه يمكن أن يمثل الطابع الأدائي المميز للذات، فهنا جانب خاص من أنشطة الذات وأفعالها، وقد توسطتها أو تداخلت معها شخصية أخرى، هنا يظهر أداء القرين الخاص بالتكرار والازدواج والتعدد، هنا أداء مزدوج يتم مرتين بالنسبة إلى شخص واحد، ويحدث عند مستويات كثيرة من إعادة البناء والتكوين للذات، والواقع، والزمن، والمكان.
4- الفضول الجنسي والمعرفي: أما المسلمة الرابعة فهى افتراض مزدوج، وهو يقول إن مقاومة القرين أو تحديه لتلقي الأفكار أو التأكيدات الخاصة حول الهوية ينقلب أو يتحول إلى نوع من الازدواج الملازم الموجود فيما بين المعلومات الجسدية والمعلومات المعرفية الفكرية العقلية، حيث تجسد هذه الازدواجية الملازمة هنا حجر الزاوية المشترك، حيث ثمة جانب معرفي متعلق بالجنس، وثمة جانب جنسي يتعلق بالمعرفة، هنا ازدواجية تظهر ترابط الجسد بالذات والذات بالبصر. ومثلما هناك صراع يتعلق بالقرين في عمليات الإبصار واللغة، والأداء، هكذا يدخل القرين (المزدوج الطيف .. إلخ) في نوع من التلصص البصري واختلاس النظر، وحالات أيضًا من التلميح والغمز والتعريض بالآخر، داخل تلك العملية الخاصة التي تسعى الذات من خلالها إلى الوصول إلى المعنى أو إلى الإحساس البصري واللغوي الخاص بها. إذن هناك نوع من الفضول شبه الجنسي، والتلصص، والرغبة في الرؤية البصرية والإدراك، يكون ملازمًا للقرين.
5- قوة اللعب: يعد الجانبان المعرفي والجنسي أشبه بالشكلين المهيمنين على المبدأ الخامس المميز للقرين، أي تلك القوة الخاصة باللعب أو سلطة اللعب Play – power ، حيث تتمثل السلطة الخاصة بالقرين، في القدرة على التغير، ألا يصبح مهيمنًا عليه، ومسيطرًا عليه، أبدًا، بواسطة الذات، أو الآخر، أو الذات الأخرى، ومن ثم فإنه يقوم دائما بالتحول والتغير ، فيما بينهما، كما أنه يبدل حالاته دومًا.
6- الإبدال والإحلال والإزاحة : ترتبط المسلمة السادسة لدى ويبر بالافتراض الخامس لديه، وذلك لأن القرين إنما ينشط من خلال نوع أو شكل من أشكال الإبدال والإحلال displacement (أو الإزاحة)، فهو وعلى نحو مميز يظهر من خارج المكان out of place، من أجل أن يزيح الذات – أو مضيفه – عن مكانه، أن يحل محلها. وهنا إقرار بوجود هوية ظل shadow identity، أو هوية مزاحة displaced identity تحل وتدخل منطقة ما، أو بيتًا، أو وطنًا، وتزيح أصحابه خارجه، أو تهز استقرار بيتهم على الأقل. هكذا يكون القرين منتميًا أصلا إلى ما هو خارج المكان، إنه يأتي من الخارج، يحل على بيت أو وطن، ويسعى من أجل إزاحة أصحابه خارجه، وقد يكون القرين متعلقًا أيضًا بما هو خارج الزمان، إنه يأتى من زمن آخر، من الماضي غالبًا، ويحل على الحاضر، إنه يظهر في الوقت الخاطئ، وزمانه ليس مناسبًا للمكان، ومكانه ليس المكان، وهو الأساس أو الامتداد الزمني الممتد للكارنفال، بكل ما يرتبط به من تعليق أو إيقاف مؤقت للأعراف الاجتماعية، هو المشهد المفضل لهذا القرين، وهذا الغريب.
7- التكرار والعودة القهرية: أما المسلمة السابعة للقرين فهي تتعلق بالعودة والتكرار، فالقرين يعود على نحو قهري إجباري متكرر داخل السياقات الخاصة بمضيفه (من يستضيفه)، وكذلك في عملية التناص والتضاد التي تتم بينهما ، أى بين القرين ومستضيفه، حيث تكرر أداءاته الخاصة أداءات مضيفه، وكذلك المظاهر السابقة الخاصة بأداءات هذه الذات، ومن ثم فإنه يلعب دورًا تكوينيًّا خاصًا في تكوين وبناء السياقات الخاصة به، وبهذه الأفعال، من خلال القيام بأدائها، ثم تكرار هذا الأداء على نحو متتابع، ويمكن قراءة هذه الوظيفة الخاصة بالعودة والتكرار الآلي على أنها «غرابة» بالمعنى الفرويدي.
8- نوع القرين: على نحو بَدَهي، فإن مستضيف القرين وزائره (أي القرين نفسه) هما غالبًا من نوع الذكور، وكثيرًا ما تتم الإشارة إليه من خلال الضمير «هو»، وعندما يظهر قرين أنثى فإنها غالبًا ما تكون نوعًا من التجسد القطبي المضاد ، لذات ذكرية. وتعمل فكرة القرين في بعض الحالات على هدم فكرة النوع الاجتماعي أو الجنسي، لأنه أي النوع هو التحديد الأكثر جوهرية للفكرة الأساسية الخاصة بالهوية.
9- البيت غير الأليف على نحو نمطي، كثيرًا ما يكون القرين نتاجًا لبيت مدمر، بيت محطم، وطن مهزوم أو منهوك، إنه يمثل حالة اختلال الوطن في خيال الأسرة وتخيلاتها المتعلقة بحسن الحال والاستقرار والتماسك، ومن ثم فإن فكرة القرين وما يرتبط بها من أفكار تقدم لنا البيت (الوطن) بوصفه الموقع الأصلي لحدوث الغرابة وانتفاء الألفة أيضًا(15).
هكذا يختلف القرين عن غيره من الأبطال الأكثر تقليدية في السرد القصصي والروائي والدراما والشعر من حيث كونه يقوم بالتفعيل، وعلى عتبة الموت، أو في النزع الأخير، لحالة أكثر عمومية خاصة بانقسام الهوية وتصدعها، وهو يدفع هذا الانفصال الخاص بالذات إلى أقصى حدوده.
هكذا يقوم القرين وعلى نحو متكرر بالتبعية والسيطرة، في الوقت نفسه، على الذات المستضيفة له، وفي أمثلة أدبية كثيرة، تظهر علاقات الخضوع والسيطرة هذه على نحو تبادلي أو متعاقب، بحيث يمكن القول إن ثيمة القرين إنما تعكس أيضًا خضوع الذات لنوع من التلاعب، أو لعب القوة، أو قوة اللعب، وبما يتفق مع نموذج هيجل الخاص بـ«ديالكتيك» السيد/ العبد (16).
الذات والانعكاس
وقد كان مبدأ الانعكاس هو الذي منح الثقافة الرومانتيكية الألمانية شكلها الجمالي والفكري المميز، وذلك لأن الأفكار الخاصة بالذاتية، وكذلك الخاصة بالإنتاج الجمالي لها، هي أفكار تتوسطها عمليات مشهدية خاصة بإعادة الإنتاج، عمليات تقوم على أساس عمليات التأمل والانعكاس التي تقوم بها الذات، في علاقتها بذلك العالم الذي تعيش فيه، وهي عمليات تكون قابلة دومًا لأن تدفع وتحث وتتحول إلى عالم عجائبي دُواري قُلَّب خاص بقاعة من المرايا متبادلة الصور والعلاقات، ولعل هذا أن يكون أيضًا ساحة مشهدية للتخيلات الرومانتيكية المتعلقة بتحقيق الذات، لكنها أيضًا الساحة والتخيلات التي تسقط أيضًا فريسة للتحريفات والتشويهات، حيث تتشظى فيها صورة الذات، وتصبح متكسرة وهاربة وغامضة، أو تدور في حلقة مفرغة.
والقرين إذن رمز أو علامة، أو مرآة، تتجسد فيها الذات التي تسعى نحو الخلود، وتقاوم كل ما يتهددها بالموت أو الفناء. والأدب والإبداع عامة وسيلة لمقاومة الموت، بمعناه المادي الروحي، ووسيلة لحماية ذاته من الصراعات المرتبطة بجانبها الناقص، أو وسيلة لاستشراف عالم الخلود، يكون الفن والإبداع الأدبي قينها الذي قد يوصلها إلى ذلك.
والقرين جزء من الذات انفصل عنها، خلقته الذات كي تحقق من خلاله خلودها واستمرارها، وكي تبعد من خلاله مخاوفها. والقرين قد يكون متفقًا مع الذات، متشابهًا نوعًا ما، لكن القرين قد يكون هو ذلك الجانب من الذات الذي تشن عليه هذه الذات حروبها، حين تراه في مرآة محرفة، فالتشابه غالبًا ما يكون ظاهريًّا، من حيث المظهر العام فقط، حيث يختلف جوهر القرين في الغالب مع الذات، يعمل ضدها ويهددها، ومن ثم تكون محاولتها الدائمة لإبعاده وتشكيله في أعمال مقبولة، وثمة تجليات كثيرة لفكرة القرين أو الشبيه في الأدب والفن والحضارة.
وفي قصص القرين يمكننا أن نجد مثل هذا الحكي المزدوج أو السرد المزدوج، الذي يقول شيئًا ويعني شيئًا آخر، يظهر شيئًا ويحجب شيئًا آخر، هذه الآلية الخاصة بالتمويه والإخفاء آلية أساسية في الأحلام والأساطير والإبداع الفني والأدبي، وكذلك قصص البدلاء القرناء والأشباه الأشباح، حيث نجد تلك الفجوات والتكرارات والتناقضات في نسيج هذه القصص كلها.
عن القرين الاجتماعي
هناك- دائمًا – في قصص الازدواج والقرين عنصر ما من الإحالة الاجتماعية، الإشارات الاجتماعية، والنقد الاجتماعي، هكذا تهكم دستويفسكي في «قرينه» من كل تلك المظاهر الكاذبة والنفاق والتصلب والجمود المنتشرة في سان بطرسبرج. كذلك انتقد هوج Hogg السلطة السياسية والدينية التي كانت في اسكتلندا في أواخر القرن السابع عشر، والتي لم تكن مختلفة كثيرًا عن أمثالها من السلطات في أوائل القرن التاسع عشر. أما في نهاية القرن التاسع عشر فقد أصبح القرين الاجتماعي أكثر هيمنة مقارنة بالقرين المتخيل أو السيكولوجي، ولم يكن هذا متضمنًا تجديدًا كثيرًا، فما تغير هو فقط، ذلك الفهم للعوامل المكونة للانتهاك للهوية، لاختلاطها وعبور حدودها، لمحوها وتغييبها، وكذلك نوع من الهجوم على تلك الفئات الإنسانية المحددة الخاصة بالطبقة والنوع والسلالة وغيرها، ومع الوعي العلماني للمجتمع تولد إحساس قوي متزايد بأن القيود الاجتماعية لا تنطوي فقط على ظلم وافتقار للعدالة، لكنها أيضًا قابلة للاختراق، للنفاذ منها، لتحطيمها أو لتغييرها(17).
ونستعرض فيما يلي بعضًا من أشهر الأمثلة المجسدة لفكرة القرين في الأدب: وسنركز هنا بشكل خاص على فكرة القرين كما تجلت في بعض أعمال إدجار آلان بو (الأمريكي)، ودستويفسكي (الروسي)، وستيفنسون (البريطاني)، وجوزيف كونراد (البريطاني من أصل بولندي)، وسليمان فياض (المصري)، وجوزيه ساراماجو (البرتغالي) على نحو خاص.
وليم ويلسون وقرينه
«وليم ويلسون» هو عنوان قصة معروفة كتبها إدجار آلان بو، وهو شخص عادي، ليس مستغرقًا في أحلامه ككثير من شخصيات بو المنعزلة، بل هو شخص يتفاعل، على نحو واضح، مع الآخرين، لكن ما نعرفه تدريجيًّا أن هذه الشخصية شخصية مركبة، شخصية قد دُمَّرَتْ بفعل قرينها أو شبيهها الآخر. كما أن هناك مطاردة لها تتم من خلال ضميرها، ولا يتضح مثل هذا التعقيد إلا في نهاية القصة: «لقد انتصرت، وخسرتُ أنا. لكن من الآن فصاعدًا أنت أيضًا ميت ميت في العالم، في السماء، وفي الرجاء ! كنت موجودًا فيَّ فانظر في موتي انظر من خلال هذه الصورة التي هي صورتك كيف قضيت نهائيًًّا على نفسك بنفسك». وهو يتحدث عن نفسه على أنه قد نُزعت عنه كل فضيلة في دقيقة واحدة، وأنه شخص فاسد يرتكب المعاصي والشرور، وأنه تحدر من سلالة تميزت بمزاج «سريع التخيل سهل الإثارة»، وأنه كلما تقدم في السن «برزت هذه الطباع بشكل أقوى»، وأنه الآن في مرحلة الاعتراف، «مرحلة التذكر، مرحلة السكينة، حيث الموت يتقدم، والظل الذي يسبقه ألقي في روعه السكينة».
ثم يصف شخصيته وطبيعته الحادة الحماسية المتغطرسة، كيف كان يتفوق على جميع أقرانه باستثناء تلميذ واحد كان يحمل اسمه نفسه، واسم عائلته، وولد يوم ولادته، ودون أية قرابة بينهما، وإنه ذهب معه إلى المدرسة نفسها حتى اعتقد الطلاب أنهما أخوان توأم، وقد كان سميه وحده الذي يجرؤ على أن ينافسه في الفصل الدراسي واللعب والمشاكسات، ويناوئ تسلطه على الآخرين في كل مناسبة، وقد كان الراوي على الرغم من محاولاته الإساءة إلى منافسه علنًا، يخافه في باطنه، وقد كان ذلك المنافس يمزج إهاناته ووقاحته ومعاكساته للراوي ببعض مظاهر المودة التي كانت تغيظ صاحبنا، وتجعله غير قادر على فهم هذا السلوك الغريب إلا بوصفه نوعًا من «ادعاء الحماية والرعاية بشكل مبتذل»، وقد كان هذان الشخصان يتخاصمان يوميًّا تقريبًا(18).
وقد كانت مشاعر الراوي تجاه منافسه مزيجًا من الكراهية الحادة لكنها لم تتحول بعد إلى حقد والاحترام والخوف والفضول القلق الذي بلا حدود، وقد كانا نادرًا ما يفترقان، لكن دون صداقة، وكان النقص الوحيد الذي يعانيه ذلك المنافس هو انخفاض صوته، فلا يستطيع الحديث إلا فيما يشبه الوشوشة المنخفضة التي يوجه من خلالها نصائحه غير المباشرة، هنا بدأت إلماعات في القصة توحي بأن ذلك السيد الشبيه الآخر هو الضمير والقرين الذي يلاحق صاحبنا الراوي في حله وترحاله.
وقد كان ذلك الشبيه (وليم ويلسون الآخر) يشبه الراوي في طول قامته، ومظهره وملامحه، وكان يقلده في كلامه وحركاته، ويلعب دوره بصورة مدهشة، ويقلد لباسه ومشيته وسلوكه العام دونما صعوبة تذكر، ثم إن صوته، على الرغم من انخفاضه، قد أصبح هو الصدى الكامل لصوت الراوي، وقد كان ذلك التقليد يعذب للراوي، لكنَّ عزاءه الوحيد هو أن أحدًا غيره لم يكن يلاحظ مثل ذلك التقليد والسخرية التي يوجهها وليم ويلسون (الثاني) إلى وليم ويلسون (الأول). ومثلما يراقب الثاني الأول، فإن الأول يراقبه أيضًا، كما أنه يتخيل من ملاحظته لملامحه ومظهره ونبرة صوته، ومن رؤى غامضة من طفولته أعادت إليه «ذكريات غريبة ومشوشة» أنه ربما كان قد عرف هذا الشخص من فترة قديمة جدًّا، موغلة في القدم، ثم تتبدد هذه الفكرة وتنقشع، ويتوالى الوصف في القصة للبيت المدرسة، لمتاهات الغرف والمهاجع والممرات الضيقة، وعندما يتسلل إلى غرفة نومه ليلا، ويرى قسمات وجهه على ضوء المصباح يصاب بالذهول ويرتجف كالمحموم، لقد رأى فيها شيئًا مختلفًا عن ذلك الذي كان يراه خلال ساعات اليقظة، خلال التقليد والمحاكاة (التكرار)، الاسم نفسه، الملامح نفسها، دخول المدرسة في اليوم ذاته، تقليد المشية والصوت واللباس والحركة «هذا التقليد الشرس الذي لا يفسر، هل كان في حدود الممكن الإنساني أن ما أراه الآن هو مجرد نتيجة لهذه العادة من التقليد الساخر؟».
ويغادر الراوي المدرسة ولا يعود إليها أبدًا بعد ذلك، ثم تتواصل حياته وتمضي أيامه، ويجد نفسه طالبًا في كلية إيتون، ويزداد ولعه بالشر والحماقة والمجون، والقمار، وخلال إحدى سهراته يبلغه الخادم أن شخصًا يطلب التحدث إليه في الرواق، يخرج مترنحًا، وعلى ضوء نور الفجر الضعيف يرى شابًا بقامته تقريبًا، يرتدي ملابسه نفسها، ومن قسمات وجهه يعرف أنه وليم ويلسون الآخر وقد عاد إليه من جديد بعد أن فارقه ردحًا من الزمن، وقد استمر يوبخه من خلال كلام غريب ثم اختفى، لكنه يعود مرات أخرى بعد ذلك، يكرر ظهوره ويقوم بأفعال كثيرة من شأنها توبيخ الراوي، وكشف سوء طويته وشرور أعماله، مما يوقعه في حرج دائم ، حتى إنه عندما يغادر إنجلترا ويذهب إلى فرنسا يلاحقه هناك ويطارده، ويكشفه، ويفسد مخططاته الشريرة، يصبح بالنسبة إليه أشبه بالجلاد، بل يصبح جلادًا فعليًّا يتعقبه، حتى بعد أن يغادر فرنسا إلى برلين، ثم نابولي، ثم مصر، ويصبح الراوي «جبانًا أمام سلطانه الآمر»، على الرغم من محاولاته الدائمة للتمرد والمقاومة.
وفي روما ينشب عراك عنيف بينهما، ويقتل خلاله الراوي غريمه، يقتل ضميره، يقتل نفسه، وعندما ينظر إلى قتيله، ضحيته، كانت هناك مرآة واسعة تنتصب فجأة، حيث لم يكن هناك أثر لها من قبل. وبينما كان يتقدم نحوها مذعورًا رأي صورته فيها، وبوجه شاحب وملطخ بالدماء تقدمت نحوه بخطى واهنة مترنحة، وقد كان خصمه كما قال هو الذي يقف أمامه محتضرًا، كان قناعه ومعطفه يرقدان على الخشب حيث رماهما، وكان الشبه بينهما تامًا، وهنا يعتقد الراوي أنه كان يكلم نفسه، وذلك عندما استمع إلى كلمات خصمه، شبيهه قرينه، ضميره الآخر الذي يعترف فيها بهزيمته، لكنه ينبه وليم ويلسون أيضًا أنه الآن ميت في الأرض والسماء والأمل والرجاء، وأن ذاته الحقيقية كانت موجودة خلال وجود ضميره، قرينه، خصمه، صوته الخفي، الذي ربما كان واهنًا، ضعيفًا، غير مسموع، صدى، مرآة، لكنه كان المعنى الحقيقي لوجوده، المعنى الذي قضى عليه وليم ويلسون الراوي.
هكذا جسدت هذه القصة ذلك التناقض الموجود داخل الإنسان، الإنسان الذي يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه يسعى من أجل تدمير نفسه، أي من أجل الموت، وهذا مثال آخر على الغرابة في الحياة التي يجسدها الأدب، فسعى الإنسان من أجل البقاء على قيد الحياة أمر مألوف، أما غير المألوف والغريب فهو قيامه خلال الوقت نفسه بتدمير ذاته، بأفعال تقربه من الموت والدمار بكل ما يناقض ذلك الدافع الأول الإيجابي الخاص به، وهكذا فإن الغرابة صراع واجتماع لغريزتي الحياة والموت في وقت واحد، وبالقوة نفسها في «وليم ويلسون»، يقتل الإنسان ضميره كي يبقى حيًّا، ولكن أية حياة هذه بلا ضمير الأخلاق، وأية شخصية تلك التي تميت ضميرها وتقتل الآخرين وتعذبهم!!
لقد أدرك ويلسون تدريجيًّا الدلالة النفسية والروحية لقرينه: إنه نصفه المدفون والمؤكد لذاته والإيجابي، والذي يستجيب بعمق لكل ما هو جليل، وقد أسقط عليه ويلسون موهبة المحاكاة له ولسلوكه، وقدرته البارعة في إطلاق النكات والتقليد، وكأنه يريد أن ينسب إليه بعض المزايا التي برع فيها ويلسون نفسه أولا، ولكن من خلال نسبتها في الوقت نفسه إليه – أي إلى ويلسون الأول أيضًا.
إن شعور الراوي أنه يعيش في فراغ حتى عندما يوجد مع الآخرين، ومع شعوره بالافتقار إلى الواقعية الخاصة بهؤلاء الآخرين كأنهم دمى أو أشباح أو عرائس أو أشياء، وكأنه هو الوحيد الواعي أو المسيطر أو المتحكم في الأحداث، ولكنه يشعر في الوقت نفسه، أن ذلك الآخر، القرين الشبيه، يطارده ويسخر منه، ويحاكيه، وينغص عليه حياته، هو مزيج من «الميجالومانيا» أو ذهان الشعور بالعظمة، والبارانويا الخاصة بالشعور بالاضطهاد. إنه متفوق وناقص، مسيطر ومسيطر عليه، شجاع وجبان، مألوف بالنسبة إلى نفسه، لكنه يعيش في حياة غير مألوفة سببها ما يقوم به الآخرون، هؤلاء الذين لا يكونون في العادة إلا القسم الخاص المنعكس، المرآوي المعكوس من نفسه، القسم الذي اغترب عنه، وأصبح يشكل قرينه الذي يطارده، أو ضميره الذي يؤرقه.
«الدكتور جيكل والمستر هايد»
استخدم ستيفنسون الموضوعات الرئيسية المتكررة والثيمات الخاصة بالتحول والرعب، والتي جعلت روايته هذه التي ظهرت عام (1886) حكاية مثيرة للخوف الرهيب، فهناك جرعة الدواء التي تحدث التحول لدى جيكل، وكذلك ذلك الحضور الخاص الغريب بـ«هايد» في تلك الغرفة المنقسمة أو المشطورة التي تتحول إلى معمل في الجانب الخلفي من المنزل، وأكثر من ذلك كله، ذلك الجو العام من السرية والغموض وقوى الظلام التي تهيمن على الرواية(19)، وهناك أيضًا العاطفة التي تعارض العقل، وهي خاصية مميزة للأدب القوطي، وكذلك تلك القوى الظلامية التي تتجول داخل النص، وذلك الحس بوجود مسافة تاريخية بعيدة لهذه الأحداث التي تربطها نبرات الرواية القوطية القديمة، إضافة إلى تلك «المسرات» و«المتع» الخفية أو المسكوت عنها، الحسية والجنسية خاصة، والتي ينهمك فيها «جيكل» «وهايد».
هكذا يتحول جيكل إلى هايد، إلى قزم يتغير صوته، ويطول شعره، ويرتدي قناعًا، ويصاب بالذعر، ويتناول دواءً معينًا يقوم بعملية التحول. وذات مرة عندما اقتحم محامي جيكل وصديقه، المعمل الذي كان يقوم فيه بتجاربه وَجَدا جثة هايد مسجاة هامدة على الأرض، وثمة نار موقدة فوقها إبريق يغلي، كان فيه الدواء. ولاحقا، عندما فتشا الغرفة من جديد وصلا إلى المرآة ذات الإطار «وفي عمقها حَدَّقا وبهما رعب خارج عن إرادتهما، وكانت قد أديرت كيلا تكشف لهما شيئًا غير الوهج الوردي يتلاعب على السقف، ومئات الشرارات تنبثق من النار تكرارًا، وتنعكس على امتداد الواجهة المتألقة للقوارير، وسحنتيهما الشاحبتين والمذعورتين اللتين تتحودبان لتحدقا».
عندما فتح الدكتور لانيون خزانة جيكل فيها على أشياء كثيرة: «ملح متبلر أبيض، وقارورة مملوءة حتى منتصفها بسائل أحمر كالدم، كراسة عادية بها سلسلة من التواريخ، وملاحظات مقتضية هنا وهناك مذيلة بتاريخ ما، ولا تتجاوز عادة الكلمة الواحدة : «القرين»، ربما تكررت ست مرات في مجمل اليوميات التي تربو على بضع مئات.
كان هايد أقصر قامة من جيكل، وأرشق حركة، وأصغر سنًا، والشر مكتوب على وجهه. كان الممثل للشر الخالص وقد رآه متجسدًا أمامه في المرآة، بعد أن حدث التحول الأول له بفعل الدواء الجديد، فكتب يقول: «عندما وقع ناظراي على ذلك الوثن الدميم في المرآة لم يساورني أي اشمئزاز، وإنما خلجات مرحبة. هذا الوثنُ أيضًا، كان أنانيًّا، بدا طبيعيًّا وإنسانيًّا، وفي عينّي متمتعًا بصورة أجلى للروح، في صدقها وفرادتها تفوق الهيئة المنقسمة والمحكومة بالنقصان التي درجت وحتى الآن على ادعائها لنفسي».
(يتبع البقية بموضع المجلة على الانترنت)
هكذا فإن إدوارد هايد كان كلي الشر، أما هنري جيكل فظل هو ذلك المزيج المتنافر الذي يئس صاحبه من إصلاحه وتحسينه، وهو يرجع سر تحوله إلى نفوره من جفاف الحياة الدراسية «كنت ما أزال ابتهج بالتحول والاستغراق في الملذات، أحيانًا، لكنه مع التقدم في العمر أصبح الأمر مدعاة إلى مزيد من النفور».
ط جيكل هو القناع، وهايد هو الظل، جيكل هو الذي يحظى بالاحترام والتبجيل بين الآخرين، وهايد هو الذي يرتكب الجرائم والمعاصي، ويحظى باللعنات والمطاردات، هايد هو المذنب، وجيكل يرتاح ضميره ويغفو متحررًا من تأنيب الضمير، ومن خلال تلك الآليات والتبريرات لا يكون هو من يرتكب المعاصي والشرور، بل قرينه الخفي غير الخاضع لإرادته، فهما في النهاية، شخص واحد.
وقد قيل في بعض الدراسات النقدية الحديثة إن الازدواج في هذه الرواية إزدواج يجسد صراعًا بين الخير والشر، أو بين الأخلاق والغريزة، الالتزام بالقانون وانتهاكه، السلوك القويم والسلوك المنحرف .. إلخ، كما أنه أحيانًا ما تم النظر إلى هذه الثنائيات بشكل تتابعي، أو من خلال التجانس، فتم الضم بين الخير والشر والأنا الأعلى أو الضمير، من ناحية، والهو أو الغريزة من ناحية أخرى، ثم تم النظر إليها بطريقة تراتبية (هيراركية) تضع الالتزام بالقانون في المجتمع في مرتبة الالتزام بالقوانين الميتافيزقية أو المثل الدينية العليا.. إلخ.
دوريان جراى
ظهرت هذه الرواية بعد خمس سنوات من ظهور رواية «الحكاية الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد»، – أي ظهرت عام 1891 – وهي رواية تدور حول تلك «المتعة المخيفة الخاصة بالحياة المزدوجة»، إنها رواية حول الذات الثانية، ونظرية تعدد الشخصيات، حيث يبدو دوريان أليفًا وغريبًا خلال الوقت نفسه، حيث في الرواية تصوير لأعراف وعادات الطبقة الإنجليزية العليا المرفهة الغارقة في ملذاتها، وتجسيد لحياة وايلد نفسه بكل تناقضاتها، نوع من اللعب بالتناقضات بين الحياة العليا والحياة الدنيا، الشباب والشيخوخة، الجمال والقبح، الفضيلة والرذيلة، الجسد والروح، وحيث تنمو اللوحة (البورتريه) المرسومة لـ«جراي» فتصبح متقدمة في السن، تحمل علامات متزايدة على تحلله وانحلاله، وانتهاكه للأعراف والقيم.
بينما يشع دوريان نفسه بكامل قوته وجماله وشبابه، تصبح لوحته أكثر شيخوخة وقبحًا، وهذا واحد من تلك الوفرة من الأسرار التي تزخر هذه الرواية بها. كما توحي هذه الرواية أن الذات المزدوجة والمتعددة لهما أسرارها المشتركة التي تكمن في قلب الازدواجية الخاصة بها.
كان دوريان جراي أشبه بـ«نرجس» يتعشق صورته في المرآة، الصورة الحسية الجميلة، ويكره صورته كما تتجسد في اللوحة، اللوحة التي تعكس تحولات روحه وشرورها، حيث الفن أصدق هنا من الحياة، الفن لا يكذب، أما الحياة فيمكنها أن تتجمل، وأن تكذب. هكذا وجدناه يمسك بالمصباح ثانية، وطفق يتفحص الصورة من جديد، فوجد أن سطحها لم يتغير قط، وأن مخايل الدنس والإجرام تطل عليه من داخل الصورة، فعرف أن قوة باطنية قد جعلت آثار الخطيئة تفتك بالوجه الجميل شيئًا فشيئًا، ورأى الصورة جيفة حية دونها الرحم التي تبلى في بطون القبور»(20).
هكذا كان دوريان جراي مثله مثل جيكل يطارد نفسه، هكذا وجدناه في طريقه، بعد أن قتل صديقه الرسام، إلى المكان الذي كان يتعاطى فيه الأفيون. هنا يصف أوسكار وايلد الطريق الذي كان يبدو له «وكأنه لا ينتهي، والشوارع المظلمة المتشعبة كأنها نسيج عنكبوت وضاق بالرحلة المملة، ورأى الضباب يتكاثف من حوله فأحس بالخوف، ثم مَرَّ بمحارق الطوب، ورأى النيران تتصاعد منها، وسمع كلبًا ينبح، وطائرًا يزعق، وكبا الحصان في حفرة ثم أسرع في الركض، «ثم خرجت العربة من الطريق الريفي، وبدأت عجلاتها تجلجل على طريق معبد موحش، وكانت أكثر النوافذ مظلمة، ولكن من وقت إلى آخر انبعث النور من غرفة مضاءة وظهرت على ستائرها أشباح عجيبة. وطفق دوريان جراي يتأمل هذه الأشباح في فضول، فوجدها تتحرك كدمى الأراجوز، وتشير بأيديها كما يشير الأحياء. وانقبضت نفسه لما رأى. وامتلأ قلبه بغضب مكتوم… يقولون إن الانفعال يجعل العقل يفكر بطريقة دائرية وهذا ما حدث لدوريان جراي»
بل إنه وجد «أن القبح هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، فالألفاظ النابية التي يسمعها في كل شجار، والبؤر النكراء، وفظاظة الحياة المضطربة وقسوتها، وحشة اللصوص، وضعه الأوباش المنبوذين، كل هذه بدت له أصدق تعبيرًا عن الحياة الواقعية من النماذج النبيلة التي يختلقها الفن اختلاقًا، والظلال الحالمة التي تملأ قريض الشعراء، وإذا كانت الحقيقة مرة شائهة فهو بحاجة إلى مراراتها وجوهرها الشائه، فهما يلهمانه النسيان». ثم توقف الحوذي فجأة عند مبدأ زقاق مظلم، فارتجت العربة، ورأى دوريان جراي صواري السفن ترتفع سوداء من وراء سطوح المنازل الصغيرة ومن وراء مدافنها. وفي الميناء رأى قطع الضباب الأبيض تحوم في كل مكان كأنها قلوع خرافية، ثم بعد أن صرف الحوذي، وانعطف إلى اليسار، وأسرع في المسير، وكان يلتفت إلى الوراء بين لحظة وأخرى ليرى من يقتفي أثره فلم يجد أحد. وبعد سبع دقائق أو تزيد بلغ بيتًا حقيرًا محشورًا بين مصنعين ضيقين. ورأى مصباحًا منيرًا في إحدى النوافذ العليا، فتوقف، ثم طرق الباب طرقًا غير مألوف».
ثم يأتي بعد ذلك، وصف للبيت من الداخل بكل ما عليه من أوحال وقذارة وتعاطي مخدرات وهلاوس حيث «السيقان المنتخفة، والأفواه المفغورة، والعيون المنطفئة الشاخصة وسحر مرآها». كان يظنهم أسعد منه حالا، كان يعلم ما يشقون به من أحلام ذهبية، وما يسعدون به من نيران الجحيم»، وكان يظن نفسه أكثر شقاء لأنه حبيس سجين ذكرياته، «ذكرياته التي تلتهم روحه كالمرض الخبيث»، ثم يمشى بعد أن يخرج من مكان إلى مكان، ويدخل بعض البواكي المظلمة، ثم تتصاعد الأحداث حتى نجد أن دوريان، ذلك الذي يشعر بثقل خطاياه ووخز ضميره، يحطم المرآة التي أهداها اللورد هنري إياه، يقذف بها على الأرض ويدوسها بقدمه ويهشمها، ثم ينظر إلى اللوحة ويجد صورته متجسدة فيها» مسخًا حيًّا»، وعلى يدها بقعة حمراء من الدم كانت قد ظهرت من قبل عندما قتل صديقه الرسام وجعل صديقه العالم يذيب الجثة في المحاليل الكيمائية، ثم يتزايد حضور الدماء في اللوحة، على اليدين والقدمين وغيرهما، ثم إنه عندما يمسك بالمدية التي قتل بها صديقه الرسام ويطعن اللوحة، تتحول اللوحة إلى وجه جميل، في حين يتحول الوجه الجميل لدوريان إلى وجه كريه الملامح، رجل يابس الجسد، حاول أن يطعن اللوحة فطعن نفسه، مات الإنسان بقبحه الذي حاول أن يخفيه، وبقي الفن بقبحه الروحي والأخلاقي الذي حاول أن يخفيه وراء قناع مادي جميل، وبقي الفن حافظًا روح الإنسان الجميلة وحقيقته الخالدة المعتمة وكأنه يقول لنا إنه لا قضاء على الشر إلا بقتل تلك الازدواجية الشنيعة التي بين خارج جميل براق وداخل قبيح شرير.
الشريك الخفي
غالبًا ما تكون قصص الأشباه والأقران قصصًا مرعبة، تستثير الرعدة الخاصة بالغرابة، وتستحضر معها ذلك الرعب البدائي الأول، ومع ذلك، فإن حضور القرين قد يكون مشتملا أيضًا على نوع من العلاقة الحميمة والتواصل والتخفف من التوتر، كما نجد ذلك مثلاً في قصة «الشريك الخفي» لجوزيف كونراد، حيث يواجه قبطان بحري فيها قرينه الذي تجسد في شكل سجين هارب من العقوبة التي حكم عليه بها بسبب جريمة قتل ارتكبها وهو يحاول إنقاذ سفينته القديمة خلال عاصفة. المثير للدهشة هنا أن ذلك القبطان قد قام بحماية ذلك الغريب العاري، وتقاسم معه ملابسه وأسراره «لقد استغاث بي كما لو كانت تجاربنا واحدة مثل ملابسنا، لم يكن يشبهني تمامًا، ومع ذلك فقد وقفنا مائلين أعلى موضع نومي، يهمس أحدنا إلى الآخر، وبرأسينا الغارقين في العتمة كنا قريبين أحدنا من الآخر، مستندين بظهرينا إلى الباب، بحيث إن أي إنسان كانت ستتوافر لديه الشجاعة لفتح ذلك الباب، خلسة، كانت ستصيبه الدهشة من ذلك المشهد الغريب الخاص ببحار بديل منهمك في الحديث سرًا إلى ذاته الأخرى»، وقد أخذ هذا الاكتشاف للقرين والوقوع تحت سطوته ذلك القبطان «نحو مشارف الجنون، وبشكل يفوق ما قد يمكن أن يحدث لأي إنسان لم يقم فعلا باجتياز تلك الحدود»(21).
ولم يتم إنقاذ ذلك القبطان إلا من خلال إيماءة مفعمة بالود من ذاته الثانية، لقد تآمرا على أن ينظما طريقة هروب ذلك القرين، مرة أخرى، وهكذا قام القبطان بالاحتضان الأخير لذاته الأخرى، ذلك الذي همس إليه قائلا: «لطالما كنت أعرف أنك تفهم، وأنت بالطبع كذلك، فمن أعظم حالات الرضاء أن يجد المرء شخصًا آخر يفهمه، ويبدو أنك كنت موجودًا دائمًا كلما سعيت إليك، ومن خلال الهمس نفسه، كما لو كنا عندما يتكلم الآخر أشياء غير التي نرغب في أن يسمعها العالم المحيط بنا»، ثم إنه أضاف: «إن ذلك لأمر مدهش تمامًا».
لقد تطلب هروب ذلك الشريك الخفي أن يعرض الكابتن سفينته لمخاطر جمة، وعندما ألقى نظرة خاطفة على القبعة التي منحها لشريكه وهى تطفو فوق سطح الماء، أدرك القبطان أن ذلك كان أشبه بإنقاذ لسفينته، كان نوعًا من العلامة التي ساعدته على الخروج من جهله السابق بغرابته، غرابته التي كادت تقضي على سفينته، وقد كانت تلك هى اللحظة التي رأى القبطان فيها ذاته الثانية «رجلا حرًا يسبح بقوة متجهًا بقوة نحو مصير جديد»، هكذا دخل كل رجل من هذين الرجلين عالمًا جديدًا، أو بالأحرى دخله ذلك الرجل الوحيد المنعزل، القبطان من خلال تخيله لذلك الشريك الخفي الذي تبادل معه الحوار والملابس والطعام، وشعر من خلاله بإنسانيته ووجوده وطبيعته الحرة الجديدة.
دستويفسكى والقرين
في روايته «القرين» (أو «المثل») صور دستويفسكي تلك الرؤية المظلمة للعالم، حيث «جوليادكين» الموظف العصبي البسيط، يسير متتبعًا شخصًا غريبًا ما، ثم يتعرف إليه في النهاية على أنه قرينه، ذلك الذي يذهب إلى بيت جوليادكين ويسكن فيه، ويحضر دائمًا معه إلى عمله، وفي البداية اعتقد جوليدكين أن ما يحدث له إنما هو مجرد حلم أو كابوس أو نكته شنيعة، لكنه شيئًا فشيئًا بدأ يشك في وجوده هو ذاته، وفي أحيان أخرى كان يفقد قدرته على التفكير والتذكر. لم يبدُ على زملاء جوليادكين في العمل أنهم لاحظوا ذلك، لكن أحدهم قال له إنهما هو وقرينه يبدوان مثل القطط التوائم السيامية، وتدريجيًّا بدأ جوليادكن الأكبر (كما أطلق دستويفسكي على الشخص الأصلي، الموظف المتواضع البسيط)، يجرى حوارات مع جوليادكين الأصغر (كما أطلق عليه دستويفسكي ذلك أيضًا) الذي ظهر فجأة وبدأ يطارده، والذي كان يبدو أكثر مكرًا وشرًا من جوليادكين الأصلي أو الأكبر، وتدريجيًّا بدأ جوليادكين الأكبر يدعو جوليادكين الأصغر إلى الطعام والشراب، وأصبحت العلاقة بينهما أقل توترًا، بل إنه دعاه أن يبقى معه ضيفًا في بيته في الصباح التالي، وقد كانا يتبادلان هويتهما على نحو غامض بحيث ظن الخادم أن الأكبر هو الأصغر والعكس بالعكس، وعبر ساعات اليوم بدأ الأصغر يتسلل إلى مكان عمل الأكبر، يأخذ مكانه، ويحظى بالتقدير والثناء من رؤسائه لو أجاد بعض مهام ذلك العمل. تدريجيًّا أيضًا قرر الأكبر أنه لن يستطيع الاستمرار في تحمل أن يعامل مثل «خرقة بالية». وفي سلسلة من المشاهد الليلية تبدأ المطاردات بينهما، بل إن الأكبر يرى أنه لم يعد هناك قرين واحد له، بل عدد كبير من «الجوليادكينات»، الذين يطاردونه في الشوارع، بحيث امتلأت المدينة كلها بهم.
في النهاية يأخذ «الأصغر» كل ما كان يخص الأكبر من امتيازات وممتلكات وعلاقات، في حين يوضع «الأكبر» في مستشفى للأمراض العقلية ، وعبر هذه الرواية لا تعرف ما إذا كان جوليادكين الأكبر ضحية لجنون من النوع المتفاقم، أو من النوع الذي يتزايد على نحو تدريجي كل يوم، أو أنه ضحية لقرينه المشؤوم الشرير، وحيث إن الذهان غالبًا ما يشتمل على تفكك في الهوية، فإن هذين الاحتمالين قد يكونان صحيحين كما يقول بيتر بيسيك p.pesic(22).
وهكذا فإن عبور حدود الهوية قد يؤدي بصاحبها إلى دخول عالم غريب مثير للقلق والاضطراب، عالم قد يحتوي على الحقيقة أو العقل، وكذلك الجنون.
لقد كانت الأحلام المرعبة والكوابيس والهلاوس والخداعات الحسية والإدراكية والهذاءات والمخاوف القاتلة هي التي استأثرت باهتمام دستويفسكى أكثر من غيرها، وقد كان هذا هو ما جعل البعض يطلق عليه لقب «شكسبير المصحات العقلية». ومنذ أعماله الأولى كان دستويفسكى شديد الاهتمام بحالات الاضطراب الانفعالى، فكتب عام 1846 رواية «المثل» أو «القرين» The Double، وهى تمثيل كبير لهذا الاهتمام(23).
وقد كان دستويفسكي يُعد هذه الرواية تحفة أعماله، ويعدها أيضًا عملا بالغ «الجودة»، وفكرتها «ممتازة»، ونحاول فيما يلي أن نقدم تحليلا لشخصية جوليادكين، وهي الشخصية المحورية في رواية المثل. ففي هذه الراوية هناك علامات قادرة على استثارة مشاعر الغرابة لدينا، كما أنها كانت متجسدة لدى الشخصية المحورية في هذه الرواية، وقد تفاقمت هذه المظاهر والعلامات حتى بلغت مرحلة الفصام أو الجنون، ونذكر منها ما يلي:
1- الترديد الأعمى والتكرار الآلي للكلام: Ecolalia : وهو سلوك يقوم في جوهره على تلك الآلية الأساسية المميزة للغرابة، ألا وهي التكرار، فهنا يقوم المريض بتكرار وترجيع الكلمات التي يسمعها دون فهم كامل لمعناها، وقد حدث مثلا في أثناء لقاء جوليادكين مع الطبيب أن دار الحوار التالى بينهما:
الطبيب: قل لى من فضلك : أين تسكن الآن؟
أين أسكن الآن يا كريستيان إيفانوفتش؟
نعم.. أريد أن أعرف .. أظن أنك كنت في الماضي تعيش.
صحيح يا كريستيان إيفانوفتش، كنت أعيش، نعم كنت في الماضي أعيش، هذا واقع، كنت أعيش.
كان السيد جوليادكين يجيب بذلك مرفقًا كلماته بضحكة نحيلة, ولاح أن جوابه قد بث القلق والاضطراب في نفس محدثه. قال الطبيب.
لا .. لقد أسأت فهم سؤالي… أردت أن أقول إنني من جهتي.
أنا أيضًا أردت أن أقول يا كريستيان إيفانوفتش إننى من جهتي.
إن هذا الحوار بين جوليادكين والطبيب يكون أساسًا من أمثلة هذه الاضطرابات المعرفية التي تمثلت في شكل أفكار متطايرة، وعدم فهم للأسئلة، وخروج من موضوع إلى آخر دون ترابط، ومحاكاة صوتية دون فهم لكلام الطبيب، مع إسهاب وتفصيل واستطراد دون مبرر أو ضرورة، مع آلية مفرطة في الحوار والاستجابة للأسئلة، وكلها علامات واضحة على هذه الغرابة التي وقع جوليادكين في براثنها.
2- تكرار حدوث ظاهرة «سبق أن»، أو سبقت الرؤية dega vu، وهي وهم أو خداع إدراكي يتعلق بالألفة بشيء ما، وليس بسوء التفسير له، وهذه الحالة قد تحدث خلال اليقظة الكاملة لدى الأشخاص الأصحاء، ولكنها تحدث عادة أكثر في أثناء الأزمات النفسية، وحالات الوعي والخبرات الهلوسية، وفي أثناء الإفاقة من النوبات الصرعية، وهي ظاهرة ترتبط أيضًا بآلية التكرار: تكرار الأحداث والأفكار، أو الاعتقاد بأنها تتكرر، وقد ذكرها فرويد وغيره في دراساتهم عن الغرابة. ومر «جوليادكين» بها أيضًا، حيث عبر دستويفسكي عنها قائلاً: «ومن تمام المصيبة أن الجو كان رهيبًا، فالثلج يتساقط أسناخًا كبيرة، ويتسرب إلى داخل معطف صاحبنا، ولم يكن في وسع المرء أن يعرف الشارع الذي تجري فيه العربة سريعة سرعة شديدة، وفجأة شعر السيد جوليادكين بذلك الشعور الذي يحس صاحبه أنه «سبق له أن رأى ما يراه الآن»، فظل بضع لحظات يحاول أن يتذكر. ترى ألم يوجس هذا كله في الليلة البارحة، في الحلم مثلا؟.. وأخذ قلقه يزداد شدة بغير انقطاع، هو الآن في دورة القلق، إنه يحتضر. أراد أن يصرخ وهو متشبث بعدوه الذي لا يرحم. ولكن صرخته فنيت على شفتيه، ثم جاءت لحظة نسيان كامل. شعر السيد جوليادكين شعورًا غامضًا بأن كل ما يقع له أمر لا سبيل إلى فهمه.. أمر لا فائدة منه.. أمر لا طائل من ورائه. أمر لا شأن له. باطل، وسخف أن يحتج».
3- غلق الأفكار Thought Blockage أو فراغات التفكير: وتتمثل هذه الحالة في حدوث توقف مفاجئ في تيار التفكير، توقف يترك فراغًا، وقد تبدأ فكرة جديدة، وقد كان دستويفسكي واعيًا بنمو هذه الحالة وآثارها. في حالة «جوليادكين».
4- الأفكار العدمية: بالإضافة إلى أفكار الاضطهاد والإحالة، وشعوره بكابوسية العالم، تنتاب جوليادكين كثير من الأفكار العدمية، فيتمنى أن يكون ميتًا، ويشعر بعدم حقيقة العالم أو وجوده، هذه الهذاءات العدمية Nihilistic delusions يسميها الأطباء الفرنسيون بهذاءات النفي negation، لأن المريض ينكر وجود جسم وعقله، ومن يحبونه، والعالم المحيط به، وقد يؤكد أنه ليس لديه عقل ولا ذكاء، أو أن جسمه أو أجزاء منه ليس موجودًا، وقد ينكر وجوده كشخص، أو أنه قد مات، فالعالم قد توقف، وكل شخص آخر قد مات.
5- الوعي المنقسم: لقد تذبذب رأي جوليادكين في نفسه وفي الآخر، قرينه، ففي الليل يكون الآخر أقرب إلى الوداعة، ويحاول التقرب إلى جوليادكين، ويحاول مساعدته على إشباع بعض رغباته المحبطة، أما في النهار فيكون شرسًا محبطًا عدوانيًّا مرواغًا، ومن ثم يتفاوت رأي جوليادكين في قرينه، فهو أحيانًا طيب وأحيانًا شرير، أحيانًا جدير بالإعجاب وأحيانًا بالاحتقار، لكن الصورة تزداد قتامتها شيئًا فشيئًا، وتتحول إلى شر واحتقار وشراسة وعدوان، ومن خلال الصور الهلوسية النهارية والليلية يكشف دستويفسكي عن أعماق جوليادكين وطموحاته ومخاوفه، إنه خاضع لسيطرة رؤسائه، يشعر بالذلة والهوان كلما تعامل معهم، إنه يخلق بداخله شخصًا آخر يشبهه، لكنه يحسن التعامل مع رؤسائه، إنه يحقق من خلاله ما عجر عن تحقيقه في الواقع، إنه يحاول إعادة الاتزان إلى فوضى النفس الداخلية من خلال التهويمات والهلاوس والأحلام.
6- روح هائمة في الطرقات: لم تكن هذه الخبرة الهلوسية خبرة جيدة مشبعة بالنسبة إلى جوليادكين، وربما كانت كذلك في البداية، لكنها سرعان ما أصبحت خبرة كابوسية قاتمة شديدة القدرة على إحداث الرعب والفوضى العقلية، مما جعله دائمًا يهيم على وجهه في الطرقات وفي الشوارع، في حين تصفعه هبات العاصفة، وتغرقه الأمطار، وخلال هذا الجو المرعب يظهر له قرينه دائمًا ويطارده، ومع تزايد الخوف والرعب والمطاردة يزداد انشطار النفس وانقسامها، ويزداد تصدع العقل وانشقاقه، ويختلط عالم الحلم بعالم الواقع، «إنه يركض الآن قدمًا على غير هدى، لا يدري أين يذهب، ولكنه كلما خطا خطوة، وكلما قرعت قدمه أسفلت الرصيف مرة، انبجس إلى جانبه عدو جديد كأنه يخرج من باطن الأرض، انبجس جوليادكين جديد، انبجس ذلك الدجال نفسه رهيبًا حقيرًا باعثًا على التقزز والاشمئزاز كما كان، ويأخذ هؤلاء الأشخاص المتشابهون جميعًا يركضون، الواحد وراء الآخر، فكأنهم سرب من الإوز يطارد بطلنا ويلاحقه، أصبح بطلنا لا يعرف إلى أين يهرب، أصبح لا يعرف كيف ينجو من هؤلاء «الجولياديكنات» الذين يجرون وراءه حتى تقطعت أنفاس بطلنا المسكين، وسرعان ما حاصره هؤلاء الأشخاص المتشابهون من كل جهة، إنهم ألوف، إنهم مبثوثون في كل مكان. إنهم يجتاحون جميع شوارع العاصمة. وهذا رجل من رجال الشرطة يرى نفسه مضطرًا أمام هذا التراكم الفاضح إلى أن يمسك بتلابيبهم، فيقبض عليهم ويحبسهم في مركز مجاور من مراكز الشرطة. واستيقظ بطلنا وقد تجمد من الخوف والذعر وتخدرت أعضاؤه… فإذا هو يرى أن الواقع ليس خيرًا من المنام. إن هذا الحلم السحري العجيب هو مركز الرواية، كما يقول «ديمتري تشيزيفسكي»، وفيه يكمن جواب السؤال عن «مكان الإنسان» بشكل واضح. إن جوليادكين (وهنا يكمن مغزاه النموذجي أو مغزاه الاجتماعي كما يقول دستويفسكي) ليس له مكان خاص به، ولم يكن قد أحرز مكانًا قط في حياته، فليس له «مجال» في حياته باستثناء الزاوية التي توجد خلف الخزانة أو الموقد، حيث يختفي من اضطهاد أعدائه الوهميين، وفي هذا الصدد نجد جوليادكين شبيهًا بشخصيات أخرى لدى دستويفسكي: الحلم في «ليال بيضاء»، و«قصة من بطرسبرج»، وأبطال «قلب ضعيف»، والسيد بروخاركين ومارميلادوف في «الجريمة والعقاب»، إن هناك شيئًا ما غير بشري، شيئًا متشيئًا في انعدام وجود مكان للشخص خاص به(24).
7- وعي في فوضى: يتخيل جوليادكين رؤية أشياء وأشخاص وحيوانات وظواهر ليست موجودة، ويعاني ضعف الذاكرة، على الرغم من فيضانات التداعيات غير المحدودة، وتتجمع لديه الأفكار وتتفرق، وتتقارب وتتباعد، يعاني من الآخر الذي يحصل على كل شيء، في حين أن الأنا لا تحصل على أي شيء، ذلك الآخر الذي يظهر دائمًا «مرحًا فرحًا نشيطًا على عادته، كثير الحركة، متواثب الخطى، سافر اللهجة، شديد التملق، حاضر البديهة، سريع الجواب، خفيف الساقين، يسلم عليه الجميع، ويرحبون به، ويفرحون بمقدمه»، هذا في حين يعاني جوليادكين الحقيقي الاكتئاب والحزن والخمول، واضطراب الحركة، وتفكك الكلام والتفكير، والاصطدام بالآخرين وتجاهلهم له، ويكثر من النظر إلى المرآة والتحديق في ملامحه، وهو يشعر بغرابة كل الأشياء حوله، ويتخيل حدوث أشياء لم تحدث، فيعتقد أن الرسائل التي يكتبها تسرق منه، في حين أن واقع الأمر هو أن هذه الوسائل لم تسرق قط لأنها لم تكتب أصلا.
8- اختلال الشعور بالشخصية depersonalization وبالواقع: derealization وقد تحدثنا عن هذه المشاعر أو الاضطراب في مواضع أخرى من هذا الكتاب، وهنا يفقد الشخص صلاته بالآخرين، ويشعر بأنه أصبح يشبه الآلة، ويقوم بأنشطته بطريقة ميكانيكية مملة ورتيبة، وترتبط هذه الحالة عادة بحالة الشعور باختلال الشعور بالواقع، حيث تبدو البيئة للفرد غريبة، غير واقعية، أو خالية من كل المعاني العاطفية، وتتفاقم هذه الاضطرابات في حالات الفصام والاكتئبات الحاد والهستريا، وفي حالات القلق. إن هذه الأفكار غالبًا ما تكون هذائية، وأحيانًا ما يعرف المريض شذوذها، ويشكو من الاضطراب الذي تسببه له.
يقول جوليادكين لنفسه: «أنا، أنا، أنا، ما أنا، لا شيء، يمينًا لست أنا، لست أنا حتمًا»، معبرًا عن اختلال شعوره بذاته، وإحساسه بغرابة نفسه وتصرفاته، وفي أحيان كثيرة كما كان جوليادكين أيضًا « لا يعلم علم اليقين، أكل ما يراه حوله هو جزء من العالم الواقعي أم هو امتداد الرؤى المضطربة التي رآها في حلم».
9- الإحساس بالحضور The sense of presense: ومن الصعب تصنيف الإحساس بالحضور، حيث هنا يشعر الشخص بأنه في حضور شخص ما، أو أن شخصًا ما يوجد معه، على الرغم من عدم الوجود الفعلي لهذا الشخص الثاني، وهو ليس حالة من الخداع الإدراكي، ومعظم الناس العاديين يكون لديهم الشعور بوجود شخص آخر معهم حينما يكونون في حالة وحدة، أو عندما يسيرون في الشوارع المظلمة، أو يصعدون قفزًا سلمًا شاحب الإضاءة لأحد المنازل في الليل، ففي أثناء ذلك يشعرون أن شخصًا ما يقف أو يمشي أو يجري خلفهم، وبداخلهم يحاولون السخرية من هذا الشعور، لكنهم في الواقع يتلفتون حولهم وخلفهم، بين الفينة والفينة، للتأكد من عدم وجود هذا الشخص، كما أن بعض المرضى قد يشعرون بأن هناك شخصًا ما موجودًا، لكنهم لا يستطيعون رؤيته، وقد لا يعرفون من هو، وقد تحدث هذه الحالة نتيجة نقص النوم، أو الجوع، أو حالات اضطراب الوعي والوجدان، كما أنها تحدث في الحالات العضوية في المخ، وفي الفصام، والهستيريا، كما أنها ترتبط بالحس الشبحي والأشباح، في مخاوف الوحدة والظلام. وقد كان جوليادكين في «القرين» يشعر بمثل هذا الإحساس، فقد كان يشعر في البداية بحضور شخص ما يوجد معه دائمًا، يتعقبه، لكنه لا يراه، يقترب منه بطريقة شبحية مبهمة، ثم يبتعد عنه، يحضر متلفعًا بالضباب ومتسربلا بالظلام والجليد، لكنه لا يدركه، ثم تفاقمت الحالة فلم تعد مجرد شعور بالحضور، بل صارت إحساسًا إدراكيًّا هلوسيًّا بوجوده ومشاهدته وسماعه والهرب منه.
لقد ظلت مشكلة الازدواجية والثنائية في الطبيعة البشرية تؤرق دستويفسكي، وتشكل المعالم البارزة لكثير من أعماله. وقد تردد موضوع الشخص الثانى لديه مرة أخرى في رواية «الممسوسون» (1872-1873)، وفي رواية «الشباب الغض» (1875)، وفي رواية «الإخوة كارامازوف» (1879-1880)، لكن أيًّا ما كانت تجليات هذه الفكرة، وأيًّا ما كان شكل ترددها وتكرارها في هذه الأعمال، فإن رواية «المثل» أو «القرين» تظل هى الدرة المتفردة في عقد دستويفسكي الفريد في هذا الشأن.
قرين سليمان فياض:
وقرين سليمان فياض شبيه بقرين دستويفسكي، تقع عيناه عليه أولا في مرآة موجودة في غرفة نومه، يحاكى حركاته ويتابعه في كل مكان، كان ذلك القرين، هو «ذلك الآخر الموجود الواقف بمقابلى في المرآة»، ثم أصبح ذلك الآخر يضايقه ويتدخل في قراءاته، وفي تفكيره، وفي لغته، حتى يشعر بالإرهاق نتيجة مطاردته له(25).
«أحسست بالإرهاق منه، حدثت نفس بأنني أكرهه، ذلك الآخر الذي يلازمني، أغفل عنه، فإذا به ينبهنى إلى وجوده، أنساه تمامًا، فيصر على أن يذكرني. أجلس وحيدًا أفكر بعقل وروية، فإذا به يعبث بكل أفكاري، يبددها، ويشتتها ويحيلها أحلام يقظة». هكذا تستمر عمليات المطاردة والمراقبة والتدخل التي يقوم بها ذلك الآخر، في حياة الراوي، في يقظته ونومه، في أفكاره وانفعالاته، وهو يصفه مرة بأنه «آخر»، ومرة بأنه «حيوان الغابة الغريزي»، الجانب الداخلي البدائي، منه المخيف المدمر منه، المقابل لـ«الهو» الغريزي، عند فرويد. وعندما يصف الراوي ذلك الآخر بأنه إنسان الغابة الغريزي، فإن ذلك الآخر يصفه بأنه «مهرج يرتدى قناعًا»، هنا يرد في أذهاننا على الفور تمييز يونج بين القناع الاجتماعي والظل الغريزي، هنا القرين ظل غريزي للقناع الاجتماعي.
وتردد هنا حوارات كثيرة بين الراوي وقرينه حول الخير والشر والنور والظلام والظاهر والباطن وتستمر المطـاردات، ويستمر القرين كما قال الراوي «يخلو إلىَّ إذا خلوت، هامسًا، وموسوسًا، وموشوشًا، ومتنقلاً من موضوع إلى موضوع، وفجأة، داعيًا إلى كل الخواطر المقبضة، والمحزنة، والمتشائمة، والعدوانية، دون أية رحمة».
ويشكو الراوي إلى زوجته من هذه المعاناة والمطاردة، فتطلب منه أن يكتب عنه قصة، فيفكر فيه ويكتشف أنه أغرب شخص التقاه في حياته، وأنه «أكثر من عرفت خفاء وتخفيًّا، وجودًا وعدمًا، ولأن أجدادي القدماء الذين حدثتني عنهم أحجارهم عرفوه، وخافوه، وتوددوا إليه بالصورة والرمز، والنقوش والتماثيل، والأدعية والمواكب، والأحجبة والتعاويذ، والأطعمة في المقابر، في انتظار عودته، وحلوله بعد الموت، ولأنه على ما وعيت منه اليوم، ملاك وشيطان، وصعلوك وشريف، في وقت واحد، وبصورة لم يعهدها أحد بعد، سوى لحظات حدس عابرة، وربما سوى المجانين، والعباقرة، والأنبياء، وقادة الجيوش، وعلماء النفس والفنانين، والزعماء المصابين بجنون العظمة .. إلخ، ولأنه نموذج فريد للغريزة والضمير معًا، فقد آثرت أن أدعها، تلك التي إلى جواري (زوجته) آمنة وادعة، وأدع نفسي إلى حد ما، في دفء آمنها، ودعتها» .
هنا يكتسب القرين – لدى سليمان فياض – بعدًا تاريخيًّا ثقافيًّا دينيًّا إنسانيًّا، فهو يدرك أن من يطارده هو طبيعة البشرية هو غريزته، هو ضميره، هو ظله الداخلي الموجود خلف القناع، وهو أيضًا الغريب الموجود خلف هذه الواجهة المألوفة لشخصية، وهو أيضًا الغريب الملازم له المرتبط، مرة بالموت، ومرة بالخلود، وتستمر المطاردة، ويدرك الراوي تدريجيًّا أن قرينه يشبهه جسدًا، وصوتًا وحركةً، وفكرًا، وأنه – أي الراوي – ليس إلا شخصية منشطرة منقسمة إلى قسمين يطارد أحدهما الآخر، ويتذكر طفولته وصباه، وينسب كل ما قام به من أفعال شريرة إلى قرينه، وكل ما قام به من أفعال خيرة إلى نفسه، ثم يزداد يقينه بأن «ذلك القرين «الذي هو غريب عني أكثر ما تكون الغربة، قريب منى أكثر ما يكون القرب»، وأنه مثل شيطان الجزيرة الذي ورد ذكره في قصص ألف ليلة وليلة، يركب فوق كتفه، وتستمر المطاردات، وتستمر المعاناة، ويناديه في سره، «يا غريبي، في كل مكان من البيت، والشارع والمدرسة ، في النهار، أشعر بالحياة تدب في الأشياء حولي، وأرى مواكب الناس تتحرك، محدقة فيما حولها ولا تراه، متأملة في داخلها ولا تفهمه. من بينهم أرى أصدقائي وحيدين، ومغتربين مثلي. تزحف عليهم الأشياء، تتحرك وتسعى، تحاصرهم بأكف غير منظرة، مليئة بالمغريات والمحاذير، وهم يتكلمون بلا صوت، أفواه منفرجه تثير الضحك، يتساقط منها الكلام بلا حروف، ولا معان، وجوه تحمل عيونًا، وأنفًا، وفمًا، وأذنين، وليس من يد لأحدها»(26).
هنا يكون قرين سليمان فياض، هو غريبه، هو وحيده، الإنسان الذي هو أكثر الكائنات غرابة في الحياة كما قال هيدجر، هنا الحياة تستمر، واللا معنى يحضر، والمواكب تتدافع، ويظل الإنسان غريبًا، غريبًا بالنسبة إلى نفسه، وبالنسبة إلى الآخرين، وإنه عندما يدرك طبيعته المزدوجة، عندما يدرك أنه ليس خالدًا كما يرجو، بل إن الموت والعبث يحاصرانه في كل لحظة، وأن الإنسان أكثر الكائنات وحدة وغرابة في هذا الكون، عندما يحضر الموت في الحياة، ويكون الأصدقاء كما قال على حافة الجنون، فإنه يقرر أن يتحد بـ«قرينه»، يصبح مثله، يسلم نفسه إليه، لا يقاومه، لا يعاني ازدواجية الداخل (الغريزة) والخارج (القناع)، بل أن يترك نفسه يفعل ما يحب ويرغب، ويقول ما يفكر فيه، لا أن يغلفه بتبريرات وأكاذيب يتخلص من غرابته، لكنه يشعر مع ذلك أيضًا «بالفجيعة التي تحولت إلى وحدة موحشة، ورعب حقيقي، حيث فتحت عيني وامتلأ فمي بمرارة لم تفارقني، وأنا أجهد لأزيح عن صدري كابوسًا مفزعًا.» لقد أدرك أنه لا مهرب له من قرينه، وأن ازدواجيته قارة، وانقسامه مقيم ما بقي حيًّا، وأن محاولته للهروب من قرينه قد أسلمته إلى الهروب إليه، وأن وجود قرينه الخاص كـ«ظل»، كـ«آخر»، لن يكون ممكنًا، لن يكون محتملا، لن يكون قائمًا، إلا من خلال وجوده هو الخاص أيضًا كـ«أنا»، و«ذات»، و«عقل»، و«قناع»، وواجهة، وتظاهر أيضًا.
أشباه أخرى وأقران
في رواية «عام وفاة ريكاردوريس»، للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماجو (1984)، نجد أن الشخصية الرئيسية فيها هى قرين الشاعر البرتغالي المعروف فرناندو بيسوا، وقد كان – بيسوا – يكتب أعماله تحت ثلاثة اسماء مستعارة، كل منها أشبه بقرين له. هنا يعود القرين إلى البرتغال، قادمًا من البرازيل، بعد وفاة بيسوا، وينسج ساراماجو روايته- كما يشير فخري صالح- «بأسلوب الواقعية السحرية، مذكرًا القارئ بأجواء ماركيز، وخورجي لويس بورخيس، حيث يتردد شبح فرناندو بيسوا الميت على الشخصية الرئيسية في الرواية، ونحن نعلم من سياق السرد أن شخصية الرواية الرئيسية على نفسها من بين اختلافات الشاعر الميت فرناندو بيسوا، ومع ذلك، فإن شبح الشاعر وقرينه الشخصي يتبادلان في صفحات هذا العمل، تأمل الوجود وشروطه» (27). إن ساراماجو- هنا- يدعونا لكي نتأمل في البرتغال والعالم في أثناء الثلاثينيات المائجة بالاضطراب من خلال عيني ريكاردورس الذي هو الاسم المستعار لفيرناندو بيسوا، الشاعر الشهير الذي يعود كشبح ويتردد على الشخصية المحورية في الزاوية، ريكاردوريس، وإن كان أحد الأسماء الثلاثة لـ«بيسوا» الشاعر، نفسه، في حياته، وقد أشار بيسوا أيضًا إلى أن أسماءه هذه لم تكن مجرد أسماء مستعارة، وإنما دليل على شخصيات متعددة نمتلكها نحن جميعًا، فهي بمثابة أوجه ومظاهر لا تحصى لأنفسنا (28).
وفي قصة أخرى عن القرين هي «ذكرى رجل غير مهم»، للكاتب الإسباني خوسيه مياس، يرى أولجادو نفسه يساوم بالفرنسية التي ليست لغته الأصلية، إحدى بنات الليل على ناصية شارع لا يعرف، وتدريجيًّا يشعر أن له ذاتًا أخرى موازية لحياته، لا تعيش معه في وطنه، وإنما تعيش في أرض بديلة غريبة. هكذا يتأرجح أولجادو- كما يشير فوزي فهمي- بين ثنائية وجود الشخصين في مكانين مختلفين، متماديًا في العيش في وطنين بهويتين يتعامل في ظلهما مع النقيض معًا. وينطلق أولجادو في الملذات مع أصدقاء صاخبين، ويرتاد أماكن المتعة الليلية التي لا يجرؤ أولجادو على الذهاب أبدًا إليها، ويزداد انفصال هذه الذات الأخرى عن صاحبها، فيرى نفسه يخنق زوجته الفرنسية، ثم يسقط مريضًا ملازمًا الفراش، يحاول الخلاص من ذاته الفرنسية، لكنه تنتابه المخاوف الشديدة جدًّا، والرعب أيضًا من الموت مثلما ماتت ذاته الأخرى،(29) وتستمر لديه المخاوف والهلاوس وإضطرابات الوعي والوجدان.
خاتمة
في قصص القرين ورواياته التي استعرضناها سابقاً، يمكننا أن نرى مصداقيةً خاصة لتلك المسلمات التي طرحها أندروويبر والتي أستعرضناها في هذه الدراسة حول فكرة القرين. ففي هذه القصص والروايات هناك حضور خاص للتكرار البصري والإزدواج، حيث القرين ، ذاته، نوع من التكرار المرئي للذات، تدركه هذه الذات وقد تهرب منه، أو تسعى وراءه وتلاحقه. وهناك أيضاً حضور واضح لمسلمة «الكلام المزدوج»، حيث إضطراب اللغة وتشوهها وتكرارها وفيما يشبه الترديد الأعمى للكلمات والجمل والأسئلة والأجوبة، أحياناً على نحو ساخر، وأحياناً على نحو جاد. وقل الأمر نفسه عن مسلمات الإضطراب الحركي، والفضول الجسدي والمعرفي، وقوة اللعب، والإبدال، والإزاحة، والعودة القهرية للصور والكلمات والحركات والأفكار. كذلك كانت معظم أمثلة القرين التي إستعرضناها من الذكور أيضاً وبما يتفق مع ما ذكره ويبر من مسلمات. كما أن هذه النماذج من القرين كانت غالباً نتاجات لبيوت غير مألوفة وغير مستقرة، ولأوطان مضطربة وأحياناً مدمرة. ولا تحضر هذه المسلمات جميعها في القصص والروايات التي أستعرضناها بدرجة واحدة من الحضور فقد يحضر بعضها ويغيب البعض الآخر لدى هذا الكاتب أو ذاك، لكن تزايد حضور العدد الأكبر منها يكشف عن عمق هذه الفكرة وروعة تجليها كما وجدنا ذلك عند دستويفسكي، تمثيلاً لا حصراً.
هكذا تجسد فكرة القرين الخوف من الوحش الذي في الداخل، مثلما تجسد أيضًا فكرة الوحش الذي في الخارج، وقد يكتشف الإنسان في النهاية كما حدث في رواية «قلب الظلام» أن ذلك الوحش الذي ظنه موجودًا في الخارج كان في واقع الأمر موجودًا في الداخل، وأن رحلته من أجل قتل الوحش الموجود في الخارج إنما أوصلته إلى معرفة الوحش الذي في داخله هو، وأن ذلك الوحش الموجود في الخارج، ليس وحشًا، بل إنسانًا، وربما أقل وحشية وأكثر إنسانية منه، ومن ثم فإنه قد يتوحد معه، وقد تتحول رقته الظاهرية إلى وحشية حقيقة مضاعفة.
ولعل ما اهتم به باحثون في هذا المجال مثل ويبر على نحو خاص هو القرين كشخصية تتعلق بالإزاحة والإحلال، شخصية تلازم البيئة، وتُحْدِث الاضطراب فيها بوصفها جزءًا منها. إنها تمثل ذلك الاعتماد المتبادل الوثيق بين عوالم الواقع والخيال، من خلال تمثيلهما معًا بوصفهما قابلين للحضور معًا، للمثول معًا في ذلك الموقع الذي تتم خلاله المواجهة مع القرين. واعتمادًا على ما قدمه فرويد، قد يكون القرين هو الغريب أو الغرابة النماذجية البدائية النمطية، صورة أولية قديمة خاصة بالغريب والغرابة، كما توجد ملازمة للبيت، ومن ثم فإنه قد يجسد ذلك الانقسام التكويني، البيتي الأليف في الحالة الخاصة بالذات، أو إنه تجسيد للرغبة الدائمة لدى الذات، لأن يكون المرء في بيته، وليس مجرد زائر له، حيث يرتبط القرين بالهوية المزدوجة، حيث يوجد الشخص ونقيضه، الجانب الأليف الحميم من الشخصية والجانب المنفر البغيض منها، الذات المرتبطة بالألفة والبيت، والمرتبطة بانتفاء الألفة والوحشة والغربة والغرابة، وحيث البيت كما قلنا مفهوم مزدوج هنا أيضًا، مفهوم يجمع بين الألفة التي قد تتحول إلى عدم ألفة أو وحشة، وعدم الألفة التي قد تتحول إلى ألفة واطمئنان. هكذا فإن البيت هو أيضًا مفهوم ديالتيكي يجمع بين جانبين أحدهما إيجابي والآخر سلبي ، حيث المفهوم الإيجابي يدل من بين ما يدل عليه على الحياة السرية الغامضة الموجودة في الداخل والملازمة للألفة، والتي تحاول أن تحافظ عليها، ولكنها التي تعاني أيضًا مخاوف مستمرة من قدوم آخر غريب دخيل خارجي يهز استقرار البيت، ويقلب الألفة إلى وحشة(30).
هذا الانقسام الذي يحدث داخل الذات وفي النظام الخاص بالواقع يتم الامتداد به وإسقاطه على شخص خارجي يتم تخيل وجوده، هنا وهناك، قد يقال إن القرين وفيما يشبه المفارقة يهدم المبدأ الجمالي الخاص بالتشكيل أو المجاز أو التشبيه، ذلك العمل البارع الخاص بالمحاكاة، أي تكرار الواقع وازدواجه من خلال شيء أو شخص غير واقعى، ثم إن ذلك الشبح الخاص بالذات، الذي خلقته الذات، سرعان ما يصبح مصدر تهديد لها، ومن ثم فإنه يقوض تلك المزاعم الموضوعية الخاصة بالواقعية، إنه يحوي بعض التأثيرات المماثلة أو الخاصة بالصور الفوتوغرافية السلبية (النيجاتيف أو العفريتة كما تسمى في اللغة الدارجة في مصر مثلا) وكتابه يتكئون على تخيلات مكبوتة، أو على مصدر من الشعور بعدم الأمن والأمان العميق، أو أنهم يحاولون من خلال إبداعهم أن يحددوا مقدار الأمان الذي فيه ويؤكدوه.
وهذا الإنقسام بين فردين كانا في البداية شخصاً واحداً ، أو ممثلين كتوائم، سواء كانوا من التوائم الحقيقية، أو من المماثلين، للتوائم هي خاصية مميزة للأساطير أيضاً في كثير من قارات العالم، وكما أشار إلى ذلك عالم الإنثروبولوجيا الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس على نحو خاص حيث أشار إلى إرتباط فكرة التوائم والقرين بثنائية الخير والشر، والنور والظلام، وبالقوى التي تقوم بالوساطة بينهما وكما تمثلها الأرانب مشقوقة الشفاة وغيرها من الرموز التي أشار إليها هذا العالم.(31)
هكذا يقاوم القرين، التحديد الأدبي التاريخي التصنيفي، ومثله مثل كل الأشباح، يكون خلال الوقت نفسه، شخصية تاريخية، تعيد عرض الأزمنة الماضية المنقضية، لكنه أيضًا ظاهرة غير تاريخية، إنه حالة من المقاومة للتغير الزمني، من خلال خطوة خارج الزمن، ثم عودته إليه، مرة أخرى، كنوع من العودة الانتقامية للغائب، إنه يعود كي يقطع التطور السردي الخطى لمضيفه، ومن ثم فإنه يحدث الحيرة والارتباط والتشوش في أي سرد أدبي تاريخي مباشر(32)، ومن ثم فإن السرد المتعاقب كثيرًا ما تُقطع روابطه وتُمَزَّق من خلال تلك اللحظات المتجمدة من المواجهة مع القرين.
وهكذا فإن في قصص القرين ورواياته، يمكننا أن نجد مثل هذا الحكي المزدوج، أو السرد المزدوج، الذي يقول شيئًا ويعني شيئًا آخر، يظهر شيئًا ويحجب شيئًا آخر، وهذا الآلية الخاصة بالتمويه والإخفاء، ثم الكشف والإظهار، آلية أساسية في الأحلام والأساطير والإبداع الفني والأدبي، وكذلك في القصص المجسدة لتفكك الذات وانقسامها، وكما هي الحال على نحو خاص في قصص الأقران والأشباه والأشباح والظلال.
المراجع والهوامش
1- أوفيد من خلال باسكال كينار (2007) الجنس والفزع. (ترجمة: روز مخلوف) دمشق: دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع. ص184.
2- Warner, M (2007) Fantastic Metamorphoses other world Oxford: oxford Univ. press, 162
3- خوزيه ساراماجو (2008) الآخر مثلى (ترجمة: بدر الدين عروودى) القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز
4- Davies, L(2009) Telling Them Apart, Conrad, Stevenson and the social Double In Dryden, L.(2003) The Modern Gothic and literary Double Stevenson, wilde, and wells. N.Y: Palgrave 52-71
5- Ibid.
6- Ibid.
7- Ibid.
8- Ibid .
9- Ibid.
10- Warner op. cit, 163
11- Ibid,164
12- Ibid.
13- Ibid 165
14- Weber, A(2003) The Doppelganger. The Double Visions in German literature. N.Y: Clarendon press, 1-5
15- Weber, A. op. cit
16- Weber, A. op. cit
17- Dryden, et al (2009) Robert Louis Stevenson & Joseph Conrad, writer of Transition. Texas: Texas Tech Univ. press, 58-59
18- إدجار آلان بو (1986) وليم ويلسون في : القط الأسود، مجموعة قصص قصيرة (ترجمة خالدة سعيد)
19- روبرت لويس ستيفنسون، (2008), دكتور جيكل ومستر هايد, ترجمة جولان حاجي, دمشق: دار المدى للثقافة والنشر.
20- أوسكار وايلد (1988) صورة دوريان جراى (ترجمة: لويس عوض) القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، مواضع متفرقة.
21- Conrad, J. (2007), The secret Sharer, N.Y: FQ Publishing
22- Pesic, P.(2003) Seeing Double, Shared identities in physics, Philosophy and literature. Cambridge: Mass, The MIT Press
23- فيودور دستويفسكي، رواية المثل (او القرين) (ترجمة سامي الدروبي)
24- شاكر عبد الحميد (1997) الأدب والجنون القاهرة: مكتبة غريب للطباعة والنشر والتوزيع
25- سليمان فياض (1982) القرين ولا أحد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مختارات فصول.
26- المرجع السابق نفسه.
27- فخري صالح (2010) خوسيه ساراماغو، الروائي المدهش والروائي المثقف، جريدة الحياة اللندنية، العدد 17243 – بتاريخ 20 يونيو 2010.
28- خوزيه ساراماجو (1999), عام وفاة ريكاردو ريس. (ترجمة: محمد فهمي عبداللطيف). القاهرة: دار الهلال, رواية الهلال.
29- فوزي فهمي (2010) أيهما الوجه الحقيقي؟ دراسة نقدية منشورة في جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 31 مايو 2010.
30- Weber op. cit 6-10
31- كلود ليفي شتراوس (1986) الأسطورة والمعنى (ترجمة: شاكر عبدالحميد). بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، أنظر الفصل الثالث خاصةً.
32- Weber op. cit, 6-10
ناقد وأكاديمي من مصر