الحاضر، الزمن الحاضر الذي نعيشه وينساب باستمرار أمام أعيننا وينسل بين أيدينا ، غالبا ما ينزع نحو التعمية على الماضي . فهذا الماضي، لا سيما البعيد، الذي لم نعرفه وإنما وصفه وحكاه آخرون لنا ، يظل عرضة للتشويه والخيانة ، بسهولة وحتى دون قصد من قبل الحاضر ، وفي ذات اللحظة التي نحاول فيها “استحضاره” ، أي أن نجعله حاضرا.
وهكذا تجري الأمور منذ القدم ، فنحن لا نرى الماضي إلا عبر حجب الحاضر المشوهة لوجوه الحقيقة، دائما . وما من طريقة أخرى لرؤية الماضي حيث كل استذكار هو استحضار للراهن باستدعاء الماضي . فأنا أتذكَّر اليوم وفي هذه اللحظة ، ونحن نتذكر ما عشناه وما عاشه غيرنا بالأمس ، أو ما رووه قبل أمس .
فالذاكرة المستدعاة باستمرار ديْدنها التشويه، سواء كانت ذاكرتنا أم ذاكرة الآخرين ولا يسع ها إلا أن تكون كذلك، وبما هي قدرة طبيعتها الهشاشة والاضطراب ومن الخطل الاعتماد عليها.
ومن المعروف أيضا على أية حال أن جميع الشعوب تحاول التلاعب ببعض جوانب تاريخها عندما تروي قصتها حتى تمنح لنفسها دوما الدور النبيل، بل تجعل من تاريخها رواية أو حكاية تسمى “الرواية القومية” التي لا تفتأ تتقوى وتترسخ لتصير حقيقة مقطوع بصحتها.
والأمثلة في هذا الباب متعددة ولا داعي لأن نذهب بعيدا للبحث عنها. سأكتفي بضرب مثل واحد يهمنا في هذا المقام اليوم. فعندما كنت في الخمسينيات طالبا فيما يسمى بالدراسات العليا، قسم التاريخ، كان برنامجنا الدراسي في إحدى السنوات يتضمن مقرَّرا اسمه “الإسلام في العصور الوسطى”. وفي أحد الأيام ذكر لنا أحد أساتذة السوربون ، وكان رجلا متقدما في السن ، لكنه بلا شك خبير في تخصصه، ما يلي نصه :
“أما عن معركة بواتييه Poitiers “بلاط الشهداء”، فمعروف لدينا اليوم أنها لم تقع، ولئن وقعت فعلا فلعلها حدثت في مكان آخر غير مدينة بواتييه، ولئن دارت رحاها في مكان آخر غير بواتييه فإننا قد هزمنا فيها” .
وهكذا في بضع كلمات انهارت إحدى أعظم أمجادنا المحفورة على نصبنا التاريخية.
بل ولقد أردف الأستاذ مؤكدا أن لقب مارتل Martel ” – المطرقة – رافق الملك شارل Charles منذ ميلاده ، خلافا لما يروى بأنه ناله لاحقا لأنه ضرب الغزاة المسلمين بمطرقته ، ولم يتسن لي التحقق من صحة كلامه هذا ولا عن موقعة بواتييه ومكانها الحقيقي .
بالتأكيد، كان لابد من الارتقاء إلى مستوى علمي معيَّن في الدراسة لسماع تصريح كهذا، أما بالنسبة إلى الطلبة الأصغر سنا وغالبيتهم من الفرنسيين فالمعركة في ظنهم دارت في بواتييه ، وهي موقعة عظيمة أنقذت فرنسا من الغزو العربي . وأظن أنها لا تزال تدرس هكذا لتلامذتنا ، وإن بطريقة أقل حدَّة ، كما آمل .لا يمكن للحاضر الامتناع عن تعمية الماضي أو إخفائه أو طمسه أو تمويهه باستمرار، وخير دليل على ذلك الأحداث التي هزت العالم الاسلامي خلال العقدين المنصرمين، بدءا من الثورات المسماة “العربية” وحتى الإعلان المباغت عن قيام خلافة إسلامية في الشرق الأوسط، مرورا بالاعتداءات التي ضربتنا في ديارنا وستضربنا مستقبلا، فضلا عن الفظاعات التي شهدناها بأعيننا. فكل هذه الوقائع الحديثة، الأقرب إلينا زمنيا من ملحمة بواتييه، قد تجعلنا ننسى ما كانت عليه الحضارة الإسلامية حقا وكل الأشياء التي ند ين به لها.
وشيئا فشيئا بدأ هذا الماضي ينطمس من التاريخ، ذلك التاريخ الذي كتبناه بطريقتنا الخاصة، والمثل المذكور آنفا ليس الوحيد في هذا الصدد وغيره كثير . قد تساورنا أحيانا رغبة في إنكار وقائع معروفة أو محو بقية الآثار البارزة لما كان عليه الماضي، وقد يصل التنكر المحموم للتاريخ أحيانا إلى حدِ تدمير بقايا هذه الآثار.وليس مستبعدا أن يأتي يوم تمتد فيه الأيادي العابثة الساخطة لتطمس نقوش لاسكو Lascaux و التاميرا Altamiraالتاريخية في مغارة شوفيه Chauvet وذلك فقط لأنها خطَّت بأياد أخرى.
وغالبا ما يعمد التاريخ عند تدوينه وسرده إلى تمويه بعض الوقائع سواء لتنميقها ( عندما يتعلق الأمر برواة هذا التاريخ ( أو لتشويهها )عندما يتعلق الأمر بغيرهم ، فتارة يسدل الستار على بعض الثقافات التي تعاقبت على أرضه في حقب الدول المختلفة، و تارة يمجِد ثقافات أخرى . هذا ما حصل مع فرنسا خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة من قرن الملك لويس الرابع عشر الذي لا زلنا نصفه بـ”القرن العظيم” مع أنه شهد وفاة مليون ونصف فلاح فرنسي بسبب المجاعة، علما بأن تعداد سكان فرنسا عندئذ بلغ عشرين مليون مواطن، كما شهد تسوية خمسمائة قرية بالأرض في إقليم السيفين الجبلي Cévennes في فترة “الخراب الكبير” أثناء الحرب ضد المتمردين البروتستانت ، فضلا عن أعمال الحرق وعقوبات النفي المقرونة بالأعمال الشاقة البحرية ، وكل ذلك باسم تطبيق “الدين الحق”.
وقد يحدث العكس أحيانا، فالتاريخ غريب الأطوار متقلب الأحوال والأقوال، وفقا لتغيِر الضفة التي تقع عليها أحداثه أو تبعا لحركة عبوره جسرا فاصلا بين حدين . فمعركة مارن Marne بين فرنسا وألمانيا ينظر إليها على أنها انتصار ، وسواء من الجانب الألماني أو الجانب الفرنسي ، ما يعني أن التاريخ قد يعمد للاختزال ، وأحيانا لإلغاء أحداث عظيمة أو مشرِفة أو نبيلة كان الأجدر به تخليدها . ولا يتبادر إلى ذهني في هذا المقام فقط الحالة الطوباوية التي شهدتها قرطبة وسارت بذكرها الركبان، بل ثمة فترات أخرى متألقة في تاريخ العالم العربي.
في البدء، كنا ننظر لأنفسنا من بعيد ثم تقاربنا وتعايشنا لفترة طويلة حدثت خلالها صدامات وغزوات بين الشعوب ولكن لو نظرنا فعلا في جوهر الأمور فإننا نتساءل ما الذي يفرِقنا حقا؟ ودون الذهاب بعيدا، فأنا مثلا من مواليد الأقاليم الجنوبية الفرنسية حيث يقيم بعض أفراد عائلتي وأبناء عمومتي الذين نسميهم “السارازان” ، أي المشرقيين العرب ، ودون أن يكون في التسمية إساءة لهم أو تقليلا من شأنهم، وإنما لأنهم يشبهون في سحنتهم الأشخاص المولودين على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط.
وحتى في ذاكرتنا الجمعية ومناهج التاريخ المدرسية تناسينا عمدا أنه بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية وحدوث الغزوات المسماة بـ”العربية” تولى الحكم في مدينة تولوز جنوب فرنسا أمير عربي طوال قرن من الزمان تقريبا.
كما نسينا أنه في عهد إسبانيا المستعربة المسماة حينها بـ “إسبانيا الخضراء ” لكثرة قنوات الريَّ فيها، كان العمال الموسميون يرحلون كل عام من فرنسا سيرا على الاقدام في مواسم الحصاد للبحث عن عمل هناك ، وأغلبهم من مناطق الجنوب الفرنسية ومن هذه الشعوب الفقيرة المسماة بالجاباش Gabaches ، الذين ذكرهم جول سيزار Jules César في كتاباته عن حرب أهل الغال ، ومن هنا ندرك اليوم لماذا يسمي الناس في إسبانيا الفرنسيين عموما بـ”لوس جاباتشوس” .
وعلاوة على هذه الشواهد، أود الإشارة هنا إلى حدث أكثر طرافة ودلالة ، حدث في الثمانينات حيث التقيت في الجزائر بكاتب وصحفي جزائري اسمه ” مراد بوربون Mourad Bourbon ، وأرجو أنه لا يزال على قيد الحياة وممارسا لأنشطته المهنية ، وقد استرعت قصته انتباهي بشدة . في الحقيقة، كان لدى الملك لويس الرابع عشر أخ غير شرعي تلقَّب ” بدوق بوفور” Duc de Beaufort ، ولأنه شخصية بارزة وأخ غير شقيق للملك، يغمره الطموح ومفعم بالنشاط والحركة فقد أسندت إليه مهمة قيادة الاسطول البحري الفرنسي الموجه إلى المتوسط لمقاتلة “البرابرة ” من شمال أفريقيا الذين كنا نسميهم ” القراصنة ” . والنتيجة أن قائد الحملة هزم ووقع في الأسر واقتيد إلى الجزائر، وقد رفض ملك فرنسا دفع فدية باهضة لتحرير أخيه من الأسر ، ولعله كان يخشى من عودته ومطالبته بتولي الحكم ، فاستقر “الدوق بوفور” هناك فطاب له المقام في محافظة بون Bône في الجزائر الفرنسية ، وهنالك اتخذ له زوجة أولى ثم ثانية حتى وافته المنية ولم يرجع أبدا إلى فرنسا.
من السهل التعرف في اسم مراد بوربون على لقب العائلة الملكية الشهيرة ، ولعله اليوم الوريث الشرعي الوحيد لعرش فرنسا باعتباره من السلالة المباشرة للملك لويس الرابع عشر، هذا الملك الذي كان أول من فرض على اليهود و ضع شارة خاصة بهم ، وقد أخفق تماما في حملته الصليبية الأولى ، وتوفي قرب مدينة تونس أثناء حملته الثانية ، ومع ذلك فقد يصادف أن نرى البعض يصفه حتى يومنا هذا بالقديس لويس .
إن ظاهرة الخلط والجهل التي يعرفها المؤرخون جيدا والمتمثلة في استعراض الماضي بأعين الحاضر الخيِرة تعد أمرا حتميا ومشتركا إلى حد بعيد بين الثقافات، فكل الذاكرات التاريخية وكل الشعوب تتعرض لها، حتى أن كل الأمم تعيد كتابة تاريخها بشكل مستمر وفقا لمشاغل الحاضر التي تعتريها والمكانة التي تدعي حيازتها اليوم في العالم.
ويعزى هذا الميل الطبيعي إلى وجود الشعور القومي والاعتزاز بما نسميه “هويتنا” فضلا عن المصالح السياسية والاقتصادية، فقد بات “التاريخ الرسمي” – ويمكن اعتبار الكلمتين من باب التضاد الدلالي – مجرد استعراض لسلسلة طويلة من الأكاذيب.
وليس بمقدور الماضي الغائب أن يعارضنا، باستثناء ماضي الآخرين، المختل دائما عن ماضينا، لكننا ننظر إليه عموما بازدراء.ينطبق هذا الحال على فرنسا كما رأينا وعلى غيرها ونكتفي هنا بسرد مثالين آخرين، فالمؤرِخ الاغريقي هيرودوت مثلا يلقبه الإيرانيون بـ”أبو الأكاذيب”، كما يقوم الصينيون اليوم بتلقين التلاميذ في المدارس الابتدائية فكرة انتماء هضبة التبت إلى الصين، مع أن التبت كانت مملكة مستقلة بذاتها وقوية يحسب لها ألف حساب ، خاصة في القرنين السابع والثامن، بل أنها استولت على العاصمة بيجين وجزء من الصين في ذلك الوقت.
ومن المعروف أيضا أن الحضارة الرومانية التي سيطرت على أراضينا طيلة ستة قرون ، وقبل أن تصطدم بجدار فارس شرقا ، هذه الأمبراطورية القوية العريقة بحضارتها وقضاتها ومحاربيها وبنائيها ومهندسيها البارعين وأراضيها الممتدة من سكوتلندا حتى الأردن ، لم تقدِم أي اكتشاف حقيقي في مجال “العلوم” فلم تقدم شيئا يذكر للإنسانية . فالعلوم القديمة كانت إغريقية ، بل إسكندرانية، وظلت جامدة بسبب إهمال الفاتحين الرومان لها حتى جاء العرب فتغير الوضع تماما ، لأنهم جاءوا ومعهم سلاح عتيد أحضروه من الهند وكان الرومان واليونان يجهلونه ، وهو سلاح رياضي أعتى من كل المنجنيقات ألا وهو الصفر .
نعم ، بفضل اكتشاف العرب الصفر الذي فتح أفاقا جديدا أمام الحساب والفكر، وبفضل الأفكار النيرة والمتطلِعة، حققت العلوم على يد العرب قفزة لا مثيل لها حتى يومنا هذا، فقد شهدت علوم الرياضيات والهندسة والعمارة والفلك والجبر طبعا وهي كلمة عربية انطلاقة جديدة ، فضلا عن تطور الجغرافيا والطب من خلال الاختلاط مع اليهود. وبالتالي انفتح أمام الحداثة مستقبل زاهر على يد العرب.
وقد واكب هذه الانطلاقة اكتشاف النصوص الإغريقية القديمة ، بفضل جهود المترجمين المهرة ، فنقلت إلينا اكتشافات شرقية فارسية وعربية، ويبدو أن هذه الكشوف قد أدركت فعلا أن النقل والتشارك في العلوم شرط أساسي وحتمي لتحقيق أفضل العلاقات بين البشر أنفسهم، أو على الأقل بين الناس والعالم المحيط بهم.
وقد خصصنا في ذاكرتنا التاريخية مكانة مرموقة لذكريات عصر التسامح القرطبي وابن رشد وموسى بن ميمون ، وهي فترة مجدناها كثيرا ولكن الأمر لم يعد ذي بال اليوم. في ذلك الحين كان المسلمون واليهود وحتى النصارى
يلتقون جميعا في قرطبة في ظلِ الاحترام المتبادل حيث كان “التعارف المشترك” يمثل على ما يبدو السبيل الوحيد للتعايش المشترك”. حينها أفسحت العقائد بكل حكمة المجال ولو مؤقتا للمعرفة التي تبوأت مكانة جوهرية لا تقبل الجدل، فالمعتقدات الدينية تفرِق بينما المعرفة تجمع. وحتى يومنا هذا، لا يزال المتشددون الضالون يقتلون من يسموهم بالكفار، كما حصل مع أقباط مصر في شهر أبريل الماضي، باسم المعتقد، أي الدعوة المزعوم صحتها
بلا تمحيص واليقين المفتقر للبراهين” كما وصفه الفيلسوف ألان Alain .) ) .
لماذا انطفأت هذه الأنوار العربية تدريجيا بل وتحولت للظلامية؟
لماذا، بعد هذه القرون المشرقة، خيَّم نوع من الجمود على هذه القوة الإبداعية العظيمة؟
لطالما تعدَّدت الآراء والنقاشات بين الباحثين حول أسباب هذه الظاهرة وحتى لدى المسلمين أنفسهم الذين هالتهم هذه الجرائم المقترفة باسمهم. ونرجو أن يتمكنوا من إحياء هذه الشَّعلة مجددا واستعادة مكانتهم الأصلية.
لقد مرت جميع الحضارات بفترات من التنطع والقسوة ، ومنوط بها، مع مرور الأيام، العمل على تهدئة الروع في النفوس ولم الشتات.ماذا تبقى لنا من حضارة لم ننتم إليها كما يتبادر إلى ذهننا؟ من العسير معرفة ذلك والأصعب من ذلك هو التعبير عنه، فلم يتبق لنا في الغالب سوى صور تحوز إعجابنا بلا استثناء بصفتنا مشاهدين لها لكننا غير مرتبطين بها. وهذا الحال ينطبق مثلا على الحضارة المصرية التي استمرت لثلاثة آلاف عام واشتهرت أخبارها المفصلة وتجسيداتها ، ولكم أعجبنا ببنيانها ومساحاتها وأشكالها وجمالها حتى أننا ننظر إليها أحيانا وكأنها مشاهد هوليودية من منتجات السينما في الخمسينيات، لكننا نتساءل ماذا تبقى لنا منها في أعماقنا وخلجاتنا وأفكارنا وعادتنا العامة ، وحتى في معتقداتنا . كيف السبيل لاكتشافها في وجداننا وكي نفصح عنها؟ كيف السبيل لكسر هذه الصورة النمطية؟ وكيف ننتقل إلى الجانب الآخر للتصور السياحي؟ .
ومن الغرابة أن نجد العكس تماما في بعض الحالات الأخرى. فمع أننا ربما احتفظنا بقليل نادرمن الشواهد المعمارية أو الاستعمالية ، أو حتى الكتابية ، لهذه الإمبراطورية أو تلك، لهذا الشعب أو ذلك، إلا أننا نحتفظ في أعماقنا بشيء منها هو الأهم وإن لم نكن ندرك كنهه، فثمة شعور يصعب سبر أغواره نجده ينسل في ذواتنا على حين غفلة منا مع مرور الزمن ولا يبارحنا مطلقا. وينطبق الأمر ذاته على الحضارات الشمالية الأوروبية التي لا نكاد نعرف عنها شيئا ولا ندرسها مع أنها أعطت اسمها لإقليم فرنسي جميل وهو النورماندي Normandie ، الذي لا نفتأ نبحث في مراعيه الخضراء وسواحله الأنيقة ، بين مدينتي كامومبير Camembert و دوفيل Deauville عن بعض آثار للفايكنج Vikings الأشداء، لكن دون جدوى.
كلنا نحمل في ذواتنا بقايا حضارات منسية، بما في ذلك أكثرنا جهلا أو غفلة وأحيانا في شرائح عريضة منا، وهذا الجزء من كياننا وقوامنا وفكرنا ووعينا يرجع إلى أصول غا برة يمكننا النقاش والجدل حولها باستفاضة واستمرار، لكن أصولنا تنشأ من جذور متعددة وأراضي مختلطة، ففي كلِ منا يوجد جزء من أهل النورماندي ومن العرب وغيرهم من الأجناس الأخرى. حتى المستوطنين منَّا لفترات طويلة من ذوي الأصول الضاربة في العمق كانوا في يوم ما رحالة متنقلين. بعضهم شيدوا أهرامات لاقتناعهم أنهم سيبقون مخلدين في مكان ما، لكن أسماءهم انطمست؟
في ثنايا وجداننا الخفية ندرك أننا نحمل في ذواتنا “أشياء”، ولا يسعني تسميتها بغير هذه الكلمة، وهذه الأشياء تأتي من عدة أماكن وشعوب أخرى وعادات غريبة وتقاليد نكرهها أحيانا لدرجة أننا نريد إبادتها ومعتقدات غامضة ومعقدة تتقاتل فيما بينها في الخيال والعالم الافتراضي.
نؤكد على هذا الأمر أو ذلك، على أني فلان ابن فلان وانتمي إلى العائلة الفلانية منذ منشأ هذه السلالة، أي منذ أمد طويل، منذ بداية التاريخ البشري، فلطالما كان هنالك فلان وفلانة آخرين قبلنا. ونؤكِد أيضا على امتلاكنا لكافة القيم والشَّمائل لهذه العائلة بكل قوتها وعنفوانها، فأنا فرد أصيل منها وأحمل هويتها وأضع نفسي بلا تردد
في مقام أعلى من الآخرين المحيطين بي، ممن يجرؤون على الادعاء أنهم أقراني، أو ممن لا يلبسون مثلي ولا يفهمون لغتي ويجهلون ثقافتي ولا يعبدون إلهي أو آلهتي. فكلنا يستهوينا أن نكون هذا “الفلان”.
وهنا أتوق قليلا عند كلمة “هوية” التي راج استخدامها وتحليلها، خبط عشواء، منذ فترة قريبة، فأصلها من الكلمة اللاتينية ” idem ” أي “المثل”، وعليه فإن هويتي تعني ما يجعلني شبيها أو مماثلا لآخرى ( واللفظ بالعربية من الهو – الآخر أيضا ) .
غير أننا نجد مكتوبا على بطاقة الهوية فقرة “العلامات المميزة “، فهويتي هي ما تميِزني عن الآخرين وتجعلني أنا بذاتي فردا متميزا، فالهوية إذن هي ما يجمعنا وما يميِزنا في آن واحد، وبالتالي فهذه الكلمة لم يعدْ لها معنى.
يروى أن كونفشيوس سئل عن أول قرار سيتخذه لو منح كافة السلطات بيده، فأجاب قائلا “سوف أجمع كل الأشخاص من ذوي الاختصاص لكي نتفق على تعري معاني الكلمات، ونخصِص لذلك كل الوقت اللازم”.
وإذا ما اتبعنا هذ النصيحة القيمة، فينبغي البدء بفحص معنى كلمة “هوية”، وإعطاءها كل الوقت اللازم.
فأنا أمثِل كياني أنا بالطبع، وأظهر نفسي وأتكلم وألبس بطريقتي وكينونتي، ومع ذلك فإني، على غرار الخلق جميعا، فردا آخرا، أيا كانت قبعتي أو حجابي أو لحيتي أو الشَّارة التي أعلقها على صدري (طوعا لا كرها)، بل أنا عدة أفراد آخرين في كيان واحد، وهؤلاء الأفراد قد يتوافقون أو يتصارعون وقد يصطلحون فيتواءمون أو يختصمون فيتقاتلون.
وبالتالي فلا شك عندي أن في كياني جزء من العروبة وفي كيان كل منا، وبما في ذلك المجاهرين بكرههم للعرب ومحاربتهم حتما . حتى اللغة الفرنسية تضم في داخلها مئات من الكلمات ذات الأصول العربية الشهيرة كالصفر والجبر والبرتقال والقطن والجيتار والباذنجان وحتى كلمة حريم على ما أظن.
وهكذا قد نجد أنفسنا أحيانا نتكلم العربية دون أن نشعر، أو نأكل أو نفكر بالطريقة العربية.
ولعلنا نسينا أو لم نلاحظ أصلا أن من أكثر الكلمات شيوعا في القران الكريم “الرحيم” التي تستخدم في الأساس كاسم من أسماء الله الحسنى ، وقد قيل، لا سيما على لسان ابن عربي، أن الجهل أشد الأعداء نكاية بالإنسان ، وبالتالي لو نقبنا في أصولنا العربية جيدا لوجدنا فيها تذوقنا للنشوة وحاجتنا للصفح ، ذلك العفو الذي يرق لحال المصفوح عنه ويرفع من قدر المسامح ، وسنجد أيضا فينا الإعجاب بالكلام والكتابة و الشغف بالدراسة والاحتياج للشعر والميل للصحراء ، وفي كل الأشياء التي نجدها فينا لا ننسى سمة الجمال .
من العبث دراسة الحضارات ابتغاء انتقادها والندم عليها أو لعنها فهي جزء من الا ندرك كنهه المخفي في وجداننا والعصي على البوح . فبالطبع أنا أكون ذاتي وما أظنه وما اعتقاده ولكني أيضا أكون غير ذاتي وما لم أكنه من قبل وما لا أرغب فيه وما أرفض أن أكونه. فأنا مكون من ذكرياتي ومن سيآتي ومنبوذاتي، فأنا انعكاس لأصداء عتيقة، قد يكون بعضها متناقض، لكني أعمل على استمراريتها على غير دراية مني. ومع احترامي للشاعر بول فاليري لكني أقول إنه ليس من حضارة تموت.
ولعله يمكننا من هذا المنظور تأويل فكرة منع التصاوير البشرية في الأعراف الإسلامية والعربية خصوصا، والتي لطالما استرعت انتباهنا، علما بأن القران لم ينص على تحريمها ولا الأحاديث. فاستنادا إلى تصوري المعروض آنفا نجد أنه من غير الممكن حق ا أن يجسِد الإنسان ذاته، فإذا أمعنا النظر في الإنسان نراه شديد التعقيد والتشابك والتداخل والنفور، ولو أضفينا عليه شكلا محددا أو عينا أو حركة أو سلاحا أو ثوبا أو حتى قولناه كلاما ، فإنه يصبح مجرد حكاية عابرة كالصورة الشاردة أو الظل المتحرك على الأرض الذي يستعصي علينا إيقافه وتثبيته.
أليس من الأجدر، والحال هكذا، نسيانه والعزوف عن فكرة تجسيده في هيئة ستكون لا محالة كاذبة أو زائفة، وفي كل الأحوال مؤقتة وعابرة ، وغير دقيقة، ولا تكاد تعكس سوى المظهر.
سرعان ما يمحو الوقت آثارها، فالزمن منافسنا اللدود، وكلنا نتجه جزافا صوب الغابة، على خطى عقلة الأصبع في الحكاية المعروفة، تاركين وراءنا معالم سيحرص الآخرون من بعدنا على تقفيها وتجميعها أو تدميرها.
كل حضارة معركة ضد الزمان، كما يقال، وذلك لأن الحضارة تخشى اندثارها وهو لا محالة واقع به، ولأنها تخلِف وراءها آلاف الآثار في الأماكن التي مرت من خلالها، أم لا منها أن تنجو بعضها من عبث الذئاب التي تجوب الغابة.
لقد حلمت الحضارة العربية كبقية الحضارات بالخلود .لكنها لم تنل مرادها في المكان الذي بحثت عن خلودها فيه أول الأمر ، وهو التفوق الحربي والدعوة الغالبة، بقدر ما فرضت ذاتها بطريقة أسمى وأبقى ،، في الأشكال الكتابية التي اختارتها ، وفي ثنايا الخطوط العربية وتشابكاتها التي تعكس خفة اليد وحركة الفكر ، بل وتألق الروح، وهذا ما يعد بالفعل أكثر مرايانا صدقا وحميمية .
محاضرة ألقيت بالمعهد في شهر مايو 2017 .
جون كلود كاريير ترجمة: جساس أنعم *جون كلود كاريير ترجمة: جساس أنعم * مراجعة وإشراف: معجب الزهراني * *