حسام المقدم
في هذه المدينة الكبيرة، عندما تستوقِف أحدهم، وتحكي له عن زمنٍ كان فيه بَشَرٌ مُهدَّدُون في أعزّ ما لديهم؛ فإنّه لن يُصدِّقكَ. هذا جِيل يتفاخَر بِفُحُولَته.
**
كُلُّ شيء يبدأ بِخاطر مُلِحّ.
والخاطر قد يكون غائمًا، ومع الوقت يتحوّل إلى هاجس.
رجل يجلس على قاعدة الحَمّام، مثل باقي الخَلْق. يفكّر في مخالب كائن غامض يختبئ تحته في العُمق المظلم، مخالب ستمتَدّ وتَهبِش خِصيَتيه بسهولة تفوق قَطف حبّتين من العنب! لا يتركه الهاجِس إلا وهو يَضُمّ فخذيه ويُضيِّق بينهما، يمدُّ يده مُتحسّسًا الكُرتين المُدلّاتين، يظلُّ يحتويهما بين أصابعه حتّى ينتهي من قضاء حاجته. لا يُغادرُه وسواس المنظر البَشِع للكِيس اللحْمِي بعد نزع الكُرتين، وكيف يبدو مُدَمَّمًا مَعصورا مثل قُماشَة مكرمَشة.
في السّابق كان الموضوع كله يتبخّر من دماغه بعد خروجه من الحَمّام، لا يخطر على باله إلا مع الدّخول التالي والجلوس في نفس المكان. هذه الأيام أصبح يتذكّر كثيرا المخالب والكلّابات التي ستُجَرده من كل شيء. ناوَشَته أسئلة راحت تَتشعَّب:
مَن سيفرح لما يحدث لِي؟
مَن يتمنَّى قَتْلي بدَمٍ بارد؟
يُفكّر أنّ الموضوع لا يتعدّى الهَلاوس الشّخصية، وهو بطبعه ميَّال إلى الاسترسال في أحلام اليقظة وكوابيسها. رغم ذلك لا يتركه وسواس قاهر، يظلّ ينخُر في ذهنه، فينبسط أمام عينيه شَريط طويل، تتوالى مشاهده من قراءاته القديمة في الموضوعات الحَرَّاقة. يرى صُور الخِصْيان، الطَّواشِيَّة الوادعين في قُصور الملوك، يدخلون ويخرجون، ويمرُّون بمخادع الحَريم كأنّهم هواء. خِصيان سُود وبِيض، السُّود بالأخَصّ هم الأكثر سلاما بعد أن نُزِعَت خِصياتهم وأعضاؤهم الذَّكريّة، وعليهم أن يتبوّلوا باستعمال أُنبوبة مأخوذة من رِيش طائر! أما البِيض فأكثر حظا بِفُقدان خِصياتهم فقط، وعندهم بقايا أمل في رغبة لم تمُتْ بالكامل.
يضحك حين يتذكر “كافور الإخشيدي”، ذلك العبد الذي وصل إلى العَرش. يعرف أنه هو “الأسود المَخصِيّ” الذي قصده الشاعر في هِجاء شهير، هذا يعني أن “كافور” كان من المُسالمين المأمونين تماما! في المقابل يتعَجّبُ حين يمرّ بخاطره “بهاء الدين قَراقُوش”، وزير “صلاح الدين الأيوبي” ونائبه ورجُله القَوي في الحُكم، والذي يَرِد اسمه في المَثَل المعروف الدّال على الشِّدة والسَّطوَة، “قَراقُوش” هذا في إمكانه أن يرفع إصبعه في عين “كافور” ويفخر بأنه من الخِصيان البِيض! لا ينسى الطَّوَاشِّي “صُبيح”، الخادم الأمين على الأسير غالي الثّمن، ملك فرنسا “لويس التاسع”، في دار ابن لُقمان بمدينة المنصورة.
يسرح مع خواطره غير المأمونة. مُنذ فترة قريبة، قرأ على النِّت أنهم أصبحوا يُطبّقون الإخصاء الكيماوي دون جراحة، كعُقوبة قانونيّة ضد اغتصاب الأطفال في روسيا وبعض الدّول. ظلّ ليلتين يرى الكابوس: تمَّ اتهامه وحُكِم عليه بتنفيذ العُقوبة، وها هو مُحتَجَز في مكانٍ ما، يتناول دواء عاديّا كل يوم، ولمُدّة مُعيّنة. في النهاية يُحس بنفسه عاد بريئًا نقيًّا، وأصبح مُستحِقًّا للخُلود في عالم الأطهار، مثل إخوانه الطَّواشِيّة القُدماء، الهائمين في أجنحة الحَرَمْلِك. يصحو مفزوعا، يتحسس جسده ويتفاجَأ بالاكتمال، فيُتَمتِم بالحمد والشكر. مع ذلك يبقى غير مطمئن، يشعر وكأنّ نفَقَا مجهولا يتسع فمه المظلم ويستعدّ لابتلاعه.
**
جِلسَة العُميان..
وحين يجلس الأعمى على كُرسي؛ ينكمِش ويضمّ ساقيه، ويُشبّك كَفّيه فوقهما، مع رأس وكَتفين في نُزُول للأمام قليلا. سبعة أو ثمانية، من حوالي عشرة يجلسون على المقهى، كانوا في تلك الهيئة، مع أنهم ليسوا عُميانا. ظاهرة غريبة ابتدأت تلفت نظره، وتلعب بأعصاب جهاز الملاحظة والتّدقيق عنده، جهاز يملك عينين، وأعصاب مشدودة بشكل دائم. ضحك لمنظرهم: “أحبابي.. تخافون من المخالب والخطاطيف التي ستقطِف أماكِنكم الحسّاسَة”. فكَّرَ أن هؤلاء أسوأ حالا منه، على الأقل هو يحتاط فوق قاعدة الحمَّام، وهم على ما يبدو يُلازمهم الرُّعب في كل مكان. تذكَّرَ زُملاءه في المكتب، صاروا يجلسون في الأيام الأخيرة واضعين رِجلًا على رِجل، مُصَدِّرين أحذيتهم المُتهالكة. لاحظَ ذلك ولم يُعلّق بشيء، تركهم لخوفهم الكبير غير المُعلَن. أدركَ أن الدائرة تكبُر، لم يعد الأمر يتعلّق بهلاوسه الشخصية.
هذه المرّة فتح عينيه ذاهلا، حين رأى الشارع المُتضامِن.
بَشَر يمشون كالبطريق، بسيقان مُتلاصقة وأقدام تتحرّك في خُطوات زاحفة، ودائما تتعامد الكفَّان فوق نفس المكان المُقدّس. على الفور انضمَّ إليهم، تاه في وسطهم، وحين أوشك لسانه على النُّطق؛ غابت الكلمات في قلب هذا الذّوبان الكامل. بجواره رجل بدين يترجرج في نقلاته القصيرة اللاهثة، وفي الأمام شاب طويل يتظاهر بالشّموخ وعُلو الأنف. الشارع كله ممتلئ برجال بَطْريق يسيرون بِجِدِّيَّة صارمة. عرفَ سِر قلقِه الكبير في الفترة الأخيرة، كل شيء أصبح واضحا: الكارثة المُنتظَرة وصلت إلى مدى يقترب من العُموميّة.
**
رأى أنّه يحتاج إلى عينين جديدتين، تريان الأمور بشكل أعمق.
كل الاحتمالات أصبحت مُمكنة الحدوث.
لابد من بحث، توفير مادة تُساهم في حصر الظاهرة واستيعابها. قرأ عن أزمنة امتدت منذ مملكة الآشوريين في القرون البعيدة قبل الميلاد، وكيف كان الرجل منهم، ينتقم لشَرفه، وِفْقًا لشرائعهم، بإخصاء مَن وجده في السرير مع زوجته. عرفَ أن الفُرس بعد ذلك ابتدعوا استيراد الغِلمان الخِصيان لتوظيفهم في البلاط. نفس الشيء حدث في قصور أباطرة الصين، التي تميّزَ الطَّواشِيّة فيها بأنهم طوال حياتهم يحتفظون بأعضائهم المقطوعة في برطمانات موضوعة على رَفّ، ويُوصُون بأن تُدفَن معهم. أما الإمبراطورية البيزنطية في فترة معينة فكانت تُخصّص ثمانية من المناصب العُليا لرجال خِصيان، وهذا دفع البعض إلى إخصاء أبنائهم طَمَعًا في الوصول!
كاد رأسه ينفجر، يُوشك على التسليم بأنه يُعذّب نفسه.
لم يتخيل أن يرسو على شاطئ، في قلب هذا البحر من التواريخ والممالك والأُمَم. وفي الليلة التي قرّرَ أن تكون آخر المطاف في البحث؛ فُوجِئ بأنّ كلّ شيء موجود تحت عينيه، الرؤية عن يَمينه وهو أعمى. لم يتخيّل أنّ ما كتبَه “الجاحظ” سيَفُوق كلّ ما قرأ، ويكون له الأثَر الأعظم:
“هَديَّة الخَصِي كهَديّة الثَّوبِ والعِطر والدَّابَّة والفاكِهة”.
“أخلاقُه مُقسّمة بين أخلاق النّساء وأخلاق الصِّبْيان”.
“سريعُ الدّمعة والغضب، يُحب النّميمة ولا يُستأمَن على سِرّ، ويبولُ في الفِراش”.
“مع الرِّجال امرأة، ومع النّساء رَجُل”.
“ليس بِرَجُلٍ ولا امرأة”.
“يُعمِّر أكثرَ من الفُحُول… كذلك طُول أعمار البِغال لقِلَّة النَّزو.. وقِلَّة أعمار العصافير لكثرة سِفادها”.
“يُباشِرُ النِّساء بِمَشقَّة”.. ومن الجائز أن تميل إليه المرأة “لأنّ أَمْرَه أَسْتَر وعاقِبته أَسْلَم، وتحرص عليه لأنّه ممنوعٌ منها، ولأنّ ذلك حرامٌ عليها”. كما أنها تفعل معه ما يحلو لها.. “فأمكَنَها النَّخِير والصِّياح، وأن تكون مَرَّة من فوق ومَرّة من أسفل، وسمحتْ النّفسُ بمَكنُونِها وأظهَرتْ أقصَى ما عِندها”.
“الإنسانُ إذا خُصِي طالَ عَظْمُه وعَرُض فخالفَ أيضًا جميع الحَيوان”.
“ويَعُمُّ أيضًا خُبثُ العَرَقِ سائِر جَسده، ولهم رائحة لا تكونُ لغيرِهم”.
**
أوشكَتْ مَعِدَته أن تَطرُشَ ما فيها.
يومان كاملان، بعد هذا الفزَع المعرفيّ، وهو في حالة قَرف. رِيقُه جاف، يأكُل بالكاد، يتوه فِكره في ضَباب وحرائق ووجوه مُغبَّشَة. ينفجر في صمت: هؤلاء الزّاحفون إلى أعمالهم من الصباح إلى المساء لا يعلمون ما يتربَّص بهم عند النّواصي وفي الأزقَّة وتحت الأنفاق. يغيم وجهُه مع خاطر: إننا في الطريق إلى المنطقة الوسطَى الرّمادية.. “مع الرِّجال امرأة، ومع النّساء رجُل”، تلك الحالة الخبيثة التي استوطَنتْ في دمائنا، دون أي قُدرة على الحَزْمِ بترجيج كفَّة على كفّة.. منطقة بين الأبيض والأسود، الشَّرقي والغربي، المَدَني والدِّيني، العربي والأعجمي..
أول شيء فعله هو شراؤه لقُماش أبيض، ثم اتِّفاقه مع خَطّاط على كتابة لافِتة تسطع كلماتها بالأحمر الثقيل: “ليس بِرَجُلٍ ولا امرأة”. في الفجر الصّافي، الخالي من الطُّيور البَشريّة؛ علَّقَ اللافتة الغريبة فوق كُشك السجائر الصغير المُواجه لمحطة القطار. ربما قرأها حتى شروق الشمس خمسة، عشرة، خمسون، والمُؤكد لم يبلغوا المائة لأن صاحب المكان العجوز نزَعَها، بعد إشارات ساخِرة مُستفسِرة: ما هذا يا عَم؟ ليس برجل ولا امرأة؟ ماذا يكون إذن؟! سمعَ كل شيء، وحاشَ نفسه في آخر لحظة عن التّدخُل، بعد أن رأى تمزيق الكلمات الحمراء تحت الأقدام. مشى عاضَّا بقوة على شَفَته.. كيف لم يَفك الشّفرة البسيطة واحد منهم، مجرد واحد؟ في البداية لابد أن يعرفوا عَدوّهم صاحب الألف وجه، لا أن يخافوا، ويكتفوا بالحِماية الساذَجة لِما بين أفخاذهم. في الليل تخَيَّل لافِتة بديلة مكتوبة بالأزرق، ومرفوعة فوق المدخل الرئيس لحديقة الحَيوان في العاصمة. هذه المرَّة كلمات لا تحتمل المُوارَبة: “الإنسانُ إذا خُصِي طالَ عَظْمُه وعَرُض فخالفَ أيضًا جميع الحَيوان..”. في الصباح تجسَّدَ خيال الليل في اثنين من الشّباب يقفان في مواجهة لافتته، يتمعَّنان بشِفاه مزمومة. اقترب منهما مُشيرا نحو الكلمات:
“ما معنى هذا الكلام العجيب؟”
“معناه أن الحيوانات الكثيرة التي في الحديقة ستنظر إلينا في شَفقَة”.
تَأمَّلَ وجهَ الشّاب النحيل، في إعجاب ودهشة. عيناه مُرهَقتان تحت نظّارة خفيفة. كلماتُه جاءت في الصّميم. نظرَ إلى زميله.. شَعرُه عالٍ منفوش مثل كُرنبة سوداء. انسحبَ عنهما. أخذ نَفَسًا إلى أعماقه، ثم أخرجه في زَفرة واحدة. ابتسم بعينين ساطعتين. زاد عدد الواقفين إلى عشرة تقريبا. هناك بنات ونساء اقترَبنَ في حَذر. هتف في فرحٍ حار: رائع جدا.
لم يمض سوى يوم واحد، حتى جاءت المُفاجأة بأسرع مما تَوقَّع. واجَهَتْ اللافتةُ عددا كبيرا من التليفونات المحمولة، التي التقطت كاميراتها صُورا ساطعة. وبعد أقل من ساعة على نشر الصور والتعليقات والنُّكات على الفيس بوك وتويتر؛ عرفَ رجال البطريق أن الوضع صار مكشوفا لدرجة لا تُحتمَل. شَبَّت النار في الهَشيم. توالَت اللافتات في الأيام اللاحقة، لدرجة أن المدينة صارت معرضا مفتوحا لمستطيلات القُماش الأبيض، المصلوبة على أشجار الحدائق وأعمدة الكهرباء وواجهات البنايات العالية. حدث ذلك، وبالمصادفة البحتة، في بداية مَوسم الانتخابات التّشريعيّة، فكانت النتيجة أن بَدتْ لافتات المُرشَّحِين للبرلمان هزيلة، ومُبتَلَعَة في جَوف اللافتات المُتكاثرة بِسرعة عفريتية. تدخّلَ رجال المَحليَّات، وقاموا، مع أجهِزة أخرى، بمجهودات مُضنيَة لإزالة هذا الوباء السَّرطاني من جسد المدينة الكبيرة والمدن الأخرى. واصَلوا بكل قوة وعَتاد، كأنّهم يَبقُرون بُطون الأمهات بشكل عدائي مُمَنهج، لكن مع الوقت يكتشفون أن جميع النساء حوامل! اللافتات اللعينة تتناسَل. أصبح مألوفا في الرُّوتين اليومي أن يلتقي اثنان أو ثلاثة في الشارع أو على القهوة، أو أن يقعد رجل في بيته وسط عياله، لتمرير وترديد المكتوب على لافتة جديدة:
“كذلك طُول أعمار البِغال..”.
“ليس بِرَجُل ولا امرأة”.
كثيرون حفظوا هذه الكلمات، التي بَدت أول الأمر بعيدة زمنيّا ولُغويّا. اعتادوا مع الوقت على نُطقها وتفنيد مُحتواها بفضل الشّارحين الرائعين، الذين انبَثُّوا في تجمُّعات الأسواق الشّعبيّة ومداخل محطات المترو، وبجوار عربات الفول في أول النهار. قالوا كلاما صغيرًا وكبيرًا:
– بعد أن نُصبح من الخِصيان، سيكون مصير بعضنا أن يُبَاع إلى ناس من بلدنا، ناس مُحصّنين جيدا ضد ما أصابنا. هؤلاء سيُسلّموننا إلى آخرين في الخارج، يملكون شركات كبرى لها فُروع في قارّات العالم.
– سيأتي السُّيّاح بأعداد غير مألوفة. تَتدفق العُملات الأجنبيّة بلا حساب. سنعمل نحن على تأمينهم والإشراف على مزاجهم. نساؤنا أيضا سيُساهِمنَ بأكبر نصيب في إنعاش السّياحة، لأن القادمين من البلاد البعيدة يعرفون أننا تركنا نهائيا مَهَامّنا الزّوجيّة.
– من الوارد أن تأخُذكَ مجموعة من النساء المُرفّهات زوجات المُحصَّنين، اللاتي يُعانينَ من الفراغ والمَلل، ليُقِمنَ حَفلا على شَرَفك، ويُمارِسنَ طقوس التّعرِّي الضاحك والإثارة أمام وجهك المُسوَد عَجزًا.
**
مالت الآذان لسَماع المزيد. رأى زُملاءه في المكتب، جيرانه المُوظّفين، طلبة الثانوي والجامعة. تكاثروا على الأسوار المنخفضة، وتحت المظلات الخشبيّة والمقاعد الأسمنتية في الميادين. بين أيديهم سَندويتشات دافئة تضم أقراص الطعميّة وأعواد الجرجير زاهية الخُضرة. جاءت أكياس تحمل عُلب الكُشَري بالتَّحبيشَة والصّلصة. أكلت الأفواه بشَهيّة جماعية مفتوحة. ارتفعت لافتات تُحذِّر، وأخرى تُبشِّر. جَرت كُرات النار بسرعة. تصادَمت مجموعات وقُوَى. خرجت التّظاهرات التلقائية، والأخرى سابقة التّجهيز مدفوعة الأَجْر. عَلا صوت التّحريض من البعض. عَمَّ الغليان بعض المناطق والشوارع، وسِيقَ كثيرون إلى الغياب والظلام. أصبح مؤكدا أنّ اللافتات فرضتْ أمرا واقِعا. هناك دعوات ومبادرات مطروحة للتّهدئة، مصحوبة بوُعود مُبشّرة تَتعهَّد بعدم الرّجوع إلى الخلف. لم يظهر صوت واحد للذين ذُكِرت أسماؤهم وأفعالهم على الألسنة.. أصحاب الأغذية المُسرطَنة، وسماسِرة الأدوية. أما الذين انسحبوا إلى الحِياد؛ فقد ظهروا في ذُروة المسيرات والأحداث يُطلّون من البلكونات والشّبابيك يُلوّحون ويُصفِّرون.
في ليال تالية، وسط هدوء نسبي، كانت مجموعات الشباب تجوب الشوارع لتمشيط وجه المدينة المُنهَكة. أزالوا أطنانا من الأدران والنّفايات والحواجز المنصوبة. النّهر العجوز هو الآخر كان مُتعَبا، اكتفى بأن بعثَ النسائم المُندّاة إلى رئات المدينة، فتنفّستْ وبدأت تتنهَّد.
انتظر الجميع صباحا تاريخيا، صباحا صَحتْ فيه المدينة الكبيرة على هدوء نادر، صفاء ما بعد العاصفة، حين أعلنت السُّلطات عن تفكيك واعتقال خلايا محلية وأجنبية كانت تُخطّط لأعمال خبيثة. جرى إلغاء الطوارئ، وإصدار عفو شامل عن المتظاهرين. عمَّ الفرح أنحاء البلاد. امتلأت السماء بشرائط نجوم ملونة، تتفجَّر بصخب بهيج. على المقاهي جلس الجميع بِظُهُور مفرودة وسيقان مُنفرجة. لا وجود لبَشَر البطريق في الشوارع، التي امتلأتْ بآخرين تسارَعتْ أرجُلهم وانسابتْ أذرعهم، في حيوية وفُحُولة.