جاسم الطارشي
باحث عُماني
صدّرت الكاتبة نصوص ظلها الذي سقط على جدار القراءة والتلقي بأسْطُرٍ مكثّفة، مثّلت برأينا عتبة نصية كاشفة لأحد وجوه تلقيه وقراءته عندما كتبت:
« الذاكرةُ حقل ألغام!
فاحترس وأنت تقلّب محتويات هذا الصندوق،
لأني لا أضمنُ لك سلامةَ الخروج.»1
تتضمن، هذه الأسطر، كما يتضح، تحذيرًا للقارئ، بأن يحترس وهو يتنقل بين صفحات هذا الكتاب الملّغم بشظايا الذاكرة، كي يغادرهُ سالما، ولكنّه ما إن يشرع في الدخول إلى عوالم هذا الحقل حتى تتفجر ألغامُه أحلامَ يقظة تتصاعد من حوله بيضاء شفيفة، ترحل به إلى عوالم طفولته؛ فيستحيل الظلّ ظلالا يلاحقها القارئ مستعينا بأحلام يقظته، وتوهّج ذاكرته، يحاول من خلالهما – الأحلام والذاكرة- استعادة ما توارى من مشاهد ومعانٍ ما تفتأ تتجدّد وتتضح مع كل قراءة. «تشكّل القراءة تبعا لذلك، أحد السبل لاستعادة المختطف في المعنى، لا ادعاء امتلاكه، بل لتأمين نسبته إلى العتمات المضيئة. عتمات الظلال تضمن للمعنى أن يبقى ويدوم، كلما احتفظت الظلال بحركتها».2
ولمّا كان التصدير إحدى العتبات التي يدلف من خلالها القارئ إلى عوالم النصوص، فإننا ننطلق منه لمقاربة جماليات نصوص هذا الكتاب بهدف الكشف عن سرّ حيوية تلقيها؛ إذ تتجلّى العتبات بوصفها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقي، القارئ، وتشحنه بالدفعة الزاخرة وبروح الولوج إلى أعماقه»3.
تنطلق هذه المقاربة من افتراض مفاده: أنّ جمالية هذه النصوص تتأتّى من إيقاظها أو تحفيزها لأحلام يقظة القارئ وهو يهيم شاردًا سادرًا في ملكوت ذاكرته بعد أن يشتبك مع عوالمها وفوائض دلالاتها المترعة بالشجن والطافحة بالشكوى من عوادي الزمن.
«ويُفهم من ذلك أننا لكي نضمن لذكريات الطفولة البقاء والدوام، ينبغي استعادتها على نحو جديد بحيث تبدو كوجود جديد، أو كحياة جديدة تتولد مع ميلاد الخيال الذي يكفل لتلك الذكريات- عند استعادتها حياتها وتجددها؛ إذ يستخرج تلك الذكريات بوصفها صورة متخيلة في حلم يقظة: فالذاكرة تحلم، وحلم اليقظة يتذكر»4.
تستفيد مقاربتنا لجماليات تلقي نصوص كتاب «ظلّ يسقط على الجدار» من النظرية التأويلية للفيلسوف الفرنسي (جاستون باشلار) التي «عُنيت بالخيال الإنساني وملكاته، والصور التي قدّمتها التجارب الفنيّة بوصفها صورا لأحلام اليقظة نُسجت في نصوص شعرية أو نثرية أو مواقف فنيّة حالمة، عبر صياغات علاماتيّة دالة تُثوِّرُ خيال القارئ فتُسهِم في صناعة أنطولوجيا ذاته الحالمة، عبر ربطه بما حملته ذاكرته من تجارب»5 دون أن تدعّي هذه المقاربة تمثُّل ما جاءت به نظرية باشلار، من تصورات، تاركة لنفسها حرية التحرك في فضاء القراءة والجري وراء ظلال نصوص الكتاب، مستعينة أحيانا بما تضمّنته نصوصه من إشارات وعتبات تسهم في توجيه القراءة، وتدفعها إلى زاويا أكثر إضاءة.
فالقارئ (الأنا) وفقا لهذا التصورّ يعيد اكتشاف ذاته عبر الكاتب (الآخر) كما أنّ الذات الكاتبة تتمظهر في الآخر القارئ تمظهرًا مرآويا “فالتلقي ليس استقبالًا موجهًا من خارج إلى داخل، بل إحالة متبادلة، تتحدد القراءة ضمنها باعتبارها فهمًا مزدوجًا، إنها محاولة للتعرف على مضمون النص أولًا، ورغبة في العودة إلى دواخل القارئ ثانيًا، فإن تعرف الآخر معناه أن تتعرف على نفسك في المقام الأول».6
إنّ الحاجة إلى آخر تتمظهر فيه الذات الكاتبة، يحضر في أول نصوص الكتاب الذي حمل عنوان «الفتاة في المرآة”، نقتطف منه هذه الأسطر الدّالة:
«وجود الفتاة الأخرى كان يمنحني شعورًا بالمشاركة، وأنّ هناك من يتلقى ما أفعله بمجرد وقوفي أمام المرآة، وإن بدا نسخة مطابقة تردد ما أفعله أو أنطق به وتعيده بتكرار مطابق، غير أن وجوده مستقلًّا كآخر كان يثير فيَّ كوامن التحدي، والإحساس بمعنى أن تقف أمام أحدهم وتصدر شيئًا؛ حركة أو رقصة أو حتى تأملًا في عينيه. أما والحال أنني وهي الشخص نفسه، فقد أسقطني ذلك في دائرة مغلقة جعلتني وحيدة مع صورتي بشكل مثير للشفقة»7.
إنّ هذه الدائرة الضيقة التي حضر فيها الآخر، على إلحاح الحاجة إليه، إذ جاءت مرتبطة بالذات الكاتبة وصورة أخرى لها انعكست على مرآة الكتابة، سرعان ما اتسعت في موضع آخر من النص لتكون المرآة جسرا للوصول إلى الأنا الأخرى، الآخر المختلف المؤتلف؛ تقول: «الأمر، بالنسبة لي، لم يكن تأملا في الجمال، بقدر ما هو رغبة في إيجاد الشخص المغاير، ذلك الشخص الذي من خلاله تتحدّد الأنا من دون أن تكون هي نفسها، وإن بدت مطابقة لها تماما8.» لتتوّج قضية حضور الآخر في الوصول إلى الآخر(القارئ) في نهاية النص: «فارتأيت أن يكون هذا الكتاب هو تلك النافذة التي يطل منها قارئ أو اثنان على حكايات الفتاة في المرآة، والنصوص التي ولدت في الغرفة التي تخصني وحدي، على أمل أن يجد فيه ما يشبه شيئًا مر به في حياته، وقد يقول: هذه مرايانا! أليست المرايا جمع تكسير، وتكفي القطعة منها لتعطي صورة كاملة عن وجه حاملها»9.
فهل تكون نصوص هذا الكتاب، وفقا لذلك، شظايا لمرآة الطفولة حَطَمَها الزمن وأعادت الكاتبة سبكها من جديد بميسم الذاكرة؛ فأصبحت صقيلة تشعّ فيها صور طفولة القارئ؟!
إنّ مركزية الذاكرة ودورها الحيوي في خلق هذا التواصل بين الذاتين: الكاتبة والقارئة، صرّحت به الكاتبة في نص «ذكرى ميلادي الأخضر» عندما قالت: «تواريخ ميلادنا شيء لا يعنينا طالما غاب عن الذاكرة، وكل ما لا يرتبط بذاكرتنا ليس مهمًّا أن نعرفه، إنه شيء قبل الذاكرة تحديدا»10، فارتباط الذاكرة بذكرى الولادة ما هو إلا وجه من وجوه إعادة خلقها وبثّها صورًا حيّة في وجدان الكاتب ومخيلة القارئ معا.
فالذاكرة وفقا لهذا التحيّز «ليست كرونولوجية. أي متسلسلة زمنيًّا. إنها لا تقدم تاريخًا متواصلًا، بل شظايا مبعثرة من هذا التاريخ. فالتذكر هو اقتطاع، انتقاء لحدث ما أو صورة ما أو وجه ما، ثم انتزاعه من سياقه الزمني والمكاني، أي عزله عن محيطه، بتركيز البؤرة عليه وحصره في مجال الرؤية»11، بذلك تكون الذاكرة، اعتمادا على هذا التصور، فعل خلق وإبداع لأحداث وصور ومواقف ماضوية سُلّط عليها الضوء وحدها دون غيرها «ليس فقط بسبب طبيعة التشظي واستحالة التحكم، وتركيز البؤرة على أجزاء صغيرة من حدث ما، إنّما أيضًا لأن الذاكرة، عندما تستعيد أو تستحضر الأشخاص والأمكنة، فإنها تخلقهم من جديد عبر نظرة جديدة وطرية. الذاكرة، من هذا المنطلق، إعادة خلق -عاطفيًّا ونفسيًّا وبصريًّا- العالم ينتسب إلى الماضي. وعبر هذه العملية، نقوم بامتصاص ذلك العالم داخل ذات ترى ما تريد أن تراه»12.
إنّ حضور الذاكرة والإشارة إلى دورها الحيوي في تشكيل نصوص الكتاب وإشعال يقظة القارئ، لم يقتصر على النصّ السابق، بل ألحّت عليه نصوص أخرى، وأضاءت ليل قراءتها عتبات فرعية أيضا مثل: عتبة القسم الثاني من الكتاب الذي جاءت بعنوان دالّ «أرواحٌ صَنعتْ ذاكرتي»، حيث توقفت الكاتبة في نصوص هذا القسم مع بعض الشخصيات التي أسهمت في صنع ذاكرتها الوجدانية وأغنت نصوصها بفائض دلالتها، بل استحالت «وشومَ أرواحٍ فاضت محبّة» على حد قولها. ويأتي عنوان نصّ «ذاكرة الملتقى الأدبي وساق البامبو» عتبة كاشفة لانشغال نصوص هذا الكتاب بالذاكرة وما جادت به من فيض وجداني وكرم دلاليّ.
بعد هذه العتبات التي رصدنا من خلالها حضور الذاكرة في نصوص الكتاب، تأتي نصوصه الأخرى لتشهد حضورًا خاصًّا للذاكرة، تفرّد بالإشارة المباشرة إليها وبيان دورها الوجدانيّ والجمالي؛ فهذا نصّ “دخان الكويت» يتضمّن إشارة تبرز دور الذاكرة في التأريخ لوعي الذات الكاتبة من خلال ربط الأحداث السياسية بالموضة حيث جاء فيه: «فهمت أن صدام غزا الكويت، وتابعت الأخبار مع عائلتي قسرًا دون أن أفهم جلّ ما يدور أو يقال. ولكني أذكر أن نوعًا من الأقمشة وجد طريقه إلى الأسواق من رحم الحدث. أخذ القماش اسم -دخان الكويت-، ولا يزال شكله وألوانه وملمسه مدموغًا بذاكرتي؛ كان مزيجًا من المخمل والقطن، وألوانه لا تبرح الرمادي والأسود، وإن غادرتهما فإلى تدرجات أخرى لا تفارق الدكنة. كانت المرة الأولى التي حفظت فيها ارتباط الموضة بالسياسة»13.
ودور الذاكرة في إغناء التفاصيل واستعادتها في صورة حيّة نجده مجسّدا في نصّ «من دخل غرفتها فهو آمن» حيث جاء فيه قول الكاتبة: «أشفق على أمي أسما من حدة ذاكرتها التي تحرص في كل مرة على إضافة تفاصيل جديدة للأشياء والأسماء والمواقف، وكأنها تريد أن تثبت للحياة أنها لن تقدر على سلبها تفاصيل من أحبتهم وغادروها. ومن كرم تلك الذاكرة ترفعها عن العتب، فتخيط العذر لمن يستحقه ومن لا يستحقه بمقاس كرمها الواسع، وتسبغه على الجميع كما لو كان آخر ما باستطاعتها أن تمنحه للناس المنشغلين أبدًا في شؤونهم»14.
وقد حضرت الذاكرة في أغلب نصوص الكتاب منطلَقا لإعادة تأمل وفهم قضايا وإشكالات وجودية؛ كقضية الموت الغامضة التي تأملتها الكاتبة وكشفت عن وعيها بها عبر نصّين: الأوّل «قريبا من الموت»، والثاني «عَلْيَا»؛ إذ حضر الوعي بالموت وتأمله عبر الذاكرة في النص الأوّل من خلال الأسطر الآتية:
«بقي الموت في تصوري لغزًا؛ لا أعرفه، ولا أخافه، ولكني لا أملك إزاء جهلي به شيئًا. إنه حقيقة صارمة وكفى، لا تفسح مجالًا للنقاش أو الجدل! تجاوزت عجزي عن فهم الأشياء مع الوقت بالكتابة. أدوّن الغموض الذي يكتنف الأشياء من حولي، حتى تنجلي أو توشك، أو لا تنجلي أبدًا، ولكن الكتابة تبقيها في دائرة ضوء يوسع رقعة السؤال الذي يمثل أقصى درجات الحرية»15.
ومثّلت الذاكرة في النص الثاني وسيلة لرؤية الموت عبر مراياها المتشظية في الزمن، ولو بعد حين، تقول الكاتبة:
«لم أبك يومئذ، ولا في الأيام التي تلت ذلك. بكيت بعد انقضاء الإجازة الصيفية، عندما سألتني إحدى المعلمات في أول يوم دراسي أين عَلْيا؟ في تلك اللحظة فقط عرفت أنها ماتت، وبدأت معها حدادًا متأخرًا كان ينقصه الوقت اللازم للإدراك كم عشت معها؟ كم عرفتها؟ لست أدري. ليس لعَلْيا سوى صورتين اثنتين وربما ثلاث. غادرت ولها من العمر سبع سنوات، وعشتُ لأتذكر شذرات من حياة قصيرة لم تتسع لأكثر من اجتياز الصف الأول الابتدائي بتفوق»16.
إنّ وقفات التأمل هذه في مشكلة إنسانية أصيلة ومعضلة وجودية مؤرقة كالموت، تُبيّن دور الذاكرة في استعادة لحظات فارقة في الحياة، ودورها في تشكيل وعينا ووجودنا الحالي لأنّه «قد تكون هذه لحظة واحدة في الحياة كلها. وقد تكون لحظات تتكرر مرات في حياة آخرين، حين يختارون الالتفات قليلًا أو كثيرًا إلى الوراء، إلى الذي انقضى، وإلى الذي بلغوه، وهي وقفة تنم عن وعي وحس عال بالمسؤولية إزاء النفس وإزاء الحياة، حين لا يريد لها المرء أن تنفق كيفما اتفق، وإنما أن يجعل منها حياةً ذات جدوى، حياة متوهجة؛ لأن مثل هذه الوقفة هي التي نطلق فيها العنان لكل أفكارنا ومشاعرنا وهواجسنا كي نحررها من الضغوط والكوابح»17.
وحظيت الذات للذاكرة بحضورٌ خاص ومميّز في نصّ «التلصّص على حياة الآخرين» فقد جاءت فيه الكاتبة قارئة تسبح مع أحلام يقظتها التي حفزتها وأطلقتها في براري التأمل «نصوص السيرة الذاتية»، تقول: «استطعت أن أعيش مع فن السيرة الذاتية أكثر من حياة. عشت عبرها حيوات كل من قرأت سيرهم الذاتية في وقت كنت أتلمس فيه طريقا خاصا في عالم مزدحم بالرؤى، والأفكار، والأحلام»18.
وفي هذا إشارة دالّة على دور الذاكرة، التي يبنى عليها فنّ السيرة الذاتية، في خلق حيوات محتملة ومتجدّدة للقارئ؛ “فالسيرة الذاتية ليست رقشا للذات فحسب بعبارة صبري حافظ، بل هي رقشٌ للقارئ في ثنايا النص، هذا القارئ ذو الفضول سيحاول إنجاز فعل المشابهة، بينه وبين السارد أو الكائن السيري، بفعل المشاركة أو التجارب المماثلة. كما يحاول أن يملأ فراغات النص»19.
وهذا ما يمكن أن نفسّر به حضور «فن السيرة الذاتية» في عتبة الإهداء الذي خصّت به الكاتبة الفيلسوف والمفكر العربي الشهير زكي نجيب محمود بقولها: «إلى زكي نجيب محمود فيلسوفا وكاتبا وصديقا».
لا يمكن أن نغفل دور هذا الإهداء في تعضيد تأويلنا وتوجيهه إلى ما ذكرناه من الحضور المركزي الدلالي والجمالي للذاكرة، باعتبار أنّ الإهداء إحدى العتبات الهامة التي تشكّل «نظاما إشاريا لا يقلّ أهمية عن المتن الذي يحفّزه أو يحيط به؛ حيث يلعب دورا مهمّا في توجيه القراءة وأفق انتظار القارئ»20؛ فقد ترك الكاتب الكبير أعمالا سِيَريَّة أسهمت في تكوين وعي القرّاء بذواتهم؛ نظرا لما تضمنته من عوالم ودلالات عبّرت عن مشاغلهم النفسية وطموحاتهم الفكرية، خصوصا أنّه بسَط في هذه السيَر أفكارًا فلسفية بأسلوب سردي قرّب شريحة كبيرة من القرّاء من عوالم الفلسفة، وفكّك غموض بعض طروحاتها العسيرة، ولما تركته تلك السير من ظلال موحية لمّا تزل بأصدائها وصدى عطشها للتلقي الذي لن يُبلَّ، حاضرة في وجدان القارئ21.
لقد تُوِّجَ هذا الحضور البارز للذاكرة في نصوص الكتاب بنصّ «الزهايمر لا يستثني أحدا» الذي انشغل بهاجس الخوف من فقدان الذاكرة وركّز على أهمية وجود ذاكرة بديلة تضمن استمرار حضور الذات عبر الزمن؛ «فلم تعد الذاكرة البشرية وحدها محلّ تعويل في حفظ سيرورتنا التاريخيّة وركام تجاربنا»22.
ولئن كانت الذاكرة الإلكترونية بديلا مقترحا للذاكرة الشفاهية، فإنها تظل مهددة بعطب الأجهزة التي تحملها، عندها لا بد من ذاكرة أخرى بديلة تحفظ هويّة وجودنا؛ فجاءت الذاكرة الفنيّة ملاذًا آمنًا وبديلًا ناجعًا لاستمرار حضورنا عبر الزمن، ممثلة، حسب الكاتبة، في الصورة عندما قالت: «ذاكرة الصور تعيد رسم قيمة الأشياء، وهي قيمة زمنية بعد كل شيء. الزمن الذي نحاول أن نمسك منه ما يمكن الإمساك به في هروبه الأزلي إلى المجهول. تشدنا دائمًا الرغبة في أن نقول: (كنا هناك)، في زمان ومكان هربا في غفلة من العمر، وكأننا نكتسب هويتنا من خلال وجودنا فيهما في وقت ما، فللإحساس طعم الزهو بأن كنا هناك، يوم غاب عنه غيرنا ممن فاتهم الظرف الزماني والمكاني غير القابلين للاستعادة»23، باعتبار أنّ «الماضي فردوس ونحن مطرودون منه بحكم الضرورة، وهذه الحال تصح حتى حين يكون الماضي وهو حاضر بعيدًا عن صفات الفردوس. وعلى هذا الأساس فإن الصورة تنقل لنا، إذا اعتبرناها صورة ذاكرة إحساسًا بالفرح لأننا نستعيد شيئًا اعتقدنا أنّه ضاع إلى الأبد»24.
لذاكرة الصورة الإبداعية سلطانٌ وسلطة يتمثّلان في «نشدان الخلود الممكن بواسطة أسر الزمن الأزلي داخل إطار الصورة الفاني»25.
إنّ هذا المقترح البديل يستدعي أوّل نص من نصوص الكتاب «الفتاة في المرآة»؛ فصورة الذاكرة الملتقطة بكاميرا الإبداع ما هي إلا «لعبة المرآة الأولى حين كنّا أطفالا بدون شكّ، لكنّها أيضا الدليل الماديّ والملموس على وجودنا وتواجدنا في عملية تلذّذيّة تكون فيها الذات هي الآخر، والمتحولة في عملية انعكاسية لموضوع المشاهدة والتأمّل»26.
بعد تتبع حضور الذاكرة في نصوص الكتاب، نأتي إلى حضوره المميّز في عنوانه اللافت؛ نظرا «للدّور الخطير الذي يمارسه (العنوان) في العملية الإبداعية إبداعا، والغواية المثيرة التي يبثّها حول النصّ تلقِّيًا، بمعنى أنّ العنونة جزء لا يتجزأ من استراتيجيّة الكتابة لدى الناص لاصطياد القارئ وإشراكه في لعبة القراءة، وكذلك بعدٌ من أبعاد استراتيجية القراءة لدى المتلقي في محاولة فهم النصّ وتفسيره وتأويله”27.
وإذا ما تأمّلنا البنية التركيبية والدلالية لعنوان هذا الكتاب «ظلّ يسقط على الجدار» فإنّا نجدها منسجمة مع ما ارتضينا من تأويل؛ فإذا كان حجم الظل فيزيائيا يكبر عندما تزداد المسافة بين الجسم والجدار الأمر الذي يجعله أكثر بروزًا ووضوحًا من جهة، ومغايرة لحجم الجسم الحقيقي الذي انعكس منه من جهة أخرى؛ فإنّ الذاكرة كي تبدو أكثر وضوحا ونقاءً ومخاتلة، يجب عليها أن تترك مسافة بينها وبين الموضوع المتذكَّر؛ فالذاكرة «تعيد صوغ الأشياء بعد أن تصبح على مسافة كافية منها، تلك المسافة الضرورية لإشعال الحنين إليها»28.
“هكذا يصبح الحدث ماديا وميتافيزيقيا في آن، حقيقيًا وزائفًا في آن، فالحدث لا يتجسد أمامنا حرفيًّا بكل تفاصيله الدقيقة والواقعية، ذلك لأنه منتزع -بقوة الذاكرة والتخيل- من محيطه، من الحدث الذي سبقه أو تلاه، أي من تاريخه. إنه يتجسد كحدث مستقل، منفصل، معزول»29.
ولمّا كان العنوان قد «وُضِعَ في الأساس ليدلّ على النصّ ويمرّ النصّ منه إلى العالم ويجذب القارئ»30، فإنّ التوقف عند بنية العنوان التركيبيّة، يكشف لنا أنّ هويته التي جاءت نكرة عامة، قد حُدّدت بخبر جملته فعليّة «يسقط» بدلًا من الماضية «سقط» التي ترتبط ببنية الذاكرة المجسدة في معظم نصوص الكتاب بالفعل (كان) وتصريفاته. ويمكن أنّ نردّ ذلك إلى أمرين: الأول، تجسيد لدور الكتابة والكاتبة في إعادة صوغ الذاكرة لكي تحضر في حلّة متجدّدة، تتجاوز شرط زمانها لتعيش في الحاضر وتحيا في المستقبل. أمّا الأمر الثاني، فيأتي متصلا بالأوّل ونتيجة له، فتجدد زمن السقوط واستمراره، إيحاءٌ بتواصل القراءة بحيث يضمن لها أن تكون متجدّدة ومشرعة على قرّاء محتملين.
ينسجم هذا التأويل والدلالات التي يشي ويوحي بها تصميم لوحة غلاف الكتاب، «فتصميم الغلاف لم يعد حلية شكلية بقدر ما هو يدخل في تشكيل تضاريس النص، بل أحيانا يكون هو المؤشر الدّال على الأبعاد الإيحائية للنص»31.
ومكونات غلاف كتابنا تؤكد ما كشفنا عنه من الدلالات والمعاني التي انطوى عليها العنوان وتتفق معها؛ فصورة الطفلة بزيّها المدرسي وبعدها الفيزيائي الصغير تمثّل تجسيد الذاكرة فيزيائيا ببعدها الماضوي الطفولي، بينما تمثّل صورة الفتاة بحجمها البارز وبعدها الكبير ظلُّ تلك الذاكرة الذي اتسع وتبدّلت ملامحه بفعل المسافة الفاصلة بين الجسدين، في إشارة إلى دور الذاكرة الإبداعية في تغيير ملامح الماضي وإعادة صوغه من جديد. كما أنّ التصميم الإخراجي لكتابة العنوان، فَصَل بين كلمة «ظل» وخبرها «يسقط على الجدار» بمسافة جسّدت تلك الدلالة وأكدتها.
إن كان جاستون باشلار «يبني التواصل المتحقق بين الذاتين؛ المؤلف الحاضر بنصّه وتجربته في معنى النص، والقارئ الحامل لتجربةٍ سابقةٍ، على وجود الأصل المشترك بين الاثنين، وهو حضور الشعور الطفولي في الذاتين حضورًا دائمًا حتى بعد تقادم الزمن، فتشابه التجربتين ولو في حيّز الإمكان هو الذي يحقق الفهم وتمثّل التجربة حاضرة، وهو الذي يوجد إمكان استعادة شعور عيشها في عالم متخيّل بناءً على ما حملته الذاكرة»32، فإنّ إمكانات التلاقي، برأينا، لا تتم وفق تقاطع واقعي أو متطابق للذاتين، وإن تشابهت ظروف الزمن التي أنتجت عوالم طفولتهما، فهي تأتي بمثابة أكوان متوازية يمارس عليها القارئ انتقائيته، ويفعّل بها أحلام يقظته في توليد صور تنبثق من أي تفصيل استعادته الكاتبة؛ لتتناسل منها تفاصيل أخرى. «من هنا يعيش القارئ متخيّلًا عالمًا واقعيًا، يعيد له إنتاج ذاته القديمة، أو بالأحرى يُعيد له إنتاج ما بقي محفوظًا في الذاكرة من كينونته الجوهرية الأولى، الأصل الطفولي»33.
إنّ أحد أشكال هذا التلاقي أومأ إليه نص «الصوت الجريح يغني لي» الذي قالت فيه الكاتبة: «يستدعي صوت عبدالكريم صورة طفلة تنزل برفقة أخيها من السيارة، وتعبر الشارع إلى الجهة الأخرى لتدخل دكانًا تشتري منه شريط كاسيت صدر لتوه، وسرعان ما يلقمانه مسجل سيارة أخيهما الأكبر فيغني عبدالكريم: بيني وبينك غربة كنها الليل. كانت الطفلة ابنة تسع سنوات، ولم يكن حزن عبدالكريم ما يشدها لصوته في طفولتها تلك، ولكن شيئًا خفيًّا تحاول اكتشافه في كل مرة تسمع فيها أغانيه»34.
إنّ هذا الاستدعاء هو أحد أشكال التفاعل التي توّفرها نصوص «الظل» لقارئها؛ فصوت الفنان «عبدالكريم» ربما يكون استدعاؤه احتمالًا واردًا لذاكرة مشتركة بين النصوص وقارئها؛ لكننا نتحدّث عن التفاعل الأعم الذي يتجاوز شرط الذاكرة التاريخي؛ إذ يصبح في هذه الحالة صوت عبدالكريم رمزًا لأصوات مغنين آخرين لقرّاء كثر تستدعي أصواتهم أشجانًا وأحزانًا، والأهم من ذلك هو فسحة التأمل والاكتشاف اللّذين يوفرهما هذه الاستدعاء لمحاولة فهم واكتشاف الذات الحالية. فلا يشترط أن يكون «للمؤلف والقارئ إطار مرجعي مشترك. فما في حوزة القارئ سوى أن يقوم بإعادة بناء السياق اللازم لفهم العمل الأدبي، مستندًا في ذلك لبنية النص، أي لمجموع علاقاته للداخلية»35.
ضمن هذا التفسير سيكون لـ«أمّي ميمونة» وفائض عطائها ومواقفها الإنسانية التي حفرت في ذاكرة الكاتبة صورة أخرى ونموذج مشابه تختزنه ذاكرة القارئ؛ فبمجرد قراءته نص «بلاليط أمي ميمونة» سيفيض خزّان ذاكرته بماء الوفاء والامتنان لأمهات بديلات كثر، كنّ ملاذًا لنا وأَمْنًا نتحصن به ضد وحشة الفراغ التي يخلفها غياب أمهاتنا البيولوجيات لظروف غالبا ما تكون خارجة عن إرادتهنّ. وهذا ما يمكن أن ينطبق على الجدة و»منكيرها”. وبيت وأمي أسماء الذي كان ملاذًا للكاتبة، سينتصب في مخيلة القرّاء بيوتات كثر وأماكن ألفة وأمان «من هنا تبقى مركزية ذلك الكون القديم -البيت- حاضرة في كلّ البيوت الأخرى، تبقى لحظة الانبثاق هي لحظة ولادة شعور دائم في الذات حفرت حفرًا، ومع كل التنقلات والأمكنة الجديدة، فما هي إلا تجليات أو أمكنة يلبسها الوعي ذلك الشعور القديم»36.
إنّ ما يقف وراء كلّ التمثّلات الطفولية التي سيعيشها قارئ نصوص هذا الكتاب، برأينا، بالإضافة إلى ما تضمّنته من عتبات وانطوت عليه من إشارات وبيانات دينامية التفاعل، هو تلك الطاقة الحلمية التي شحنت بها الكاتبة لغة نصوصها، بعد أن حررتها من كونها الدلالي وحيادها المعجمي؛ وعلى إثرها يأتي القارئ مستثمرًا حيّز إمكان التقاطع بينه وبين عوالم النص، ليملأها بذاكرته الخاصة التي أوقدتها نصوص الكتاب بعد أن بعثتها الكاتبة من رماد الغياب، على اعتبار أنّ «الفن يبدع ممكنات حياة أخرى مهدها المستهام والمتخيل وما تُسقطه الذاكرة خارج الدفق الزمني المعتاد»37.
إنّ شاعرية أحلام اليقظة التي يمكن أن توجّه القارئ وتسهم في بعث ذاكرته، نجدها في هذا المقطع من نصّ «الكتابة الحلم» الذي يعدّ شهادة إبداعية مميّزة لا يخلو عنوانها ومضامينها من دلالات التجدد والبحث عن عوالم أجمل، وقد صيغ بمشهدية سينمائية نابضة بالحركة والحياة. وهو وإن كان يصوّر حالة الكاتبة وحلم يقظتها الشاعري حول الكتابة والإبداع، إلا إنّه يلخص برأينا وضع القارئ وهو يتأمل نصوص هذا الكتاب وما تنطوي عليه من ألفة وتقبل وحميمية، أطلقت شاعرية أحلامه؛ فجرى يعدو وراء ظلالها المتوهجة بضياء الطفولة وضوء الذاكرة: «والآن، كلما أسلمت جفني للكرى رأيت فيما يرى النائم أني أكتب صفحات ملأى بالكلمات، أرى كلمات تتقافز في كل مكان، وتطير هنا وهناك، وينبت لما كان منها يدور في الأرض ريش فجأة، فتحلق حولي، وتحط فوق رأسي، وعلى كتفي، فأشعر في احتفائها بي بسعادة ونشوة بالغة، فنقهقه معًا، نضحك عاليًا، نرقص جميعًا في حلقة لا تنتهي، أشبه بحلقات الدراويش في وجدهم وانعتاقهم من ربقة العالم الذي يريدون الانفلات منه، حتى إذا ما أنهكنا الدوران والضحك، تختبئ معي تحت الغطاء وننام»38، عندها حتما سيستحيل ظل هذه النصوص ظلالا أخرى تتكاثر وتتبدّل، عبر تفاعل القارئ وتعيش صورها حيوات عديدة ومديدة.
بعد هذا كلّه يمكننا القول إنّ نصوص هذا الكتاب جاءت بمثابة صور ذاكرة مستعادة بفعل مخيلة الإبداع الانتقائية، تتوهج مع تجدّد زمن تلقيها؛ فتتخلّص من عكاكيز ما هو ماديّ زائل لتحلّق مع ما هو روحيّ مطلق. بحيث «تتداخل وظائف الذاكرة والمخيلة أو ربما تصبح غير قابلة للتمييز. فالمخيلة، كما تُمارس في الفنون الإبداعية على وجه الخصوص، هي تلك القدرة التي تخرج بمضامين عامة من اللحظات الخاصة، التي تستطيع أن ترى وتجعل الآخرين يرون العام في الخاص»39.
الهوامش
بغداد 2023، ص8- منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع.
خالد بلقاسم: ظلال القراءة واختطاف المعنى، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس 2022،ص8
باسمة درمش: عتبات النص نقلا عن (أمينة مستار): عتبات النصّ بين التشكيل والتلقي، المجلة التعليمية، المجلد 12،العدد 2(2022) ص47 –
د.غادة الإمام: جاستون باشلار، جماليات الصورة: التنوير للطباعة والنشر، بيروت ٢٠١٠، ص 284.
ص 10-11. د.أحمد عويز: الذاكرة والمتخيّل : نظرية التأويل عند جاستون باشلار، دار الرافدين، لبنان 2017.
سعيد بنكراد: بين اللفظ والصورة « تعددية الحقائق وفرجة الممكن»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2017.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص12-7.
المرجع نفسه ص138.
المرجع نفسه ص14.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص15.
أمين صالح: هندسة أقلّ.. خرائط أقلّ: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2010، ص32.
المرجع السابق، ص38.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص20.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص53.
المرجع السابق، ص31.
المرجع السابق، ص38.
حسن مدن: ترميم الذاكرة -ما يشبه سيرة – مسعى للنشر والتوزيع، ط2، كندا 2017، ص11.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص134.
الهيئة العامة المصرية للكتاب القاهرة، 2014، ، ص18-19، صبري حافظ: رقش الذات لا كتابتها مجلة ألف، القاهرة – العدد 22/2002، نقلا عن حاتم الصكر: البوح والترميز القهري.
أحمد عبد العظيم محمد: عتبة الإهداء في المدونة العربية – دراسة وصفية تحليلية – مجلة كلية الآداب جامعة الفيوم عدد 1 يناير 2022م.
توزعت سيرة زكي نجيب محمود الذاتية بين ثلاثة كتب هي: «قصّة نفس» 1965، و»قصة عقل» 1984، و»حصاد السنين» 1991.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص150.
نفسه، ص 151.
ميري ورنوك: الذاكرة في الفلسفة والأدب، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2007، ص 120.
عزّالدين الوافي: سلطة الصورة وبلاغة الجسد، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، سبتمبر 2015، ص17.
المرجع السابق، ص18.
خالد حسين: في نظرية العنوان: مغامرة تأويلية في شؤون العتبات النصيّة، التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2023، ص15-16.
حسن مدن: ترميم الذاكرة، ص8
أمين صالح: هندسة أقل. خرائط أقل، ص37.
خالد حسين: في نظرية العنوان، ص106.
مراد عبد الرحمن مبروك: جيوبلوتيكيا النص، تضاريس الفضاء الروائي، دار الوفاء للنشر، الإسكندرية 2002، ص124.
أحمد عويّز: الذاكرة والمتخيل، ص73.
المرجع السابق نفسه، ص74.
منى حبراس: ظلّ يسقط على الجدار، ص56.
فانسون جوف: القراءة، تقديم وترجمة محمد آيت لعميم ونصر الدين شكير، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ٢٠١٣، ص31.
أحمد عويز: الذاكرة والمتخيل، ص70.
سعيد بنكراد: التأويل وتجربة المعنى، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء ٢٠٢٣، ص103.
منى حبراس :ظل يسقط على الجدار، ص119-
ميري رونوك: الذاكرة في الفلسفة والأدب: ص7.