الحب هو جميع أسبابنا
تتقدم الإستراتيجية الشعرية التي تتوسلها الشاعرة عناية جابر في مجموعتها الأخيرة «جميع أسبابنا» على اشتغالها الشعري السابق. ففي قصائد المجموعة الجديدة تتجلى خلاصة كامل التقنيات والأسلوبيات التي استخدمتها الشاعرة في مجموعاتها السابقة. القصائد تطرح اسم الشاعرة لا كواحدة من أهم تجارب شعر المرأة العربية فحسب بل تتجاوز ذلك لتتحدد بوصفها أحد الأسماء الشعرية النسائية القليلة جدا التي مع كل مجموعة جديدة تقنعننا بأن قوة التجربة وحقيقتها تخترق مقولة الانتماءات الجنسية، وتشكل رافدا لحركة الشعر العربي الذي يكتب الآن . بالمقابل تتعكز غالبية الأسماء النسائية العربية على مقولات استعراضية باهتة عن الجسد، وخرق المقدس لتحقيق حضور هو في جوهره غير شعري، وهذا برأيي فخ عام قليلات هنّ الشاعرات اللواتي نجحن في الإفلات منه. عناية جابر أحد الاستثناءات القليلة التي يمكن أن نضربها على ذلك.
نقرأ قصائد «جميع أسبابنا» فنطلّ على وجوه الحب ومراياه المتقابلة، التي تحيلنا الى سماء من مشاغل العاشقين، على التصاريف الجزئية للعلاقة العاطفية. من هنا تأخذ الأحاسيس حجما كبيرا في البطانة اللغوية التي تتأثث منها القصائد، وهي تشكل نبعا لا ينضب ينبني عليه الخطاب الشعري. الأحاسيس التي نجدها بين عاشقين اثنين . تندرج هنا مشاحنات الحب واشتباكاته الصغيرة التي لا غنى عنها لإذكاء ناره، الحب الذي هو في جوهره العميق : «عين وعتمة، فرش رمل، عالق بعماه» (ص٧). التفاصيل العشقية الصغيرة التي تكتنز اكتنازا بما هو حميمي، وعميق ويستولي على الأعماق، ويشكل فضاء هو فضاء الطمأنينة والسلام أو العكس، فضلا عن أفكار أساسية تصلح لأن تؤلف عنها كتب كثيرة يؤسسها الحب وينشغل بها وهي ذاكرته التي تتسع لكل شيء، تلك هي فضاءات القصائد .ولعل العنوان ليس ببعيد عن ذلك فـ«جميع أسبابنا» موجودة في الحب وفكرته عن نفسه، وفكرتنا عنه. أفق شاسع ترسمه الشاعرة من الحضور والغياب بين العاشقين حيث الانكفاء على الداخل والذكريات: «ثم إنه غيابك /الجلد الميت على القلب» (ص45). والحبيب الذي «في متناول الذاكرة» (ص94)، إلى الشك واليقين الذين لم يفلت منهما عاشق «أحمل ظنونك على ظهري» ص(24) . المترافقان مع صمت العاشقين وكلامهما، الصمت الذي يتكرر، ويحكي الأغوار البعيدة، والذي لا بد منه كي يأخذ الكلام معنى . أتمدد قربك في الظلام/ وينبت صمت كصيحات أوز»(ص74). من يغفر لي !/كما سمكة الصمت تغني فجأة..؟ (ص42) إضافة إلى المكابدات والأفراح،التي تتوازى مع الشساعة والضيق «أيام حسنة ن أيام سيئة / ورد يتفتح تحت الجلد»(ص 29). فضلا عن الليل والنهار اللذين يحتضنان الكائن العاشق . الليل الدافئ الحنون الصامت الحميمي ولكنه/ ليل جميل/ولكنه /ليس ينسى . (ص 63).
الليل حيث «كل شيء في الليل»(ص 16). و النهارات الصاخبة حيث «نرتدي ملابس صوفية / وقفازات»(ص 26) .
لا تكتب الشاعرة قصائدها بالمشرط، ولكن ثمة حرص واضح على عدم الإطناب والوقوع في الاسترسال، الأمر الذي جعل من حذف الملحقات اللغوية أمرا يتكرر تقريبا في كل القصائد كحروف العطف والتعقيب.. إلخ . لكن كل ذلك لم يدفع القصيدة نحو الجفاف والتصحر فاللغة بقيت موسومة بالنضارة رغم أننا نظل نشعر بما تم حذفه. فالجمل لا تذهب إلى الانبساط، إذ طبيعة العلاقات التي تربط الجمل ببعضها البعض تمنع اللغة من الانطلاق، وتشدها إلى منطقة بقدر ما هي متعلقة باللغة العادية اليومية بقدر ما تشب عنها نتيجة التقطّعات المقصودة التي تطغى على القصائد. إنها سياسة شعرية تحاول الشاعرة أن تشيعها في هذه المجموعة. وهي هنا لا تسعى إلى حسن وجمال اللغة، فبقدر ما يغيب هذا المسعى نرى أنه ثمة خوف ما وارتباك يتأتى من منطقة ما، ثمة غصات تتنفس بين ثنايا اللغة، جراء هذا الاشتغال الذي هو غير بعيد، أبدا، عن الفضاءات التي تصوغها الشاعرة .في المقابل نجد أن اللغة تنزل أحيانا، إلى المستوى الحديث العادي اليومي، من دون أن تسقط في الابتذال. إن جملا مثل:
عبر السماء المتخففة / أرى إلى مزاجك الحلو / كم / يدوم . (ص42)
حين قبلتني طار عقلي «(ص 97)
الغياب ولنا فيه وجهات نظر (ص 84)
إذا أنت فعلت هذا / لماذا لا أفعله ؟
لا أجيء في الموعد
وأنسى أن أعتذر..
أمور كهذه تحصل . (ص63)
،من الصعب أن تنسى بعد، الانتهاء من قراءة المجموعة، إذ تظل تتردد حميميتها في البال.
إضافة إلى أسماء الأمكنة مثل كنيسة نوتردام، أمريكا، بيروت، شارع البيكايللي، وبوستر فيلم لآل باتشينو، ألأمر الذي أعطى بدفعة واقعية، ونسب الفضاءات إلى زمن معين . وشكل طيفا، جعل القصائد تتصل بالعالم الخارجي، ولا تنحجز ضمن فضائها اللغوي .
كل هذه الحميمية تتجاور مع المحو الذي يأتي على أشكال عدة كأن تكون الجملة مفتوحة وغير مكتملة، أو أن يكون هناك تأكيد ما على عمق وحدّة الصورة، والمعنى الذي يمكن أن يتولد أو يستوطن الفراغ الحاصل بين حرف الواو والاسم الذي يليه كما في هذه الجمل: «الرغوة الان وتبلل يدي»، «الأفق ويأكل نفسه»، «الألم ويتألم ثانية»، «الأفق/ ويأكل نفسه»، «الحب الذي عين وعتمة»،«لتأت. /بما أن الوقت ./ لتأت مهيبا، كهذا البحر»، «هات الشيء لا يسقط»، «قوة الحب و يصطفق الهواء من انهياره»، «لك أيضا / وماهرة في رشق الحجارة إلى البيوت / المستحيلة».
.إنه تفكر ما، وعدم إطلاق الأحاسيس على عواهنها، وسحب اللغة إلى منطقة ليست صارمة بل مشوبة بها، من دون أن تسقط في التطرف ، كونها غير معممة على كامل القصيدة . ثمة ما هو مدهش في هذه المجموعة هو الإصرار على ذلك، و في الآن نفسه ترك الجمل أحيانا مرتاحة، من دون أدنى رغبة بوضع الأفكار بالكلمات، بل الأحاسيس التي تتأثث، اعتمادا على النتف اليومية التي يعيشها العاشقان .
لا تستوي القصائد على أسلوبية واحدة بل تتعداها إلى أسلوبيات متعددة. ففي قصيدة «البحر لا يبدو من هنا»لا نجد ذلك البناء الكبير بل الجمل التي ترتخي وتنبثق بشكل حر من دون أي قصقصة ملحوظة على جسد القصيدة ما جعل الرطوبة التي تتأتى من النثر ترشح في تضاعيف القصيدة وتعطيها حميمة وطراوة تختلف عن القصائد الأخرى .
فالشاعرة التي لا تريد ان تغامر بالنثر في شكل كبير، تتركه ينقذف بالتقتير في الخطاب الشعري المبني بحنكة مجرب عالم بأدواته .
فنحن نجد مقاطع فيها سرد مثل: «عموما/ أستمتع بكل شيء: / باقة زنبق / عربة أطفال / شجارنا في مكان عام / حياة العشق المنزلية/ في عرض الشارع / دراما الحياة البسيطة / والتغلب على الأمور». (ص 32 ـ ٣٣).
«لم أخف شيئا /لم أخدع أحدا/أخبرتك فحسب، وجهة نظري/ بالأمان، /بأشياء أحبها / تبدو لك تافهة./لا يمكنني أن أخطئ النهر/ لا يمكنني إلا أن أراك/ قلبا كبيرا، شقيا»(ص23) .
تقول القصائد الكثير عن الحب والجسد من دون أن نشعر بأن ما هو جسدي، مقحم إقحاما على الخطاب الشعري، أو أنه استعراض ينفي الحياة، عبر الصور المصطنعة التي تحول ما هو حسي إلى استعراض سطحي.
تضيء الشاعرة المطارح الحميمية وتنقلنا مباشرة إلى استخلاص وجيز للحياة اليومية المعيشة الحارة،وما تحمله من بعد إنساني، هذا البعد الذي نستخلصه عبر الشعر القابض على الجوهري: «تتكدس المتعة منفرجة /نصهل في لحمنا الرقيق / من دون أن نشوش العتمة / أو / نشعث شعرها». (ص 26)
ورغم أن قاموسا كبيرا يحيل على الجسد يعبر القصائد: «رائحة لحمك، صدرك و فخذاك، حضن وجسد يد، أصابعك» فضلا عن مفرادات مثل «الحب، حبيبة حبي» التي تتكرر في القصائد مرات،وهذه الكلمات الكبيرة تستخدم هذه من دون أن أن تقع جملتها في هالة المفهوم المجردة. إضافة إلى أسماء الأعضاء التي تأتي بشكل طبيعي وتنشغل داخل النص دون أن نشعر أنها مقحمة أو فجة. فالجسدي الذي نجده في القصائد، ليس نتاج البهرجة الصورية . فالشاعرة لا تستظهر ذاتها استظهارا بل تترك اللغة تستبطن الذات في علاقتها بنفسها وبالعالم جاعلة من الجسد بؤرة وجودية، تدفع إلى الأمام، وتقبض على الجوهري . ما هو جسدي يتجلى لبا للعالم الواقعي . لا تنحو عناية جابر أبدأ، إلى أي صياغات تزيينية . فجملتها تنبثق من عمق التجربة، و كثافتها. المعيار الجمالي لديها مرتبط ارتباطا بحرارة التجربة وصدقها.. تكتسي الصور الشعرية التي تصوغها الشاعرة بأبعاد نفسية، تطل على الثنائيات التي تشكل التصورات الحياتية الكبرى . إننا أمام قصائد في الحب لا عن الحب،فنحن لا نجد فيها أسى يتولد من الغياب، كما لا نرى فرحا عارما باللقاء . ثمة ما هو أو سع من الاثنين، تلك الحيوية التي تحتضن الحالتين النفسيتين و تتجاوزهما، نحو حالة ثالثة في سبيل كشف الحب شعريا، الحب الذي يتبدى غير مفهوم وغير قابل للتعيين والتحديد :
«بوثبة عمياء/ أخوض جسدك/ حتى قمة رأسي/ شفتك مبقعة./ أنهد عليها مربوطة بشيء، بلذة مجهولة في فم مجهول/لا يسكن الأرض./كان ذلك حلما و ابتعد./أذكر أنني كنت اغسل جسدك./الرغوة الآن، /وتبلل يدي./تأتي، وكلما خفيفا ترتعش البتلة،، تتمايل كوردة سرخس./تمسك بيدي، كفك التي تنفث الضباب./الحنان المسترخي كثيف بلا أمل». (ص47 ـ 48) .
صالح دياب
كاتب وصحفي من سورية يقيم في فرنسا