حاورته : فاتن حمودي*
لا يعرف سوى المحبة واللون، والإخلاص لصداقات عمره، يختزن في ذاكرته صور الحياة، ويحكيها حين يكون بلحظة ضياء روحي، وربما بلحظة حزن وانكسار، إنه الفنان التشكيلي السوري عنايت العطار،الذي يقيم في فرنسا منذ أكثر من ربع قرن، كتب يومَ غاب صديقه الفنان عمر حمدي- مالفا « أيها الراحل الذي لم يمت أبدا …..لقد تركت بصمتك الخضراء على الأشياء ذكراك في القلب، فلك الخلود ولي كأس المرارة والوحشة العظمى».
يعرف أن الألوان أرواح، ويعرف أكثر معنى أن تكون محمولة بخطوط العمر وتضاريس الوجع والحب
ولأن مالفا لايموت، فقد كانت الجائزة الفنية التي تحمل اسمه من نصيب عنايت العطار.
وكانت فرصة لي لأمضي معه في رحلة عن ذاكرة المكان، مكانه الأول في عفرين بسوريا، في الرقة وحلب والشام، ثم رحلته بين الدراسة ومرجعياته الثقافية ومتعة اكتشاف اللون في الطفولة، ومن ثم الغربة التي أخذت شكل وطن، هذا الفنان الذي يقيم في باريس، يرسم بجوار نهر السين، كأنه لايريد أن يفارق نهره المسكون فيه، الفرات، فرات الأزل.
معه تحضر الطبيعة والمرأة، وأغاني الحب، وفلكلور القرى والجبال والأرياف، في تفاعلات اللون الأحمر، وظلال الطبيعة، وكأننا مع أغاني فيروز، فالمزاج في اللوحة يوحي بلغة بصرية تشبهه في السلام، فيما يشكل اللون فضاء للتكوين، يتجلى في الأجساد الأنثوية التي تتحوّل في أعماله إلى قصيدة بصرية في تناغمها ودلالاتها، فاللون بكل تنويعاته امرأة..
يقول العطار: «الأزرق للسماء، والأخضر للجبال، والأصفر للسنابل، والأحمر للمرأة، لا..لاصديقتي ، لقد أخطأت الترتيب، والنسبة والدلالة..! بل الأزرق والأصفر والأخضر والأحمر لها وحدها، للمرأة التي أحب وأعشق، وللمرأة التي أرسم وأتخيّل، هنا ترتبك الموسيقى بين أنامل العاشق، فتغيب الملامح تاركة للخيال وهج الانتظار».
vv وسط هذا الجمال السوري المبعثر تحت شمس الله، تشكل في لوحاتك انسيكلوبيديا لونية تصل الأسطوري بالواقعي تتنفس النسيم القادم من لالش ونينوى ..كأنك تضعنا أمام محراب عشق بعيدا عن كل هذا العالم الخراب..وتقول ادخلوا ….هل أجمل من أن نسمع النحيب على ضريح سيامند.
بعيدا عن فلسفة الموت والعماء، أؤسس بالكلمة واللون فلسفة حياة بالمعنى الجمالي، بعيدا عن كل الأساليب الأكاديمية، لون قريب من الحياة …..من أرض اليباب أرسم …أستدرج الغناء موسيقى اللون ..موسيقى الكرد والعرب …موسيقى الكون أتأمل وحشة الغياب فأحيلها إلى ألفة اللون، وأنا في بلد لايتعرف فيه الجار على الجار.
vv فرحنا حين نلت جائزة تحمل اسم صديقك الجميل الفنان التشكيلي الراحل عمر حمدي، والمعروف باسم مالفا، ما معنى مالفا، ولماذا حمل عمر حمدي هذا الاسم؟
معنى مالفا ترينها في الصورة، صورتنا معا، أنا اشرب لوحدي وهو الذي أتى بزجاجة النبيذ لنا من فيينا، الى بيت بهرام بألمانيا، كنت اضحك حين اردت ملء كأسي، قال لي: أتيت بها كي تشرب عني وعنك، فزاغت عيناي، ثم تبعها بعلبة سيجار، وقال لي:» دخّنْ عني وعنك»، كأنه كان يودع الدنيا ويودعني، فشربت عني وعنه، ودخنت عني وعنه، كان يعاني من تضيُق في الشرايين، ولم ينسَ تحذيرالطبيب، حينها زاغت عيناي وأنا في منتصف الفرح والابتسامة، كالجمر حين تلدغه بالثلج، فقط انظري في الصورة الضحك والحزن على وجهي بنفس الوقت.
vv وحين غاب كتبت» هكذا كانت الرحلة الأخيرة….
نعم….صديقتي كتبت…»
قم من صمتك الأحمق يا مالفا\
ها انا اختلس الصدى لقهقهاتنا البيضاء يا مالفا\
وأسمع ماكان يشوب الألفة المسروقة من ارصفة المنفى\
من رنين الكؤوس\
وأنت في منتصف الكأس تعد النجوم المتساقطة\
والوجوه الغائبة الحاضرة\
صلاح الدين محمد ..لؤي الكيالي ,,فاتح المدرس
حامد بدرخان …..
بهرام حاجو في مقام الصبا على الجمبش يتوج سهرتنا بالحنين
وانت تقول لي يا عنايت اشرب عني وعنك
اذ قال لي الطبيب كأسك هو موتك
ودخن بشراهة . دخانك هو موتك»… –
vv نعم .الصورة تشبه أغنية فيروز، أبكي وأضحك لا حزنا ولا طربا كعاشق خطّ سطرا في الهوى ومحا..
كان لقاءً كلمع في السراب، نيزك ونجم يتساقط، احيانا نخترق السراب، أرى دمعة في عينيك، وابتسامة حزينة ومكسورة…
– والله احكيلك القصة بمنتهى الصدق، حمدي ينظر إليَّ، يبتسم بوسامة لا مثيل لها، كيف انا شخصيا أرى فيها الفرح والحزن، كيف اجتمعا معا، لا أعرف؟غير انه كان يودعنا، حزني مُرَكّب، لأنني عاطفي ومصاب بداء الغربة والحنين، ورماد البلاد، وببعثرة الأصدقاء في أصقاع الدنيا، نحن من خرجنا من سوريا قبل أن يلحقوا ويهجنوننا.
حكاية جيل:
كان جيلنا جيلا نظيفا لم يتلوث، جيل الأحلام، وقبل أن ندخل طور التدجين في سوريا، هناك من هرب، وهناك من دخل الحظيرة، وهناك من نجا..
vvعلى مبدأ كل خارج مولود، وكل داخل مفقود، رغم الحنين الموجع، أتذكر دائما مقولة قالها لي النحات عاصم الباشا، «الوطن هو الرصيف الذي أجد عليه كرامتي».
المرأة اصطياد البعيد:
المرأة اتصورها حتى لو كانت اختا، تستدر الكوامن الدفينة، تُخرج كائنات الظل إلى النور، وأنت الملونة بقمح المحبة ونار النيروز، وبراري الوجع، ترانا مللنا انتظار السماء؟ حتى أنا مازلت مجنحا في الخواء ابحث عن سدرة الخلاص ولا خلاص!
واعتقد ان اللون يغري بتجريداته لطخة حمراء ؟ زرقاء، إنها خديعتي، أو قراءتي، القراءة إبداع آخر، وأحيانا أرسم بالكلمات، ولاادري، ولم اعتبر نفسي شاعرا، لكنني ذواق كذائقة الخمرة، كان يقول علي الجندي وممدوح عدوان عني، هكذا تختلط حلاوة الأنهار بملوحة البحر، وكان فايز خضور يفيقني كي يقرأ الجديد ، نعم هذا حين يكون الإحساس بالعين.
vv كم هي مرجعياتك الثقافية وذاكرتك مائية، كأنك تدلق النبيذ، وتغوص نحو اللؤلؤ؟
كنت تعمقت بالزرقة وقطفت فيروز لونا للحلي، او كحلا للعيون، وكنت قد همتُ بضوء المنارات، إنك تنبهيني لجماليات الارض، وهل أنا مغرم باللؤلؤ، وفوق هذا وذاك برجي هو الثور، وأنتِ برج الحوت الرمز الخفي للأعماق. .
vv بداخلك طفل لايزال ينظر إلى هناك، وكأنه معلّق بالخرزة الزرقة، أو طبشور الصفوف والحيطان
الطفولة تطاردنا، هي فينا مثل فرس الشغب، اينما كنا،أنا أعتقد أن النزع الطفولي ضرورة إبداعية، تزيح الكثير من الغشاوة؟
– صحيح حين تشيخ الروح ينضب البئر فينا، وتخترق المألوف الاجتماعي او العقل الجمعي، فالحزن والفرح، ليسا متضادين، لأن الكثير من الهم الشخصي البحت، ربما كسر لغربة الروح، أنا أتألم، وهذا يعني أن أمرا ما اخترقني من الخارج، سواء من الوطن او مسارات الطفولة، أو من شخص أحبه، أقول هذا لأنني أسمع أن الإفصاح أو التعبير عن الذات، نوع من الأنانية، ولكنني أعتبر الموضوع عكس ذلك، لأن الإبداع فلسفة عالية.
وهنا أعود إلى الطبشور الذي علق على اصابعي وثيابي ، ففي طفولتي رسمت على الجدران بالطبشور، رسمت على الأحجار في قريتي «الريمجة»، كان حينها يختلط اللعب بممارسة ما أحب، وكان أول اكتشاف لي لنفسي، دون أن أعي هذا في العمق، كنت أنحت الأشياء حولي، ربما حجر، أو غصن شجرة، أعيد لون الزيتون، وثوب أمي.
vv قراءة الوجود تبدأ من الذات، مع حفظ مساحة للآخر، الإنسان ضفة وحده أمام نهر الوجود، والأنا هي جزء من الكينونة، كأنهما يتداخلان معا..جميل أن تستحضر أمك …الأم كون أيضا..
نعم وهي محور الصيرورة، وحتى في اشد حالات العشق والهيام، يقول دوستويفسكي أن من لا يحب أمه أولا، لايستطيع أن يحب امرأة، ولا يحق له الحديث عن حب الوطن.
العشق هو التتويج والترجمة لاختمار الأنا، صحيح أن ديستوفيسكي بدأ من الدائرة الأهم الأم، وأضيف أن من يحب بشمول إنساني، رغم وجود دوائر كخلايا الجسد، فإنه يُطَهّر نفسه من الكراهية.
vv أنت تحكي بحس صوفي عال، وكأنك تقول « الحب ديني»، رغم أن بصمة الشر أكبر في هذا الوجود، الكيمياء بين الحب، والطفولة، والمرجعيات الثقافية، هذه الخلطة، كيف تظهر بلحظة الإبداع؟
– عبارة أتذكرها الآن قالها الناقد الفرنسي «هنري ميشو» عليك أيها المبدع ان تتعلم كل شيء، ولكن وفي لحظة الابداع عليك ان تنسى ما تعلمته، حتى تكون ذاتك.
الذات هي هذه الخصوصية المركبة من كلّ شيء ولاشيء، بمعنى ان مثل هذه النقاشات او المعارف او المواقف، فيها حالة من التجلي، بحيث يأتي الكم وحده، ليس من الضرورة ان تكون حاضرة اثناء الكتابة او الرسم، متل الكيمياء نتاج إبداعي جديد، تراكمي مُرَكَّب وواحد خاص، هو أنت رائحتك صورتك الداخلية صورة الخيال والظل، هذه اللحظة تشبه شعور الأم حين تركض باتجاه ابنها كي تنقذه من خطر ما، خطر تشعره بغريزتها، الأم السورية أم كونية، ونحن أيضا نصير مع الأيام نحسّ الأشياء ولا نعقلها، تتحول المدركات إلى محسوسات.
vv اعتقد ان هذه الجمله قالها ارشيبالد مكليش عن بيكاسو،»الفنان يكشف الحقائق دون وعيها»، نحس الأشياء حين ترتبط بوجوه وأمكنة ..حين تتحول إلى صورة في مرايا الذاكرة، حين تكون مثل نهرهيرقليطس، أونهرنا ، ما رأيك؟.
– بالضبط نهر هيرقليطس، وارتباطه بفعل الإحساس، هذا النهر الذي يمضي للغد، ألقيت محاضرة مرة عن هذا الموضوع، وجدت أن الأساتذة مهتمون أكثر من الطلاب، لأنه يعيدهم إلى حقيقتهم.
vv الآن عرفت معنى الطبيعة في لوحاتك، هذا الرحم المزدهي بعصافير اللون..
حلوة العبارة، الرحم المزدهي بعصافير اللون، تعرفين! هذه العبارة لايمكن ان تخطر ببال رجل، اكتشف الآن خصوصية الأنثى عندك، الرحم، العصافير، زهوة اللون، اللغة الأنثوية طبيعة …المرأة آلهة الأرض والخصب، لا أستبعد الرجل طبعا، بل اقصد التمييز بين خيال الرجل والمرأة، المراة أطرب في الموسيقى واشد تأثيرا، ورغم ذلك نلاحظ او نتلمس نعومة الحرير، وكأن المرأة اكثر قربا من حاسة اللمس، فألوان اللباس زاهية عند المرأة، حتى لو كانت سوداء فهي تاج الكحل.
vv حتى لو كانت سوداء فهي قمة العشق، والحزن، الأسود لون المستحيل رغم الحداثة وأقول ذلك لأن بعض المحدثين يذهبون الى حد الهذيان، قال مرة البروفيسور بالبوزارت، بأن المدارس الفنية ليست زمنية، واثبت ان هناك الآن كبارا يرسمون على طريقة رسوم الكهوف بألاسكا والتاميرا، كيف ترى المعادلة؟
– هناك أيضا موسيقى الجاز ولكن من قال ان بيتهوفن قد مات؟ بمعنى كل تيار يضيف الى ما سبق، وهذا جوهر الإبداع، من هنا فإن المرأة هي حواء الاولى بألوان جديدة، أحيانا البدائية حاجة، لهذا نرى رسوما غير متقنة لكنها خاصة، مثل أعمال مونيه، وبول كيلي. وأنا ارسم ما تفيض به روحي، وحين أنظر إلى لوحة رسمتها يكون معيار نجاحها، إن ادهشتني فسوف تدهش الآخرين، أنظر لها بعين أخرى.
vv نراك تلعب باللون مرة وبالكلمة مرة أخرى، بشعرية عالية، كيف تتناوبان معا، ومن يسبق الآخر؟
– أقول دائما، أيها الشعراء سامحوني ان زرت دياركم، فأعاهدكم ألا أسرق منكم نسمة للريح، وما كل زائر بشاعر\ سامحوني إن لم يكن لي كل هذا الحظ كي أكون شاعرا .. سامحوني ان قلت لكم احبكم وليس بمقدوري ان اكون في قافلتكم الخضراء..
فإن رأيتموني اكتب فاعلموا اني هارب اليكم من عجزي المزمن، او من خيانة التلوين والتكوين… او من حرقة المنفى والحنين إلى بلادي التي تنهار على رؤوس أصحابها الطيبين، ويحضرني هنا رامبو حين كان يتبع فيرلين ويستعير منه الكتب وفي لحظة ما مزّق كل شيء واستطاع أن يفلت منها جميعا، إنها لحظة شعرية حقيقية.
vv أنت تحكي بلغة العشق المتعدد والمتنوع…هل الفنان متعدد في عشقه؟
– مرة كتبت انا احب زهرة البنفسج، ولكنني احب جميع الزهور لأنها تمثل البيئة المثلى، لتحيا زهرتي، الوعي الأعلى للمحبة، الشرق جميل وغني بالعواطف ولكنه يطرح الكثير من الأسئلة، الشرق وجدان ورائحة.
vv قال الشاعر محمد عمران الكثير عن قريته الملاجة، وحمزاتوف قال:» إن العالم يبدأ من حديقة دارنا»،ماذا يقول عنايت؟
– أقول إنني أكتب وأرسم من عفرين، لأنها منبت الولادة، ذاكرة الطفولة، وأنت تفهمينني تماما، بعكس الذين يتصورونني قوميا أُمجّد الاكراد دون سواهم، الشـام يا صديقتي هي الحاضنة الأكبر لتكوين شخصياتنا جميعا، القليل يعرف اني تزوجت عربية وأولادي يتكلمون العربية والصغار بعد هجرتنا يفضلون الفرنسية.
vv رغم السلالم الكثيرة التي نعيشها فإننا نعود للمكان الأول استحضار الغائب، قراءة البعيد وكأنه الأجمل دائما، هل هي نظرة موضوعية برأيك؟
– في طفولتي كنا نلعب كالملائكة، ولم نكن نسمع عن أي تفرقة بين الأديان، ولم نعرف الطوائف أصلا، في حين الوضع اليوم مثير للخوف، تخيلي جارودي يقول في كتابه»الانقلاب الكبير»، الكوكب ينتحر، بلجيكا 6 ملايين مقاطعة للفرنسيين واخرى للفلمون، سويسرا 3 قوميات متعايشون معا، لم نسمع أي تفرقة، هذه القوميات تمنح جماليات، وثقافات، جرحنا كبير اليوم، الخراب سهل، ولكن هل يمكن بناء سوريا بيوم، بسنة، بسنوات؟ ورغم هذا لدي أمل وحيد هو ان التاريخ لايعود للوراء.
vv ياريت تحكيلنا عن مكانك الأول ، مدينتك قريتك،الموسيقى الشعبية وتناغمها مع لون الروح والألفة؟
المكان الأول «الريمجة» وهي قرية جبلية وسط عفرين، عرفت هناك الزهر والطير والثلج والبيادر والفراشات، والعشب والرمل والحجر، هناك شربت خمرة اللون والظلال والضياء، وكنا نغني ونسمع الصدى، وكنا حين نسافر الى حلب نرى السهل في الطريق وانعكاسات السيارات على الطرقات، عرفنا سحر السراب، كنت ألاحق الظلال، الأمر الذي تجدينه في لوحاتي والصدى، كثيرون يعتبرون الانعكاسات وكأنها في الماء، لكنها سراب، ولا تخلو بعض اللوحات من الماء كذلك.
لم اكن طفلا شرسا ابدا، ولم تكن عندي عقدة التفريق بين الجنسين كنت العب مع الصبيان والبنات، وفي مرحلة المدرسة الإعدادية، حاولت الحب بقليل من الخجل.
vv أنت ابن الفرات جاركم في الرقة
– نعم، كنا نطارد الظلال وهي تمتد عند المغيب حتى التلاشي، نقطة في سديم الكون الفرات، كما لو عاد الانسان الى طفولته من الماء الى الماء، حيث اللعب برمل الشطآن.
اقمت طويلا في الرقة، علّمت فيها الطلبة، ثم عملت في تجميل المحلات واليافطات التجارية كمهنة، ولم اتخلف فنيا عن اقامة المعارض في اغلب المحافظات السورية.
الأمكنة صور ورائحة:
vv الشغف للمكان الأول، الأماكن التي برحناها حية أبدا، تتبعنا إلى الجحيم، بل الصورة هنا اقوى من التماثل الحقيقي، لأنه مضافا اليها العاطفة، نرى الأشياء كما نحب، لأن الحب فلسفة من يحب، يحب بثقافته وحساسيته، من أجل هذا الصورة.لها صوت، والصوت موسيقى وإيقاع عشق مجنون؟؟؟.
– لماذا علي ان أنسى صفصاف دمشق وياسمينها واراكيلها ولياليها، الحافلات بالغناء واتذكر أني رايت يوما قمامة على جانب الطريق ؟
بمعنى ان هناك اصطفاء جماليا باستمرار، وكأن للذاكرة غرابيل، الآن اتذكر من كلامك البسيط حالات بنيوية بعيدة المرجع، تأويل الأصوات والصور والأماكن والذاكرة المتوارثة، انتربولوجيا ثقافية تترشح من بساطة كلماتك، توفيت أمي وانا ابن الثانية عشرة، وبقيت صورتها عالقة بذاكرتي وكأنها الحب والصورة التي لاتفارقني، كل عشق هو أول العشق.
ما السر في أننا نرى وجه المرأة وملامحها يتكرر بحركات مختلفة في لوحاتك..هل هي أمك؟
نعم لا بل تفوهتِ بعين الحقيقة، إنها أمي الحبوبة، انها اختصار النساء بامرأة واحدة ولا أعتبر العشق اصيلا ان لم يذُب الكون بعينين تختصران البحر والأسراب والسماوات، حتى لوكنت أميّا ولا أفهم بالرسم، ان العشق قدر على الأرض منذ نزول عشتار او آدم وحواء.
انت كعينة بشرية يكفي ان تنسكبي كما انت ولكن الفن في الجمالية، الجمالية في الصور، وإلا صار الشعر كلاما عاديا، وهناك أمكنة تشعرنا أننا غرباء ..إننا لاشيء.. الآن اسمعي، ما احلى هذا الخجل الجميل مع امرأة شرقية، فيما لو كان الحديث مع فرنسية، كنا التقينا وانتهى الأمر ولا تطلب الشعر ولا جمال الحديث .. فيما أرى فيك ما رأيته في أمي، هذا الحرام اللعين، هو سرّ حرارة الشرق، وسرّ القصيدة، اقول سرّ القصيدة لأنها تلجأ للترميز، وتبني صورة مثلى ولو على الخراب، تحيلنا الى كائنات روحية، تطهرنا من دنس الارض…
vv أنت حامل نهرك معك، وتبكي عفرين، ماذا يعني لك المكان الأول، وكيف بعد أن بات الوطن محرقة؟
– حين ابكي عفرين ليس من قبيل القومية، بل لأن جلّ ذكرياتي هناك، طفولتي وشبابي، ورائحة أهلي، ابكي ناسها وزيتونها، وأعي تماما بأنني إنسان بالمطلق، وسوري بالمكان، سوريا هذه البلد التي تختلف عن باقي الدول العربية، فيها موزاييك جميل، فينيقيون واشوريون وعرب وكرد وصابئة وووو، لاتشبه اية دولة في العالم، غناها بتعددها ووحدانيتها، ولو عقلنت نفسي للقيت الضياع، لهذا اترك المجال للحس العفوي فيقودني الى ممالك الجمال، البريق الأول لامراة او لشجرة، لصورة رجل كهل في الطريق، لنافذة تطل على سوريا.
vv أقول في نص لي «ألوب في المدن ..في الحارات في الشوارع في محطات القطار .. كأمهات المخطوفين والمقتولين والغرقى والمنفيين.. أسألُ كلَّ عابر سبيل … هل رايت دمشق؟»..ماذا تقول عن دمشق؟
– الفرنسيون الذين زاروا دمشق يبكون عليها هنا، لو شبهناها بامرأة فهي ليست بإمرأة النزوة، بل إنها المعشوقة التي تبقى وشما في الذاكرة، هي تشبهك لهذا أكتب على صورك دمشق، ولو لغزا أو دلالة بعيدة، العرب يقولون الكناية، وأجمل الكنايات، لاتوجد الا في اللغة العربية.
القراءة تضيء، الموسيقى السفر، كالحلم كالومضة كرفة جفن او ريشة عنقاء، الحزن فينا مقيم، فعلينا على الأقل تجميلة ولو خداعا للنفس،نسمع الغناء لندغدغ الدمع، كالناي، كهدير بردى عند الصباح، كميل الأوراق الى الاصفرار، كفستان يبقى في الخزانه ولا يجد المناسبة ليكون على الجسد، وانا منكب في هذه الأيام أن اصنع من الحزن العابا وقبعات والوانا فاقعة، لاتصعدوا أيها العشاق فتأتيكم السماء.
vv في هذه اللحظة أتذكر سؤال محمود درويش، بماذا سوف نحلم، حين نعود من الحلم وقد علمنا أن مريم لم تكن عذراء؟ ولأن النار كانت أول حركة شعرية كتبها الانسان، فإن الشعر بعمومه ذاتي وعام، وشاهد على الزمن، مثل كل الفنون، فكيف إذا كانت الكتابة مغامرة في الحياة والمعنى والتجربة، في منطقة مزدهرة بالكوارث؟
نعم .. الرساله التي كتبها «ادغار الان بو»، وضعها في الزجاجة، ورماها في البحر، والموج يبتلع الحي والميت، ولكن الأجمل وبعد هدوء العاصفة، حين يعثر مركب ما على هذه الزجاجة، في النهاية أن تصل الفكرة الرسالة اللوحة القصيدة، رغم الذاتية والخصوصية، والشعر هو الحياة على الأرض والتغني بالسماء، كما لو كان يحلم بالعودة.
ذكريات وصور:
كنا نجتمع في مرسم فاتح المدرس نغني ونرقص ونجن، وفي الشام تكفي أسوار الياسمين، في احياء المدينة، في بيوتها وحدائقها، وشوارعها، طلعة المهاجرين اتذكرها جدا، وتكفي عبق التوابل في السوق القديم في البزورية، ولم انس يوما بكداش صانع البوظة في الحميدية، وعلى مقربة منه اشتريت آلة العود، وعزفت على بلد المحبوب وديني، من مقام البيات، تعلمت عليه في الجندية الاجبارية التي قضيتها في الشام، هناك حملت معي أحلى الذكريات، الجميل أن معظم اصدقائي أصدقاؤكم، وكلُّ مرةٍ تُبرق ذاكرتي بالقصص والحكايا والوجوه.
vv كم ذاكرتك مطر
-كلما قرأت قصيدة حب للشاعر حسان عزت، اشعر بغنى المكان والزمان، وعلى طرف آخر أرى كيف اصبحت هذه القامات موزعة بين حضور وغياب …هناك اناس يدخلون ويخرجون وهناك من يبقى الى الأبد انت وحسان وشم البلاد الاخضر، عاشرت جلّ شعراء سوريا، جالستهم اكثر من التشكيليين، بل هم اصدقاء لي، الخطاب الإبداعي …جايه من نهر الأرض وطين الخلق.
أن تذوب يعني أنك تخلق من الآخر، يذكرني الفنان موفق فرزت كيف كنا نرسم بعضنا على اوراق المطاعم بالشام وحلب، هذا العبث الخلاق ..اللعب..التمثيل ..الحياة..التسكع الجنون …الجميل
vv كانت الدنيا كبيرة ..ورغم أنك وصلت لقارة أخرى …تراها صغرت.. أنت المولود في منطقة جبلية…هل شكّلت لك المدن امتدادا أفقيا…أم هو الخيال ….بألف جناح؟…
-في الرقة عملت بتدريس الفنون، كنت جار الفرات، وكنت أتردد على الشام دائما، ذلك الفرات الذي كان يحمل عسلا حين يفيض، كانت الرمال بعد انحسار النهر بلون العسل، مزيج من الرمل والتربة، بلون عيون عاشقة مختمرة بمطر الرب، ولانني ولدت في منطقة جبلية، كان الامتداد يدهشني، وكنت احلم بالافق والمدى المفتوح، كانت الدنيا كبيرة، امرأة فراتية هناك كانت تروي الذاكرة.
ورغم انتقالي لفرنسا، أرى أن الدنيا صغرت، والضجيج والقطارات والسكك الطويلة تحت اقدام المدينة لاتزال ترعبني، كل شيء خاضع للنظام هنا.
انتِ في بلد لاتقل صراخا عن هنا، اتصور انك احيانا تحسين بأن العمارات ستبتلعك، ورغم أن هذه المدن تمنحنا السعادة ولكن سرعان ما نعود إلى حقيقة أن العالم يضيق ويضيق، وحتى القارئ البسيط يلاحظ انك تكتبين الشام وليس المكان الذي يحتويك، أنت هاربة مثلي.
vv كيف يرسم الغائبون؟ لوحاتك تعيدنا لنساء الينابيع، ويبدو واضحا عندك قراءتك لروح المرأة …
أعرف رقة شعور الأنثى ولم أرسم النساء الا بعد دراستهن نفسيا وجماليا وعفويا وعشقا، و..و.. السهولة في الأداء التي يراها البسطاء تيها من بعيد، السطوح لاتكفي للعطاء، كالنبع نراه دفقا على الارض، ثم يأتي الجيولوجي ليرينا طبقات الصخور، وحاملات الجرار، وصور المرأة، لهذا أتقصد غياب الأشياء والمتع…
*جميل قراءة هذه اللحظات
-مرة كتب الشاعر جاك بييار وقد فاجاني، بانّه يُغيب الفعل اليومي حين يكتب عن تَقَصد، في أعماله لا نرى مرآة ولا انسدال ستارة او تحضير مائدة، او اي ابتزار على شرفة كرسوم النساء العادية فانه بغياب الفعل الانساني يرينا ملائكة، وليس بشرا.
*اي انتظارعلى شرفة أو نافذة اللوحة هي جحيم اللحظة وجنتها..
-أجمل ماسمعت، يا سلام يا فاتن، الفن توق للخير، مقابل البشاعة والظلم، لكنني أحاول أن أكون أنا هو أنا بقدر الإمكان، الفن كي نقدر أن نكتب أرواحنا..
*نعم ونبني فردوسنا الذي طردنا منه، نحن مطرودون، نعيش زمن القتلة؟
الآن أرى وأعرف ان من يقرؤكِ سيقف بجانبك ضد الظلم دون حشر كلمات الديكتاتور وغيرها
الحاضر الغائب:
*لنعد إلى اللوحة، بدأت بذكريات عن الرقة وفيض النهر، هذا الفيض مرتبط بثقافة الأنهار وحضارات النيل والفرات، مع أننا لسنا بعيدين عنهم،اتدري أننا بتنا مثل الحاضر الغائب كما يقول الروائي الياس خوري، لسنا هنا ولا هناك؟
نعم.. نعم، مشكلتنا ان هذا الغياب حضور متواتر فينا، نحن حاضرون في مكان مغيب، نعيش عبث كلّ شيء، انت على ما اعتقد وضعك اصعب كما لو كنت في مفاعل لتحويل البترول الى عمارات، وهي تنبت كالفطر، وتبعد ألفة الجيران، وتقاسم قهوة الصباح.
*نصب قهوتنا هنا ونتخيل أننا نشربها هناك، إنها الغربة حين تحكي عن ذكرياتك …يصحو النهر ..وتمتد السهول ..وكأنك تدخل لوحتك على رؤوس أصابعك، هل فكرت أن تكتب مذكراتك، أن تستحضر هذا المكان الواسع المفتوح على المطلق،والذي أصبح يضيق …مثل قميص يصغر ويصغر حتى يخنقنا؟؟
انا أرى الشاعر كبيرا يا فاتن، المسألة ليست مجرد تسلية او حب الانبهار، من يومين
وانا اقرأ لوتريامون، وقراءته صعبة، أذكر ما قاله لي صديق فرنسي بأنه لم يفهم شيئا منه، فقلت له قراءة لهذا العمل ليست للفهم، بل للانسياب، فقال انت شاعر، فقلت له لا أنا متذوق، وهذه خاصية الخاصة، ريلكه مع أنه من أصول ألمانية أحببته، أحببت قصائد الحب الفرنسية عنده..أما مذكراتي فربما وردت في اللوحة وبعض كتاباتي وحواراتي.
الغربة والفن:
كلانا في غربة، أنت وانا، ولكن أرى أنك لاتزالين ترين العالم أجمل مما أراه، ربما لأنك في بيئة عربية، فإن مسافة الغربة أقرب مني، لا أقصد المسافة بالبعد،وإنما في المجتمع، خصوصا أنك شاعرة، فتجدين من يصغي إليك هناك.
دخلت أكاديمية الفنون بالشام ،ولم أكمل فغادرتها في السنة الثانية، رأيت أن الكلية وكأنها تضعني ضمن اطار محدد، وكنت قد سبقت الأساتذة في معرفة الفن ولا اقصد بانتاجي او بلوحاتي، فصار من الصعب ان يصغي الانسان الى موضوع مكرر، او سبق ان عرفناه، ابناء جيلي كل الفنانين السوريين بدون استثناء بعد قشلان وفاتح المدرس ومحمود حماد ووووو، الذين كانوا اساتذتنا، ولم تنقطع علاقاتي وصداقاتي ومشاركاتي حتى مع الجيل الذي أتى بعدنا، وإلى الآن اراسلهم واشاركهم،
من هنا فأنا أعتبر الإبداع ليس له علاقة بالعمر نهائيا، فالفنان الذي خسر طفولته وعشقه وبعض جنونه يموت ابداعيا.
مرجعيات ثقافية:
*أكيد هناك تراكم ومرجعيات ثقافية تشكل رافدا حقيقيا للإبداع، بدءا من المكان مرورا بالقراءات والمشاهدات والتجربة، والفنون والموسيقى والسينما..كل هذه الخلطة…هي تركيبة الفنان الحقيقي؟؟؟
المرجعيات الثقافية،اسمحيلي ان اقول باننا كنا ننتظر ما يصدر من ترجمات وأغلبها عن الفرنسية، وهنا بفرنسا المشكلة محلولة تماما اذهب الى المكتبة المركزية اطلب شيئا عن دالي ان وجد كان به، وإن لا فالموظفة تؤمن لي ما أريد، في فرنسا اطلعت على السريالية والتعبيرية، وما بعد الحداثة، وزرت الكثير من المعارض والمتاحف، وشاركت في كثير من المعارض الجماعية فرنسيا واوروبيا، وحتى شاركت في مهرجانات مثل تونس واسطنبول وبيرينة على حدود اسبانيا وبروج في بلجيكا، في وسط اوروبي وعالمي على حد سواء لم اكمل فقط ما أنا عليه الآن، واعتقد بأنه ورغم اطلاعي وتشبعي واحتكاكي وثقافتي في أوربا، إلا أنني أَبيتُ أن أنصهر بهم كخصوصية.
تجربة غنية ومنوعة:
رأيت في الألوان الانطباعية مرجعا يذكرني بطفولتي، وبتلك السرابات وتنافر الضوء في الظلال يوم كنا نطارد العصافير
*أنت شاعر لون تمتلك كلمة وتلعب ع الموسيقى؟
نعم لقد وضعتِ يديك على حقيقة يجهلها حتى بعض أصدقائي حين أرسم كأنني اكتب، وأعتبر كل لوحة لدي قصيدة ، ورغم أنني لم أعتبر نفسي شاعرا يوما، لكنني في حال استعصاء الريشة او كسل اللون في الصقيع وبرودته أكتب، مفرغا شحنتي ودهشتي، والا تمزقت، وحين أعزف على العود، أفرغ دندنة مشرقية، بوحا هامسا للحنين.
السفر والرحلة:
*انت اليوم تركب القطارات، وتقرأ، وربما تعشق في هذه الرحلة…كيف تكتب اللون….بل كيف تعيش شعرية اللوحة في الرحلة؟
الأسفار ياسيدتي ضرورية لكبار الشعراء والأدباء، وفي اسفاري رأيت بعضهم وهو يكتب في القطار بين باريس وبروكسل،الرسم يحتاج إلى أدوات ومرسم وضوء، لكنني بهكذا أسفار كثيرا مارسمت نائما، اما عن اسفاري وابعادها في تجربة الحياة نعم اعتبرها جدا مهمة، واتذكر مرة ببون وانا ازور متحف بيتهوفن رجعت ورسمت عازفة على البزق رغم اختلاف الآلتين الموسيقيتين المهم الحافز او المحرك او لنقل المحرض، بعد السفر أعود بشحنة إبداعية، ولو اعقبها تناص من نوع آخر، حتى باكتشاف المختلف تكتشف ما انت عليه دون أن تدري، ان نقاط المقارنه أشبه بمحاكمة داخلية للمقاييس الجمالية والبيئية.
باريس وصدمة الغرب في البداية:
الحقيقة لم أعشْ تلك الصدمة كما لوكنت أميا، نحن كسوريين أغلب ثقافتنا المترجمة هي عن الفرنسية تحديدا ، أتيتها وانا اعرف مالارمية ولوتريامون وبيكاسو وسيزان وهوغو وكنا بسوريا نشتري كتالوكات لفنانيها، ولكنني شممت حرية الأداء والقول والرسم حتى الجنون، حتى أنني أستطيع ان اشرب الخمر في أية محطة للقطار، واذا قابلني صحفي اتكلم كما أريد، هذا المناخ هو الوحيد الذي عوض غربتي بالفرح..
* ترسم على الأرصفة ….هل هو مساحة لالتقاط الحركة الصوت الحرية..التقاط الموضوعات…أم هي حالة من الصعلكة؟؟؟
باريس مدينة الفن والمتاحف، والحرية، أغلب فناني العالم مروا من هنا، كنا نقول عن الشام طريق الحرير، فأقول هنا طريق الفن والابداع ، نعم هؤلاء الفنانون ومنهم عباقرة ولم يحالفهم حظ الشهرة يا صديقتي ومنهم أيضا مجمعون على المحرمات، حتى لو أمنت الدولة لهم مأوى، ورغم هذا يهربون إلى الرصيف كونه وطنا ومأوى…
في فرنسا زرت المتاحف جميعها تقريبا، وما ادهشني حقا متحف الفنان مونية الذي كان يرسم انعكاسات الشجر في الماء، وهو من مؤسسي المدرسة الانطباعية هناك،وقفت طويلا طويلا، وكنت قد ذكرت بأنني انطباعي اللون والتشكيل.
نعم رأيت زهرة الطحالب وأوراقها العريضة الخضراء طافحة على الماء كما لو كنت ارى لوحته.
* ما السر في حفاظ الفنان على خصوصيته المكانية والروحية والثقافية ؟
لو تحدثت عن ثقافة الغرب، فلن أعطيتك جديدا، لأن اغلبها مترجم، ولكنني فهمت نفسي وكيف يروننا وضعت يدي على مقاييسهم وكيف يتذوقون الشعر والفن والجمال، لسنا هنا بمعرض تعداد الكتب والمتاحف،الجوهراهم بالنسبة لي، وكنت قد تحدثت عن دهشتي ازاء بركة مونيية، فقط لأنها ارجعتني الى البركة التي كنت أراها في طفولتي وحتى الوان الانطباعيين ليست الا تشابها وليست تقليدا كي ارضي الفرنسيين، ولو عملت ذلك لذبت ورحت مع الريح، إن الخصوصية هي التي حمتني من الضياع، وأرى أنني اضفت للانطباعيين مرور الضوء في الاجساد الكتيمة، وجعلت لهم العالم شفافا، وقد قالها هنا اكثر الأصدقاء الفنانين عني.
*أنت ابن الشمس والماء عنصري الحياة
في خاصرة امرأة يمتد الثوب ليصير عشبا او ماء فيما الانطاعيين الكلاسيكيين كانوا ملتزمين بمقاييس الواقع لونا وتشريحا وابعادا، انطباعيتي ليست آلة فوتوغرافية، ان الواقع الفني، واقع موازٍ وليس منطقيا، في هذه اللوحات ترين مرور الضوء والسرابات، وحتى شعلة النوروز وجمرتها في الأحمر، او في أبدان الخارجات من الخرابات المهاجرات الواقفات على حدود الريب، بقي اللون هنا زاهيا لم يتغير الأحمر والأزرق والأبيض.
*» العالم الذي لا يؤنث لا يعول عليه»
الأنثى نعم اعتبرها هي الأولى في الخليقة، واعتبرها أنها خسرت الوهتها بعد اكتشاف بواطن الأرض من قبل الرجل الذي صار بعدها يتكلم بالثروة، والا لماذا كانت المرأة في البدء تمثل الاله.
اليوم ايضا بعد اكتشاف الآلة الرقمية تحوّل كل منتوج صناعي إلى الضغط على الازرار الأمر الذي يجعل المرأة تعود الى القوة بعد بطلان فاعلية العضلات، ونحن دائما نحسد الغربيين ولا نعرف بأن سبب تحرر المرأة هو نوع من الانتقال من الانتاج العضلي الى العقل، واعذريني بهذه المداخلة باعتبارنا لسنا بحوار فلسفي او بعلم الاجتماع، ولكن لا بد من إضاءة على الموضوع، لأنه من صلب ما ارسمه باستمرار كموضوع مفضل لدي، اضافة الى تراكمات الحنين والعشق الذي تعترضه مداخلات الأسرة والعشيرة الخ في بلادنا، انفلات حتى من القبيلة والعشيرة والجنسية والقومية،لوحة حياة متوازية لحياتنا. وليست كما آلة التصوير لأرشفة الصور او تبجيل الأشخاص كما كان في عهد نابليون او حتى منذ السيد المسيح، من هنا فإني اهنئ اصدقائي الفنانين بتحرير الفن من سلطة الأب والحكومات والوثائق الرسمية، والاستنساخ الخ.
ان الجمال لايكتمل خلف الأبواب، الا حين تقتحمينها
استاذ عنايت ……………هل غاب الوطن ….هل اللوحة وطنك، في غياب البلاد …هل يتحول الفن إلى وطن ؟ ما هو مفهوم الوطن عندك في ظل القيامة التي نعيشها؟
الوطن الذي كبرنا فيه بكل جناته كان لنا فيه قدر امتداد أجسادنا، والغربة تفتح أمامنا الآفاق صبا وحنينا لنعود ونتمدد حتى المدى، كنا صغارا يلقنوننا الأناشيد، واليوم صارت البلاد نشيدنا، كان مرسوم لنا الأماكن والمواجد والصلوات، والآن نحن نرسم مانريد ولو كانت الأماكن ذاتها، ان شرط الحرية هو الوحيد الذي يجعلنا نقبل صراخ المدائن والقطارات والمطارات والأسواق الباذخة والعطورات والشقراوات والمتاحف والملامح التي لا ننتمي اليها ولا تنتمي لماضينا، ان الافق هنا مفتوح بكل الجهات وانا من يفتج جهة البلاد، كي لا أكون غريبَ الحلم، والابداع واللون والذاكرة، لو كنت الآن صحفية فرنسية لما استطعت ان تفتحي تلك الأبواب، وتشيري الى طفلة جريحة هناك، لاتنسي حضورك هنا يا صديقتي.
كيف تروي حكايتك من خلال الفن، وهل تشعر أنك دخلت الحياة ؟
يا عبق الياسمين على مرايا الافتراض، ذاهب معك الى هناك الى مقاهي الأراجيل، وأسوار الياسمين، ونسمة بردى، كيف وهل دخلت الحياة؟ الحياة لا ابواب ولا حدود ولا جهات لها، نحن جزء منها نتلون بها، نعيشها ولا نعيش فيها، نتنشقها كما العاشق لايعرف اسباب الصاعقة حين تأتيه، ولا من أين ولا كيف، معناها لا يا صديقتي انت هنا مجبرة تنشري حتى كلامك.
* عنايت يبدو واضحا روح الأسطورة الكردية في رسوماتك، هل علينا ان نحمل جذوة النار ونلتفت إلى هناك…….كيف يمسك الخيال بكل هذه الينابيع؟
يا الهي كم انت شاعرة لأنك انت ترسمين خط الجواب، نعم منذ أن كنت في سوريا وكان معرضي في المتحف الوطني بحلب تقريبا جل أعمالي من الأسطورة، نعم إنها اساطير شرقية، وبمقارنة بين «ممو وزين» مع «قيس وليلى»، لا يختلف الا باللغة ولكن روح الشرق يغلي فينا جميعا، الأسطورة هي تواتر الماضي في حاضرنا، مهما قلنا بأننا احرار في اختيار شخصياتنا وعاداتنا بل حتى لو كنا وجوديين، فإن هذا التواتر مستمر فينا، ويا لذلك النبع الذي شربنا منه جميعا، ان شفاهي مزبدة الآن بذكر تلك الينابيع، ينابيع التأسيس للحياة برمتها، ربما احسد الغرب في صناعتهم وديمقراطيتهم وحرياتهم الشخصية لكنني ابدا لا أحسدهم في مادية الحياة وقسوتها وبرودتها.
*الوجد ريحة ترابنا، وريحة بيوتنا، ريحة طين بيوتنا بعد مطر، نحن اولاد النار والريح، وليس الحديد، نحن ابناء ثقافة الأنهار، أول الأبجديات، عشتار وإنانا، حمورابي ولوح العدالة…نيوتن نام تحت الشجرة فاكتشف الجاذبية وشكرا له لما قدمه للانسانية، ولكننا نمنا فاكتشفنا الاله، نحن أبناء النشيد؟؟؟؟
– كل الآلهة والديانات بدأت من هناك حتى مسيحهم،هذا ما أردده دائما، وهنا اسمحيلي ان اقول للقراء انا لست متدينا ولكن شحنة الروح لدينا خلقت الآلهة منذ التكوين، هناك نشم ريحة للقلب، وريحة للعشق، وللقاء وريحة للوطن، وللحزن والفرح، نعم، من هنا مرّ المسيح، ومر ابراهيم، ومر زرادشت، والكساندر الكبير، ومن هنا بدأ السؤال والبحث عن عشبة الخلود، وهنا نزلت عشتار، وهنا مشى انكيدو وهنا مشى عنايت العطار وجلجامش وحمورابي وفاتن حمودي.. بيني وبينك يافاتن وطن يركض حافيا فوق المرايا.
*كم أنت شاعر..وكم نتقاسم روح المكان وثفافته أستاذ عنايت…
في سؤال عن الشام، الشام واللقاء بالشعراء \ سليم بركات ديلانا وديرام\
الشام ذاكرة الجمال في غربتنا، الجائزة التي حصلت عليها من صديقٍ تركنا ورحل تاركا ألوانه وشما على قلوبنا؟
إني سعيد لأنها سميت باسم المرحوم عمر حمدي، مالفا، كنا حين نلتقي نتخاصم نتصالح نطيل الحديث عن الفن عن الغربة عن ثوب امرأة في لوحتي عن بقعة لون في لوحته، ومع أنّه يحب الصمت لكنه كان يقول لي باستمرار لا أعرف كيف تخرج مني الكلمات، العلاقة بيننا قديمة، منذ كنت في الشام، كنت أزوره في بيته في أعلى نقطة بالهامة، وفي يوم من الايام جاءني وقال لي بعد ايام سوف لن تراني ابدا، وفعلا رحل هكذا، وكنت فقط انا وحامد بدرخان نعرف أنه سيرحل نحو أوروبا.
كنت في دمشق أتوقع أنه سيحتل مكانة عالمية، وكان يقول لي انتَ الوحيد الذي قال لي « لم ارك يوما تحسد الآخرين»، كان يعرف حبي وصدقي له، مرة كتبت عنه بصحيفة الثورة، فأعجبه المقال، وقال لي ، إنك تفهمني، راح إلى الخلود تاركا لنا بصمته الخالدة..
وأحيانا كان يقول لي أحسدك على الحرية، كان مالفا عبثيا من الداخل، وانا كنت اطفح بما اريد، كنت مكشوف الجنون ولكنه كان هو يبتلعه.
*شاعر حتى بوصفك واستحضارك للذكريات
أذكر مرة اتصل هاتفيا من شاطئ اسباني كنا انا وبهرم حاجو هنا، قال مللنا الاعتكاف والصمت تعال وخرّب علينا الصمت، كان يقول لي احب فوضاك، بداخلك ألف حصان.
اما عن كلامك بأن حديثي ووصفي فيه شعرية عالية، فأقول نعم، فالشعر هوايتي الثانية، وليس غريبا هذا عنا كوننا تعلمنا العربية الفصحى منذ نشأتنا، لم نكن نعرف اللغة المحكية او العامية، الا بعد البكالوريا حين سكنا المدن الكبرى بدأنا نكتشف خصوصية المدن وناسها.
أما شعراء الغرب، فأحبهم من حيث التكنيك والمغامرة، أحيانا تأتي جملة ليس لها علاقة ابدا بالجملة التي قبلها، أحببت آلان بوسكيه، ولوتريامون مع ان لغته صعبة حتى على الفرنسيين، واحببت ريلكة، وقراءة حياته كونه أتى من المانيا وعاش فترة في محترف نحات الفرنسي، اليوم تراجع جمهور الشعر ربما لصالح الرواية، اذكر أنني حضرت امسية لأدونيس، ورغم روعة ما قدمه إلا أن الجمهور كان أقل مما لو كان في دمشق أو حلب.
كان مع أدونيس مع عازف كمنجة، وابني لاوند في زاوية اخرى كان يرسم لوحة، من أجواء الشعر والإلقاء، ابني فنان أيضا، ، يبدو ان هؤلاء الشعراء شبعوا من الانتشار ورجعوا لسر الكتاب الواحد، أو القصيدة الواحدة.
أخذتني في رحلة وفيلم،خلينا ضمن خيال شعري افضل لأننا اجرينا كثيرا من المقابلات حول السيرة وكيف وكم لوحة وكم معرض، معك فاتن راح الكلام إلى السماء، قالت صديقة بودلير، أريد منك أن نمشي سويا بحديقة لوكسمبورج على اقدامنا،قال لها:» لتعلمي ان لبودلير جناحين كبيرين، مع ان بودلير لم يكن محظوظا بالحب.
*سكرة البلوى
كم انت رائعة يا فاتن، لا أجاملك قلبك رائع كل كلمة قصيدة وكل نقطة انثى مذابة، لا تذوبي النساء فإني احتاجهن للتجلي، إنهن سماوات امتدادي، ولكنك انت الحفارة والمسمار،الشعراء قديما كانوا انبياء وفلاسفة، حين نفي الشعراء من جمهورية أفلاطون لم تقم من يومها أي مدينة فاضلة..
لهذا أعدموا الحلاج ..اعتبروه كافرا..
-يعجبني دائما منك هذا الاستدراك والله لم اتباهَ يوما وحتى الفرنسيين يقولون لي أحيانا كيف تعرف اشياء عن فرنسا اكثر منا، اقول لهم وكم من المستشرقين جاءوا الينا..
هم يقتلون المختلف الأكثر نبلا …لا يحتمل عالمهم هؤلاء، ورغم أنهم كما يقولون، عرفوا الشام حجرا حجرا، لكنهم يتعاملون بوعي مسبق، لا تتدخل المعرفة في الابداع، فهي مفيدة في تراكمها، واسبقيتها، لا اثناء العمل، المعرفة تشبه رقيبا يقف بعيدا، يومئُ لك في حالة الزلات، لأن الجنون بلحظة ما يحتاج إلى معادلة، مثل حالة السكر في الخمارة وبرفقة الاصدقاء، المعادلة أن تحملني اقدامي الى البيت دون التيه، من هنا يمكننا ان نقول بالجنون العارف، الحاجة للجنون..الحاجة لديلانا وديرام…الحاجة للشعر والفن، أمام نزيف عفرين، أنا الفنان العفريني كتبت رسالة لها قلت:» …
من كان يصنع من حلاك خارطة لمنابت الشوق ؟
ويرمي على شالك القذحي ألوان الهوى .. عفرين
من قال أننا هنا وهناك ..
وعفرين المدينة ….اغمري مرايا الحنين بجديلة هاربه في الريح
أنا كوردستان»
*كنتم الحياة بصخبها الجميل، كما قلت، وكنتم تسمون بعضكم على اوراق المطاعم والمقاهي بالشام وحلب، هذا العبث الخلاق، ..اللعب..التمثيل ..الحياة..التسكع الجنون …الجميل.. كنتم ضجيج المدينة…، كيف حملت الفرات معك عنايت…هل علينا أن نحمل أمكنتنا وصورنا معنا؟
– في مدن الغرب ضجيج الآلة الرعناء، ولنا هناك صدى الأغنيات، واليوم صار العويل ضجيجنا، كل ياسمينة وهبت رمادها للغيم، كل زاوية تركت ظلالنا للغيب، الغياب يأخذنا إلى هناك.
الفرات ملتقى الصبايا في ظهيرات الغسيل، ونحن بين الحضور وبين الانخطاف نلهو بالصور،جمال الفرات هو انه تحت حريق الشمس، حيث كانت واحتنا، ومن نهر إلى نهر هنا في باريس نهر اللوار خلف نافذتي تنشر الماء على الماء، ونحن ننتظر الشمس، الفرات هو العشق منعتقا كخمرة الأندرين، واللوار ضائع المرايا تحت صدأ الحديد، وبرودته الرعناء، فيما اللوار عار من الأنس ولو على أطرافه ترصف المقاهي ولو على صدره الوان المراكب والأشرعة كأنني لم ار نفسي على صفحته الداكنة.
*أشعر أنك تأخذني في رحلة بين مكانك المفتقد ومكانك اليوم؟
قراءة المكان في لحظة حنين، نعم، كنا نسبح في الفرات ونشرب منه ونسامر القمر الغارق فيه حتى الصباح، هنا المسابح والأجساد البرونزية العارية، لم تترك مكانا للقصيدة.
*وهل تربط القصيدة بالخجل؟
إن القصيدة كانت تجاوزا للاستحياء، فلا استحياء هنا، ولا حمرة خجل لصبية،كم كانت الوجوه مجمرة هناك، الحب هو هذا الاستحياء الجميل في شرقنا، هو سبل الجفون وورد الخدود، وسيل الكحل، والدمعة النازفة، انبياء بهيئة بشر، لا حب في الغرب، كل مافي الأمر هنا أسرة مترفة للسقوط. ولكن صدقيني أن لا حب في مجتمع مكبوت، إن إزاحة الكبت علمتني الحب، في الشرق يختلط الأمران معا، فيكون اللعب على المحرم والمستور.