(لو أهل عمان أتيت، ما ضربوك ولا سبوك) النبي محمد صلى الله عليه وسلم
ما إن طرح المستشرق الأمريكي برنارد لويس كتابه «الإسلام في التاريخ» عام 1973 الذي يتمحو حول أزلية الصراع بين الغرب والإسلام حتى استولت فكرة صدام الحضارات على مفكري العالم. فكرة «أزلية» الصراع بين الإسلام والغرب تطورت إلى «الأبدية» والمواجهة الحتمية مع صامويل هنتجتون الذي تكهن في مقاله «صدام الحضارات» الصادر عام 1993 والذي تحول في عام 1996 إلى كتاب يحمل نفس العنوان بتحولات سياسية وشيكة في العالم العربي، وتنبأ بوصول الإسلاميين إلى السلطة، وهو ما نراه اليوم!، وأن القوى الإسلامية ستتحالف مع الصين ودول شرق آسيا ضد الغرب المسيحي في صراع كوني مرتقب. حاول كثير من المفكرين التملص من إلزامات أطروحة صدام الحضارات المؤسَسة على فكرة الصراع الديني، ومن بين هؤلاء محمد عابد الجابري وإدوارد سعيد. اتهم إدوارد سعيد هنتجتون بالأخذ عن برنارد لويس وبالانتقائية النصوصية في النقل، أما الجابري فقد عمد إلى تفكيك أطروحة هنتجتون متهما إياه بالمراوغة والقفز على الحقائق وتزوير التاريخ، مع تسليم بوجود صراع بين الغرب الذي شبهه بالسيد وبين العرب الذين شبههم بالعبد، قائلاً أن ثورة العبيد على السادة باتت غير ممكنة خاصة بعد نموذج تدمير العراق بعد حرب الخليج الثانية في التسعينات، وأن على العرب اعتماد مبدأ نضال النقابات العمالية من خلال قاعدة خذ وطالب(1). لكن تلك الردود لم تكن بمثل شعبوية الأطروحة اللويس-هنتجتونية التي تخترق الوعي لتمتزج بالعواطف واللاشعور فتثير هواجس الناس وتتفاعل مع المسكوت عنه من اختلافات دينية وتوترات طائفية بين الشعوب والأمم. لم تمثل فكرة «صدام الحضارات» قلقا عربيا فحسب، بل إن ما أحدثته من ردات فعل عالمية ربما يكون أكبر بكثير، حيث يقول هنتجتون في مقدمة كتابه: «في صيف عام 1993 نشرت فصلية «Foreign Affairs» مقالاً لي بعنوان «صدام الحضارات» أثار جدلا استمر ثلاث سنوات) (2). وقد قدم المفكر الهندي أمارتيا سنج في كتابه «تعدد الهويات» أطروحة واعدة لمواجهة فكرة «صدام الحضارات»، على اعتبار أن الدين ليس سوى وجه واحد من وجوه الهوية الفردية، وكل إنسان له هويات أخرى تميزه بجانب الدين، فهناك الهوية العرقية، والهوية الجغرافية، وهوية اللون، وهوية اللسان واللغة، وهوية الوظيفة، وهوية الاهتمامات العلمية والفنية والأدبية، وهناك الهوية الرياضية والموسيقية، إضافة إلى ما هو أكبر ألا وهو الهوية الإنسانية، وحاجة الإنسان إلى أخيه الإنسان. فإن اختلفت أديان الناس هناك دائما ما يجمعهم ويوحدهم ويعيد تشكيل الجماعة البشرية خارج إطار الهويات الدينية(3). هذه الأطروحة الهوياتية الحالمة تقاطع المفكر الإيراني عبد الكريم سروش مع كفل منها في كتابه «الصراطات المستقيمة» لا في إطار الهويات وإنما في إطار الأديان ذاتها، منطلقا من فكرة «نسبية» الحقيقة الدينية، وبالتالي ضرورة «تعددية الأديان» والمذاهب(4). وفي إطار ردة الفعل العالمية ذاتها ضد اجتياح فكرة صدام الحضارات للعالم أعلنت منظمة الأمم المتحدة ممثلة في اليونسكو يوم 16 من نوفمبر عام 1995م يوماً عالميا لـ(التسامح)، وهذا الإعلان يأتي–بحسب اليونسكو- لمواجهة ظاهرة التطرف العرقي والديني الآخذة في البروز والتزايد، وكان من ضمن توصيات هذا البيان حزمة من الاقتراحات لترسيخ مبدأ التسامح في الدول، أهمها تغيير المناهج الدراسية، والضخ الإعلامي نحو تعزيز هذا المبدأ(5).
التسامح:
تعود فكرة التسامح إلى القرن السابع عشر الميلادي مع سبينوزا وجون لوك اللذين قدما بديلاً تنويرياً للحرب الكاثوليكية البروتستانتية التي أهلكت ثلث سكان أوروبا. بيد أن مما يثير الاستغراب أن المنظرين الأوائل للتسامح لم يكونوا بذات القدر من التسامح مع الخصوم السياسيين لدولهم القومية، حيث اعتبر جون لوك والفرنسي بير بل أن الكاثوليك ليسوا جديرين بالتسامح لأنهم يدينون بالولاء لسيد أجنبي الذي يمثله البابا في روما(6). الأمر ذاته نجده حاضراً لدى المنظر الأكبر للتسامح وهو الفيلسوف الفرنسي فولتير صاحب كتاب «التسامح» حيث استثنى المتعصبين لآرائهم من قائمة من يجوز الاختلاف معهم، يقول فولتير: (فعلى البشر إذا أن يبدأوا بالتحرر من كل تعصب ديني كيما يستأهلوا معاملتهم بتسامح)(7). ويرى هؤلاء أن التسامح كفكرة تفترض أن الآخر ليس بالضرورة مسالما، بل هو طرف معتدٍ، فلزم مقابلته بالتسامح وفي ذلك يقول حسن حنفي معرّفا التسامح بأنه (سلوك شخصي يتحمل دون اعتراض أي هجوم على حقوقه في الوقت الذي يمكنه فيه تجنب هذه الإساءة)(8). ولا شك أن هذه القولة تذكرنا بالنص الإنجيلي (مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا)(9). من هنا يرى البعض أن فكرة التسامح لا تقوم على الاعتراف بالآخر وقبوله قدر قيامها على تأكيد الخلاف والتمايز بين الجماعات على أسس دينية أو عرقية، فلهذا يقول توماس بين: (ليس التسامح مضاد للاتسامح، بل هو تزييف له، فكلاهما ضرب من الاستبداد. أولهما يعطي نفسه حق منح حرية الضمير، والثاني يخول لنفسه حجبها)(10). مفهوم التسامح مع ذلك هو الأكثر واقعية بالنسبة للشعوب المستضعفة أو تلك المفتقدة لأدوات القوة والهيمنة، فمطالبة الأقوياء في زمن الاحتراب –كما هو الآن- بالحقوق والتعامل الندي ربما يستفز هذا الطرف القوي نحو مزيد من التنكيل والعسف، فلهذا يرى برات أن التسامح لا يعبر عن (الاحترام الذي يجب أن يشمل الآراء التي لا تتفق معه، ذلك لأننا نتسامح مع ما لا نقدر على منعه، والذي يتسامح ما دام ضعيفا يحتمل جداً أن ينقلب إلى لامتسامح عندما يزداد قوة)(11). يدرك الطرف الأقوى دائماً حاجة فعلية للتسامح كسلاح مخدر، فلهذا هو يحاول دائماً توظيفه خدمة لأهدافه في محاولة توجيه الأغيار نحو الاستسلام الأبدي لمطامعه وشهواته التوسعية، وهو ما يؤكده كوندروسيه بقوله: (إنه في البلدان التي كان يستحيل فيها على دين معين قمع الديانات الأخرى، قام ما أسمته عجرفة الديانة المهيمنة بـ«التسامح» أي رخصة يعطيها أناس لأناس آخرين تمكنهم من الاعتقاد فيما يقبله عقلهم، والعمل بما تمليه عليه ضمائرهم)(12). نتيجة لكل هذه الضبابية والظلال غير المتسامحة بل والمحتربة أحيانا التي يتضمنها مفهوم «التسامح» لم يكن لدعوة التسامح التي أطلقتها منظمة الأمم المتحدة ممثلة في اليونسكو بإعلانها يوم 16 من نوفمبر عام 1995م يوماً عالميا للـ(التسامح)(13) ولا تنظيرات فلاسفة الأنوار من أثر في علاقات الجماعات الدينية ولا العرقية، فالتاريخ شاهد على الحضور الهائل للرموز الدينية في الحربيين العالميتين، وكيف مارس المتعصبون اليهود -ولا يزالون- التطهير العرقي ضد الشعب العربي المسلم والمسيحي في فلسطين، وكيف تمت تصفية المسلمين من قبل المسيحيين في البوسنة والهرسك، وكيف تم تهجير المسيحيين من قبل المسلمين في العراق، وكيف اجتثت القوات البوذية فلول الهندوس في سريلانكا، ولا يزال العالم العربي والإسلامي يعيش وضعا متفجرا من الصدامات والحروب الطائفية والعرقية. البشرية اليوم بحاجة إلى ما هو أكبر من «التسامح» بين الطوائف والتيارات الدينية والعرقية، كما أنها بحاجة إلى ما هو أكبر من «العدل» الذي قال به رونفيه ومحمد عابد الجابري(14). البشرية اليوم بحاجة بالإضافة إلى العدل الإحسان واحترام الإنسان وصولا إلى التفاهم والانسجام، وهو ما تحقق في التجربة العمانية.
التجربة العمانية:
تقع عمان في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية ويمتد ساحلها البحري قرابة ألف وسبعمائة ميل، وأغلب أراضيها إما صحراء جرداء أو جبال صماء محيطة بواحات وسهول خضراء تمثل مناطق التجمع السكاني. ويوجد في عمان بجانب العرب مواطنون من أعراق متعددة، حيث يقول الرحالة البريطاني ماكس أوبنهايم الذي زار عمان في النصف الأول من القرن التاسع عشر متحدثاً عن التركيبة السكانية للعاصمة العمانية مسقط ما يلي: (يثير سكان مسقط اهتماما متميزا، فالجنس السائد هو الجنس العربي الذي ينتمي إليه السلطان أيضا ومعظم السكان، وينتمي الجزء الأعظم من السكان العرب سواء في مسقط أو في ما وراءها من الأراضي إلى القبائل العربية الجنوبية، لاشك أن أعمال جلب الزنوج الأفارقة والحبشيين ولو بعدد أقل نشيطة منذ آلاف السنين، وقد أثر الاختلاط بهؤلاء الزنوج تأثيرا شديدا في ملامح أغلبية السكان. لقد جاء البلوش والفرس إلى هذه الربوع في إطار هجرة من الساحل المقابل من الخليج، وقد استقر عدد كبير من الهنود في مسقط نتيجة للعلاقات العريقة مع الهند، وينتمي جزء من هؤلاء إلى المذهب الهندوسي، ونجد من المسلمين الهنود طبقتين ما الشوجة والجط، إضافة إلى ذلك تعيش في مطرح جالية صغيرة من اليهود)(15). أما من ناحية التعدد المذهبي فيقول أوبنهايم: (انتشر الانشقاق الديني الذي ما لبث أن هز العالم الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أرض عمان حيث استطاعت طائفة متميزة هي طائفة الإباضية أن تنتشر في وقت يسير في كامل البلاد، وظل هذا المذهب سائداً في عمان إلى اليوم)(16). لكن يوجد في عمان إلى جانب المذهب الإباضي مذاهب إسلامية أخرى حيث ذكر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة وآخر لوكالة الاستخبارات الأمريكية عام 2007م أن التوزيع المذهبي في عمان هو كالتالي: 75% من السكان ينتمون إلى المذهب الإباضي، و25% ينتمون إلى المذاهب السنية المختلفة، إضافة إلى تواجد أقلية من مذاهب الشيعة(17)، وتعيش كل هذه المكونات والأطياف والأعراق حياة تتميز بالتآلف والانسجام. يقول رياض حسن محرم: (لمدة تزيد عن عشرين عاما عملتها في سلطنة عمان، أدعي أنني كونت خبرة ليست قليلة عن هذه الدولة الفتية، ولا أزعم أن ما تراكم من خبرات كله إيجابي، إلا أن أكثر ما أثار انتباهي هي هذه التوليفة العبقرية للتسامح اتجاه الذات والآخر التي تشكل نسيجا عضويا في التركيبة العمانية)(18). هذه التعددية القائمة على التسامح والانسجام التي يذكرها محرم ليست وليدة الساعة بل هي تعددية عريقة، يؤكدها الكثير من الرحالة من المستشرقين، فقد وصف الرحالة البريطاني وليام هيود عام 1816 العمانيين بقوله (وهم في غاية التسامح. كما أنهم، على حد سواء، بسطاء في تصرفاتهم، وقليلا ما يفرّقون في تعاملهم مع الديانات الأخرى)(19). وذات الأمر سجله الأمريكي إدموند روبرتس في عام 1833 حيث قال: (كل الديانات في مناطق نفوذ السلطان، يعامل أتباعها بتسامح شديد، وليس هـذا فحسب، بل تقدم لهم الحماية الكافية بأمر من السلطان، ولا توجد أية عقبات تمنع النصارى واليهود، أو غيرهم من ممارسة شـعائرهـم الدينية، أو بناء معابدهـم)(20). هذه الحقيقة أكدها أيضا المبشر الإنجليزي ويليام جيفورد بالجريف عام 1863 حين قال عن العمانيين: (هم بطبيعتِهم دون أدنى شكّ، حسبَ خِبرتي بهم، الأفضلُ سَجِيّةً، والأحْسنُ مَعْشَرًا، والأكثرُ أنسًا، من جميعِ الأجناسِ العربيّة. التسامحُ، بأقصى درجاتِه التي لا تُوجدُ حتّى في أوروبّا، مَكفولٌ هنا لكلِّ الأجناسِ، والدّياناتِ، والعادات. المسلمون، واليهودُ، والمسيحيّون، والهندوس، جميعُهم يعبدون اللّه بحرّيّةٍ حسبَ معتقداتِهم، ويلبسون ما يشاؤون حسبَ عاداتِهم، ويمارسون الزواجَ، ودفنَ الموتى، والمواريثَ، حسبَ تقاليدِهم الخاصّة دون قيدٍ، أو إزعاجٍ، أو مَنْع)(21). فما هو سرّ هذا التسامح العماني والانسجام بين عناصر المجتمع العماني المختلفة؟ للإجابة على هذا السؤال علينا استحضار الجدل الفلسفي القديم حول أصل التفاوت بين البشر سلوكا ومعرفة، هل هذا التفاوت راجع إلى الطبيعة البيولوجية كما يذهب إليه أنصار النظريات العرقية كآرنست رينان وغيره، أم هو نتاج البيئة والعمران والتربية كما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته. يبدو أنه بات من حكم المستقر لدى أغلب علماء الاجتماع أن السلوك البشري هو نتاج التربية وثقافة المجتمع، يقول جان جاك روسو منتصرا لرأي ابن خلدون: (من الميسور في واقع الأمر أن نرى أن من بين الفروق التي تميز بعض البشر عن بعض كثيرا منها يبدو وكأنه طبيعي والحال أنه من صنع العادة وشتى ضروب العيش التي ينتحلها البشر في المجتمع. وهكذا فإن مزاجا شديدا أو رقيقا وما يلازمه من قوة أو من ضعف إنما يأتيان من تكون الأجساد البدائي، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى قوى الذهن فالتربية لا تقيم فرقا بين العقول المهذبة وغير المهذبة وحسب، وإنما تزيد أيضاً في الفرق بين العقول المهذبة على نسبة ما لها من تهذيب)(22). ونحن إذا رجعنا إلى البيئة العمانية ومناخها الطبيعي وثقافة مجتمعها أمكننا تحديد مجموعة من العوامل التي أرست دعائم التسامح العماني وكتبت فصوله، وهذه العوامل هي:
أولاً: العامل الجغرافي
تقع عمان في الأقليم الجنوبي الثاني من الأقاليم السبعة التي قسم بها المسعودي العالم في كتابه «نزهة المشتاق»(23). ويرى ابن خلدون أن سكان الأقليمين الثالث والرابع هم الأقرب إلى الاعتدال، بيد أنه يستدرك بالقول: (ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما اليها من جزيرة العرب في الإقليمين الأول والثاني، فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوباتها أثر في رطوبة هوائها، فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحرّ، وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر(24). إذن لرطوبة البحر تأثيرها الفعال في غرس قيم الاعتدال في البشر، وهو ما يؤكده ابن خلدون ثانية بالقول: «البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة)(25). وعمان لها النصيب الأوفر من مجاورة البحار مقارنة بجميع الدول العربية شرقا وغربا. لا ينحصر تأثير البحر على السلوك البشري والعلاقات الاجتماعية من خلال تأثيره على المزاج وحسب، بل هناك تأثيرات أخرى هامة، منها أن المناطق البحرية عادة ما تكون ممرا لطرق التجارة العالمية، وتكون أيضاً قطباً جاذبا للهجرات السكانية التي تؤدي بحسب علماء الاجتماع (إلى التنوع الأثني والثقافي في كثير من المجتمعات، كما تسهم في إعادة تشكيل الأوضاع الديموغرافية السكانية والاقتصادية والاجتماعية)(26)، وقد كانت عمان، محطة من محطات ما يعرف بـ«طريق الحرير» الذي كان يصل بين الحضارات الرومانية والمصرية والهندية والصينية. وتذهب إحدى الوثائق الأكادية إلى أن الإمبراطور سرجون ملك أكاد (2300ق م) قد جلب مراكب من عمان إلى بلده(27). إضافة إلى أن للبحر سحرا، فهو ما ينفك يدفع سكانه إلى محاولة الغوص في مجاهله واكتشاف العوالم الأخرى المحيطة به، وهذا الفضول الكشفي والشبق المعرفي يساهم في التعرف على الحضارات المختلفة وثقافات الشعوب وبالتالي إلى قبول الآخر واحترامه، وقد كان العمانيون من أبرز الملاحيين العالميين، فأبو عبيدة عبدالله بن القاسم أول عربي وصل إلى الصين ونشر فيها الإسلام، ومنهم أحمد بن ماجد الملاح العربي الذي دلّ الأوروبيين على طرق الملاحة الآمنة للوصول إلى الهند، وكانت الأساطيل العمانية هي المتحكمة في حركة الملاحة البحرية على امتداد سواحل بحر العرب والمحيط الهندي(28). وكما أن للبحر تأثيرا في طبائع الناس وعاداتهم للصحراء كذلك سحراً وتأثيراً، فهي مرتبطة بالانكشاف والشعور بانعدام الأمن والاستقرار، الأمر الذي يدفع سكانها إلى كثرة التنقل والترحال بحثاً عن مصادر الأمن الغذائي والاجتماعي، مما يجعل سكانها أكثر ميلا إلى إعانة الآخرين وإكرامهم، فمن تكرمه اليوم سيؤويك غدا ولن يمنعك الغذاء والماء. إضافة إلى ما أشار إليه ابن خلدون بقوله: (وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش… هذا أمر تشهد له التجربة)(29). وقال أيضاً: (وأعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة، فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب) (30). كل هذه العوامل الجغرافية المتمثلة في مجاورة البحر والصحراء كان لها دور بارز في ترسيخ قيم التسامح والتعددية والانسجام.
ثانيا: الأصول العرقية
يذكر المؤرخ الروماني سترابون المتوفى سنة 19 للميلاد بأن الفينيقيين جاءوا من شواطئ جزيرة العرب وبالتحديد من البحرين وعمان(31)، ويقول أمين الريحاني: (ما أجمع عليه المؤرخون والآثاريون أن الفينيقين مثل العرب ساميون، بل أنهم عرب الأصل، نزحوا من الشواطئ العربية الشرقية على الخليج العربي) (32). ومما يؤكد هذه الفرضية تشابه اسم مدينة «صور» التي يوجد بها المرفأ العماني الأشهر تاريخيا مع اسم مدينة «صور» الساحلية اللبنانية. ومعروف أن الفينيقيين كانوا شعبا محبا للعلم والمعرفة والتجارة والتواصل والانسجام مع بقية الشعوب، ويبدو أن بعضا من تلك الروح الفينيقية المحبة للتعددية والسلام ما تزال تسري في الثقافة العمانية.
ثالثاً: الاستقرار السياسي
تشير المصادر التاريخية إلى أن انتقال العرب الجماعي والحاسم من اليمن إلى عمان تمت أيام حكم دارا بن دارا بن بهمن بن اسفنديار(33). وأن تلك الهجرة كان على رأسها ملك الأزد مالك بن فهم، الذي يشير اسمه إلى الملك والفهم والحكمة. وتشير تلك المصادر إلى أنه ترك في طريقه ولاية ظفار وغيرها من المناطق البعيدة عن قلهات التي جعلها عاصمة لمملكته، واستمر الحكم في أبناء مالك إلى أن اسقط الفرس دولتهم فاجتمع العمانيون تحت راية عبد عز بن معولة بن شمس الذين استمرت دولتهم إلى العهد الأموي(34). عاشت الدولة العمانية حياة قائمة على العدل والشورى، ولا أوضح على ذلك من قصة وصول عمرو بن العاص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان يدعوه فيها إلى الإسلام، فقام الملك بإرسال الرسالة إلى شيوخ القبائل وأعيان المناطق ليشيروا عليه فيما يجب أن يتخذه من موقف(35). يشير علماء الاجتماع إلى أن الأوضاع السياسية القائمة على الاستبداد والهيمنة تؤدي إلى تأجيج مشاعر العداء تجاه الأفراد والجماعات الأخرى وإلقاء اللوم عليها واستخدامها «كبش فداء» للتنفيس عن حالة الضعف والقهر(36)، بينما ترتبط العدالة الاجتماعية بقيم التسامح والتعددية والانسجام، ولأن عمان قبل الإسلام كما أسلفنا عاشت عهدا مستقرا قائماً على العدل والشورى فإنها لم تعرف الاضطهاد العرقي ولا الديني ولا الطائفي، بل قام المجتمع العماني منذ ما قبل الإسلام على أسس العدل والشورى والتعددية والانسجام.
رابعا: الخلفية الدينية المسيحية
تشير المصادر العمانية إلى أن أهل عمان قبل الإسلام كانوا على دين المسيح عليه السلام، حيث يقول المؤرخ سالم بن حمد الحارثي: (كان العرب بعمان على الدين المسيحي) (37). كما تشير المصادر التاريخية العمانية إلى أن ملك الفرس استشار عامله على عمان في شأن النبي العربي، فبعث ذلك العامل كعب بن برشة الطاحي العماني وكان نصرانيا عالما بالكتب، وحين وفد على النبي عرف فيه النبوة فأسلم على يديه وأبلغ عامل الفرس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم(38). ومعلوم أن دين المسيح عليه السلام قائم على المحبة والسلام، وهو ما يؤكده القرآن بقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة : 82 -83) وتوجد في عمان اليوم مجموعة من النصارى أغلبهم ذوو أصول غير عربية، مع بعض العرب الذين تحصلوا حديثا على الجنسية العمانية، ولهم ولغيرهم من أصحاب الديانات دور عبادتهم التي ترعاها الدولة، والتي لا يضارهم عليها أحد.
خامساً: المذهب الإباضي والديمقراطية الإسلامية
المذهب الإباضي هو مذهب التابعي جابر بن زيد العماني (ت 93هـ)، وقد نشأ جابر في المجتمع العماني وتأثر بروح التسامح والانسجام العماني التي برزت في فكره وتراثه الفقهي، فليس غريبا أن يعتمد جابر وتلامذته من بعده الشورى منهجا وسبيلا في فقههم السياسي. وقد حكم تلامذة جابر الذين عرفوا على مر التاريخ بـ«الإباضية» عمان وفق ذات النهج العماني السابق على الإسلام ألا وهو العدل والشورى، يقول الدكتور حسين عبيد غباش في كتابه «عمان والديمقراطية الإسلامية»: (وفي السياق التاريخي الإسلامي، نجد أن تطبيق مبدأي الإجماع والتعاقد قد عُلق واقعا… في حين طبق العمانيون هذين المبدأين على مستوى الإمامة وعلى مستوى الدولة والمجتمع، بل وفي كل الأمور، وذلك منذ القرن الثاني الهجري «القرن الثامن الميلادي». بعبارة أخرى، امتدت هذه التجربة العمانية، مع بعض الانقطاع، اثني عشر قرناً. وإذا سلمنا بأن التطبيق الكامل لمبدأي الشورى والانتخاب الحرّ لزعيم الأمة- أي الإجماع والتعاقد- هما جوهر الديمقراطية، فإن الإمامة الإباضية العمانية يمكن أن تعد أطول تجربة ديمقراطية في تاريخ الإنسانية)(39). وبجانب تميز الفكر الإباضي بالديمقراطية التي تحدثنا عن أثرها الإيجابي في تعزيز روح التسامح، فإنه يقوم أيضا على احترام أتباع المذاهب الأخرى، ويعتبر التعدي على أعراضهم وأموالهم ودمائهم انتهاكا لحرمات الله وسببا لدخول النار، يقول أبو الحسن البسيوي (ق 4هـ): (لا يحل من دماء أهل القبلة شيء بعد إقرارهم بالإسلام…يعني لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق بالظلم والعدوان، فمن فعل ذلك يصلى نارا إن لم يتب كما قال الله.، وقال النبي صلى الله عليه وسلم دماؤكم وأموالكم عليكم حرام» فجمع ذلك وقرن حرمة الدماء والأموال)(40). ويذكر التاريخ العماني أن الإمام الجلندى بن مسعود (ت 134هـ) مات دفاعا عن سيف شيبان الخارجي الذي حاول غزو عمان وقتل العمانيين بذلك السيف، فقرر العمانيون إرجاع سيفه وخاتمه إلى أهله، ولكن خازم بن خزيمة الخراساني عامل العباسيين أمرهم بتسليمه سيف شيبان وخاتمه، فرفض العمانيون باعتبار أن السيف والخاتم حق لأهل شيبان ولا يجوز إعطاءه غيرهم، فقاتلهم العباسيون وقتلوا الإمام العماني دفاعا عن حق ورثة مخالفهم في المذهب الذي حاول غزو بلدهم(41)، ومثل هذه الأمانة والعدل والإحسان للآخر لا تجد لها مثيلاً. إن الفكر القائم على حفظ الآخر في دمه وماله وعرضه يلغي ظاهرة «التمركز الطائفي» المماثلة للتمركز الأثني التي يشير إليها علماء الاجتماع(42). حيث يلازم «التمركز الطائفي» في أحيان كثيرة الميل إلى التفكير التنميطي بحيث ينظر إلى أتباع المذاهب الأخرى باعتبارهم غرباء ومنحطين أخلاقيا وخارجين على الدين، وهذه المركزية الطائفية تتعزز لدى أتباع المذاهب التي تحرّم الزواج والتعامل مع أبناء المذاهب الأخرى الأمر الذي يزيد في حدة المفاصلة بين المذاهب، أما المذهب العماني المعروف بـ«الإباضية» فإنه قائم على الانفتاح على المذاهب الأخرى وإلغاء الحدود الفاصلة بينها وتشجيع التزاوج، مما عزز روح التسامح والانسجام بين كافة أبناء المذاهب الإسلامية في عمان.
سادساً: التصوف
يقوم الفكر الصوفي على المحبة، محبة الله والإنسان، يقول ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديرا لرهبان
وبيتا لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
ومعلوم أن التصوف منتشر بشكل كبير لدى أبناء المذاهب السنية في عمان خاصة في محافظة ظفار حيث توجد المجالس الشهيرة والمزارات، والأمر ذاته لدى علماء المذهب العماني المعروف بـ«الإباضي» حيث انتشر التصوف أو ما يسمى «علم السلوك» بينهم مع بداية القرن العاشر الهجري وبلغ أوجه لدى ناصر بن جاعد الخروصي في القرن الثالث عشر الهجري حيث قام بشرح قصيدة ابن الفارض المعروفة «نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك»، وأكد ناصر بن جاعد في هذا الشرح على أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فهو من أهل الجنة بغض النظر عن طائفته أو مذهبه(43). وهذا الرأي العماني الذي يتجاوز فيه التسامح حدود الدين الواحد ليشمل أتباع بقية الديانات التوحيدية كفيل بنزع فتيل كثير من ألغام التعصب الديني والاحتراب الطائفي التي تهدد العالم..
سابعاً: الدولة العمانية الحديثة. قامت الدولة العمانية الحديثة في عام 1970 مع تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم، حيث عمل على إنشاء دولة مدنية قائمة على أسس المواطنة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، فالتعليم والصحة والخدمات والمناصب الحكومية والعسكرية والأمنية متاحة لجميع أبناء عمان بغض النظر عن أصولهم ومذاهبهم. كما عمل السلطان قابوس على تشجيع التبادل الثقافي مع دول العالم المختلفة من خلال إنشاء كراسي علمية وأكاديمية، وإنشاء مجالس ثقافية في مختلف دول العالم، إضافة إلى إنشاء مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم الذي يشرف على الكثير من الفعاليات الثقافية والعلمية التي تعرف بالثقافة العمانية في الخارج وبالثقافة العالمية في عمان. كما أمر السلطان بإصدار دورية ثقافية بعنوان (التسامح) التي ابتدأ صدورها في شتاء 2003، ثم تغير اسمها في عام 2010 إلى التفاهم تأكيداً على أن المجتمع العماني قد تجاوز مرحلة التسامح وهو يعيش روح التفاهم والتعددية والانسجام.
الهوامش:
1 – محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر. 2- صمويل هنتجتون «صدام الحضارات» ص29. 3- أمارتيا سنغ «الهوية والعنف… وهم المصير الحتمي». 4- عبدالكريم سروش «الصراطات المستقيمة». 5- www.unesco.org 6- محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر» ص26. 7- فولتير «التسامح» ص145. 8- حسن حنفي، تعصب مجلة (التسامح)، العدد 18 ص209. 9- إنجيل لوقا 6: 29. اشتهر بين الناس هذا النص (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر)، وهذا النص لا وجود له في الإنجيل المترجم إلى العربية. 10- محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر» ص27. 11 – محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر» ص28. 12- محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر» ص28. 13- http://www.unesco.org/cpp/uk/declarations/tolerance.pdf 14- محمد عابد الجابري «قضايا في الفكر المعاصر» ص28. 15- ماكس أوبنهايم «رحلة إلى مسقط عبر الخليج» ص 53-56. 16- ماكس أوبنهايم «رحلة إلى مسقط عبر الخليج» ص 63. 17- www.unhcr.org، www.cia.gov 18- رياض حسن محرم « سلطنة عمان وتوليفة التسامح»، موقع الحوار المتمدن www.ahewar.org. 19- هلال الحجري «التسامح الديني في عمان وطائر العنقاء». مقال منشور في ملحق آفاق الصادر عن جريدة الشبيبة العدد 5284. 20- هلال الحجري «التسامح الديني في عمان وطائر العنقاء». 21- هلال الحجري «التسامح الديني في عمان وطائر العنقاء». 22- جان جاك روسو «خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر». 23- ابن خلدون «المقدمة» ص56. 24- ابن خلدون «المقدمة» ص80. 25- ابن خلدون «المقدمة» ص85. 26- أنتوني غدنز «علم الاجتماع ص 335. 27- http://.ar.m.wikipedia.org مادة طريق الحرير. 28- للاطلاع على مزيد من دور العمانيين في الملاحز العمانية انظر عبدالله العليان «التاريخ البحري العماني». مجلة نزوى العدد 29. 29- ابن خلدون «المقدمة» ص85. 30- ابن خلدون «المقدمة» ص86. 31- http://.ar.m.wikipedia.org مادة فينيقيون. 32- http://.ar.m.wikipedia.org مادة فينيقيون. 33- سلمة بن مسلم العوتبي «الأنساب» ج2ص717-718. 34- عبدالله بن حميد السالمي «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» ص29-85. 35- سرحان بن سعيد الأزكوي «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة» ص845-846. 36- أنتوني غدنز «علم الاجتماع ص 320. 37- سالم بن حمد الحارثي «العقود الفضية في الأصول الإباضية» ص8. 38- عبدالله بن حميد السالمي «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» ص53-54. 39- حسين عبيد غباش «عمان الديمقراطية الإسلامية» ص19-20. دار الجديد، ط1 سنة 1997م. 40- أبو الحسن البيسيوي «الجامع» ج1ص271-272. 41- عبدالله بن حميد السالمي «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» ص93. 42- أنتوني غدنز «علم الاجتماع ص 323. 43- ناصر بن جاعد الخروصي «إيضاح نظم السلوك إلى حضرات ملك الملوك» ص196-197، وص359، وص476، وص583.
زكريا المحرمي
باحث وطبيب من عُمان