لطيفة حسيب القاضي *
قام هذا العنوان على تساؤل وليس على مسلّمة، وذلك من أجل أن يكتسب طابعه الاستكشافي والإشكالي في آن واحد. وهو إذ ينهض على السؤال فإنه يروم الاشتغال على المعطيات والسياقات والأطاريح التي عُنيت بالمثّقف واستدراجها إلى المراجعة والمناقشة.
ولمّا اختار المقال عنوان «المثقف العضوي» لتطل على تجربة رصيف 81، التي شارك في تأسيسها مع صديقه القاص رسمي ابوعلي، وعلى الرغم من اللبس الذي يُحيط بمصطلح» العضوي» الذي نحته المفكر الإيطالي غرامشي، ونقل إلى العربية عبر ترجمة تقترب كثيرا من الغموض، إلا أن تجربة رصيف 81، أعادت الروح لمصطلح «العضوي»، إذ مارس علي فودة هذا الدور بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
ويذكر الكاتب والباحث ابراهيم العجلوني: الشاعر والروائي علي فودة، مارس النقد والتطوير في ذات الوقت، أنه كان انسانا، لذا كانت تجربة رصيف 81، امتداداً لما بدا فيه أول حياته في عمّان، فقد تعرفت عليه في مقهى وسط عمّان بجانب سينما الحسين، فاجأني علي، بقوله انا أعرفك من خلال قصيدتك «تقاسيم على الجرح»، مبدياً إعجابه بها، ونصحني اذا اردت طباعة الديوان اذهب الى بيروت، وتحديدا لدار عويدات، وكان لقاؤنا عام 1971، وبعدها ذهبت لبيروت بناء على نصيحته، وقابلت المسؤول عن النشر في دار عويدات، الشاعر سعد عقل، وعندما حضرت إليكم بناء على نصيحة علي فودة، اذكر وقتها ابدى سعد عقل، إعجابه بتجربة علي، وتنبأ له بمستقبل كبير في المشهد الإبداعي العربي، وبالفعل طبعت ديوان الشعر الأول لي الذي حمل عنوان «تقاسيم على الجرح». وكان عام 1972.
وأنا اعتبر علي فودة أنبل الصعاليك في عَمّان، إنه مبدع حقيقي(1).
عُرف عن علي فودة بوصفه شاعرا وروائياً وصحفيا، إن نماذج شخصياته، دائما تكون منتقاة من الوسط الثقافي سواء كانت في عَمّان، أو في بيروت: ولاسيما انه كان منخرطا في الفعل الثقافي، في الأردن وفلسطين وبيروت(2).
تميزت تجربة علي فودة في رصيف 81، إنها لاقت ترحيبا من الجمهور العربي واللبناني، إلا أن هذا لم يكن كذلك في الوسط الثقافي العربي واللبناني، وهذا الرفض أو الحذر من تجاربه الإبداعية، لم تكن المرّة الأولى، فقد تعرض لذلك عند صدور ديوانه الشعري الأول (فلسطين كحدّ السيف)(3)؛ لم يرحب الكتاب لهذا المنجز، والبعض اعتبره شعرا أيديولوجيا وقوميا، بعيدا عن روح الحداثة. ورغم ما تعرض له علي فودة بعدم الاعتراف بموهبته الإبداعية، إلا انه كان يُصر على تحقيق كل أهدافها التي عاش من أجلها.
وفي بيروت، وخلال وقت قصير، بدأ العمل على إصدار مجلته الرصيف، التي سمّاها «رصيف 81» مع صديقه القاص رسمي أبو علي، وهذا ما كان، صدرت في بداية الأمر شهرية، وخلال أشهر قليلة تعرضت بيروت لحرب من قبل القوات الإسرائيلية في العام 1982، فبادر علي فودة وطلب من الرئيس الفلسطيني أبو عمار، وهو يتفقد أحد المواقع العسكرية، أن تتحول المجلة من شهرية إلى يومية، فكان له ما أراد، وأصدر فودة عدده الأول، الذي أثار صخبا كبيرا بين الكتاب العرب المقيمين في بيروت آنذاك، وكان جُل اعتراضهم على طريقة تحرير الصحيفة، فلم يروق للكتاب أن تكون المانشيتات تحمل سخرية على الوضع القائم آنذاك، في العالم العربي.
كانت رصيف 51 تجربة مغايرة، من حيث الشكل والمضمون، والإدارة، أما على صعيد الشكل، كانت تخرج على شكل «تابلو» ولم يكن هذا الشكل شائعا في عالمنا العربي، كما كان في الغرب على سبيل المثال، مثل «الليموند» الفرنسية التي تصدر باللغة العربية، لا يتجاوز عدد صفحاتها أربع صفحات، وكان مضمونها مغايرًا، لما اعتاد عليه القارئ العربي، إذ المواد الصحفية التي فيها، كانت عبارة عن تحقيقات ولقاءات مع ناس عاديين، ولا يوجد أي لقاء أو تحقيق مع مسؤول رسمي، و«يمكن وصفها بالفعل صحيفة المهمشين»(4).
يقول رسمي أبو علي زميل علي فودة في تأسيس صحيفة رصيف 81: «إنجازي الأول هو تيار رصيف 81 باعتباره إضافة ثورية لم يسبق لها مثيل لغة ودورا، الرصيف لم تكن مجلة، ولكن نهجا»5.
عُرف علي فودة بأنه شخصية بسيطة عفوية ومليئة بالطيبة، ولم يقتصر دوره بتحرير الصحيفة، بل عمل عاملاً أيضا، وهو الذي كان يحمل البروفات ويتأبطها ويذهب بها على المطبعة، وأيضا يتابع كل تفاصيل الطباعة، ويبقى في المطبعة حتى تخرج للنور، ويحمل حزمة منها، ويخرج مسرعاً للشارع، ليبدأ بمهمة جديدة توزيع الصحيفة على الناس. يقول الدكتور الشاعر عزالدين المناصرة عن تجربة علي فودة في رصيف 81: «مجلة الرصيف 81 – 82 تأثرت بحركة الحداثة في الملحق الثقافي لصحيفة»النهار»اللبنانية»(6).
سعى على فودة في رصيف 81 إلى التماس وسائل تعبير جديدة، ومن هذه الوسائل كثرة التركيز على فكرة المقاومة ضد المحتل بعيدا عن الشعارات، وتحقيقاتها الصحفية، كانت مع المهمشين، ولغتهم التي سادت في تلك التحقيقات، إلا ما يلزم تغير بعض الكلمات لغايات تقنيات التحرير. ويقصد علي فودة أن تسود لغة المهمشين في صحيفة رصيف 81 لإيصال صحيفته إلى أكبر عدد من القرّاء، و»كانت مجلة تصادمية ورافضة للاصطفاف مع أي جهة على حساب الأخرى، وكانت تعكس ثقافة الهامش، وآراءه المختلفة آنذاك في مواجهة لعبة النفوذ الفردي والشخصي، آملاً في أن يغدو هذا الهامش يوماً شكلاً للهوية، وممثلاً شرعيا لثقافتها»(7).
وقد أفردت صحيفة رصيف 81 مساحة واسعة للتجريب، إذ ظهرت النصوص التي لم يكن تتقبلها الصفحات الثقافية سواء في الصحف اللبنانية والعربية، ويقول الكاتب سليم النجار: «كانت رصيف 81 مُحملة بقدر كبير من العبث والتهكم والسخرية والاستفزاز، وجاءت بمثابة ردّ فعل ضد التهميش الثقافي بمختلف أشكاله»(8).
ستبقى سيرة علي فودة في رصيف 81 وبصيرته معنا، طويلا وعميقا وستظل مراياه ممتدة على بياض الورق المتوهج، بانعكاسته القلقة المثيرة للأسئلة والاختبارات، والمتراوحة بين الكلمة ونبضها.
الآن من المشهد، تاركا على رصيف 81، وفي الوعي والضمير: الضوء والمرآة.
الهوامش
1 – إبراهيم العجلوني، أجريت لقاء معه تلفونياً بتاريخ ٣٠/ ٣ / ٢٠١٩.
2 – د. عبد الرحيم مراشدة، الخطاب الروائي والمثقف في رواية «الفلسطيني»، على فودة شاعر الثورة والحياة، إعداد وتحرير نضال القاسم – سليم النجار، الان ناشرون – عمّان، ٢٠١٤، ص ٥٨.
3 – علي فودة، الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ٢٠٠٣.
4 – محمد خالد عبد السلام، الغلاف الأخير، شاعر الثورة والحياة، تقديم وتحرير نضال القاسم – سليم النجار، الان ناشرون – عمّان، ص٢٢٠ أجرت اللقاء كاتبة المقال، جريدة الأهرام، ٢٤/ ٢ / ٢٠١٩.
5 – لقاء مع الكاتب رسمي أبو علي، أجرت اللقاء كاتبة السطور، جريدة الأهرام، بتاريخ ٢٤/ ٢/ ٢٠١٩.
6 – اد .عز الدين المناصرة، شاعر الثورة والحياة، تقديم وتحرير، نضال القاسم – سليم النجار، الان ناشرون، ٢٠١٤، ص٢٨٦.
7 – سليم النجار، أجريت حوارا معه عبر اتصال هاتفي، بتاريخ ٢٩/ ٣ / ٢٠١٩.
8 – المصدر السابق.