«إلى أصدقائي في عُمان»
مَنْ ألْقى بها في وجهي؟ مِنْ أين جاءت هذه في أعالي الجبل الذي يُدْعى أخضر، وهو أحمر كالنحاس؟ سنوات طويلة مرَّتْ ولم أسمعْها. سنوات طويلة جعلَتْني أعتقد أنها لم تكنْ موجودة، ولم يسمَعْها أحد من قبل! وفجأة، في«فندق الجبل الأخضر»، أشعل التلفزيون، في ظهيرة ذلك اليوم الجميل، وإذْ بي، وجهاً لوجه، أمام المغنية الرائعة، وهي تُنَقِّط صوتها الآسر: « خبطة قدمكم عالأرض هدّارة. أنتو الأحبَّة وإلْكمُ الصدارة»! وتَطْفُر الدموع من عينيّ.
وتُعيد. ويبدأ الحنين بالرُقيّ، شيئاً فشيئاً، حتى العُبور. ويستحيل الجبل الأخضر إلى لَحن راجع من أعماق التاريخ. وأرى أقدام الثوار وهي تدكُّ أرض «دمشق» تحت سطوة الطغيان. أرى الأقدام تمشي، وأنا ساكن وبعيد. وأدرك أن التاريخ لا يصنعه المتبَحِّرون السُعَداء، وإنما المُستاؤون. المستاؤون من قَدَرهم، والطامحون إلى تغييره. وأدخل في اللَحْن. وأضيع. وتُتابع السيدة غَمْري بصوتها الأزليّ. وأخرج باكياً بصراحة، مستنجداً بالجبل الأخضر، فاتحاً ذراعيَّ على اتساعهما لأحضنه، وأنا أصرخ فيه: « كَمْ عشتُ من السنين بعيداً عن دمشق»؟ « كمْ عاش الكائن الهائم الذي هو أنا»؟ و«أين عاش»؟ ويُردد الصدى: عاش. عاش.
وأدخل «الزابوق»، مُتَلَجْلِجاً، سارباً بين طَيَّتَيْن من الأرض. فُجوج الجبل الأخضر تلتهمني بلامبالاة. وأجد نفسي محضوناً بشُجيراته، ووهاده اللامتناهية، مثل طَيّات جِلْد رَهيل. وأبتعد عن مكان الصوت، الصوت القديم الخانق. ويحلّ الصمت حولي، وأنا أتنَفُّس الريح، متودِّداً إلى الحياة: ماهذا العُبور الكوني الخارق من الحضيض إلى القمة؟ ومن النسيان إلى التذَكُّر؟ كيف
لي أن أقاوم كل هذا السحر المتجلّي في هذه الطبيعة حولي؟ ومَنْ بإمكانه أن يفعل ذلك؟
ولكن، ما هو هذا الجبل الأخضر الذي يحتضنني، الآن؟ لكي تفهم ما يعنيه، أو تدرك كنهه، عليكَ أن تمرَّ، أولاً، بعُمان. أقصد بصحاريها، وجبالها الأخرى، وبراريها، وقبل كل شيء بـ«مسقط». ولكن، ألا يخطر لكَ أن تتساءل: أين تسقط «مسقط»؟ «مسقط» مَدْفونه في القاع، والشمس لا تتركها تستريح. مأساة «مسقط» ليست لُغَوية، أقصد اسمها، ولكنها الشمس. شمسها الحارقة التي تُلْهِب كل شيء بدءاً من النسيم الذي يغدو لَفيحاً خارجاً من النار، ومروراً بعيون نسائها السود الغامضة التي لا تني تبحث عن الظلال، وانتهاءً بالماء. الماء الذي يغلي في الصدور.
من هذه «المَحْرَقة الكونية، أقصد «مسقط»، يبدو «الجبل الأخضر» فردوساً أرضياً شديد الروعة. يبدو خلاصاً «مؤقتاً» من جحيم بلا حدود. لماذا لا نغامر إلى الجبل، إذن؟ وهكذا كان. اجتمعنا معاً، وبحمية قررنا الصعود إليه: الناعبي، والعريمي، والرحبي، والمزروعي، والمنذري، والشكيلي، وأنا. وبدأنا المسير. أوه! مجرد السفر في هذا الكون العجيب يملأ القلب بالمرح والأساريح. يجعل النفس تتلَهّى بمُتَع لا مرئية، وببراءة، مثل طفل يسقط في كوم من الوحل، ويبدأ النَبْش فيه. نصعد. ويصعد الانشراح إلى نفوسنا. طوبى لمَنْ يتقن الصعود إلى لا مكان.
الجبل الأخضر جبال. حتى أنكَ تتساءل: كيف يحمل وجه الأرض كل هذه المعاريج. تتَلَفَّتُ شرقًا، وغرباً، وأينما شئت، ولا ترى سوى الجبال. لكأنك في سلاسل «الآنديز» العظمى التي خرجتْ، ولا بد، من قاع المحيط، في نفس الحقبة التي علَتْ فيها القاع، جبال اليمن وعُمان. ونتابع السير صُعداً، ولا نصل. من طينة مسقط إلى القمم الشاهقة نجتاز كوناً جديداً ما عرفناه. كون يسمّى، عبثاً، بالجبل الأخضر. هو أكبر من الخُضْرة بكثير. إنه السماء مقلوبة، ونحن نسير في عقولنا التي بدأ نسيم السَفْح يوقظها.
«وادي قَتَم»، خاتل تحت أجنحة الجبل. ماؤه هادئة. صخور الجبل تتسلّط عليه. ومسيله الضئيل، برغم الزخم الذي يحيط به، يشقُّ لنفسه طريقاً صغيراً محفوفاً بهيكل الجبل اللامحدود. كَمْ يلزم الطبيعة من ملايين السنين لتنتج هذا المنظر العجيب؟ واستدير متسائلاً: من أي نقطة في عٌمان تنحدر الجبال إلى المحيط لتغرق فيه، عند المساء؟ وأجدني أقر الحقيقة التي لا تحوي من الحقيقة سوى رائحة عابرة : «الجبل الأخضر، أخضر فعلاً. لكن خُضْرته صامتة، ومكتومة. تكاد تكون حزينة».
أنعزل لأكتب. لكن الجبل الأخضر لا يسمح لأحد بالعزلة. إنه يَتَلَبَّس الكائن مثل جلده. يقذف في عينيكَ بأحجاره السود البركانية التي ما زالت رائحة المحيط تفوح منها. ويفتح عينيكَ على أشجار الأكاسيا ذات الأغصان القصيرة الغائصة في القاع. ولا تعود ترى سوى لونها الأخضر الجامد الذي لا تريد أن تتخَلّى عنه. لكأن حياتها في لونها. لون أخضر باهت تسوقه الريح الخفيفة التي تَهَبُّ بنعومة من الغرب. شجر، وحجر، وريح، وصمت، ذلك هو الجبل الأخضر، مختَصَراً في الطبيعة، مثل حكيم مَلَّ من تعليم الأغبياء، فأراد أن يصمت إلى الأبد.
صمت الجبل الأخضر كلام. كلام تبثُّه الريح التي تُهَدِّئ من حماقة الشمس. الريح تدعونا للمكوث في الأعالي، والشمس تدفع بنا نحو الحضيض. ونحن نتَخَتَّل في الفيء، مثل عصافير «الجزيرة» في حمأة القيظ. في قمة الجبل الأخضر لا أرى من الأحياء سوى الشجر. لا أفاعي، ولا ضب، ولا جراد، ولا ذُباب. لا شيء يسكن الجبل سوى نور الشمس. ولا يعطِّر النوء سوى الهبوب. ولا يتراءى في البعيد سوى الغمام . الغمام الأرعن الذي بدأ يُلَوِّث جمال الطبيعة في ذلك العصر الزاخر بالطيبة.
في سطح الجبل نصل مدينة « سيق». مدينة بيضاء، محاطة بصخور سود محروقة. وأشجار صغيرة لاطئة في القاع. مدينة تبدو وكأنها خرجت للتوّ من أعماق التاريخ. لكأن الجبل حافظ عليها، عمداً، لتظل على ما عليه إلى الأبد. ولماذا يجب أن تتغيَّر المرائي الكونية، إنْ لَمْ تشأ الكائنات أن تضيف إليها شيئاً من حماقاتها؟ وعلى بعد قليل منها، من هذه المدَيْنة الصخرية، «جبل المَسْبَتْ». جبل يبدو هو الآخر، وكأن الكتلة الجبلية العظمى من حوله، نَفَتْه. فقام وحده في السكون. شيء جارح للإحساس الشعور بعزلة قسرية في الطبيعة. الجبل الذي لا يتصل بالجبل منظر مدهش، يثير الرغبة في الوصول إليه. ولكن كيف؟
نصعد. نتابع الصعود. نصل « كهف المعاول» المُلْقى على الطريق، كحيلة كونية لم تعد نافعة. نتابع الالْتواءات والوديان، ونصل بعد لأي جبل « مَحلب» الواقع في قمة الأخضر. وبعد القمة بقليل، إذْ لا نهاية لقُمَم الجبل الأخضر، نصل «جبل الروس»، حيث نقترب من الشمس كثيراً. وفي هذه القمة التي لا يفصل بينها وبين السماء سوى الغيم، نحسّ بقبلات المطر على أجسادنا. يا للروعة! أوّ! أينما نظرت قُمَم ومُسَنَّنات، وصخور. وديان، ومَسايل، وخُثور. خثور من الأرض الحجرية السوداء المعزولة ببرهة عن تاريخ الكون.
في المساء، ننحدر، أخيراً، نحو «فندق الجبل الأخضر». في طريقنا النازل، نمر على ظلال الأشجار المفروشة فوق الصخور. ونرى ما لم نكن نحلم برؤيته من قبل : نرى سواد الليل الآتي من بعيد مثل سُجُف من حرير. ليل الجبل الأخضر هادئ وعميق. لكأن الجبل يُلَمْلِم الليل من بقية الكون ليعطيه لنا بأريحية لا حدود لها. فيصير الليل ليلنا. ليل لا يحوي أحداً غيرنا.
لا جبَلَ إلاّ الجبل الأخضر. هذا ما تشعر به في عُمان. وأتساءل : لماذا؟ ومع مرور الوقت أكاد أعرف الجواب: لأن الجبال العُمانية الأخرى عصية على الفهم. ولأنه أخضر قليلاً. ولأن الريح التي تهبُّ منه، أو تعبره بهدوء باذخ، آتية من الجنة. وهذا يكفي ليجعل منه جبلاً أخضر، ومرِحاً، وقريباً من القلب. ولكَيْ يُعتَبَر: سيّد الجبال.
في الصباح الباكر نرى الغمام المهيْمِن على سطوح الجبال (فالجبل الأخضر مجموعة جبلية، وإن كان له اسم واحد)، نرى الغمام الماكر يسوق نور الشمس بعيداً. يكشف فُجوج الجبال الأكثر إدْهاشاً من القمم. في صمت الصباح البادئ، الآن، وبتأثير غمام راسخ مثل هذا، وبين فجوج إلهية لا مثيل لها، يغدو الوجود موضوع شكّ كبير. والعقل يبدو غير عاقل. وتتراءى الحياة مثل لُعْبَة عبثية بائسة، عدا عن كونها مملوءة بالأوهام. أي درس عميق يمليه علينا الجبل الأخضر بتواضعه الكبير؟
في قرية «الشريجة»، على قمة الجبل الأخضر الأخرى ( قممه لا تحصى)، أقف مذهولاً، فوق الصخور. جبال بلا حساب. وفجوات صُخورية عظمى. وانهيارات أرضية لا عُمْر لها، ومع ذلك يبدو الدثار الجبليّ حديثاً، عمره، فقط، مئات الملايين من السنين. إنه آخر أطفال المحيط الذين قذفهم فوق القاع. في «الشريجة»، الجبال تُخفي بعضها بعضاً، وهو ما يشدّ العين إليها. الغمام المسيطر على الفضاء حولها، يجعل الجبل الأخضر متعدد المرائي. يعطي للكون بُعْداً إضافياً، راسخاً( غير أبعاده الأربعة). بُعْد يشبه ثُـقولة الصخر الجاثم أمامنا بلا مبالاة. النظر إلى هذا المشهد الآسر يجعل الكائن يرتعد من الذهول، فيَتَشبَّثُ أكثر بأركان الوجود الواهية، حتى أنه يصير يتساءل بحسرة: «عندما يسوؤنا الوضع، لماذا لا نثور»؟
أجلس طويلاً على الصخور، في «الشريجة». وأحب أن أظل جالساً، إلى الأبد. التأمّل الوجودي يبدو سخيفاً أمام هذه المرائي اللامشهودة. مرائي الجبل الأخضر التي لا مثيل لروعتها. بين أجواف الجبال العظمى، والمدَرَّجات التي هنْدَسَتْها أيدي الكائنات البرية بعفوية خالصة، أحاول أن أُحدِّد موقعي، وموقع أصحابي المنتشرين حولي. وأحس أن السؤال يطرح نفسه ببساطة : « لماذا نتَنَكَّر لطبيعتنا، ونمارس الألاعيب السخيفة في الحياة؟ وجودنا من وجود هذه الجبال، وسلوكاتنا أيضاً». سؤال لا ينتظر حتى الإجابة عليه. لأنه أقدم من الجواب.
خطر لي ألاّ أكتب شيئاً عن الجبل الأخضر، لأنه أقوى من الكتابة. لكنني أعرف نفسي: «إنْ لَمْ أكتب عنه، سأنساه». سأنسى جبروته ومرائيه. فأنا لا أتذكر مكاناً لا أكتب عنه. هذه هي خطيئتي الأصلية. وأعرف أيضاً أن الكتابة هي التي تمنح الأشياء والكائنات ماهيتها، إنْ لَمْ تبتدع لها ماهية جديدة.
أبكي صامتاً في هذه «الملحمة الكونية» التي يحيكها لنا الجبل الأخضر، هذا المساء. ولكن، مَنْ أنا حتى أُقاوم هذا السٍرّ اللامتناهي المخبوء في أعماق الجبال الذي يبعث الحياة حتى في الحجر؟ تجرني الصخور بعيداً، فأغوص في ثناياها مستَطْلِعاً أقداري الكثيرة التي عشتها. انحدَرْتُ في الوهاد المترامية قدّامي أبحث عن الطفل الذي غادر الصحراء العربية ذات يوم. وها هوذا يقف الآن كهلاً فوق أعناق الجبال. أية قوة حمقاء تبيد فرح الكائن، وتقسره على النزوح؟ على النزوح عن ذاته، قبل أن ينزح عن مكانه المصطفى.
من شُرودي الآسر، يعيدني إلى الوجود صوت الصديق الذي يزرع الإنس بضجيجه الجميل في مساء الجبل الأخضر المترع بالصمت. الفتى الممتلئ بالشوق للحياة، وللبحث العبثي في كنه الأشياء المستقرة منذ الأزل. لكأنه يريد تحريك ما هو ممنوع من الحركة، وإلاّ تهَدَّم كل شيء. لكن الجبل الأصم الذي لا يسمع حتى هدير الريح فوقنا، سيبتلع ضجته المتناهية الصغر بالنسبة للأعباء العظمى التي تثقل كاهل الحجر.
بهدوء لا مُتَناهٍ سيمسح الصديق الآخر كل ما قاله الصديق الأول منذ ساعات. يمسحه بطيبته العفوية، وبابتسامته المتعمّدة التي تؤكِّد أنه لا معنى لكل هذا، وإن كان لا بد منه. وسيؤكِّد تواطؤ الجبل الأخضر كل ما حدث. لكأنه يهزأ بمقادير البشر المعزولين مثلنا. لكأنه يتحَمّلنا رأفة بنا، برغم كوننا أدعياء. الجبل الأخضر يدرك أن عبث الوجود كامن في «نقطة الصفر»، هذه: أن تعمل، وأن تمسح كل ما عملت. أن تعود باستمرار إلى نقطة الصفر التي لا نهاية لها، ولا بداية، وإن كنتَ تصر، بغباء، على ريادتها.
في الحقيقة، لا يهمُّ مَنْ خَطَّ، ومَنْ مَحا. المهمّ هو أن نتذكّر ما نقوم، وما قمنا بفعله، من قبل. النسيان هو الجحيم الأعمى الذي يفترس مخيَّلة الكائن. ولكن أين هي مخيّلة الجبل الأخضر الذي يرمقنا بحذر بالغ هذا المساء؟ لكأننا جئنا لنعتدي على فضائه الإلهيّ. لكأنه يريد أن ينتقم منا لأننا الْتَهَمْنا الجَدْيَ مشوياً على نار أخشابه، دون أن نقدِّمه له قرْباناً. لكأن آلهة «الآزْتيكْ» القائمين على سلاسل «جبال الآنْديزْ» العظمى، الأخوات الحميمات لسلاسل جبال اليمن وعُمان، هم الذين يحرِّكون، من وراء المحيطات، ضغائن الجبل الأخضر، هذا المساء.
لا جبل إلاّ الجبل الأخضر، في عُمان. لكن الجبل ليس قُمماً، وصلالات حجرية. إنه حالة روحية غامضة. إنه الكون الأزليّ، أو الذي يوهمنا بالأزل. يرمقنا من عَلٍ مثل كائن ذكيّ وعملاق، يرمق طُفيْلاً ما زال يحبو. في أحضان الجبل الأخضر نَخْتل كاليتامى، مستعيدين تاريخنا الشخصيّ الذي ابتلَعْناه بمرارة. في مسائه المثير، ندرك، أخيراً، أن الحياة التي عشناها لم تكن أكثر من مَعْبَر إليه. ومع أننا سنتركه قريباً، إلا أنه بدأ يتَأبَّد في قلوبنا، مثل بيت شعريّ جميل.
عظمة الكون تأتي من هذه الجبال. حتى ليبدو العالَم دونها مثل بيضة الحَبّار: رقيقاً، هشّاً، وقابلاً للتفتيت. الجبل، على العكس من الكائنات، يحرس الكون حوله، ولا يفرِّط فيه. وهو يمُدُّ عروقه الحجرية إلى جبال أخرى قريبة، وبعيدة، لكي يحمي الوجود من الانزلاق إلى العدم. مايدهشنا هو الثبات الشكليّ في عناصر الجبل ظاهرياً، مع أن أعماقه تفور.
في مساء« مسقط» الأخير، سيهلّ عليَّ آخر الأصدقاء. يأخذ بيدي إلى المحيط، أنا عاشق المحيطات، وهو، ربما، يعرف ذلك. على رمله الرطب نقعد بجلال. الموج الخفيف يأتي من بعيد تاركاً تحت أقدامنا زبداً رقيقاً، وصوتاً متكسِّراً، ورخيماً. هو يشرب، وأنا أستهيل الرمل بين جرعة وأخرى. وفجأة، يتوجّه هاجماً على الماء، وأنا أشدُّه، وهو يردد بكآبة : «سنقول للبحر كَمّ نحن غرباء». ويضيف : «سان جون بيرس».
وعندما يجثو، أخيراً، على الرمل صامتاً وحزيناً، ودموعه تغالبه، أكتشف ( إنْ لَمْ أكن قد اكتشفٌ ذلك من قبل) : أن الحياة هنا (مثلها في أي مكان آخر، ربما) مخاطرة تاريخية. يقترفها الفرد اللاوعي بوعي عميق. لكننا بحاجة إلى مَنْ يرانا لنرى أنفسنا بعينيه. فمن ليس له «عين ثالثة» لا عقل له.
خليل النعيمي
روائي وجراح من سورية يقيم في فرنسا