الخاطرة مصطلح أدبي لم يأخذ حقه من التأصيل والنقد. وهو مصطلح ظهر في بعض أدبيات النقد الأدبي العربي الحديث منذ بداية القرن العشرين. ولعل أهم المصادر النقدية التي حاولت تأطير هذا المصطلح كتاب «النقد الأدبي» لسيد قطب؛ إذ خصص لها صفحات قليلة ضمن حديثه عن «فنون العمل الأدبي» التي عد منها الشعر، والقصة والأقصوصة، والتمثيلية، والترجمة والسيرة، والخاطرة والمقالة والبحث. ويفرق سيد قطب بين المقالة والخاطرة واصفا الأولى بأنها «تقريرية» والثانية بأنها «انفعالية»، كما أنه يجعل الخاطرة في النثر تقابل «القصيدة الغنائية في الشعر». وحقيقة أن سيد قطب اجتهد في تقديم وصف عميق للخاطرة يجعلها في مرتبة قصيدة النثر التي نعرفها اليوم، فهو يؤكد بأن الخاطرة تتسم بما تتسم به القصيدة الغنائية من كونها تعبيرا «في صورة موحية عن تجربة شعورية، بلغت من الامتياز حدا خاصا. والشاعر في هذه الحالة لا يفعل أكثر من الانسياب مع أحاسيسه وانفعالاته بهذه التجربة المعينة، وتجميع المشاعر المتناثرة حول هذه التجربة، والاهتداء إلى الصور اللفظية التي تتفق بإيقاعها وظلالها ومعانيها مع الجو الشعوري الذي يخالجه». ثم يقدم سيد قطب نصوصا لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ليستنتج أنها «خواطر شعرية يستطيع النثر المُوقّع المصوّر أن يستنفدها، ولا يحتاج إلى إيقاع النظم الواضح المقسّم».
ومن المصادر العربية الأخرى التي تناولت الخاطرة بكونها فنا من فنون الأدب الحديث كتاب الدكتور عزالدين إسماعيل «الأدب وفنونه»، وهو يعدها من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حِجْر الصحافة. وعزالدين إسماعيل يرى أن الخاطرة «مجرد لمحة» ولكن كاتبها يحتاج إلى «الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان». وهو، كما فعل سيد قطب، يفرق بين الخاطرة والمقالة على أن الخاطرة لا تحمل أفكارا محددة تحتاج إلى الأسانيد والحجج لإثبات صدقها، وإنما هي «أقرب إلى الطابع الغنائي». وخلاصة ما يمكن الوصول إليه في مراجع النقد العربية حول الخاطرة، رغم ندرتها البالغة، هو أن هذا الفن من فنون النثر الحديث الذي لم يألفه الأدباء العرب قديما، وأنه دخل إلى الأدب العربي مع الصحافة، وترعرع خاصة في بدايات النهضة الحديثة؛ فكان من كتّابه المشهورين جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأحمد أمين، ومي زيادة، وزكي مبارك، والعقّاد، ومصفي صادق الرافعي، وطه حسين، وآخرون.
إن معاجم مصطلحات الأدب في اللغة العربية تجاهلت هذا المصطلح ولم تعرّفه، والباحث في أحدث هذه المعاجم وأقدمها لا يجد سطرا واحدا حول مفهوم «الخاطرة». ومع ذلك، هناك جهود قليلة بذلها بعض الباحثين العرب لدراسة نصوص من الخواطر في الأدب العربي، وقد أعوزهم كما أعوزني التنظير النقدي لهذا الفن. هل كلمة (Thought) في اللغة الإنجليزية تقابل كلمة «خاطرة» في العربية؟ حقيقة حاولت أن أجد مصطلحا في اللغة الإنجليزية يوازي «الخاطرة» في معاجم المصطلحات الأدبية المعروفة مثل The Oxford Dictionary of Literary Terms فلم أفلح! ولعله غير معروف في الأدب الإنجليزي كنوع أدبي، فمن أين جاء إلى الأدب العربي الحديث؟قد نجد بعض الأطروحات العلمية باللغة الإنجليزية تناولت «الخاطرة الأدبية» أو «الخاطرة الشعرية» في الأدب الصيني، و لكن هذه الدراسات تتناول هذا الفن بصفته ظاهرة أدبية تختص بالأدب البوذي على وجه التحديد. من هذه الأطروحات، رسالة دكتوراه لديفيد جيرمانو قدمها لجامعة ويسكانسون مديسون بأميريكا سنة 1992، وعنوانها «الخاطرة الشعرية، والعالَم الذكي، وغموض الذات» تناول فيها تقليدا بوذيا قديما يسمى (الاكتمال العظيم)، وهو نظام إبداعي فلسفي وتأملي نشأ من التصوف التانتري البوذي في القرنين 8-10 الميلاديين خاصة في منطقة التبت. وقد ركز ديفيد جيرمانو بحثه هذا على أعمال عالم من علماء التبت في القرن الرابع عشر، اسمه كلونجتشنراب (1308-1363)، وتناول على وجه الخصوص كتابه «الخزائن السبع» الذي يرى بأنه يحتوي على بعض من الروائع الشعرية والفلسفية الأكثر عمقا في العالم.
هذه مقدمة ضرورية قبل الولوج إلى الموضوع الرئيس لهذهالمقالة، وهو مراجعة إصدار أدبي بعنوان «على رتاج الروح» صدر هذا العام عن الدار العربية للعلوم، ويحمل اسما مستعارا لمؤلفته وهي «عنقاء الروح». وفكرة الاسم المستعار في حد ذاتها تذكرنا بالزمن الذي نشأ فيه فن الخاطرة، وهو أواخر القرن التاسع عشر حين آثرت الكاتبة اللبنانية ماري إلياس زيادة اسما مستعارا لم يفارقها حتى الآن وهو «مي زيادة». وكذلك ارتبط اسم «بنت الشاطئ» بالكاتبة المصرية الشهيرة عائشة عبدالرحمن ارتباطا مؤبدا تلاشى معه الاسم الحقيقي.
وفكرة الاسم المستعار ليست جديدة؛ فالشعر العربي القديم يحفل بكثير من ألقاب الشعراء التي تنطبق عليها أيضا فكرة الاسم المستعار، مثل تأبط شرا، والفرزدق، والأخطل، وديك الجن الحمصي، والوأواء الدمشقي، وصريع الغواني، وغيرها. ولا يقتصر الأمر على الأدب العربي؛ فالآداب الأوروبية شهدت أسماء تقنّع أصحابها بها دون أسمائهم الحقيقية مثل موليير، وفولتير، ونرفال، وغيرهم. وإذا كان الاسم المستعار له مسوّغات سياسية، واجتماعية، ودينية، وأدبية فإن تخفّي بعض الكاتبات في الجزيرة العربية اليوم، قد يثير تساؤلا جوهريا حول مساحة الحرية المتاحة للمرأة في هذه المنطقة. ولا يهمني هنا بحث هذه المسألة واستقصاء آفاقها طالما أن الفكرة تستند على تقليد أدبي عربي وعالمي، والأجدى من ذلك التفكير في درجة البوح التي تحملها كتابات هذه الأسماء أكانت مستعارة أم حقيقية.
كتاب «على رتاج الروح» مصنّف على أنه «شعر»، وهو في الحقيقة أقرب إلى فن الخاطرة، و إن احتوى على بعض النصوص الشعرية. للشعر سمات تتجاوز الوزن إلى عناصر أخرى مثل اللغة والأسلوب والصورة. ولا يضير الكتاب أن يكون خواطر شعرية؛ فالخاطرة كما وصفها عز الدين إسماعيل تحتاج إلى «الذكاء، وقوة الملاحظة،ويقظة الوجدان»، إضافة إلى أن هذا الجنس الأدبي ينبغي أن نفسح له الطريق في كتاباتنا وإصداراتنا اعترافا بأهميته وجمالياته التي لا تقل عن فن الشعر. يتضمن الكتاب سبعة وسبعين نصا تفاوتت لغتها بين المباشرة، والشعرية العميقة. في الكتاب بوح أنثوي شفيف لمنظومة من الثيمات: الحب، والسلام، والعشق، والموت، والغناء، والغربة، والجنون، وشجر اللبلاب، والحُلُم، وشقائق النعمان وغيرها.
من أجمل النصوص التي تضمنتها المجموعة نص «حكايا اللبلاب»، وهو قصيدة دون شك إذا كان الشعر لحمته اللغة وسداه الخيال. هنا يتضح جمال النص:
«للّبلاب حكايتُه/ وله حُلُمُه البعيدُ/يرتعش على سُلّمِه الواهي/يترامى حنينًا/يُشتّته الغيابُ/يَسهرُ ونُسْغُه الوَجْد/وجذوره تيهُ السَّرَاب/يصعد…./وأنفاسُه هذيان/دُوَاردُوَار/ولا نافذة تَرِقّ/لا يدَ تحنو/ولا في الأفق باب/يسهر…/يحوك من شتاتِه مَهْرَبًا/ومن أوراقِه سِتْرا/ظِلالا للعَذاب»
إنه نص شعري فاتن وعذب فكرة وأسلوبا وصورة ولغة. الفكرة في حد ذاتها ذكية تلتفت إلى شجرة اللبلاب وهي تتسلق جدرانا صماء لا بها نافذة ترقّ لها ولا باب يفتح لها الأفق. ترصد الكاتبة في هذا النص لحظة رائعة تؤنسن فيها هذا النبات المثابر الصاعد نحو الأفق، تعبّر عن أحلامه وغربته ووجده. نص يذكرنا بقصيدة الشاعر والروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكينز وهي بعنوان «اللبلاب الأخضر». يقول ديكينز:
«آه، أنيقٌ هو اللبلاب الأخضر،/ وهو يدب على/نقاض قديمة!/يأكلُ من الطيبات، في تصوّري،/وحيدا وباردا في صومعته!/يهشّم الحيطان ويتلف الصخور/كي يرضي نزوته الجامحة»
على أن ديكنز يصور اللبلاب بكونه مقاوما لفكرة الموت. إنه يسبح بأناقة فوق الأنقاض القديمة، والقبور، ويشبع غريزته بتحطيم الجدران وتهشيم الصخور، إنه يقاوم الدهر ويسخر من الفناء. هذه صورة مغايرة لقصيدة «حكايا اللبلاب».يتجلى لنا اللبلاب في هذه القصيدة شيخا صوفيا حزينا ومغتربا لا نافذة له ولا باب، تائها نسغه العشق وجذوره ممعنة في الأرض اليباب، يصعد مرتعشا إلى السماء دائخا يهذي بأحلامه البعيدة. إنها قصيدة جميلة لا تتكئ على الاستعارات القديمة وإنما تجعل المشهد برمته استعارة من أول الحكاية إلى آخرها.
من النصوص المدهشة أيضا في هذا الكتاب قصيدة بعنوان «ماذا لو؟». تقول الكاتبة:
«وحدي والنافذة/وعينان يسكنهما الشرود/أخبئ أفقا في قميصي/وأسند قامتي بعكاز الهباء/في دمي ما يكفي لتعصف الرياحُ/ويجهش الكون بالنداء/بي ما يكفي ليكف الليل عن انتظار النهار/
وتشهق أعماق البحار/وتنهمر السماء بالبكاء/ماذا لو عصفت دمائي بما حولي؟/ماذا لو كتبت على الجدران سيرة العشق والفناء؟/وسرت نحو الرعد/عانقت البروق/ولم أعاتب ولم أسامح/ولم أصافح أصابع الحنين؟/ماذا لو فتحتُ عينيَّ إلى أقاصي الألم/ولم أعتنق الصبر/ولم ألعق جراحي/ولا علقت أحلامي على زند الليل/ماذا لو…/ماذا لو…لم أكن أنا؟»
نص يرتكز على التأمل العميق، فهذه الأنثى التي تخبئ أفُقا في قميصها تطرح تساؤلات وجودية ثائرة تليق بدمها الذي يجعل الرياحَ تعصف، والكونَ يستغيث، والليل يكف عن انتظار النهار، والبحارَ تشهق، والسماءَ تبكي. إنها أنثى يحتاج إليها الرعد والبرق والحنين، أنثى حالمة، جريحة، موجوعة، جاءت لتكتب سيرة العشق والفناء! أليست فكرة النص بديعة؟ أليست لغته كثيفة وصوره عميقه؟
هناك نصوص أخرى تشبه هذين النصين جمالا وروعة منها «قلت سأكتب»، و«حُرّة يوما سأعبر»، و«أتذكر عشتارك؟»، و«إليك أرحل كل مساء»، و«عشق على ورق»، و«علّمني وجعي»، و «لميلادك أنا العتقاء»، و«مسّ الهوى». في رأيي، لو استقلت هذه النصوص في كتاب آخر لشكلت مجموعة شعرية جميلة، ولكن نترك ذلك لتقدير الكاتبة نفسها. هذه المقالة لا تسعى إلى نقد هذا الإصدار الجميل، وإنما تهدف إلى التعريف به، والتنبيه على فن الخاطرة بكونه جنسا أدبيا يختلف عن الشعر وإن التقيا أحيانا في عذوبة اللغة وجمال الأسلوب؛ فمرحبا بـ «عنقاء الروح» كاتبة يمكنها أن ترفد الساحة الأدبية في عُمان ببوح حرٍّ، ولغة شعرية عذبة، وأفكار مبتكرة غير مكرورة ولا ذابلة.
هلال الحجري