من وحي وحلتي إلى الصحراء العمانية كانت هذه اللوحات . لقد مثلت الكثبان التي شاهدتها مكانا سحريا مضمخا بالوان لم أكن أعتقد أبدا بامكانية وجودها في تلك المساحات الرملية الشاسعة . وكان التحدى الذي واجهني هو الرسم بشكلي كلي عبر استعادة ذاكرتي لما شاهدتة من أجواء غامضة ومثيرة ، وهي طريقة للرسم أكتر تعقيدا لكنها أفضل إيحاء من التوثيق الا عتيادي للرحلة .
فمنذ عودتي من صحراء سطنة عمان في العام 1996، وأنا أشغل على عدد من الرسوم ، تمثل سلسلة مكثفة بحد ذاتها. وكان مصدر الفضاءات التجريدية التي رستها تلك الألوان الباهرة للرمال التي عبرت البصر بكثافة على مدار 8 أيام خلال رحلة قوامها ثلاثة آلاف ميل ، جابت فيها سيارتي الربع الخالي غير المأهول ، على خطي المغامر والرحالة البريطاني ولفريد ثيسجر، تلك الرحلة التي أنجزها على ظهور الجمال منذ 50 سنة مضت . رسميت تلك السلسلة من الرسوم : رحلة استثنائية .
حين كنت أقود سيارتي عبر الصحراء، كانت اللوحات تخلق نفسها لم أستخدم ابدا آلة التصوير، التي أخذتها معي عبر الصحراء، لأن الصور لم تكن لتقبض على نكهة الكثبان وعبق الألوان التي رأيتها. وعندما
عدت إلى مرسمي، كان علي ان أبث روح تلك المشاهد في الخامات ليستمتع من يردها لاحقا بنفر القدر الذي أمتعتني به مشاهدتها للمرة الأولى.
في صغري قالوا لي أنني سأكون فنانة ، سواء أبواي أو مدرسو الرسم . ولم تكن لدي وأنا في من السابعة عشرة تلك الثقة فنحيت فرشاة الألوان جانبا، بل وأقسمت أنني لن أعود للرسم مطلقا. وبعد عامين من الدوامة الجامعية ، ثم العمل ، سافرت لمدة خمسة أعوام عبر أوروبا، وعشت بعدها في لندن 3سنوات ، وقضيت ساعات لم أعد أحصيها في الكناس والمتاحف بكل مدينة أو بلدة زرتها، تغمري الدهشة وأنا أشاهد اللوحات الحقيقية التي أعجبتني صورها في الكتب من قبل . ولم يكن ذلك كله كافيا لإقناعي بالعودة للرسم مجددا.
وعدت للعمل الآن ، عدت للجامعة لدراسة الفن في كلية أونتاريو للفنون ( كندا). وكان لتدريبي الأولي في مني الصغيرة الفضل في أن اتجه للرسم التجريدي. فقبل اتخاذ الفنان للرسم التجريدي أسلوبا عليه أن يكون قادرا على رسو كل شيء، وإلا كشفت رسومه التجريدية هذا النقص . ففي اللوحة التجريدية كم هائل من التوازن يوازي ما في الرسم الواقعي. وكثيرا ما تبدأ اللوحات التجريدية بعد رسم الطبيعة الصامتة أو الموديلات .
الإلهام:
وبينما يمكن لثيمات أو أفكار لوحاتي أن تحدث أو تتوارد بثكل دائم لي، فإن جذورها لا بد أن تنتمي للعالم الواقعي. في سفري ألتقط صورا عديدة ، وربما استخدمت تلك الصور مرجعا لي حين أعود إلى مرسي، وربما رست من الذاكرة ، رسما يموج بخبرة تتأوجح بين ما هو أرضي ودنيوي، لآخر تغلفه روح المغامرة .
ولكنني في أحدث أعمالي كنت أستقطر مصادر أثما إثارة وغرابة . وكانت الوان الصحراء ومشاهدها أكثر ما اثر في. وتراوحت تلك ما بين الدرجات اللونية الفاتحة في كامل هيأتها النهارية إلى تلك الألوان المضيئة ، الباهرة لشروق الشمس وغروبها. وربما كانت الأخيرة هي التي أفضل لأنها تناسب بثكل أكبر ألوان الباليتة عندي. بينما كنت أرغب بثكل مطلق في التواصل مع رحلة الضوء في بيئة من التقشف والصرامة ، (أرض يباب من كبان الرمل وراقات الملح )، الى بيئة أخرى تضر فيها ألوانه المذهلة والمدوخة بالحياة الروحانية .
أردت بثكل خاص أن أعيد تفسير تلك العظمة ، أن أترجم ذلك البهاء الذي خلقته الكثبان الرملية ، حين تغير ألوانها في ومضة ، من الأبيض ، للأحمر، للذهبي، اعتمادا على الكيفية التي يضرب بها نور الشمس أو يدق بها ضوء القمر سطوحها المختلفة . إن تصوير ذلك كله في حالة مثالية ، بعدما ذكرت ، يكون صعبا، لأن الاعتماد آنذاك يكون على الرسم بشكل مطلق من الذاكرة ، لتجسيد تأثير ربما لم يكن يستغرق ثانية واحدة من الإنارة في مسرح الحدث .
ولا ننسى الوديان كذلك ، تلك المهاد النهرية الجافة ، التي قدنا عبرها والجبال التي صعدناها عبر دروب خطرة . كل تلك الصور قد تمحوها من المخيلة في ومضة وحيدة لحظات من سقوط المطر، وربما لو كنت في القلب من الوادي لحظتها، فليس لك سرى أن تصلي لتكون قرب أرض مرتفعة قليلا فتتجه اليها، بأسرع ما في سيارتك من عزم ، وإلا جرفتك المياه لبطن الوادي، تلك المياه التي يمكن أن يصل ارتفاعها 20 قدما.
أذكر لكم على سيبل المثال ، ما ترونه في لوحة (الديسكو الأحمر)، التي أصور فيها كثيب الرمال في عزلته أمام ليل المساء الحبري الأحمر المزرق وهو يحيط بالكثبان الذهبية بما يخلق سيناريو سورياليا لحرائق تنشب في الصحراء. أما لوحة (من البخور إلى الميره ) فهي تعيد أيقونة ذلك الكثيب الوحيد مثل جبل من ذهب ,قرب حقل من اللون الأحمر، وربما يمثل ذلك الحقل ضوء الشمس الباهر الذي يتنهد على الرمال البيضاء.
في رسم الربع الخالي أحاول أن أقبض على ذلك الغموض في أرض المشرق . وقد جعلت ذلك بشكل تجريدي يقابل التصوير الواقعي للمشاهد ، مما جعلني أركز على العبق أكثر من الصورة في تلك البقعة السحرية . أوظف الأشكال المعلنة والأحادية اللون التي تتكون من درجات غامقة للأحمر والأصفر والأزرق والأخضر. بافتراضات كونها مشاهد لأرض وسماء، غير كاملة التجمد، لكنها تتمثل هنا الواقع في كونه خاليا وغير محدود بنهاية ما. ويقابل ذلك مربعات الأوراق الذهبية ، التي تشكا بترتيبها الكثبان الرملية ، والتي تجسد رمز الغرائبية المشرق ، أو ربما يقابله خط أفقي يرمز للأفق ، في كل ذلك أردت أن أوضح التباين بين الشمس التي تمكن ساء الأحمر الملتهب ، والضوء المنعكس عن سطوح الكثبان الرملية . وسطوة الفراغ لتلك الصحراء التي تسر بحدوث هذا الانعكاس .
أما في لوحة (البزوغ ) ، على سبيل المثال ، فإن كثبان الرمل الملغزة تبرز في شكل خط من الذهب يمتد عبر قماش اللوحة ليقسمها بطريقة عفوية بل وينفجر داخل شظايا لونية تجسدها أوراق الذهب والألوان موزعة بين مربعات ، قد تكون الطريق الطويلة بكنبانها، وتنويعات ألوانها من درجات الأحمر. وربما يسأل المرء بعدها عن كثافة وغنى وقزحية الألوان التي ترتبط بالميثولوجيا الشرقية ، التي تضيئها وتقترحها العناوين في معرض (رحلة استثنائية )، بلغة تجريد لتصبر اللوحات فيما وراء الطبيعة ، إن لم تكن قد أخذت مكانها مناك ، ويصبر التحدي الأكبر هو رواية كل شيء عن تلك المشاهد.
التقنية:
حين أبدا رسم لوحة ، غالبا ما أضع علامات على قماشها كخطوط إرشادية أو مرجعية . في تلك المرحلة ، اقف أمام بياض قماش الكانفاه العاري واعية بمداه ، ومعا مر على سطحه من تجهيزات ، والحجم الذي أستخدمه يبدأ من التكوين المتوسط إلى الأكبر من 36/ 41بوصة إلى 72/ 72بوصة ، لكن هذا لا ينفيانني رست لوحات مصغرة بحجم4 / 6بوصات فقط . فمعظم من يقتني اللوحات لميت لديه تلك المساحات الضخمة ، وهذا يجعلني أرسم لوحات في أحجام (حية ).
مثل طفلة في محل حلوى ينتابني الهوس للفرش والمشدات المؤطرة للوحات ، أشتري قماش اللوحات بعرض 60و 12بوصة ، مما يجعلني قادرة علي تحديد اي حجم أريد. وأطلب عددا هائلا من الإطارات الخشبية متنوعة الحجم ، وأجهزها بثكل دائم ، لذا يكون الحجم الذي أختاره جاهزا دائما.
وبالنسة لي فإن وضع طبقات الجص يعد جزءا مهما من عملية الإبداع . وبعد مشد القماش إلى الإطارات أضع الجص بنفسي ، ربما لأربع
أو خمس طبقات ، تكون الأولى مشبعة تماما بالماء، لأنني أريد للجص أن يتسرب بكامله في الكانفاه . أما الطبقات اللاحقة ، التي أسمح لكل منها أن تجف قبل وضع الطبقة التي تليها، فتصبح أكثر سكا، ليصبه للجص قوته الكاملة ، وأستخدم فرشاة 3بوممات لزيادة النعومة على اللوحة ، وأستغرق في تجهيز أكثر من لوحة بوقت واحد، مما يمنحني حرية الاختيار، إضافة لتوفير الوقت ، عندما أكون في مزاج الخلق .
والآن ، بعد أن أعددت العدة للرسم ، أصل إلى مرحلة الاختيار بين أحجام مختلفة من فرش الرسم ، ومنها أختار من 20 الى 50 لكل لوحة . وقد اشتريتها لمرسي من الصين والشرق الأوسط ، وأوروبا، ولكنني أفضل فرش mangoose من فرنسا. وأبدأ اللوحة باستخدام فرشاة عرضها بين 2و1بوصات ، لأرسم الخلفية على أكبر المساحات إمكانا من اللوحة ، لأن تلك الفرش تحتفظ بالحجم المناسب من اللون . ويعد ثكل ضربات الفرشاة مهما في لوحاتي، لأنه يحتفظ بحركة وطاقة مكثفة . وحين أبدأ التلوين ، أبدأ بالركن العلوي إلى اليسار، لأمنع خطوطا قطرية تحمل مغزى الحركة .أفعل ذلك بطريقة لا واعية ، ربما لأننا تعلمنا أن نقرأ من اليسار الى اليمين .
أفته الألوان التي أعتقد أنني سأحتاجها في اللوحات ،ثم أغمس فرشاتي في لون الأ كليرك . دائما ما أستخدم اللون مباشرة ، وأفضل عبوات بحجم 16 أونصة ، لأنها تناهب الفرش الأكبر حجما، ولا أستخدم الباليتة الوسيطة لأنني أفضل الرسم مباشرة على اللوحة ، وعلى قماشها أمزج اللون مع الآخر ، والطبقة مع مثيلتها. أشعر أن تلك طريقة ,أكثر تلقائية في العمل ، وهي تقدم ألوانا باهرة ، لم تكن لتظهر لولا أنها خلطت على الباليتة قبل ذلك.
مع بدء العمل في اللوحة ، ومن الوهلة الأولى، أقرر ثكل وتكوين اللوحة ، مشكلة خلفيتها ومقدمتها، بلون الأ كليرك ، ثم أقرر أين أقمع الأوراق الذهبية . أستخدم هذه الأوراق للتعريف باحساس الكثبان عبر رسوم ومضاتية لمربعاتها. بعد ذلك تكون لوحتي جاهزة لتحمل توقيعي.
في البداية أثبت ورقة الذهب على اللون الذي لم يجف بعد. وبعدها أسر لبعض أجزاء اللون بأن تجف ، مما يجعل الذهب لا يلتصق بما. هذا التأثير يمنح شكلا مرقشا وتديما للمربعات ، يبعدها عن الكمال الهندسي لها، ويتربها من الخيوط النسيجية . وهنا قد ألون الجزء الخالي مرة أخرى، أو أضع بقعا لونية ، أو أتركه كما هو. وربما . في الأخير أخدش جزءا من الذهب لأصنع علامات ما. وبعد أن يجف اللون تحته تماما يكون قد خلد الى الديمومة مما يمنعه من السقوط من على قماش الكانفاه. الذهب يبقى آلاف الأعوام ، في قلب المحيطات كما بقي في المقابر ، المصرية القديمة . وهذا يجعله ينل ملي اللوحة اليوم دونما حاجة لاضفاء فبقة الورنيثر اللامعة عليه . فأنا لا أستخدم مثل تلك الطبقة أبدا، لأنها قد تفطر الذهب بشريحة فيلمية تخمد من بريته . ربما إذا استخدمنا الفضة . لأمكن أن نلمعها لمنع الصدأ.
لا يمثل الذهب المستخدم وظيفة تزيينية فحسب ، حيث تعد أوراق الذهب المستخدمة أكثر الخامات دقة في التعريف سواء للنكرة أو اللوحات . فلا يثبه الذهب شيء في جودته السحرية . ولأنه استخدم لقرون طويلة ، نهو يستحضر التاريخ الى لوحاتي، مما يجعله يضيف إشارات مرجعية للشرق العجيب ، وتصميمات الموزاييك ، ورسم الأيقونات . ولذلك غالبا ما أحيط مربعات الذهب بخفقات لونية لألوان الأحمر والأصفر وأحيانا التركوازي المادي. أما الخطوط التجريدية في اللوحة فتفترض خطا أفقيا متحدرا كالتلال . وربما هو خيط يلتئم به طرفا اللوحة مثلما لو كانا حيكا معا.
وبمعنى أوسع، يمكن أن نقول أن أوراق الذهب ترمز إلى تاريخ الفن أو الثقافة بشكل عام . فالموضوع الشرقي يجعل من المربع الذهبي يثبه البلاطة الاسلامية . ولكن على مستوي أكثر تجريدية ، هي أيضا شلال ذهبي، أو إن شئنا الدقة ، أطياف شلال ، سراب يبزغ من حرارة الصحراء.
اللوحات التجريدية ، خاصة تلك التي تستخدم الأوراق الذهبية ، تعترف بأهمية التاريخ الثقافي للذهب ، لكنها تؤكد في الوقت ذاته على وسوم الطبيعة . فالموتيفة (الأيقونة ) السيطرة في اللوحات عدا الأكليريك ، هي تلك المربعات الذهبية المتنافسة التي اسفت خلف بعضها البعض ، في لعبة التباين ، تلعب على الوتر المشدود حين تتكامل الأشكال الثقافية والطبيعية معا. والأسباب عديدة كما يقول إيرل ميللر، الناقد التشكيلي:
صممت ماكجيفرن لوحتيها ( وعد) و ( حديقة ) ، بشكل مكثف في التركيب ، بوضعها "كولاج" من المربعات بزوايا إيروتيكية يربطها بشكل شلال ذهبي ينحدر إلى سفح اللوحة الأحمر. وفي ( حديقة ) ورغم سيطرة المربعات ، فإنها تحتمل ، كما يقترح عنوانها، الحضور الضمني لشعاع راقص ومتوائم من اللون ، والنسيج ، والأشكال العضوية والطبيعية .
إن هاتين اللوحتين تمثلان محاولة ماكجيفرن لربط الرسم التجريدي بتاريخ الفن السابق على تلك الحركات المعاصرة ، عبر مرجعيات تجسيدية للوحات وأسماء عملاقة .
ها هي ماكجيفرن تعارض التاريخية المحتفى بها في التاريخ المعاصر، مما يجعل عملها ضمن ما بعد الحداثة ، إذا أردنا أن نسميه . وبالتأكيد يعود ذلك لثراء اللوعة والألوان المخاطبة للمتذوق ، ووضعها العصراني مما يجعلها خالدة .
في سلسة رسومي الجديدة أصبح أكثر تجريدية ، بل وأحس بأصالة أكثر، وفي لوحتي (وعد) أستحضر على نحو أفضل تجاربي السابقة ، بأشكالها المنمنماتية ، المسطحة ويلونها الأحمر المجرد الثري والمسطح في آن واحد، مع الأحمر الملتهب ، متناسقا مع مربعات الأوراق الذهبية . المستطيل المتشكل في أعلى اليمين من اللوحة ، مع تلك الواحة الذهبية ، الأمر الذي يضيف حياة للأرضية النابضة . هكذا حارت في لوحات : وعد، زهور عباد الشمس بعد فنسنت ، شاطيء انجلترا، في الداخل وفي الخارج، مركزة على استخدام اللون ليحمل النور والعتمة .
في لوحتي (مغامرات ) ترى أنني اقتبستها من شكلين اساسيين . الأول الأرضية الحمراء، والثاني بريق الذهب ، واضعة مقابل اللون الذهبي أرضية زرقاء . ورسمت فوق الذهب بالأخضر والأزرق ودرجاتهما لأمني لذلك الشكل الاحساس بالطبقات . أحاول بعد سلسة (رحلة استثنائية ) أن أهرب من الطبيعة المجردة ، الى فضاء متخم أكثر بألوان الحقول ، وتكون النتيجة دراما معمورة ، أحيانا متمردة ومصقولة ، وأحيانا أخرى هادئة ورعوية .
النص للفنانة: برباره ما كجيفرن الترجمة: أشرف أبو اليزيد