تحاول علوية الصبح في روايتها الجديدة «اسمه الغرام» أن تقيم اتصالها بين روايتها الجديدة وروايتيها السابقتين على أكثر من صعيد سواء على مستوى لعبة السرد التي تفتتح بها روايتها حول اختفاء بطلة الرواية نهلا وظهورها المفاجئ ثم اختفائها والبحث عنها، أو من حيث الإشارات التي ترد على لسان الراوية إلى تلك الروايتين وشخصيات أبطالها ضمن تلك اللعبة التي تتعدد فيها شخصيات الرواة في حين تكون الكتابة وسيلة لمقاومة الموت والنسيان ما يجعل السرد هنا بمثابة ذاكرة للحياة التي تعيشها البطلة ومعها مجموعة من النساء اللواتي ينتمين إلى الطبقة المثقفة من المجتمع ويعشن أشكالا مختلفة من العلاقة مع أجسادهن وضمنا مع الآخر/ الرجل والغرام تعكس رؤى ومواقف متباينة. ولعل عنوان الرواية بما يحمله من دلالات تفصح عن تلك العلاقة من الحب التي تعيشها المرأة في علاقتها مع الرجل يشكل مفتاحا للدخول إلى عالم الرواية الذي تنفرد فيه المرأة ببطولتها وموضوعها في محاولة لاستبطان ذلك العالم الثري من الداخل والكشف عن تأثير علاقات الواقع الاجتماعي عليه، وكيفية انخراط المرأة فيه والتعامل معه ما يجعل الجسد هو بطل الرواية الحقيقي في تجلياته وتعبيراته واشتراطاته وتحولاته وغرامه.
بين الكتابة والحكي
يشكل عنوان الرواية الذي يتألف من جملة اسمية حذف مبتدأها علامة دالة فهو يختزل على مستوى بنيته الدلالية محتوى الرواية المشغولة بمقاربة تلك العلاقة الخاصة التي تربط المرأة مع جسدها منذ طفولتها وحتى تفتحها الأنثوي وشعورها بالانجذاب العاطفي نحو الرجل والذي اسمه الغرام كما تسميه بطلة الرواية في وصفها للحالة التي تعيشها صديقتها تجاه الرجل. لكن الرواية تطرح منذ البداية قضايا أخرى تتصل بموضوع الكتابة والحكي والكتابة والموت والكتابة والقدرة على التعرف إلى الشخصيات التي تكتب عن حيواتها والإجابة عن كل الأسئلة المحيرة حول اختفاء نهلا وأسبابه وقدرة الكتابة على الاستهداء إلى الحياة التي عاشتها.
ولكن إذا كانت متعة الحكي هي التي قادت نهلا في عالم الكلام لسرد حكاية غرامها لصديقتها سعاد، فإن الكتابة التي تبقى محكومة بقوانينها الداخلية تظل ناقصة عن تمثل جميع جوانب حياة شخصياتها والتعرف عليها كاملة كما تقول نهلا للكاتبة أثناء حوارهما المتخيل حول كتابة قصة حياتها حيث ترى في الكتابة عنها وسيلة للتعرف على تلك الحياة التي عاشتها من جديد أيضا( سمعت صوتها الساخر يقول لي: مين قلّك حتى لو عرفتيني وقت طويل حتعرفيني بالكامل لتكتبي عني. قومي اكتبي وإنت وعم تكتبي رح تصيري تستهدي ويمكن بتصيري تعرفيني وما تنسي إنه الكتابة دايما ناقصة)ص6. وعلى الرغم مما تعانيه الكتابة من نقصان فإنها تمثل للكاتبة ولبطلة الرواية نهلا حاجة وجودية تقاوم فيها موتها وتنقذ مصيرها من النسيان.
المرأة والجسد
اسماء وحيوات كثيرة لأكثر من تسع نساء تتداخل مصائرهن وأقدارهن وحيواتهن التي تضيء جوانب مختلفة من عالم النساء الخاص ومن علاقتهن المتباينة في معانيها وأشكالها مع أجسادهن، حيث ترتبط حيوات تلك الشخصيات وفي مقدمتها شخصية بطلة الرواية بالجسد بوصفه الفضاء الأنثوي الخاص الذي تنفتح عليه تلك الحيوات منذ بداية ظهور علامات الأنوثة فيه مرورا بتفتحه ونموه حتى اكتمال شكله الأنثوي، حيث تتخذ تلك العلاقة المحكومة بمحددات اجتماعية وثقافية ووعي ذاتي أشكالاً متعددة من الحب والشعور بغناه وجماله إلى كره والنفور منه بسبب لاسيما من قبل النساء التقليديات( تحِّيرني علاقة البنات بأجسادهن. أرى كيف يتعاملن معها، مرة كأنها أكفان، ومرات كأنها أشياء لا تخصهن، تفرض عليهن فرضا منذ الولادة. يخفن منها في الأيام العادية ويكرهنا وينفرن منها أثناء العادة الشهرية. تصفها عمتي رقية بـ«عادة الشؤم والبلاوي والمصايب» وتنعتها أمي بالنجاسة) ص 88. لكن بطلة الرواية تظل أكثر الشخصيات الأنثوية في الرواية حبا فائقا لجسدها وشعورا بقيمته ومواطنه الجميلة نظرا لكونه جزءا من حياتها التي تحبها أيضا، ما يدفعها لمنحه اهتمامها الدائم والتصالح معه حتى في الحالات التي تندفع فيها وراء غريزتها( جسمي الذي أحبه حبا هائلا حبي لحياتي. كنت أحسب أنه نظيف وكريم عليّ وعلى هاني حتى حين أقمت علاقات عابرة لم أشعر أني امتهنته) ص26. لذلك فهي تتجاوز المشاكل التي تعاني منها المرأة بعد دخولها سن اليأس حيث تندفع وراء غرامها بعد تجدد علاقتها مع حبيب عمرها هاني بل هي تشعر بالسعادة بالعمر الذي بلغته كما كانت سعيدة به فيما مضى. ولا تختلف صديقتها عزيزة في موقفها من العلاقة مع الجسد عنها إذ هي تربط بين معنى حياة المرأة والاعتراف بجسدها ومحبته والعناية به، في حين تتخذ العلاقة مع الجسد عند شخصيات أخرى أشكالا مختلفة إما بفعل طبيعة الشخصية الباحثة عن اللذة والمال كشخصية( منى) أو الخيبة في العلاقة مع الرجل مثال عزيزة أو النزوع المثلي عند نادين وثريا.
يحول اختلاف الدين بين زواج نهلا من هاني لكن ذلك لا ينقص من مشاعر الغرام حتى بعد أن يتزوج كل منهما إذ نجد نهلا على مستوى العلاقة الجسدية مع زوجها تعيش انفصاما كأن جسدها معه هو لامرأة أخرى على خلاف علاقته مع هاني الذي يمثل غرام حياتها( لم أشعر بأني أعطيه جسدي، أو أنه يأخذ منه شيئا. كنت أشعر بأنه يعرِّفني إليه، كما أعرّفه إلى جسده) ص150. ولعل هذا المستوى من العلاقة المميزة بين نهلا وجسدها وبين جسدها وحالة الغرام التي تعيشها هي ما تشكل محرضا جسديا للراوية يدفعه للتمرد عليها عندما تأخذ نهلا بالحديث إليها عن الغرام.
الجسد المغروم
يعيش الجسد الأنثوي عند نهلا أجمل لحظات تدفقه وتوهجه وجنونه وصدقه وكرمه في حالة الغرام التي لا يمكن فصله عنها كأن هذا الغرام قدره ومفتاح أسراره وجماله ومعنى وجوده لذلك فهي تهبه حياتها وتجعله معنى وجودها، بل هي تحث صديقاتها عليه بوصفه شفاء للروح والجسد ومصدرا للشعور بالحيوية والطاقة والسعادة كما تقول عزيزة لصديقتها سعاد التي تعاني من مشاكل كثيرة مع زوجها الذي تزوجت منه من غير حب( ولي هيدا جوزك بعد بدو يسكرلك شرايين قلبك. مش عم بمزح قومي روحي حبي الحب بيفتح شرايين القلب ولك يا أختي إذا عشقت مرة بالشهر بتصيري مثل الحصان إنت بتعرفي إنه النسوان ما ما بيختبروا إلا لمن قلبن ما بعود يحس وما بعودوا يحبوا ولا بيعملوا علاقة). يأخذ الغرام في هذه العلاقة مع تقدم العمر معاني جديدة عند المرأة يعكس شعورها بالنضوج والتعقل الذي يصاحبه تحول في علاقتها به تجعل الجسد الذي مسكونا بالجموح والجنون يتخلى عن تسيده ووحدانيته كقطب تدور حوله حياتها كلها الأمر الذي يجعل هذا الغرام يتخذ معنى الأنس الرقيق كما تسميه نهلا لصديقتها سعاد( إنه الأنس يا سعاد الأنس الرقيق في الغرام لما نتقدم في العمر الذي يجعلك تشفين ويفتح عينيك على دنيا الجسد لما نتقدم في العمر) ص285. وعلى خلاف نهلا يبدو شقيقها الذي يمارس عليها سلطته وقمعه منخرطا في البحث عن لذته بحرية تامة حتى في أوساط النساء المومسات ما يفضح واقع الحال الذي يحكم علاقات هذا الواقع الذكوري وقيمه الاجتماعية التي تجعل الرجل رغم انتمائه السياسي الذي يفترض وجود وعي بمعنى الحرية والمساواة يفعل ما يريد في الوقت الذي يمارس رقابته وظلمه على شقيقته بوصفه حارس القيم والأخلاق. وتلعب المرآة في حياة نهلا المغرومة بجسدها دورا مهما على صعيد تلك العلاقة الجدلية ودلالاتها المرتبطة بعلاقة هاني المغروم به حتى أنه لا يرى في تلك العلاقة الحميمة سواه ما يزيد في شدة إعجابها واعنزازها به وتبجيله وهي التي تعيش اصلا علاقتها الإيجابية جدا معه.
يتميز الزمان في الرواية بحركته الحلزونية التي تسمح للكاتبة بالحركة والانتقال بين أزمنة مختلفة. وبغية الإقناع بواقعية أحداثها تستخدم في كثير من مواضع السرد التحديدات الزمنية مثل حرب تموز وربيع سنة 2005 كما تستخدم أسماء أمكنة واقعية في بيروت والجنوب. تعاني لغة الرواية من مشكلة حقيقية فهذه اللغة التي تتوزع بين اللغة المحكية في حوار شخصياتها واللغة الفصحي المستخدمة في السرد الحكائي كانت تحتاج إلى تدقيق ومراجعة بسبب كثرة الأخطاء اللغوية والنحوية التي وقعت فيها والتي أساءت إلى جماليات تلك اللغة التي ربما كان من أسباب عثراتها في هذه الرواية رغبة الكاتبة في تفصيح اللغة العامية بهدف جعل الرواية مقروءة من فئات اجتماعية مختلفة، إلا أن ذلك لا يبرر تلك الأخطاء المتكررة خاصة وأن هذه الرواية هي تجربتها الرابعة في الكتابة الروائية.
مفيـــد نجــــم
كاتب من سورية