تعد علوية صبح من أنضج التجارب الروائية في تاريخ الأدب العربي الحديث، بل صارت تمثل الروايةالعربية وامتداداتهاعالميا سواء عبر الترجمة أم في حضورها داخل لوائح أهم الجوائز العالمية.إنهاعلوية صبح التي جعلت للحكاية سلطة في تمثيلاتها للأنثوي داخل روائية تفتح مساحات التأويل على ممكناتها القصوى بسخرية لاذعة لكل مظاهر السلطة.اختارت أن تكون متفردة في بناء شخصيات روايتها ورؤاها لموضوعات مربكة:الجسد والحب والحرب والجنس والذاكرة والخيانة والتاريخ والهامشي وتناقضات المجتمع من دون التفريط في الصنعة الروائية وجمالياتها، لذلك قوبلت تجربتها باهتمام كبار النقاد العرب، ودخلت رواياتها إلى الدرس الجامعي العربي في أطروحات، وفي كتب نقدية عديدة. ترجمت روايات الكاتبة اللبنانية علوية صبح إلى لغات أجنبية عديدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية. وصدرت كتبها مترجمة في كبريات دور النشر العالمية مثل دار Gallimard الفرنسية ودار Suhrkamp الألمانية ودار Mondadori الإيطالية. وقد صدر للكاتبة: «نوم الأيام»، نصوص قصصية صادرة عام 1986، ورواية «مريم الحكايا»، ورواية «دنيا» التي اختيرت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر في عام 2008، وآخر أعمالها رواية «اسمه الغرام» التي اختيرت بدورها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2010. كما حصلت الكاتبة على جائزة السلطان قابوس للإبداع الروائي عام 2006 بمناسبة عُمان عاصمة الثقافة العربية 2006، وقد صدر لها إلى جانب رواياتها العديد من النصوص الإبداعية والمقالات في الصحافة اللبنانية والعربية. كما شاركت في العديد من المؤتمرات الثقافية في العواصم العربية والعالمية، وقدمت شهادات عن تجربتها في الكتابة، وأنجزت دراسات حول الرواية والمرأة والإبداع.
uv تقرأ في رواية «اسمه الغرام»: كيف سأتذكر أنها أشيائي، وأنها قصتي، إلا إذا طاوعتني علوية فعلاً وكتبت عني واستهدت إلى ذاكرتي وقصتي. أشعر يا سعاد بأن ذاكرتي تتضاءل. أنسى الوجوه والأسماء، وأنسى أحياناً من أكون. من تكون علوية صبح؟ ألا تحنين الى زمن الطفولة؟ وكيف بدأت الكتابة مع أسرار الحكي؟
أخجل أن أتحدث عن نفسي بما لا يفيد القارئ، لكني أستطيع القول أنني أتعرف إلى نفسي وأحاسيسي في كل دقيقة أعيشها، بحسب تجاربي في الحياة ومع الآخرين، فمعرفة الذات ليست كتاباً منجزاً، ولا يجب أن نكون أسرى صورة يرى الواحد منّا نفسه فيها وانتهى الأمر، على الأقل أنا لا أرى نفسي كذلك. وأحياناً يعرف الآخرون عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. يعلموننا أشياء عنّا ويكتشفونها فينا حين تكون العلاقة معهم صادقة وحقيقية. وأنا أعجز عن أن أقيم علاقة مع أحد ما لم تكن كذلك. أنسحب بهدوء لكي لا أتشوّه ولأنني أحترم حياتي وشخصيتي وذاتي ولا أريد أن أُعكّر صفائي. أنا أغضب لكني لا أعرف أحاسيس الكراهية. أتقبل شخصيات كثيرة تتناقض معي أو ربما تحاربني، لكني أحاول دائماً أن أتفهم الآخرين، حتى ولو ابتعدت عن بعضهم، ربما لأن طبعي الإنساني ينعكس على شخصيتي، أو العكس. ومن صفاتي أنه يروقني أن أسمع أكثر مما أحكي، والكتابة عرفتني على ذاتي أكثر، ليس لأن كتابتي سيرة ذاتية لي، بل هي وسيلة لاكتشاف الذات والأحاسيس التي تتكثف أكثر مع كل تجربة إنسانية أو مع كل رواية. فأنا مع كل رواية أصير مختلفة عما قبل، والإنسان في تحول مستمر كل لحظة أو تجربة يعيشها، وإن كان الوصول إلى عمق معرفة الذات صعباً.
ربما يصل الى القارئ مدى شفافتي ورقتي، أمانتي لأنوثتي، جرأتي وشجاعتي. ومهما تراءى له أنني عميقة فأنا جد بسيطة ومتواضعة وإن كنت أقدّر ذاتي. التواضع لا يعني الضعف أبداً بل هو منتهى القوة. أميل الى السلام مع الآخرين، لأنه يكفيني ما يضطرب بي من انفعالات داخلية في الكتابة. وربما ورثت صفة المسالمة من أبي مثلما ورثت الجرأة عن أمي، لكني مقاتلة شرسة ضد أفكار أو ذهنيات متحجرة، ولا يعنيني أن أقيم قتالاً مع أشخاص مثلاً.
حياتي تسير وفق نظام وروتين لا أعرف الضجر فيهما. أضجر فقط من الآخرين الذين يستهلكون وقتي ويسلبوني طاقتي الإيجابية ولا يُمتّعونني لا بالكلام ولا بالمعرفة ولا حتى بالصمت معهم.
أنا من برج العقرب، وبي صفات كثيرة منه. أقيم علاقة حقيقية مع الصديقات أو الأصدقاء أوالأقرباء، أولا أقيمها إن لم يكن الحب دافعها محركهاأو ما ينسجها.
الحب نبنيه وننسجه ونعمّره. لدي الشجاعة والمتعة أن أعيش وحدي وأقيم علاقة حب لا تنتهي مع ورقة شجرة مثلاً أو مع أي شيء يهبني فرحاً ومتعة واكتشافاً وسلاماً. أستطيع أن أعيش سنوات بلا علاقة حب إن لم أقع في الشغف، وحين أعشق تتفجر أنوثتي ورغبتي وتتدفق مشاعري كنهر جارف. ربما الجملة التي قلتها على لسان بطلتي نهلا في «اسمه الغرام» نطقت بأحاسيسي: «الجنس بلا حب هدر للجسد، وأنا لا أحب هدر الأشياء، حتى حوافي الخبز آكلها».
لا أحن أبداً الى طفولتي. لا أتمتع بصفات النوستالجيا الى أي عمر مضى في حياتي، ربما لأني متصالحة مع ذاتي في كل أعماري، وربما لأني أشعر أن نساء كثرا تسكن بي، وأعمارا كثيرة تقيم وتتعايش بي، الطفلة والصبية الشقية والكهلة. وأحياناً أشعر أني حديثة الولادة وأحياناً أخرى وكأن عمري أكثر من ألف عام، أو هو منذ أن ولدت حواء. الطفولة والشباب وحكمة الكهولة هي نسيج متداخل ومتشابك بي. أحياناً تتصارع، تنهزم إحداها في نفسي، أو تنتصر واحدة منها، وأحياناً كثيرة تكسبني قوة وقدرة على الحب والغرق في الحياة، واستيلاد الدهشة والبراءة والنضج في آن.
لقد بدأت الكتابة في سن مبكر. حاجتي إليها تولّدت لدي باكراً. مذ كنت صغيرة، كنت أكتب أحاسيسي حول كل ما يدور من حولي، لكن بداية الحكاية مع أسرار الحكي بدأت مع رواية «مريم الحكايا»، معها بدأت رحلتي في مختبر سردها.
uv لماذا طلقت القصة القصيرة بعد «نوم الأيام»؟ هل القصة القصيرة تمرين للعبور نحو عوالم الرواية ومساحاتها الشاسعة؟ ألا يتعلق الأمر بما سماه جابر عصفور بزمن الرواية؟
كتاب «نوم الأيام» أصدرته عام 1986بعد أن نشرته فصولاً في جريدة «النهار» في بداية العشرينيات من عمري. عبّرت فيه عن مناخات الحرب وأثرها في الذات وكوابيسها. كان الكتاب عبارة عن تجربة كتابة نصوص مفتوحة كما وصفه الشاعر الكبير أنسي الحاج والذي امتدح الكتاب وقال إنه أدهشه في الملحق الثقافي لجريدة «النهار» ولم أكن أعرفه آنذاك.
وخلال فترة الصمت وبعده كنت أكتب يومياً ولم أفكر في النشر. أخذتني رواية «مريم الحكايا» عشر سنوات أو أكثر. كتبت ومزقت الكثير وأعدت الكتابة أكثر من مرة، قبل أن أنتهي من الكتابة الأخيرة. ربما صدمة الحرب، واليأس، وربما الخوف من الكتابة ومن النشر كانت ترهبني. ألم تسألني بطلتي مريم في الرواية عما إذا كنت أنتظر الربع ساعة الأخير من عمري لأكتب؟
على كلٍ، لولا خوفي من مصائر الشخصيات في الحرب، لما تخيلت مريم وجعلتها تلاحقني في الرواية كي تعيد اكتشاف ذاكرتها. كنت وأنا أدعها تفعل ذلك أعيد الحياة إليّ عبر الكتابة.
وجدت نفسي بعد «نوم الأيام» أنساق الى خارج الذات. تولدت لدي الحاجة الى خلق عالم أوسع في الكتابة انسقت خلالها لاستكشاف ذاتي وعالمي والتعبير عن خيبة جيلي من الحرب. وقادتني التجربة في هذه الكتابة الى محاولة فهم المجتمع، ووجدتني أذهب فيها منقادة الى تجارب ثلاثة أجيال من النساء، البنات والأمهات والجدات، وما اكتشفته من عنف في عمق المجتمع كان أشبه بالصفعات بالنسبة إليّ، وكأن هذا العنف متجذر في المجتمع وبخاصة ضد النساء.
كنت في صباي قد انجذبت في وقت مبكر للسياسة والثقافة، لكن خيبتي وخيبة جيلي في الحرب والحب والأحلام استدعتني الى تقصي عوالم وتقنيات لم أردها جاهزة. ولا شك أن الرواية تتنامى في أزمنة التغيرات الكبيرة. وأعتقد أن كل روائي لبناني دفعته تجربة الحرب الى أسئلته الإبداعية الخاصة.
وربما الصدمة بمدينة الحرب دفعتني الى الفهم والاستكشاف. وأكثر ما أقلقني قبل أن أبدأ الكتابة هو السؤال: كيف أكتب عن، أو في أي مدينة لا تشبه المدن التي انتهت سرداً ومتناً وتقنيات هي حصيلة تاريخية لمجتمعاتها وثقافتها. عن أي مدينة أحكي، وأنا التي عشت حروبها وتهجيراتها ومصائرها، ووجدت نفسي في أوائل العشرينيات من عمري في خضم حرب شوارع قذرة تكسر فيها حلمي بمدينة علمانية رسمها لي وعيي الثقافي والإنساني. مدينة شهدت انهيار حلمها بالحداثة على مختلف المستويات حتى الثقافي منها وانهيار حالة مدينية كانت مشعة مثل الحرب. والمدن، تشبه ناسها، فذهبت إلى حكايا البطلات والأبطال لأكتشف قصصها وخيبات أحلامها، فقادني ما هو ذاتي الى مجتمعي وتاريخي، والى عوالم الحكايا الى حد الوجع والسخرية.
uv تعتبر رواية «مريم الحكايا» أجزاء من الزمن الماضي الساكن في الذاكرة وتجسيداً للأمكنة والشخصيات، هل أسعفتك تفاصيل الذاكرة في هذه الكتابة في ترميم الحدود بين المسكوت عنه في الواقع وتجسيده في المتخيل الروائي؟ بل ما هي مساحة الذاكرة في مخيلتك الروائية؟
الذاكرة هاجس دائم في أعمالي، فذاكرتي أنا شخصياً توجعني حين تفلت مني ولا تستجيب لرغبتي باستعادة الأشياء أو حفظها. وتاريخ وطني المفتوح دائماً على الحروب يجعل هذا الوطن قيد الاختبار، والذاكرة مهددة بالإمحاء باستمرار. ثم إن التاريخ الأدبي ليس سوى استكشاف للذاكرة والحياة عبر المرويات.
أنا أحاول أن أكتب الحاضر، وهو الذي يقودني الى ذاكرة، فالذاكرة ليست شيئاً ماضوياً وليس لها جواب نهائي، إنما هي استكشاف دائم. ليس ثمة حدود في الأدب، كما في الحياة، بين ماضينا وحاضرنا، لكن هناك فرق بين أن تكون محكوماً بالماضي، أو بالحياة. وشتان ما بينهما. الكتابة محكومة بالحياة، وليست سوى اختراق لها في ضوء جديد يمنحها فاعلية حوارية بين ذاكرة الكتابة وذاكرة القارئ، والصراع الذي يصوغ العلاقة المعقدة بين الإنسان ومحيطه، يجعل الذاكرة متحركة باستمرار كحركية الحياة.
الحقيقة أنني وجدت نفسي وأنا أروي عن الحرب القذرة ومصائر الأبطال التراجيدية فيها وخيبات النساء في الحب وأحلام الحرية والتغيير، أذهب الى حكايا الأمهات والجدات، في لعبة مرايا بينهن لأفهم وأستكشف وأُعري المجتمع والشخصيات وأُجابه وأسخر وأنا أتوجع مما تكشفه لي الكتابة.
نعم كتابتي في «مريم الحكايا» كما في سائر رواياتي تطلبت مني نزع الحُجب والأقنعة واختراق المسكوت عنه في الحاضر والماضي وتجسيدهما في المتخيل الروائي.
كما تطلبت مني الذهاب الى ما هو حقيقي ومتبئّر بحيث بدا لي ما هو «تابو» عادياً، علماً أن الجرأة لم تكن هاجساً عندي أو هدفاً يحرك العمل، بقدر ما كانت حرية الكتابة وفنيتها.
وأعتقد أن طريقتي في السرد والإخبار جعلتني أحاكي المشهد في حقيقته وصدقه، بمعزل عن أي رقابة أو ردود فعل أو ادعاء جرأة، إن في وصف الحالات أو المشاهد، أو في طبيعة السرد للعلاقات السائدة. ومحاكاتي للمشهد أعطتني قوة في اختراق زوايا الشخصيات وأغوارها، بحيث قادتني اللغة الحميمة الى كوة أطل منها الى دواخل الشخصيات واستنطاقها، والى عالم يمجّد العنف وتسوده القيم الإلغائية.
وجدت نفسي في «مريم الحكايا» أذهب الى ذاكرة النساء الراكدة والمنسية، وحاولت الكشف عنها وعن لغات مقصية، وصياغتها، لكن ليس وقت إعادة إنتاج القيم الذكورية السائدة في الأدب. أقول إني حاولت، فاستكشاف الذاكرات النسائية ربما هو مساءلة للذاكرة الذكورية وكسر لخطابها، فتواريخ النساء لم تشكل بعد ذاكرة كتابة تحمل قولهن المستور والمخفي والمسكوت عنه حقيقة. فالذهنية الذكورية قد تتحكم بكتابة المرأة كما الرجل. ذاكرة النساء في النهاية منهوبة ومصادرة، والإنسان المنقطع عن ذاكرته كائن تائه، أليس من الطبيعي أن أجعل من كتابة الذاكرة منارة تدفعني إلى أن أستهدي الى ذاكرتي وذاكرة النساء المنهوبة، والتي تكشف أن تواريخنا تحكمها ثقافة العنف والقهر؟
في «مريم الحكايا» حكت مريم حاضرها وانكسار حلمها وحلم صديقاتها بما فيهن علوية التي هي أنا. حكت عن تجاربهن في الحرب والحب والحياة بعد أن اختفت علوية والكاتب المسرحي زهير، توأمي، وخيبتها من أن يروي أي منهما حياتها. نعم، وجدت نفسي مدفوعة الى تخيل مريم التي تجسّد الذاكرة الشعبية للمرأة، لتروي بدلاً مني ما هو حقيقي ومسكوت عنه، كاشفة عن أسرار النساء المخبوءة الصادمة. العودة الى الماضي هو لفهم الحاضر، بحيث باغتني العنف المتجذر في المجتمع ضد النساء، وطاردني في الرواية خوفهن من أنفسهن وأجسادهن ومن الآخر بل من الحياة.
وفي «اسمه الغرام» دعتني نهلا الى أن أكتب لأعرف، لإدراكها أنها ستفقد ذاكرتها، وكما تحدثني في الرواية، أحاول مراوغتها بالاستدراج في الكتابة والتخييل، عبر تشكيل ذاكرتها وذاكرة جسدها وذاكرة الأبطال. الذاكرة الكتابية تاريخ موثق بالقصص والمرويات، والوقائع المتخيلة، والخيال أحياناً تتقنّع به الوقائع الفعلية.
uv إن قارئ روايات علوية صبح لا يمكن إلا أن يستشعر قوة الحكاية وحرية الشخصيات من داخل التخييل الروائي الى درجة أننا نراها ونسمعها ونرصد ونشم بواسطة أنفها الروائح، ونتابع تحركاتها وتناقضاتها وفلسفتها في الحياة، مما يعني التحكم في الصنعة الروائية. لماذا تصرّ علوية صبح على الحكاية كأساس لعوالم رواياتها؟
في رواياتي الثلاث، أنا منحازة إلى الحكاية التي تستدرج كل منها منطقها البنائي، وإلى أسلوبي في الكتابة، التي ليست شيئاً غائماً عندي، وإنما تقترن بالحياة. فمن المؤكد أن البناء الروائي يتشكل عادة من الحبكة. هي ما يفرض هذا البناء. لقد وجدت نفسي أنحاز الى حرية الفن انحيازي إلى الحكايا، وأنا أحاول أن أبني عالماً في كل رواية، لم أرد له قالباً جاهزاً، أسكب فيه ما أود قوله، لأن التقنية يجب أن تكون من روح النص، ولأني مفتونة بالحكاية وجدت نفسي مثلاً في «مريم الحكايا» أدلف من باب الى باب، كما لو أن الحكايا توالد بعضها من بعض. بناء النص عندي لم يخضع للتسلسل الزمني، بل كان يلعب بالزمن تأخيراً وتقديماً، سابقاً ولاحقاً، وأنا أبني عمارة النص، ضمن لعبة الفن وميدانه الجمالي المتماسك.
الحكايا تجذبني وتأسرني وهي شاغل أساسي في رواياتي. هواجسي الفنية تستجيب لشروطي الصعبة في خلق عالم روائي حيّ في لغة السرد وطبقاته المتعددة في مستوياته، وفي خلق الشخصيات وحركة كل منها في الحياة والإضاءة على كل تفصيل تتطلبه عمارة الرواية وما تغوص فيه من شواغل فنية وإنسانية، فردية أو مجتمعية، بما يعبر عن ذاتي وما يراه القارئ فيها بما تستكشفه وتبوح به.
الروائي لا يستطيع أن يتعاطى مع الحكاية أو مع فكرة أو مع الواقع الاجتماعي ذهنياً، إنما يُبرز صوره حين يجعله جزءاً من حياته الشخصية. هاجسه أن يحول كل الأفكار الى تفاصيل حسية ويوميات معيشية وتجسيداً لمشاعر حقيقية. لذا، ما كان يعنيني إزاء الكتابة هو ما يراودني من صور متنوعة من هذا الواقع تأتيني لحظة الكتابة، تحضر بقوة وتلح عليّ كي أقولها وأرسمها بحقيقتها وأعلن عنها بأي صورة من الصور. الى هذا الفعل تدعوني إلحاحات الصور ويستدعيني التخييل الروائي.
الكتابة الروائية ليست سوى اختراق للحياة، وأنا دائماً أحلم برائحتها في الكتابة. والتعبير عنها. ومن نافل القول أن الحاضر والمتخيل، كما الماضي والواقعي، والزماني والمكاني، وغير ذلك كله يعتمل في الكتابة بحركة الحياة نفسها، وهذا ما يجعل لكل شخصية تجسيدها الحيّ ومرجعيتها الواقعية، كما يجعل لها ذاتيتها وعيشها وحركتها وتجربتها ومشاعرها وذاكرتها ونسيجها النابض الخاص، بل يجعل لكل قول أو بوح لغة وذاكرة بل حياة حيّة.
uv نجحت علوية صبح في تجربتها الروائية أن تجعل من الحكي عبر استثمار الصوت الأنثوي آلية للاحتجاج ضد الهيمنة الذكورية مثلما هو الأمر في رواية «دنيا» كيف تنظرين الى تمثيلاتها في المتخيل الروائي عندك؟ وكيف يمكن للروائية تصويرها من دون التفريط بجمالية النص أو الوقوع في الخطابية؟
من قال إن الحكي لا ينتج تقنيات سردية عالية تجعل المحكي وسيلة لا غاية؟ الكتابة هي ما جعلتني أهتدي الى أسلوبي وهويتي.لم أفكر أبداً في أساليب نمطية حول الكتابة، بل انسقت خلال الكتابة لاستكشاف عالمي وذاتي. كتابتي تحمل قلقي وتحاول أن تهتدي الى عالمي وأن تعبر عن هذا القلق، وسيبقى قلقي الأكبر هو كيف أكتب مهما تعددت رواياتي، فأنا لست مع أهل اليقين لا الكتابي ولا الروائي ولا الحياتي. لقد ذهبت الى البوح الحرّ للشخصيات لأستكشف عوالم منسية.
أنا لا أحاول أن أبني عالماً أرد له قالباً جاهزاً أسكب فيه ما أود قوله، لأن التقنية يجب أن تكون من روح النص ولحمه. أنا مفتونة بالحكي ومنحازة الى الحكايا انحيازي الى التعرية الفنية وأيضاً الى سرديات تراثنا ولكن بأسلوب معاصر، أعبر من خلاله عن طريقتي الخاصة في السرد والبناء.
حين تقارب الرواية الحياة لا بد لها من أن تطرح إشكالات كثيرة، والرواية بالنسبة لي عالم واسع مليء بالتناقضات والصراعات والتجاذبات، لكن المهم هو البنائية المتماسكة بالطبع. والرواية تستجيب دائماً لكل الأفكار التي تأتينا حين نكون مستغرقين في ملاحقة حيوات الأبطال وخلقها من لحم ودم كما أشرت سابقاً. يُقلق الكاتب التعرف الى حيوات الأبطال والى عوالمهم وإضاءة خباياهم وعلاقاتهم ولملمة نثار ذكرياتهم وكشف المكتوم في أعماقهم، لكن لا يفعل ذلك انطلاقاً من أفكار مسبقة. الكتابة تستدرج الأفكار ولكن ليس بشكل خطاب جاهز وإنما من خلال ترك الشخصيات تتحرك في الحياة لتصير الرواية قريبة منها.
تتشكل الرواية في مجموع أفكار تستدرجنا بقدر ما نستدرجها. أنا لا أكتب بهدف رسالة ما، ولست واعظة ولا تبشيرية، لكن العمل الروائي يقدم بالطبع رؤية وعالماً وواقعاً وأسئلة يمكن استنباطها.
أكتب لأعبر عن ذاتي وعن عوالم نساء أبحر فيها لأكتشف دواخلهن ولغاتهن وحيواتهن وذاكرتهن. ولأني مهجوسة بالحكايا التي تشبه الآبار الموصدة، رحت أكشف غطاءها لأصغي الى أصوات النساء السجينات الغارقات في صمتهن، يحكين يوميات عن واقعهن الشخصي والاجتماعي وتفاصيل وخبايا تفوح منها روائح القهر وتفضح بالرغبة في كلام كبير بقي مكتوماً، منغلقاً على بشاعات ما يلاقينه في الواقع من قهر وعنف، ووجدتني وأنا أفعل ذلك، محاصرة بمنظومة من علاقات اجتماعية مركّبة معقودة جميعها بحبل واحد يغذّيها ويمدها بأسباب وجودها، حبل غليظ مجبول بالعنف والجهل والقمع حتى آخر خيط فيه.
وكوني روائية يجعلني أؤمن بأن الحكي وسيلة لفهم الواقع عبر الإعلان عنه والكشف عن صوره وتعرية وجوهه. الحكي الذي يصير في الكتابة قولاً وفناً وسرداً وكشفاً لنجاة الأنوثة من أسر الصورة النمطية التابعة لأي تعبير أو نطق أو كلام أو بوح. وكنت وأنا أفتش عن ذاتي وذاكرتي، أحاول أن أكتشف تقنياتي وعالم الشخصيات التي جذبتني للكتابة وأنا أقوم في رحلة كشف وتبئير لهذه الشخصيات وحفر الأمكنة المعتمة فيها. أي لقد حاولت من خلال الحكي الكشف عن المستور والأسرار لينفتح القول على طرائق تعبيرية قلقة محاولة الكشف عما هو حقيقي، وعن المُضمر والمحتمل وتحريره من سجون النمطي والجاهز وطرائقه الإيديولوجية حين نسنده إلى حركيته في حيوات الأبطال. لم أر من خلال الحكي الشخصي بمعزل عن العام حتى عن العلاقة بالجسد. وكنت من خلاله مهجوسة بكسر الخطاب الذكوري وإعلاء صوت الحكي للتعبير عن العنف في العلاقات والعمى الأناني تجاه الآخر والعالم، ومجابهة الواقع وقمعه الوحشي لإنسانية الإنسان، للمرأة كما للرجل البسيط المقموع أيضاً.
لم أقم باستثمار الصوت الأنثوي أو إعلائه في «دنيا» فقط وإنما في رواياتي الثلاث.
في «مريم الحكايا» هجست بذاكرة النساء وتجاربهن التي لا يمكن استكشافها إلا عبر اختراق الحياة وعبر ذبذبات الواقع وهسهسة لغته. لهذا جعلت مريم في وقت ذكرياتها قادرة على مساءلتي وعدم الحاجة الى لغتي الكتابية، وإن كانت على قدر من الإبانة بشفافية لكشف التجمع البطريركي ولتناقضات الشخصيات الإنسانية. وفي «دنيا» انتقلت من الحكي الى الكتابة، وتابعت أسلوبي في الكتابة، لكني ذهبت الى عوالم أخرى بدت فيها الكتابة مناماً، وطرحت فيها من يكتب من: «الكاتب أم الأبطال». وكانت التقنية أيضاً من كم النص ومادته عندما طرحت فيها مسألة الوهم والحقيقة لخوف النساء انطلاقاً خرافة الضبع، وكذلك مصائر الشخصيات من الحرب ومسألة الرجل المتسلّط وسلطة الأمومة. وبدا لي مالك الزوج المستبد المشلول رمزاً للشلل العربي والذكورة المتسلطة. وفي الروايتين هجست بالتعبير عن حاضر متعثر وبالعوالم الشعبية، وكنت وأنا أصطدم بتفكيك الشخصيات وتركها تتحرك في الحياة أعثر على وحشية داخلية وعلى وجوه كثيرة لتعنيف النساء. هجست بقمعهن وبالألم، وفي أوجه الصراع العميق الذي يدور بين الإنسان البسيط وظروفه وبالخيبات والعجز عن التغيير. وكان هاجسي النفي لكل ما هو محجوب ويقيني للمجتمع الذكوري البطريركي وكشف وجوهه على كل المستويات، حتى على مستوى الجسد.
لقد قادتني الحرية في الكتابة إلى أن استكشف تقنياتي وأنا أحاول أن أعبر عن الواقع الذي بدا لي وأنا أستكشفه بالكتابة والتخييل قاسياً وعنيفاً وبخاصة للمرأة. إنه عالم بطريركي، بكل سلطاته، عنيف بوجوه متعددة على المستوى الذاتي والشخصي والعام.
والحقيقة أنني تنصرت لجنس الكتابة من دون أن أنسى جنسوية من أكتب عنهن بحرية. وربما بلا وعي مني سعيت الى توليد الكلام حيث القلم رحم أنثوي يضمر فتنة خاصة وولعاً شديداً بقدرة الحكي كما المكتوب على السرد الفني.
ليس مهماً أي موضوع تطرحه أي رواية ما لم يحمل قوله فنية عالية وخلق حياة في النص عبر التخييل الروائي. إن إعلاء صوت الإيديولوجيا أو الخطاب يُسقط فنية الرواية بالطبع، لذلك الهاجس الفني والمعرفي في الرواية يتحكم بي ولست أمينة إلا لهذا الهاجس وليس لأي شيء آخر.
uv علوية صبح والحرية صداقة وصلت إلى درجة التوحد في التجربة الروائية؟ هل الحرية يمكنها أن تصنع أدباً رفيعاً أم أنها لا بد أن ترتبط بحدود ما؟ كيف تنظرين إلى خيارها في الأدب وتجربتها في رواياتك؟ وكيف تنظرين إليها في لغة المؤنث في الرواية؟
كيف لا أتوحّد بها، أليس الأدب والحرية صنوان، لا بل فعل الأدب هو حرية بامتياز؟ هي تخرج الأدب من احتمال التحنيط وتحرره ليكون كاشفاً ونقياً. اللغة من دون حرية مُستعبدة وطريحة الخوف والترهيب للتعبير، بحيث يروّع الكاتب الشخصيات ويخرسها. تُصادر القول وتقصيه عن الحق الإنساني والفني في التعبير، للنساء كما للرجال. الهواء ضيق الكتابة بلا حرية، بحيث تُسدّ نوافذ النص وتخنقه. هي أن ننقطع عن المكموم ليتاح لنا أن نعترف بذواتنا وأن نستقبل الآخر في لغتنا وكلماتنا وخيالنا كما في الحياة.
لا يمكن للحرية أن تكون عمياء، لذا تقترن دائماً بالمعرفة. فلولا الحرية لما كان هناك حلم وخيال. لا يكتب النص حياته ويخلق نبضه بلا حرية. وحياته يحركها خيال الحرية وشروطها الفنية، لذلك الحرية شرط لكي لا نتحجّر في اجترار القول الاستهلاكي المعتم المعمم. تجعلنا نتعلم النطق واللغة ولا نتآكل في الصمت وخرس الموت. هي ما يجعلنا متحولين في كل لحظة نمتلكها، متغيرين بأرواح جديدة ومرايا جديدة كاشفة للذات والآخرين. خارجها ننقطع من إنسانيتنا وتأكلنا ذئاب المكموم ووحوشه.
النص بلا حرية لا خيال له. الخيال يجابه السلطات الاستبدادية، لأنها بلا خيال أصلاً. الخيال يعني أن نمتلك رؤية جديدة وأن نفكر بطريقة جديدة وأن نزيح السلطات القامعة لإنسانية الإنسان بالكشف عنها وتحرير الذاكرة الكتابية من صنميتها وجمودها ونمطيتها، وأن نجاهر بحقنا الإبداعي في التعبير. ألا يمتلك الكاتب حرية اسمها الخيال. المبدعون الحقيقيون أحرار أو هكذا يجب أن يكونوا لينتجوا أدباً حراً خلاقاً، فالحرية ليست صديقة اللغات المبتكرة الحيّة والنابضة فقط، بل صديقة الحياة والإنسان والمجتمع والأحلام. إنها تُرحل الخوف من القلوب والأرواح. فأن نقرأ نصاً حراً مُبدعاً يعني أن نتغير ونصبح قراءً أحراراً، لأن الأدب بهذا المعنى يُحرر، ولست من القائلين بأن الأدب يبقى أبكم في أجواء الاستبداد والقهر. نعم، أنا في كتاباتي مهجوسة بحلم الحرية لكل المقموعين والمقموعات. أحب الحرية لأنها ليست ملكي لوحدي وإنما لكل الناس ولأبطالي كما القراء.
أعتقد أن الحرية دعت نصي للإقامة في المناطق الخطرة والصعبة التي تحدد فنيته وشرطه الإبداعي. استدعتني لكي لا تكون الكتابة غريبة عني. معها عبرت عن ذاتي ولا أنفصل عنها وأدخل في الآخر لتحضر الشخصيات بكل تفاصيل حيواتها وعيشها واختلاف لغاتها لتتعدد الأصوات عن الرواية ويتنوع السرد حين يلبس الكاتب قناعاً من نسيج الخوف ويقمع ذاته والشخصيات يحاصرها ويحجب عنها بهذا المعنى، حقها في التعبير. كنت وأنا أروي مثلاً حكايا بطلاتي وأبطالي وحيواتهم وذاكرتهم وأسرار في العلاقات الإنسانية، وجدت نفسي أُلامس حكايات الجسد. لم يكن أمامي وأنا أفكك الشخصية تجنب الكلام عن الجسد ولغته وأسراره. وبالطبع الحرية وحدها لا تنتج أدباً حقيقياً، والجرأة ليست في طرق الموضوع، فالكثير مثلاً يتناول الجسد ولكن بشكل إباحي ترويجي لا معنى له فنياً. الكشف هو المهم، أي ما يحمله القول من معرفة وإضاءة وحفر عن المستور عنه والمخفي وما يكشفه من علاقة بالذات والآخر ومفاهيم وذهنيات تتحكم بأطراف العلاقات، وما يحمله هذاالقول من فنية عالية.
للمؤنث أو المذكر حق في استقلالية تعبيرهما وخصوصية هذا التعبير انطلاقاً من الشرط الإبداعي الذي لا يتحقق بمعزل عن ساحة الحرية الرحبة. ويمكن للغة المؤنث أن تستحق استقلاليتها، بمعنى اختلافها وخصوصيتها، حين تستطيع المؤنث أو شخصية المؤنث أن تملك قولها الخاص وتعبيرها المختلف في الكتابة التي لا تتم على مساحة ملغاة من هواء الحرية. كما لا تتم بافتعال الجرأة أو الحرية. فالجرأة ليست ردة فعل، وإنما تعني استعادة الحق بالقول الفني وامتلاك الخطاب الإنساني من دون تمييز، ومن دون أن يكون هذا الخطاب ثأراً من الرجل أو المجتمع أو وسيلة بلا شرط فني، فشرط الخطاب الإبداعي أن تبني له المرأة مسكناً فنياً بقولها معنى ومبنى كإنسان حر جريء وحقيقي.
uv إلى أي مدى تمكنت من تصوير معاناة المرأة مع تجربة الحرب والحب والجسد والجنس في رواياتك؟ هل أنت مقتنعة بسلطة السرد على تفكيك سطوة الذكورة المجتمعية ومواجهتها؟ وهل تعتبرين كتابتك نسوية؟
يحق للنقاد والقراء أن يجيبوا عن مدى تمكني من التعبير عما طرحته رواياتي الثلاث من تجارب بطلاتي وأبطالي من كل ذلك. أستطيع القول أني كتبت بصدق عن هواجسي وشواغلي في التعبير عن حيوات الشخصيات أكانوا بطلات أم أبطالاً وعن تجاربهم في كل ذلك، وقدمت عوالم ذهبت فيها الى ما هو حقيقي وأنا أكتب بلا قفازات، ساعدتني فيها قدرتي على التخييل وامتلاكي لأدوات السرد وقدرته على بناء عوالم كاشفة لسطوة الذكورة المجتمعية وغيرها مما يحمله القول في عالم الرواية، الذي هو بالنسبة إليّ عالم واسع مليء بالتناقضات والصراعات والتجاذبات. فحين تقارب الرواية الحياة وتجارب الأبطال في كل ذلك وحيواتهم بصدق فلا بد من أن تطرح إشكالات كثيرة وتتقاطع فيها تجارب الأبطال في كل ما تطرحين.
وبالتأكيد للسرد الفني سلطة أو قدرة على إضاءة وكشف سطوة الذكورة، حين لا يقع السرد في لعبة الخطاب الإيديولوجيا أو القول الجاهز. أنا أدع شخصياتي تتحرك في الحياة ليكون النص نابضاً وحياً، أما المقاربة النظرية والنقدية فتأتي بعد الانتهاء من قراءة الرواية.
ولقد أسعدني أن النقاد رأوا في أعمالي كسراً للخطاب الذكوري السائد في الأدب، وأن من قرائي نساء أم رجالاً وجدوا أنفسهم في الرواية وتماروا مع شخصياتي.
لقد عملت على إعلاء الصوت الأنثوي الكاشف لإنطاق السكوت عنه لكني لست نسوية أصولية بالتأكيد.
أوافق على ما قاله بعض النقاد أن كتابتي تحمل خطاباً نسوياً انسانياً جديداً. فأنا لا أكتب بمعزل عن هويتي الأنثوية ولغتها وأحاسيسها، وهي بالتأكيد تكشف سطوة الذهنية الذكورية التي قد تتحكم بالرجل كما بالمرأة، إن في تفاصيل التعاطي مع الحياة أو الجسد و في السلوكيات، مثلما هي قد تتحكم بكتابة كل منهما. وأعتقد أن سلطة السرد دعتني الى مكاشفة الأبطال ومحاولة فهمهم وإظهار خفاياهم الإنسانية لا الذكورية فحسب، وإن كتاباتي هي مجابهة لسطوة الذكورية الاجتماعية على الأبطال كما البطلات، عبر كشفها وإضاءتها وتعرية صورها ووجوهها.
8 يعيش الروائي في حالة فصام بين الأنا الحاضرة والأنا الماثلة في نصه. من يقرأ لك يلاحظ أنك تتقمصين شخصيات أنثوية أو ذكورية للتدخل في النص. إلى أي مدى يجب أن يمتلك الروائي أدوات الكتابة ويتقنها ليميز متى يجب أن يحضر ومتى يجب أن يغيب؟
أتقمص شخصياتي خلال الكتابة إلى حدّ أنني أنفصل عن الواقع، فتتحول الى عالمي الحقيقي، وهذا الفعل التقمصي يستدعيني لأعيش وأحس وأتفهم حيوات ومشاعر وسلوكيات الشخصيات. وتنتابني حالة من الغياب عن ذاتي وحضور كثيف لها في الوقت نفسه. ربما هذا سر من أسرار الكتابة الروائية. تتلبسني كل شخصية الى حد مُرعب، أشعر أني أصيرها وتصيرني. ولا تصدقين إن قلت لك أنني أشعر بأنفاس شخصياتي وأشم روائحها وأسمع نبضات قلوبها وأنا أكتب عنها ليس بيدي فحسب بل بلحمي وكلي، وربما هذا ما يجعل عالمي الروائي حقيقياً وحسياً. وكم اكتشفت وأنا أعبر عن ذاتي بالكتابة أني تعلمت من أبطالي وأغنوا مشاعري ووهبوني معرفة بالحياة التي هي الجاذب الأكبر لي في الكتابة. ولا تصدقين أيضاً أن حالة التقمص لأي شخصية في أثناء الكتابة تصيبين بانفعالاتها وأحاسيسها روحياً وجسدياً ونفسياً. أجدني أرق وأعيش الحب وأحاسيسه. أصير حرة أكثر، أو أتألم أو أبتسم أو أثار جنسياً أو أسخر أو أغضب وتتقلب مشاعري تبعاً للحالة أو المشاهد أو المواقف ولتتدفق في اللغة وتجعلها حيّة ونابضة. ومثلما تنسحب حالة لعبة المرايا بيني وبينهم إذا جاز التعبير، تنقل الى الخارج، فكثيرون من قارئاتي أو قرائي وجدوا حيواتهم وذاكرتهم في الشخصيات التي كتبتها.
ولا شك أن الكاتب يبني عمارته، وأن لكل رواية عوالمها وهواجسها ومناخاتها. والبناء الفني يعود إليه، والذي يتشكّل عادة من الحبكة، هي ما يفرض هذا البناء، لذلك لا يمكنني اعتبار بناء النص أو أسلوب السرد تدخلاً، فالكاتب هو خالق هذا النص وشخصياته وحيواتها بالطبع ولغته هي هويته. هو يتدخل في التخييل والأقناع، وبالتأكيد يتداخل في الكتابة وعي الكاتب ولاوعيه في الوقت نفسه.
ما هو حقيقي أنني عملت على إعلاء أصوات الشخصيات على صوتي. وحين كان يفلت مني الخيط أحياناً لأتدخل في لغة الأبطال أجد أنهم هم من يسعفونني لإعلاء أصواتهم على صوتي. وأحياناً كثيرة أشعر أن أبطالي يقودون السرد ويلقنونني ما يريدون قوله من خلال إصغائي إليهم وإلى تعبيرهم عن عوالمهم وحيواتهم. نعم، حين يفلت مني الخيط تخطفه الشخصيات بحرية، وتروح ترسم مصائرها بمعزل عني. شخصياتي في الحقيقة هي التي تختار مصائرها. وكنت في كثير من الأحيان أُباغت لأن هذه الشخصيات بقرارها كانت تثبت لي جدارتها في الاختبار. هذا لا يعني أن الكتابة بريئة. ليس هناك كتابة بريئة بالمطلق، عامل التخييل عندي قد يقود أبطالي أحياناً الى مصائر تراجيدية تحت شرط الاقتناع، واستجابة لخبراتهم وحركتهم في الحياة، فأضطر الى دفع بعضهم للتعرض للقتل أو الجنون أو الموت مثلاً، وكأن هذا يحزنني ويبكيني أحياناً وبخاصة تجاه الأبطال الذين أجد نفسي متعاطفة معهم خلال الكتابة. وأعترف أن هذا الأمر كان يدفعني الى التوقف عن متابعة الكتابة لفترة من الوقت بسبب الحالة الوجدانية التي تصيبني. ثم أستعيد أنفاسي بعدها لأتابع ما وصلت إليه.
ولا شك إن تدخل الروائي موارباً حين يحرر أصوات الشخصيات من صوته، لكن أعتقد أن كل كاتب في النهاية يضمر نزعة استبدادية تجاه أبطاله، أراد ذلك أم لم يرد. لكن ثمة فرق بين تقمص الشخصية لفهمها والتعبير عن لغتها، وبين مصادرة لغة الأبطال لإحساس الكاتب أنه العالم والعارف وأنه مختلف بوعيه ولغته عن أبطاله، الأمر الذي يجعل العمل الفني إزاء هذا الشعور لا يأخذ طابعاً روائياً بأبعاده وطبقاته وفضائه.
هذا الفرق ينعكس على طبيعة السرد، وإذا كان هناك تنوع في السرد وتعدد أصوات عندي، فلأني أؤمن بأن الكاتب في العمل الروائي تحديداً، هو المحاور الدائم للدخول في الآخر الذي هو جزء منه، بل لا يستطيع الاستمرار في الكتابة من دونه ولا يستطيع البناء من دونه أيضاً. أنا لا أميل الى لغة المثاقفة ومصادرة لغة الأبطال بعيداً عن عامل الإقناع أو بعيداً عن خلق حيوات من لحم ودم، أو على حساب البناء الفني للرواية أو الإشكالات الفنية والحيوات الحقيقية التي تتواشج فيها، وهذا ما يجعلني أحيّد بلاغة اللغة، التي تجعل النثر خادماً للغة الروائية، لا أن تتحول الرواية لىنثر محكم في طابع روائي. لكن بالتأكيد لا يبني الكاتب عالم روايته بعيداً عن ذاته وعن رؤيته للواقع، يبقى حاملاً لهواجس ورؤى الكاتب وخياله، ولكن من دون أن يُسقط ذاته ولغته وأفكاره في الكتابة.
9 هل يعني ما قلته أنك حقاً محايدة تجاه أبطالك؟ ومن تعتبرين من بطلاتك أقرب إليك؟
إني أقيم علاقة قربى مع كل شخصياتي، لكن بالطبع لا وجود لشخصية أنا محايدة تجاهها بما في ذلك الشخصيات القامعة أو المقموعة.
أنا ألتقي مع جميع شخصياتي وأفترق عن جميعها بشكل نسبي. ثمة فرق بين موقفي منها أثناء الكتابة، وموقفي منها كقارئة بعد انتهائها. «دنيا» مثلاً تقمّصتها وتفهّمتها وتعاطفت معها خلال الكتابة، لكنها أثارت غضبي كقارئة نتيجة ضعفها. ومن الجيد أنها أثارت غضب القارئات أيضاً، فهذا يدفعهن الى رفض الضعف والقهر. هذا الرفض لواقعها وأنا أكتب قادني بشكل لاشعوري الى جعلها في الفصل الأخير تجد نفسها ترقص وكأنها تحلم بحريتها. ربما تكون نهلا الشخصية المحورية في «اسمه الغرام» أقربهن الى اقتناعاتي، نهلا تعشق الحياة وممثلة بها. هي حرّة وأنا أعشق الحرية، لكني أقول بصدق أن ذلك لا يعني أني لا أتناقض ما بيني وبين نفسي، وأعجز عن تحقيق الانسجام بين اقتناعاتي وسلوكياتي.
10 تحضر اللغة الروائية في روايات علوية صبح بقدرتها على التغلغل في أعماق المجتمع، حيث يمكننا أن نجد تعايشاً رهيباً بين الفصحى والمحكي. هل هذا التعدد الصوتي بتعبير باختين جعل شخصياتك تتحرر من سلطة الراوية؟ وهل وصلت هذه الحوارات المحكية الى القارئ العربي؟وكيف كان التلقي عند الآخر بعد عبورها للبناء الروائي عندك؟
إن حرية الشخصية التعبيرية لا جدال فيها، فالمرجع الاجتماعي والتاريخ الشخصي والثقافي لكل شخصية ينعكس على خطابها الذي لا يتجدد بمعزل عن حيواتها وعلاقاتها حتى بأجسادها، وعن اللغة وخطابها الذي هو اختزال لثقافة عيش سائدة، لذلك التعدد الصوتي يحرر الشخصيات من سلطة لغة الراوية.
بالنسبة إليّ قادني أسلوبي في الكتابة الى بنائية توليدية في الواقع أترك وصفها للنقاد. لكن بناء النص واختراق لغة الأبطال وحيواتها منحني توليد طبقات في الرواية وأصوات متعددة وحرية انسيابية في الحكي والسرد، بحيث بدت الحكايا توالد بعضها من بعض، لذلك لا يخضع هذا البناء للتسلسل الزمني، بل كان يلعب بالزمن تأخيراً وتقديماً، سبقاً ولحقاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى لغة السرد، التي تنوعت من الأخبار اليومي والعادي إلى الشعري، وممازجة العامية بالفصحى تأتيني بشكل عفوي وأنا أحكي، مثلما أمازج بين الملهاة والمأساة، التاريخي بالشخصي والحسي بالروحي. هذا بالإضافة الى التفاتي الى الذاكرة الشعبية التي هي خزان لغوي عندي.
أجد نفس مضطرة ومنساقة الى استخدام الحوارات بالعامية وبخاصة عند الشخصيات الشعبية، لأنني وجدت أن تعبيراتها ودلالاتها ناقطة بنبض حيواتها، ولأنني وجدت أن دلالاتها ستنقص إن حولتها الى فصحى، وأغلب ظني أن قرائي أحبوا العامية في رواياتي وقد وصلت إليهم، لكنها بالطبع ستفقد بريقاً وحيوية في الترجمة الى اللغات الأخرى.
11ـ في رواية «مريم الحكايا» تجسيد لصور الحرب والموت ومعاناة الإنسان. كيف يمكن للروائي أن يقاوم الموت بمعناه الرمزي في ظل الحروب الإنسانية العامة؟
الكتابة بحد ذاتها فعل مقاومة للموت واستدعاء للحياة وخلق وتجسيد لها.الموت ليس بمعناه الرمزي فقط، باتت له أشكال كثيرة من الحسي الى النفسي والإنساني.
أنا حقاً أقاوم الموت بكل أشكاله بالكتابة لأنها المعادلة لي للحياة. وأعتقد أن ما حكته مريم في «مريم الحكايا» بعدما روت ذاكرتها هو الذي أعادني الى الحياة. فحين وجدتني في آخر الرواية أن يدي تؤلمني من الكتابة هذا يعني أن الحياة عادت لتدبّ بي، وانتشلتني الكتابة من الموت الذي كنت أحس به خلال صمتي عن عالمها.
بالنسبة إلي أقاوم الموت وأنا أخلق حياة وأكتب بحرية، وكل شيء يغوي بمحو الذاكرة التي صارت الحروب والقتل والدماء والنسيان تملؤها. أكتب لأخترع حكايات تنجينا من الموت ومحو الذاكرة. أكتب روايات لتكون ابنة مدينتها، والحروب تقتل مدنها، إنها المدن المقتولة والمريضة، تضيق فضاء الكتابة، في حين أن الفضاء الروائي حر ورحب ومفتوح على الديمقراطية والاعتراف بالآخر والفرد واحترام حياته وحكايته وقبول التنوع والاختلاف.
أجدني أجلس في المقهى وحريتي في الكتابة تنتظرني، وحدها الكتابة على الأوراق تشعرني بمقاومة الموت والخراب وبممارسة حريتي وتذوقها كما تشعرني بأنها هي ما أعيشه في المدينة.وهي ما أحاوله فيها وأكتشف بالكتابة أنها ما زالت حلماً مدينياً لي برغم كل كوابيس الموت والخراب والحروب التي تحاصرني ولا أستطيع أن أنجو منها في الكتابة. طقوسي في الكتابة بحرية في المدينة تبعد شبح الموت، تنقذني، وآخر ما تبقى لي، وآخر ما أدافع عنه، عن مدينتي التي لا زلت أعشقها وأنتمي إليها رغم أنفي ورغم كل شيء. على الأقل ما دمت أتنفسها وأتنفس بعض حريتي فيها في الكتابة. الكتابة التي باتت هي وطني الحر الذي أسكنه وأعيش فيه وأروي عنه.
12ـ الحق في الحب، يمكن أن يكون حقاً مزدوج التصوير من داخل تمثيلات المجتمع، وقد قمت بتفكيك النسق الفحولي في «اسمه الغرام» هل الحب مخيف الى هذه الدرجة أم أن النسيان صعب؟ وكيف استطعت من خلال «تيمة» الجسد، الذي يبدو وكأن البطل في الرواية خلق شخصيات وعوالم وحيوات حية من خلاله؟ وما الذي أردت قوله في «اسمه الغرام»؟
قمت بتفكيك النسق الفحولي عند تجارب صديقات البطلة نهلا وتجارب نساء أخريات، أما علاقة نهلا بحبيبها هاني التي استعادتها في منتصف العمر فكانت خارج النسق. ولطالما وددت أن أكتب رؤياي عبر بطلاتي غير المنمّطات، أعتقد أن «اسمه الغرام» أنثوية بامتياز، تستكشف أنا الأنثى العالية ويعلو فيها الحس الأنثوي، حتى في المشاهد الايروسية، فلو لم تكن نهلا مالكة لجسدها ومعترفة به في كل مراحله العمرية حتى في منتصف العمر، ولو لم يكن حبيبها هاني معترفاً به لما استطاعت نهلا أن تعبر عن تمثلاتها اللغوية الأنثوية، هذه اللغة المقصية في الأدب الذكوري، الحافل باستيهامات الرجل حول المرأة وجسدها وأحاسيسها، هذا الرجل الذي يفترض أنه يعبر عن المرأة لأنه مالكها وناطق باسمها. وبالطبع تماهت المرأة بصورتها في الأدب وأعادت إنتاجها في أدبها.
ربما تكون «اسمه الغرام» حدثت عن تجربة الأنثى بكل وجوه الأنوثة، من اكتشافها وعيشها الى محوها أو انحرافها، لأن لنهلا رؤية نسجتها على نحو مختلف كما نسجته روايات. حدثت عن علاقة الأنثى بجسدها، بالجنس، بالحب، بالشريك الذي يساعد على اكتشاف الجسد أو ذلك الذي يمحوه أو يقمعه. نعم، كأن كلام نهلا في كل ذلك خارج النمط، ولم يكن من السهل عليّ أن أخلق عالماً روائياً انطلاقاً من تيمة الجسد لتكون الرواية هي مرايا لأجساد نساء دفعتهن التجارب الى خيارات عدة.
صحيح أن الحس الأنثوي يعلو فيها، وإنما ليحدث عن العالم، عن علاقته بالعالم، بالزمن، بالعمر، بكل مراحله ولا سيما في منتصف العمر، الصداقات، الجنس، العلاقات، لا ليقول نفسه، بل ليقول توقه للانغماس في الآخر، لاكتشافه، للتعرف إليه أكثر. ما معنى أن تكون البطلة الساردة تعي جسدها وقادرة على الكلام عنه؟ ما معنى أن يكون الواحد لوحده، أي من دون الآخر، حتى ولو كان معه؟ كيف لنهلا أن تستكشف عالمها ومشاعرها في الرغبة والغرام لو لم يكتشفا معاً، هي وحبيبها هاني، تعبيرات الرغبة ويتعلما معاً أسرار جسديهما حتى في منتصف العمر.
وإذا كانت نهلا قد أدركت حق جسدها في سن مبكرة، كان من الطبيعي أن تحب هاني انطلاقاً من استيهامات، وحيث الرغبة هي المحرك. وفي علاقة الحب والغرام، والشغف أو سمّه ما شئت، ثمة أشياء لا تفسير لها. لكن هذا لا يلغي عن العلاقة قوتها وصدقها واندفاعها وانسانيتها. وإذا كانت نهلا قد انجذبت الى هاني بدافع الرغبة فهي اشارت الى أسباب أخرى، فنهلا التي لا تصدق إلا جسدها وأحاسيسها، اكتشفتهما مع هاني، وهذه المعرفة تتحقق لأن جسدها شريك وليس فقط منفعلاً. كلاهما فاعل في علاقته بالآخر. المعرفة لا تتم بلا شريك حقيقي، «وأنا» الأنوثة تتحقق هنا. وجسد نهلا المليء بالحياة كان يتعلم كل يوم شيئاً جديداً مع الزمن، أكان في الغرام أو في الأمومة، كأنثى وكإنسانة. والمعرفة لا تتحقق بلا فعل حر. في الطبيعة كان جسد نهلا حراً، ومع هاني كان أيضاً حراً. ثم إني لم أقرأ في الروايات العربية عن تجربة العنة التي تصيب الرجال، ولا كيف عبرت الكاتبة عن تجربة المرأة مع الرجل في هذه الحالة. في «اسمه الغرام» حدثتنا نهلا في لقائها الأخير بهاني قبل اختفائها، عن عيشها للتجربة. حين ترى المرأة الإنسان في الرجل وفي حبيبها على رغم تحولاته الجسدية، وضمور فحولته أو رجولته أو عنّه عابرة أو ربما دائمة، وحين ترى فيه قيمة إنسانية في حد ذاتها، ولا يؤدي ذلك الى التقليل من عشقها له ولو بذرة، فهذا برأيي منتهى الحب. هذا يُطلع الرغبة من سفليتها، ويعلي كثيراً قيمة العلاقة ولا يقلل من كثافة الحب.
كانت نهلا كائناً واقعياً يكشف عن سرديته، كما لو أنها كائن أنثوي للكشف عن سريرتها أمامي. وعبر سرد حكايتها دلتنا أنه ليس هناك من مراحل عمرية تستحق المدح وأخرى نضرب الصفح عنها، أو أخرى نعتبرها خارج الحياة.
ربما كانت تجربة نهلا في «اسمه الغرام» في كل ما سردته معرفة، كنت أحاول أن أفهم مدى علاقتي بها (المعرفة) ولم يكن ذلك متاحاً إلا من خلال السرد. ولقد قلت ما قلته في الرواية عن تجربة الحب والجسد في كل مراحلهما وخصوصاً في مرحلة التقدم في العمر، ولكن من باب تمجيد الحياة والحب وإنسانية الإنسان، والغرام الذي يقاوم الموت والأوجاع. لكن في المقابل أيضاً تبقى رزيلة الزمن والموت هي أوجه أخرى للتقدم في السن، إلا أن الحياة تبقى سر الجاذبية الأكبر للكتابة عندي، لذلك لم أرد في نهاية الرواية إلا أن أعيد نهلا الى الحياة، ذلك أنها شخصية استحواذية وهي التي قادتني الى مصيرها لكثرة ما هي مليئة بالحياة. وهي عادت أيضاً لأن الحب لا يموت ولأن قصة حبها انكتبت ولأن الكتابة بحد ذاتها مواجهة للموت.
لا ليس الحب مخيفاً، بل غيابه هو المخيف، فغيابه غياب الحياة. ولا الموضوع هو نسيان أو تذكّر بل عيش الحياة والحب حتى في أرذل العمر. وأعتقد أن تجربة الغرام والجسد في منتصف العمر كان ذهاباً الى استكشاف جديد لي. نهلا تقول أن ما حدث لها في اللقاء الأخير مع هاني كشف عن اسم آخر للغرام سوف تستهدي على اسمه، وهي التي عددت أسماءه في ثنايا النص. لذا ذهبت الرواية الى الرغبة وتعبيراتها في هذا العمر، ودائماً للشعور الجواني المتعلق بالجنس الآخر وهذه لا نعرفها إلا بالتجربة، لذلك أعتبر أني ذهبت في «اسمه الغرام» الى أبعد من الغرام. ربما تضمر فلسفة عبر السرد بأن الموت والحياة محكومان بالحب. الحب بمعناه الإنساني الكبير، والغرام شكل حياة نهلا منذ البداية، وحياة نهلا لم تنته حتى لو اختفت لأن الحب لا يموت والحياة لا تنتهي. الفصل الأخير يقول إن نهلا ما زالت تعيش معنا، تأتي إلينا، ترانا وتحضرنا حتى حين لا نسمعها. تتلصص علينا، تستمر في الحياة عبرنا بجسد هذا الوجود اللامرئي. وحين نرى هاني يشعر بوجودها وتعرق يداه، لأن الحب لا يموت ولا ينتهي كما أشرت. إذا، «اسمه الغرام» تخوض ليس في الغرام وحده بل في الحياة، وفي الزمن وما بعد الزمن، في الصداقة وما وراء الصداقة، في الرغبة والروح، في الحقيقة والالتباس، وما وراء الالتباس.
13ـ هل تعتقدين أن كتاباتك تساهم في تغيير ما؟ وإذا كانت إجابتك نعم، فتغيير من أي نوع؟ وعلى أي مستوى؟
لا أفكر أبداً وأنا أكتب في رسالة معينة ولست طامحة لتوظيف الكتابة لغير أغراضها، في هذاالمعنى لم أتوسل من خلال الرواية حرية المرأة مثلاً، وبشكل خطابي أو ايديولوجي، الكتابة في حدّ ذاتها فعل حرية يحوي أغراضاً عديدة لا تحدّ بمقولة أو خطاب أو فكرة ما، لكن الحقيقة هي أن الواقع لا يُنتج فناً فحسب، وإنما الفن يعيد إنتاج الصور والواقع عبر التخيل الروائي. الأدب منتج ومُنتّج. البشر يتأثرون بأبطال القصص والحكايات، يهبونهم ليس متعة فحسب، وإنما معرفة، ويتمارون ويكتشفون ذواتهم بهم. أنا، نفسي أختلف بعد الرواية عما كنتُ قبل كتابتها. وأعتقد أن القارئ كذلك. لقد باغتني العنف ضد النساء وأنا أكتشف عوالمهن بالكتابة، وأصغي الى أصوات السجينات الغارقات في صمتهن، يحكين يوميات تفوح منها روائح القهر والقمع وتنضح بالرغبة في كلام كثير بقي مكتوماً.
أعتقد أنه بمجرد أن نمسك بأنفسنا ونمسك بوعينا الفني من خلال الكتابة، يعني أن نجعل الحياة مختلفة، فالوعي بأنفسنا ما ينبغي عليه أن تكون عليه العلاقة في ما بيننا وبين الحياة، تغيير في حدّ ذاته. لذلك، كل كتابة روائية محكمة وناجحة تساهم في تغيير ما لدى القارئ، وهذا التغيير ينسحب على كل أشيائنا. في الدرجة الأولى، ينسحب على علاقتنا بأنفسنا التي هي القطب الجاذب لكل علاقة بالآخر أو الآخرين. على كل مستوى من المستويات: المعرفة، الحرية، الحب، الصداقة، الجسد، بل الممكن واللاممكن…
أن نقرأ نصاً حراً يعني أن نتغير ونصبح قراءً أحرارا، والأدب الحقيقي هو المعلم الأول لهذه الحقيقة.
14ـ حظيت بتكريمات في عواصم عربية عديدة، وأطلقت جائزة عربية للنقد الروائي باسم «علوية صبح» في المغرب، وفزت باللائحة القصيرة لجائزة «إيبارد» العالمية في لندن. كيف تلقيت هذا الاحتفاء؟
كل كاتب يفرح بجوائز يحظى بها، سواء اعترف بذلك أم لم يعترف. لكني بكل صدق أقول إني لا أكتب بهدف نيل جوائز أو تحت أي شرط غير الإبداع، وإلا لكانت كتابتي مختلفة وغير صادقة في التعبير عن نفسي وهواجسي وسقف العوالم التي أدخلها للتعبير عنها منخفضاً.
تبقى أكثر جائزة تفرحني عشق قرائي وقارئاتي لرواياتي.
ليندا نصّار *