لا يمكننا أن نحيد عن الصواب إذا اعتمدنا مقولة بعض الباحثين المعاصرين (1) في الفن الابداعي بأنه مكاني يتطلب – مثله مثل الحياة – مكانا معينا يمكن من خلاله تقديم كل التفاصيل والمكونات الثقافية العامة والخاصة, مكانا يمكن أن يصبح ساحة لتصوير الواقع أو لاعادة انتاجه, أو لانتاج كل المكونات الدقيقة الخيالية منها والمحسوسة التي يتطلبها العمل الفني. فالذات الشاعرة ما تفتا أن تعيد بناء واقعها بتفاصيله بطريقة تؤكد تلك العلاقة التفاعلية الحميمة التي تنشأ في زمان ما بين الذات الشاعرة ومكانها الخاص ( أي عالمها المثال على المستوى التصويري /التخييلي).
من هذا التنظير الأولي المفترض تتضح لنا هذه العلاقة التفاعلية بين الابداع والمكان, وهي علاقة لا تخلو من مظاهر التفكير الواقعية والثقافية أو الذاكرة التاريخية والمعرفية التي تتميز بها التجربة الشعرية العامة والنص الشعري على حد سواء منذ نماذجها الأولى المبكرة, لذلك كانت الذات الشاعرة في معظم تجلياتها في النص الشعري، تعبر عن هموم مكانية واقعية مهما كانت درجة البعد الشخصي أو الهم الذاتي الذي يحركها. وهذا ما جعل التجربة الشعرية عند الذات الشاعرة الجديدة تتميز بالغناء والخصوبة, غناء مستوحى من كثافة الذاكرة المعرفية لهذه الذات, حيث النماذج والشخصيات, والصور الشعبية والتراكيب العامية, والتناصات التاريخية والدينية والأسطورية وغير ذلك.
المكان مفهوما وتنظيرا:
واذا كنا أمام هذه الدائرة العامة من العلاقة فإن دوائر أخرى تنبني على حوافها ، ومن ذلك ما يتصل بمفهوم هذا المكان ووظائفه في التجربة الشعرية, إضافة الى أنماطه وحقوله المعرفية التي أقرها علماء سيكولوجية المكان (2)، فالمكان كما تعرفه دوائر المعارف, ومعاجم اللغة وقواميس المصطلحات الفنية يعتبر سياقا جغرافيا ومعماريا للسلوك, فهو يشير الى حيز ما يحيط بالانسان ويطلق عليه اسما معينا, ويتطلب حتما صفات ومعالم محدودة, إنه أصلا تجريد لفكرة عقلية محدودة, ولا سبيل الى اشتقاقها، لأنها غالبا ما تنسب أو تربط بمعان حياتية مختلفة.(3)
المكان وعلاقته بالذات الشاعرة:
ومن هذه المعاني تبدأ سلسلة العلاقات التي تأتي في مقدمتها علاقتها بالشعور المولد للذات المبدعة, ولهذا يكون المكان مصدرا خصبا لتكوين كل الصور الذهنية, ولنقل الأفكار والمشاعر الخاصة بين الناس بعضهم ببعض من جهة, وبينهم وبين الأحداث التاريخية التي حدثت في مكان وفي زمان معينين من جهة أخرى، ولذا أثارت مسألة المكان حفيظة المبدعين وبخاصة الشعراء فاستخدموها بغية إثارة أو تكوين الحالات النفسية التي عادة ما تكون بمثابة المطهر لكثير من التشنجات التي تنتاب المتلقي بين وقت وأخر.
فالمكان في التجربة الشعرية يعبر عن عملية التفات زمانية للوراء والأمام معا، حيث الماضي والذاكرة وحيث الفعل المستقبلي القادم, والصفحات المجهولة والمنطوية من كتاب الحياة, فهي إذن عملية نفسية عاطفية وجدانية في المقام الأول, ترتكز على فعل التذكر والحنين الى الماضي، والجزم والتفاؤل بالمستقبل, وهي بذلك عملية شعرية في الأساس لأنها تحرك عنصر الخيال وتدفع به الى النمو والاطراد.
والمكان من جهة أخرى أحد العوامل المهمة المكونة للهم الابداعي. ذلك أن هذا الهم يحتل مكانا متميزا في التجربة الشعرية من حيث وصلها بقناصات الواقع, فهو المغذي لها، والمبلور لخصوصيتها. "ويمكن تحديد هذه الظاهرة في أي نص شعري من خلال ما تبديه الذات الشاعرة من التفات الى نفسها، بحيث لا تكتفي عناصر اللغة /الشكل بأن تكون وسيلة تعبير فقط, بل تصبح موضوعا شعريا في ذاته. وأكثر ما تتضح هذه الظاهرة في قصيدة "النثر" إذ أن المظهر العام لها لا يرد فيه أي تحديد أو تصنيف لعناصر التعبير الشكلية, فهي مفتوحة على كثير من الوقائع الفنية, قابلة للدخول فيها ليس من باب رصدها وتسجيلها ووصفها كما تفعل القصيدة التقليدية, وانما من باب تمحيصها وبلورتها، فتغدو ذات الشاعر فيها هي الراشية والمرئية معا، هي الواصفة والموصوفة في آن واحد، وتلك ذروة الانعطافة نحو كيان الذات الشاعرة وعاطفتها في القصيدة.
القصيدة الجديدة: وعاء المكان
الأول: تجربة سماء عيسى نموذجا:
من هذا طه يمكننا أن نقف أمام المكان كظاهرة مشكلة للهم الشعري من خلال ما بلورته القصيدة الشعرية النثرية التي تعتبر في رأينا الخلاصة النهائية لمرحلة التطور الشعري في القصيدة العربية أو صورتها الأخيرة, والشاطيء الذي انتهت على رماله الذهبية أمواج التجربة الشعرية المتدفقة, وسنحاول في هذه الوقفة أن نستجلي تلك المظاهر التي أتت بها هذه الظاهرة في إطار النص "الأجد" (أعني به قصيدة النثر) –لأن الشاعرة فيها تتخذ موقفا نقديا صريحا، وتبرز عاطفتها من خلال مجال فكري, وضمن إطار نظري واضح المعالم..
هذا كله ما تجسده واحدة من عمان, إن لم تكن أخصبها، هذه التجربة لها من الأهمية بمكان في سياق الوعي الشعري الحديث "فهي تنساق أبدا، وراء المجهول, واللامألوف, والحائر الحزين أنا، والجنائزي والأسطوري.. وما الى ذلك من ألوان عاطفية يمكنها أن تثير الدهشة وتضع المتلقي فى بوتقة الانصهار مع عالمه "(4) هذه التجربة هي عصارة تجليات المشهد الشعري العماني، في مراحله المتطورة.. إنها تجربة الشاعر "سماء عيسى" الذي قدم في التجربة الشعرية أربعة دواوين هي "مناحة على عابدات الفرفارة " و" نذير بفجيعة ما" و"ماء لجسد الخرافة " و" منفى سلالات الليل ".. وهي دواوين لا تنأى عن كيانها المحلي ولا الانساني المطلق, بأي حال من الأحوال بل إنها تمنحه تميزا يمكن اكتشاف رؤاه من خلال عزفها على المتخيل العام والميتافيزيقي الواسع, لأن مركز الدائرة فيها متسع الى أقصى حدود الاتساع فهو مصوب تجاه الفضاء الانساني الرحب أينما وجد، ومن هذا وحده عقدنا العزم على أهميتها انطلاقا من اقتناعنا بأن الابداع عملية خاصة وحالة ذاتية ومزاج متفرد يدفع بالهواجس والحالات والعواطف نحو عالم سديمي شفاف, ولهذا سوف نقف عند أهم فضاءات هذه التجربة وهو المكان المشكل للهم الابداعي, وستكون بدايتنا في ذلك من خلال الجدول الوصفي/ الاستقصائي لتناصات المكان بوظائفها المختلفة "الجغرافية (5) والرمزيه (6) والمعرفية(7) والأداتية والوسيلية (8).
الجدول.
وظيفة التناص المكاني
مفردات تناص الكلمة
النموذج/ الصورة التجسيد (9)
القصيدة
الديوان
جغرافية
الفرفارة
– عابدات الفرفارة
مناحة على أرواح عابدات الفرفارة
مناحة على
أرواح عابدات الفرفارة
جغرافية
خرائب
– المقدسة كخرائب أجدادنا
رمزية
أبواب الفرفارة
– أغلقت أبواب الفرفارة أمام الشمس
معرفية
التربة
– من يواري موتانا التربة
رمزية
كهف
– كهف يغلف بابه الأطفال
معرفية
الفلاة
– دع عصافير الفلاة..
رمزية
مياه الفجرية
– الى حيث مياه الفجرية
جغرافية / رمزية
مآتم
– قادتني خطاي الى مآتم مهجورة
رمزية / جغرافية
حضن
– كي أنام بحضن آمي
رمزية / جغرافية
القبور
– قبل أن تمضي وحيدة الى القبور
أداتية / جغرافية
صحراء
– أنت صحراء النواح
وسيلية
المنفى
– حمالة حطبة ألى المنفى
جغرافية
الينابيع
– تركت أمهاتها فى الينابيع
جغرافية
الجبال
– وهم الصاعدون ون إليك في الحبال
رمزية
الصحراء
– الصحراء أرملة تدفن
رمزية
رمزية
أداتية
رمزية// جغرافية جغراقيه
جزافية
رمزية
أداتية
امعاءه/ وطن جماجم
البرية
الصحراء/ قبر
الزاوية
البحر
مدفن /المياه
شفتى
– وطن يقذف امعاءه
– تعقد أسرارا مع جماجم أطفالك
– البرية توقظ الشبق
– الصحراء قبر يتسع
– وشم في الزاوية
– عذراء ترقص في البحر
– تحدق عن مدفن في المياه
– اغسلكن بماء الزمن
مهلى
مرثية
مرثيتان
ماء لجسد الخرافة
مهد
مدفن لنورسة الموت حتف آخر للمليكة
حغرافية
الخراب
– الخراب سكنى العمق البشري الآفل
نذير بفجيعة ما
أيتها المرأة أنتظر حضنك تحت فرصادة الموت
امرأة
نذير بفجيعة ما
جغرافية
القبور
– حدائق كقبور تتابع
أداتية
بحر/جماجم
– بحر هائج تنام على ضفافه جماجم
معرفية/رمزية
صحراء
الحرب
جغرافية/رمزية
كهوف
– ملاك يستحم في نبع بصحراء بعيده
جغرافية
القبر/ الأرض
– عد الى كهوفك المجهولة
ر مزية/ وسيلية
مقابر/ هرم
– القبر استوى والأرض
جغرافية/ معرفية
الجوع/ الأطلال
– القرى مقابر، شجر الطفولة هرم
جغرافية
جبل
وتغدو النجوع للبوم والأطلال
جغرافية/رمزية
تلال
– جبل حين صعدت إليه
جغرافية/رمزية
الكهوف
– أيها الحاثم كتلال الخريف
جغرافية
القرية
– امرأة تنذر كهوفها بولادة
جغرافية/معرفية
مبغى
– حين رحلوا تكدست في القرية
جغرافية
الوادى
– عادت لتدفن جسدها في مبغى
– رميت بواد غير ذي زرع
جغرافية
الرمال
– عندما في الرمال يواجهنا اللاشيء
صحراء
أحجار
ندم(1)
روح (2)
ندم (2)
البيلسان
روح (3)
منفى سلالات الليل
جغرافية/معرفية
صحراء
– هذد صحراء حرق اشجارها بدوي
معرفية/جغرافيه
المنزل القديم
– تسقط احجار المنزل القديم من البكاء
جغرافية/معرفية
الصحراء/ القبور
– ولأنك دائما الوحيد كأفراح الصحراء
رمزية
المهجورة
كالقبور المهجورة
جعرافية/معرفية
المأوى/البيت
– نحن بلادك حين يعز عليك المأوى
رمزية
– ويطردك الأهل من البيت
جغرافية/معرفية
السماء
– كأم السماء وفجيعتها
جغرافية/ رمزية
البحر
– هل تعيد إلي عصافير البحر
جغرافية/ أداتية
الأكواخ
– فلا تستطيع العودة الى أكواخنا
رمزية
المنفى
– هي أشباح المنفى
معرفية/جغرافية
البحر
– للندم خطوات البحر الأولى
جغرافية/ معرفية
الأرض
– رحل أحبة النوى على الأرض
رمزية
المنازل
– أرواح تركت منازلها
المكان والحالة التعبيرية
يمكننا أن نكتشف بعد تلك القراءة الاستقصائية التي قدمها الجدول السابق _أن علاقة المكان بالهم الابداعي لدى سماء عيسى, تكمن في عدة قضايا واقعية, هي المنطلق الحي لذاته الشاعرة, ذلك أن الشاعر في مكانه ينأى كثيرا عن خصوصية الواقع, ويقبع في دائرته الانسانية العامة وهذه واحدة من القضايا التي يقفز بها الشاعر على موضوع الوطن, ويجعل من تناصه له هلاميا لا يمكنك أن تمسكه بأي خيط من خيوط التماس, يظهر ذلك جليا في تناص المكان في الجدول السابق, وينتج عن هذه الحالة التعبيرية مستويان متصلان بصورة التعبير أو شكله, يتمثل الأول في عناصر اللغة, من مفردات وتراكيب, ومظاهر من مثل (القبور، الصحراء، المنفى، الينابيع, الجماجم, الجبال,, وغيرها)، أما الثاني فيتضح في عناصر التصوير الفني من رموز وأخيلة وصور والتي يوضحها النموذج في قائمة الجدول السابق, ولا يمكننا حصرها مجتمعة, إلا أننا يجب أن نشير الى أن ذلك المستوى (الأخير) قد يرتبط أحيانا بخصوصية الواقع المحلي من باب الهلامية المتنافية كما اسميناها, والتي تدخل فيها عناوين بعض الدواوين (مناحة على عابدات الفرفارة) أو اهداءات بعض القصائد كما هو الحال بالنسبة للديوان الأول "نذير بفجيعة ما" الذي يهديه الى "حليمة بنت سعيد المعشرية "، أو بعض الاهداءات الخاصة التي يقدم فيها الشاعر ولاء الارتباط الأسرى وحميمية الصداقة.(10).
رغم هذا كله فالنماذج الشعرية تفشل – في رأيي – في جعل مضمونها محليا، فجوهرها مفعم برؤى انسانية وبشروط اتخذها الشاعر كمعادل موضوعي لفكره الخاص الذي تبناه بدءا من رمزه الشعري الخاص سماء ليفيد دلالة الاتساع المفتوح على أبعاد الحياة الرحبة بكل تناقضاتها وأبعادها وانتماءاتها وفضاءاتها المختلفة.
المكان والحالة الانسانية المطلقة.
لقد تخلصت تجربة سماء عيسى من كافة القيود الضيقة, ومن النظرة المسبقة وايديولوجيا المصدر (11) في التعامل مع التراث الانساني, فجاءت مسكونة بروح المكان العام كما رأينا، ولهذا فهي تسجل حتى الأولوية في انجاز فعل العمق والنضج الفنيين, وبذلك يمكن اعتبارها أولى علامات النضج المبكرة المنفتحة على البعد الانساني العام في التجربة الشعرية العمانية الحديثة.
إننا نجد في ثنايا تجربة سماء عيسى إحالات مبكرة الى هذا الجانب(12) تدعمها في ذلك اشارات بلاغية تصويرية تحتوي على أجزاء معرفية وعقائدية من التراث الانساني، يمكن ملاحظتها على سبيل المثال لا الحصر في قصيدته «أندم ".
أنت لنا بشارة القيظ ونوارس البحار
أنت لنا العتمة الهجر
الدم حين ينزف سخيا ساخنا من أنبياء قتلى 0
نحن بلادك حين يعز عليك المأوى ويطردك الأهل من البيت كلقيط ينجرف وحيدا في العتمات الاولى(13)
ويوجد في تجربة سماء الكثير من مثل هذه الأجواء والصور الذهنية / الشعبية
منها والأسطورية الى درجة أنه خصص لبعضها بصوصا شعرية منفصلة تحمل عنوان ديوان بأكمله كما في "مناحة على أرواح عابدات الفرفارة" التي كرسها في وصف القصة الشعبية /المحلية حول أولئك العابدات المنعزلات في فضاء المكان "الفرفارة " بادئا بذكر اسمائهن في مقدمة الديوان, ومنتهيا الى توظيفهن توظيفا فنيا بما يخدم المشهد الشعري, الذي يكتنز بالأجواء والمفردات والصور التاريخية المعروفة عنهن, والتي تتداخل بعضها ببعض مكونة حالة استثنائية من تداخلات المكان والحدث التاريخي كما يوضحها المقطع التالي من مقدمة الديوان والقصيدة:
تشرب صمتك أرواح القديسين لانك أنت دوما المقدسة كخرائب أجدادنا
الزمن رحل بك بعيدا، أنت أيتها الرميم انطفأ ذكرك والرياح أغلقت أبواب "الفرفارة" أمام الشمس (14)
اللغة هنا خدمت المشهد خدمة كبيرة, لغة متماهية استخدم فيها الشاعر ما يفيد الماضي بمعلومه ومجهوله حيث الحدث التاريخي (انطفأ، أغلقت..), وأكدها بدلالة الخلود والأبدية (دوما) ناهيك عن أفول نجم الحيوية في الحدث التاريخي (خرائب – الرياح – الصمت) مما يوحي بتنامي وحشية المكان وجنائزيته ورهبته انطلاقا من رهبة الفعل المكرس للمصت والعزلة والفرار من صخب الحياة وضجيجها المفجع. حيث التهجد والعبادة والتزمت والتقوقع في دائرة مغلقة وأفق ضيق.
المكان والتراث الانساني: مناحة على عابدات الفرفارة نموذجا:
يمثل ديوان سماء "مناحة على عابدات الفرفارة " ذروة اهتمام الشاعر بالتراث الانساني، فالديوان عبارة عن معرض متنوع لثقافة سماء الواسعة ولاطلاعه على تجارب الأمم البائدة /الحاضرة, ومعارفها وفنونها وأدبها وشعرها وتاريخها، وأساطيرها, وقد تعمد في تصدير بعض قصائده ودواوينه بما يفيد هذا الانتماء المحلي / الانساني المتنوع الى المصادر الأساسية غير المألوفة, والتي من شأنها أن تثير دهشة السؤال والتعجب. ويتعامل سماء مع هذه المصادر الثقافية تعاملا فنيا بحتا، ينطوي في أحايين كثيرة على شيء من التناقض الواضح بينها كقناص تاريخي/ اسطوري، وبين كونها حدثا تاريخيا يحمل دلالات الواقع, مما يوقعه
في مغبة الاغراق في تفاصيل ذاته الخاصة بما تحمله من نفسية حائرة, منعزلة. صامتة, ولهذا تبدو هذه المصادر ذائبة في الحالة النفسية الخاصة تلك مختفية فيها، فلا يستدل القاريء على أصلها أو يتعرف على حقيقتها لولا تلك العناوين/ الاهداءات الهامشية التي تتصدر كل نص وتعرف به ومثال ذلك الذوبان ببن المصدر والذات نلحظه في المقطع التالي:
ذات مساء عندما كنت أبحث
عن امرأة ترضعني الشوق
قادتني خطاي الى مآتم
مهجورة..
وجدت فيها أمي ترضع أطفالها
الموتي
فى هذه الصحراء التي تاكل
أبناءها كقطة عجوز
أين تجد الطفولة الأرواح المجهولة
ابواب الليل(15)
الأسطورة هنا بفعلها المعهود تفعل ما تريد من أجل ايضاح المصدر (القطة
العجوز تأكل أبناءها – لن تطرق الأرواح المجهولة أبواب الليل..). ومغايرة المألوف حدسية الذات الشاعرة في هذا المقطع وغيره (أمي ترضع أطفالها الموتى – مآتم مهجورة..) إذ فيها يتحول المصدر الثقافي الى حالة سوداوية من العاطفة تكتنف ذات الشاعر، فيغدو في واقع متذبذب, مأسور بوهم البحث, حيث الوقت مساء، والمكان متسع (الصحراء) ولم يكن نصيبه من كل هذا سوى التيه والضياع, في وقت هو في أشد الحاجة الى الأمان. وما أدراك ما الأمان ؟! في واقع صاخب كواقع المدينة التي يعيشها الشاعر. إنه المكان ستمثل في حالة الهم الشعري لديه (المآتم – الصحراء..) والذي يبدو مختلطا مع المصدر الثقافي التاريخي / الأسطوري /الديني.
تداخلات الوظيفة المكانية مع تناص المكان وآثارها الفنية:
تلعب الوظيفة المكانية دورا في تشكيل تناص المكان لدى الشاعر وبخاصة في ديوانه الأخير.. منفى سلالات الليل, إذ كثيرا ما تتحول الوظيفة المكانية من حالتها الجغرافية المحددة (الرمال الجبال الصحراء, السماء البحر..) الى حالة غير محددة (المنفى الأكواخ, المنزل القديم..) وهي بهذا التحول تقوم بتفعيل الذات الشاعرة واطلاقها في النص, فتصبح عائمة في فضاء الهم الشعري. ويتضح ذلك أكثر في المقطع التالي:
حملتنا الريح إلى صحراء الموتي
ذرفنا من اعيننا دم الأطفال
بكينا كأرامل في العشرين
غابت من ولدتنا أكلتها نار الموتى,
وأجراس المنسيين (16)
هنا تنطلق الذات الشاعرة في رحاب الهم الشعري ويكون المكان (الصحراء) أحدى أطروحات هذا الانطلاق, الذي تدعمه عاطفة تقترب من كآبة المشهد الرومانسي (حملتنا الريح.. ذرفنا الدم.. بكينا.. أكلتها). وهو في هذه الحالة صورة مكثفة للواعج الحزن, وسوداوية المشهد الواقعي الذي تعيشه الذات الشاعرة على كافة الأصعدة.
– لعب تداخل المكان بوظائفه الرمزية والأداتية والوسيلية والمعرفية دورا أساسيا في التعبير عن هموم الذات الشاعرة, وموقفها من قضايا الواقع الكابتة, واشكالياته المعقدة, مما جعله يطغى على حيز المكان بوظيفته الجغرافية, ويدفع به نحو أفق التجريد والبحث في العديد من المناسبات. وعبر عدد من المظاهر والعناصر الفنية البارزة التي انحرف التجريد العقلي بها عن وظائفه القديمة الى وظائف جديدة, بدا عليها طابع التشكيل الواعي، وبذلك انتهت حركة الذات الواسعة الى نقطة ساكنة. كما تحولت صورة الواقع الحي الى مجرد نقاط طيفية / بانورامية, متشائمة دوما. كما هو الحال في " نذير بفجيعة ما" و" مناحة على أرواح عابدات الفرفارة ".
كأن كل شيء ينذر بفجيعة ما.
حشرجات الطير، براكين
الكواكب. شجر الصمت انحني،
جف, ذبل, نذير مخلوقات بائسة
تأتي من رماد الشمس.
في صمت كل شيء يتشوه
تدخل أشباحك باب غرفتي
المظلمة وتنذرني بالغياب
إذ ننطفيء جميعا كشجر بلا
جذور. (17)
هذه إذن نتيجة تداخل الوظائف المكانية لدى الذات الشاعرة صورة من الدمار و" الميلودراما» الحزينة دفعت بها تراكمات حالة الشاعر اليائسة فكانت كما يقول (ننطفيء جميعا.. شجر الصمت انحنى, جف, ذبل.. كانت موتا أبديا لا يمكن أن يقاوم).
لم تكن العاطفة الشعرية الناتجة من تداخل الوظائف المكانية سوى نار ذائبة تحرك أبنية المقطع الشعري السابق. ومجالاتها المتراكبة في اوصال تلك البنى والمجالات ذوبان الضوء في "الكريستيال " رغم أن موقدها المتأجج يقع أسفل طبقات النص (والمتمثل في الفجيعة, حيث الصمت, والحشرجات, والرماد، والأشباح ومفردات النذير). هذا الموقع المميز وجوده الملاصق لأبنية الواقع (الغياب /الظلمة) مما يجعله همزة وصل لا غنى عنها بين الذات الشعرية ومجالها، وبين العاطفة وحركتها المتدفقة.
وعلى هذا النحو يبني سماء مسار تجربته التخيلية, رغم انطواء حيز الترميز بوظيفته الايمائية, وحركته الداخلية, مستوحيا المكان بكافة أطروحاته, مما يجعل من قصائده واعية لمنهجية التصوير الجديد، الذي يبعدها عن حواجز القيمة البلاغية التقليدية, ويدفع بها الى التشكيل الواعي فنيا وموضوعيا على صعيد الوقوف بمواقف معينة من قضايا الواقع واشكالياته.
ورغم هذا الحذر من تقليدية التصوير الا أنها أحيانا تقترب من إرثها القديم حيث روحانية المشهد ورومانسيته, وأظن أن اللغة هي المحرك لهذا الجانب من مثل قوله
قبل أن تحترق المرأة
وتذرف العصافير رمادها في المياه
دعوها
دعوها الثمر الحلو يبكي
دعوها
ستلفظ أنفاسها وتغنى (18)
تكرار فعل الأمر (دعوها) يفيد خلاصة رومانسية لتكثيف حجم الكارثة, واستخدام الأفعال المضارعة (تحترق, تلفظ, تغنى) دلالة واضحة على استمراريته, فالشاعر هنا استخدم اللغة لما يفيد حاسة المغايرة /التميز في الواقع, حيث: الموتى يفنون وحيث الثمر يبكي، وما ذلك إلا لافادة الدهشة الشعرية للاختلاف مع الواقع شأنه في ذلك شأن رموز التجربة الجديدة في بعدها الفني.
إن هذا الكشف للذات الشاعرة هو محطات متعبة في تجربة الشاعر قاطبة تتبادى لنا بين وقت وآخر كلما أمعنا النظر في تجلياتها على النحو الرومانسي /الهروبي الشفاف الذي يوضحه أكثر المقطع التالي:
ارحلي بعيدا بعيدا. أيتها المياه
أيتها الحنونة كالفجر
كقبور الأطفال
ارحلي بعظامي الى الاقاصي
حيث عشيقة الليل تحمل وردة
انطفائي
وتحملني الى غيمة سوداء نظلل معا خيمة الموتى (19)
الصور هنا تتداعى من خلال التشبيهات البلاغية (كالفجر، كالقبور..) والضمائر المخاطبة (ارحلي), مكونة بذلك حالة شعرية تنهج بالسكون الظاهري, وتعج بالحركة الداخلية, وهذه هي مكونات تجربة سماء الأفقية, نامية نموا مطردا، آخذة بوظائف المكان ما يجعلها تجربة متميزة على الصعيد الانساني لا المحلي فقط.
المراجع والهوامش التوضيحية
1- انظر النقد الادبي ومدارسه الحديثة, ستانلي هايمن, ترجمة احسان عباس, ومحمد يوسف نجم ط ( 3) دار الفكر العربي، القاهرة, ب,ت, ص 219. وانظر كذلك ما قدمه د. محمد مفتاح في كتابه "تحليل الخطاب الشعري" استراتيجية التناص, ط 2، المركز العربي الثقافي, بيروت,ط 1986 ص 27وما بعدها.
2 – معجم الصطلحات الادبية: مجدي وهبة, ط ا, بيروت, ب.ت, ص 152.
3- انظر ما أثاره حول المكان وعلاقاته بالابداع أدونيس, في الثابت والمتحول, جـ 4، دار الساقي، لندن ص.263
4- الحداثة الأولى: محمد جمال باروت,ط1, منشورات كتاب وأدباء الامارات, أبو ظبي، ا 199, ص 89.
5- يمكن تلخيص الوظيفة الجغرافية للمكان في: المكان المحسوس والمحدد، من مواقع, ومبان, وما يتصل بهما من أسماء وصفات, وتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تكامل الاسرة والمجتمع وتعمل على ايجاد الهوية والتفرد. واستخدم تعبير الوظيفة الجغرافية في الابداع لوصف تلك القدرة التي يمتلكها مكان معين على احداث واستحضار معان مشتركة, ولكنها تتسم بالخصوصية في نفس الوقت, ويكون ذلك من خلال عرض النص الابداعي (نقصد به هنا الشعري بالذات) لعناصر متخيلة ,أو واقعية معينة تستدعي بدورها مجموعة ثرية من الافكار والمشاعر والتداعيات ويتم توظيفها في النص, لخلق الصورة الشعرية.
6- الوظيفة الرمزية للمكان: ونقصد بها "الانتماء", الذي يفيد تأكيد الذات الشاعرة في محيط جغرافي معين, وضمن احساس, وشعور بالاستمرار فيه, ولا يشترط أن يكون هذا المحيط الجغرافي هو الذي تتحرك فيه هذه الذات الشاعرة على الصعيد الواقعي فقط, بل يمكن أن تكون أماكن تنتمي الى الماضي. أو تنتمي الى الحاضر،وهي بعيدة عنها. كما هو الحال في حالات الاغتراب, والذكريات, وأحلام اليقظة, والتخييلات المرتبطة بالمكان, تفيد احساس الذات الشاعرة بالانتماء، وهي تؤكد مصداقية الهوية.
7- الوظيفة المعرفية للمكان: هي كل ما يتصل بالمكان من معارف, ومعلومات, وذكريات وثقافات تاريخية أو فلوكلورية أو أسطورية أو دينية أو اجتماعية أو غير ذلك سواء على المستوى الشخصي أو الجمعي. وتدخل في البنية الشعرية بما يشبه التناص لتجسيد الخصوصية الانسانية.
8- الوظيفة الوسيلية الأداتية /التعبيرية. يمكن تلمسها أكثر فيما يتصل بتحويل كل النشاطات التي تنوم بها الذات الشاعرة على مستوى الهم الحياتي، الى حالة تعبيرية تخدم النص الشعري. فمثلا تسمح بتحويل المكان الى تعبير عن القيم الفردية والجماعية المرتبطة به, كالقيم الدينية, والاخلاقية, والجمالية وغير ذلك.
9- نعني بالتجسيد في الجدول: اضفاء صورة مادية ذات ملامح محسوسة منتزعة من خصائص الانسان, أو صفات الحيوان, أو مظاهر الطبيعة على المعنى المجرد، وكأنما الأمر أشبه باعطاء الروح (المعنى) جسدا ماديا هو الصورة الفنية. وهو تشبيه ضارب بجذوره في الثقافة العربية.
10- كما هو الحال في قصيدته / ديوانه: "نذير بفجيعة ما" التي يهدي مقاطع منها الى: حاتم الطائي, وسلام الكندي، وزاهر الغافري، انظر ذلك الديوان،ص58- 62.
11- نقصد. بأيديولوجيا المصدر: كل ما يتصل بنظام التأسيس الابداعي، في أفقه الثقافي العام لا السياسي الخاص, انها كل ما هو منهجي يخدم قضايا التراث الانساني في أبعد صوره.غير مكترثة بالمنبع المحدد للثقافة الابداعية. فنية كانت أم أدبية.
12- تعتبر تجربة سماء عيسى الشعرية أولى علامات الصدام المبكر مع القصيدة التقليدية أو حتى قصيدة التفعيلة, فقد بدأها منذ أواسط السبعينات, في القاهرة, عندما كان طالبا فيها. وتأتي تجربته على المستوى الزمني مبكرة مقارنة بأقرانه كتاب قصيدة النثر في عمان, ولهذا فهي لم تنح هذا المنحى الزمني فقط, بل تجاوزته الى ما هو أبعد على الصعيد الفني كما هو واضح من خلال هذه الظاهرة المكانية. وغيرها من الظواهر التي تستحق الوقوف عليها.
13 – قصيدة " ندم 1" ديوان منفى سلالات الليل, سماء عيسى، ط 1الرؤيا للنشر، مسقط 1996، ص 9.
14 – قصيدة "مناحة على أرواح عابدات الفرفارة ط 1، د.م.، ص 2وما بعدها. والفرفارة قرية من قرى ولاية سمائل بداخلية عمان.
15- القصيدة السابقة, الديوان نفسه, ص14.
16- قصيدة "غياب " ديوان "منفى سلالات الليل " السابق ص 14.
17- "نذير بفجيعة ما" القصيدة الأولى, ص 11.
18- "مناحة على أرواح عابدات الفرفارة: القصيدة السابقة ص 20.
19- "مناحة على أرواح عابدات الفرفارة " القصيدة السابقة. ص 31..
محسن الكندي(باحث وجامعي من سلطنة عمان)