قضيتُ إجازة عيد الأضحى مُحلقة في فضاءٍ افتراضي مُدهش ومثير ، مع رائعة حبيب عبد الرب سروري (عَرَقُ الآلهة) ، وهي رواية أدبية جديدة ورائدة في مضمونها ولغتها ومجالها .
أراد حبيب ، بهذا العمل الأدبي المتميّز، أن يأخذنا في رحلة عبر الزمن ، فهو يأخذنا – مرة – إلى الماضي السّحيق ، قبل خلق الكون والكائنات وقبل لحظة «الانفجار الأعظم» التي انبثقت عنها نشأة مجرتنا الشمسية كواحدة من مجرات أخرى لا تُعد ولا تُحصى تسبح في الفضاء الكوني ، مرورا بنشأة وتطور الحياة على الأرض ، وتعريجا على نظريات تفسير نشأة الكائنات وخلق الإنسان وتطوره من منظور الدين والعلم ، ويأخذنا حبيب ، في مرة أخرى ، إلى المستقبل وعوالمه الافتراضية ، حيث ينكب علماء كبار ، في مراكز أبحاثهم عبر الكوكب الأزرق ، على تحويل كثير من الرؤى والأفكار ، التي نسميها الآن «افتراضات» إلى حقائق معاشة بأبعادها الكاملة .
في هذه الرحلة ، مُزدوجة الاتجاه ، وعبر محطاتها الزمنية والمكانية ، وبأسلوب سهل وممتع وخال من الإدعاء والوصاية ، يحاول الكاتب – في ثنايا السرد الروائي البديع – أن يُعيد تصحيح كثير من جوانب المنظومة المعرفية التي استقرت في أذهان الناس في جميع أنحاء العالم ، حول قضايا الخلق والوجود الأول للإنسان ، وتطور العقل البشري ، وتاريخ الأديان ووظيفتها ، وارتباط رجال الدين بمؤسسات الحكم ، وتسييس الدين وتوظيفه في الصراع السياسي ، وقضايا الحرية والتحرر ، ودعاوى الأفضلية والتميّز بين الأجناس البشرية .. وغيرها .
ولست أبالغ إذا قلت أن الرواية التي قرأتها في العيد ، كانت أجمل مافي العيد ، فعرق الآلهة ، عملٌ أدبيٌ رائدٌ يصعب إخضاعه لمقاييس الرواية التقليدية كما يعرفها أساتذة النقد الأدبي في الجامعات ؛ فتصميمها وبناؤها الفني ، ومحتواها ولغتها نتاج رائع لعقلية رياضية فذة ، تُخضع كل شيء لحسابات دقيقة .
ويدرك قارئ الرواية ، حتى قبل أن يفرغ منها ، أنها قد بُنيت وفق «تصميم هندسي» أُعد سلفا ، فهيكلها المتين بني أولا، ثم قام الكاتب بعد ذلك بملء الفراغات وتوظيف المساحات . أما المظهر الناعم الذي إتسمت به الرواية ، والتماسك والاتصال المدهش بين أجزائها ، فقد جاء بفضل براعة الكاتب في تقنية السرد الجميل لقصة عشق متفجر (تم استخدامها كخيط ناظم للرواية) بين «حنايا» العُمانية ، و«شمسان» اليمني (وكلاهما باحثان عربيان متميزان في مجال علوم الكمبيوتر، طردتهما بيئتهما الصحراوية المُجدبة) .
يستقر العاشقان في أوروبا ، هي في لندن ، وهو في مرسيليا ، لتجمع بينهما الأقدار بعد ذلك مصادفة في مؤتمر علمي ، يكون فاتحة لمؤتمرات علمية عديدة مشتركة تنمو خلالها قصة حب عنيف وملتهب ، كما يتمخض عنها اكتشافات علمية مثيرة ، حيث ينجح الباحثان العاشقان في تطوير برنامجٍ للحاسوب يستطيع خلق عوالم افتراضية ، تحاكي مراحل زمنية سابقة على الحاضر، وتالية له .. ومن خلال هذا البرنامج ، والتعديل المستمر في مُدخلاته ، يمكنهما ، بواسطة الكمبيوتر ، إعادة قراءة وتحليل مراحل تطور حياة وعقل ودين المخلوق الآدمي ، وقصة العلاقة بين المخلوقات والخالق ، وصراع الآلهة ، ومفاهيم البشر المختلفة لماهية الآلهة!؟
والرواية ، إجمالا ، تلخيص أدبي بديع لأربعة كتب علمية على الأقل ، أولها ، حول نشأة الكون وخلق الإنسان وتطوره وارتقائه ، والثاني ، حول تاريخ الأديان وتطورها ومآلها ، والكتاب الثالث ، حول الثقافات الرئيسية ودورها في تشكيل الوعي الإنساني لكل جماعة بشرية ، وفقا لدرجة المعرفية العلمية المتاحة ، بقضايا الوجود الرئيسية ، وقضايا المعاش العادية وتباين ذلك الوعي من جماعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، والكتاب الرابع ، حول تاريخ العلم ، ومراحل تطور العقل البشري ، ذلك التطور المخيف الذي ينذر بأننا على أعتاب مرحلة جديدة وحاسمة .. قد يتحول معها الإنسان ، كما يرى البعض ، من مجرد مخلوق لا حول له ولا قوة ، إلى خالق مقتدر ، مسيطر ومتحكم بوجوده ومصيره .
تقنيات مبتكرة :
نجح الكاتب ، من خلال هذا العمل الروائي الممتع ، في تقديم «جُرعة» مركزة من الحقائق والآراء العلمية (بعضها مؤكد وبعضها لايزال في طور البحث) ، إلى القارئ العربي لأول مرة ، وتتجلى عبقرية هذا العمل وتميّزه في هذه النقطة بالذات ، حيث قدم لنا حبيب سروري ، بين دفتي رواية واحدة ، من تسعة فصول وملحقين (أول مرة تستخدم تقنية إضافة الملاحق وتثبيت المراجع في رواية عربية) عملا أدبيا يحتوي على حصاد علمي وفير ، ويناقش قضايا عقلية وفلسفية حيّرت الانسان جيلا بعد جيل .
ولكي يُقحم القارئ العربي في هذا المجال الجديد ، بغرض زيادة مساحة التفكير عنده ، وتوسيع مجال الاختيار أمامه ، قام حبيب بابتكار تقنيات جديدة للسرد ، بدت في الواقع كحيل فنية مشروعة ومبررة ، لنقل حقائق العلم وأسلوب التفكير العلمي ، إلى ميدان الأدب وجعله جزءا من اهتمامات القارئ العربي الذي ظل لسنوات طويلة أسيرا للأعمال الروائية المرتبطة بالقضايا الاجتماعية في جوانبها المعيشية والعاطفية ، دون جهد يذكر ، أو محاولة جادة لاختراق جدار المحظورات والمسلمات ، ومناقشتها بمنطق العقل والعلم ، وفي اعتقادي أن ذلك أمر يُحمد للكاتب ويُسجل له سبق الريادة فيه .
ومن الحِيل الذكية ، التي اتبعها حبيب ، ليتغلب على الصعوبة التقليدية التي يجدها القارئ العربي العادي في تقبل جفاف المادة العلمية ضمن عمل أدبي ، لجوئه إلى أسلوب «الرشوة العاطفية!» .. فاستعراض النتائج العلمية ، لتقرير برنامج «الفيلسوف كاشف الأسرار» ، أو أبو الكشوف ، وهو برنامج حاسوب عبقري لقراءة الدماغ البشري ، من أجل محاكاته لاحقا .. لا تجري في معمل الأبحاث في الجامعة ، وبالمنطق العلمي الجاف والمباشر ، بل تتم – كحيلة من الكاتب لتخليص مادة التقرير من جفافها العلمي – على مرحلتين ، مرة في غرفة نوم «فردوس» ، زوجة البطل ، ومرة في غرفة نوم «حنايا» ، محبوبته والباحثة المشاركة معه في تطوير عمل برنامج قراءة الدماغ البشري ، بالتطبيق على طريقة عمل دماغ شمسان نفسه .
وفي غرفتي نوم الزوجة والعشيقة على التوالي ، تجري أغرب عملية قراءة لتقرير علمي ينجزه الحاسوب مُحاكيا فيه طريقة عمل الدماغ البشري ؛ فأجزاء من التقرير تقرأها «فردوس» ، تتخللها فواصل من قراءة الشعر، في جو رومانسي بين الزوجين (هو عالم وهي شاعرة ويحتفظان بجذوة عشقهما مشتعلة بعد ثلاثين سنة من الزواج !) ، وأجزاء أخرى من نفس التقرير ، تقرأها «حنايا» ، في وقت لاحق مع «شمسان»، في غرفة نومها في السكن الجامعي ، مصحوبة بدفقات من غزل وحب ظل عذريا إلى ما قبل نهاية الرواية بسطور قليلة .. ولسبب ما ، يتضح لنا لاحقا ، ظلت حنايا محتفظة بعذريتها ، رغم أن العاشقين قد مارسا كل أنواع الغزل المكشوف التي يمارسها العشاق المتحررون في المجتمعات الغربية ، من تقبيل وضم وتوحّد ، في الغرف والشوارع والمنعطفات والساحات والمتاحف والحدائق ، في كل مدينة من المدن الأوربية الكثيرة التي زارها العاشقان .
وبمثل هذه الحيل الذكية ، المدركة لتكوين وطريقة عمل دماغ القارئ العربي ، مرّر الكاتب بدهاء كثيرا من الحقائق العلمية ، وكثيرا من الآراء المخالفة لمعتقدات ظلت مقدسة، كما مرر انتقادات للنظم الاجتماعية والسياسية في دول الجزيرة والخليج مستخدما قصة «حنايا» الهاربة من قصر أسرتها كمصدر ومادة ثرية للمظالم التي يلحقها المجتمع القبلى بالمرأة .. ولتحقيق نفس الغاية ، ولكي يحتفظ الكاتب بشغف القارئ ويستولى على اهتمامه ويدفعه إلى قراءة الأجزاء المحتوية على المادة العلمية الجافة ، استخدم الكاتب ، بمهنية محسوبة ، كلا من زوجة البطل وعشيقته في الرواية ، وهما امرأتان على قدر كبير من الجمال والجاذبية ، كما نستخدم نحن الزبدة والعسل لعمل سندوتش لذيذ مُتعدد الطبقات ، شريحة خبز (مادة علمية) ثم طبقة زُبدة (مشهد رومانسي مع فردوس)، ثم شريحة خبزأخرى (رأي ناقد مخالف لمعتقدات مستقرة) ثم طبقة عسل (مشهد عاطفي حميم مع حنايا) ، وهكذا دواليك في جميع فصول الرواية التسعة .
بهذه التقنية الذكية ، حافظ حبيب سروري على بقاء القارئ مشدودا إلى الرواية ، من بداية السطر الأول ، وحتى نهايتها بمشهد «شمسان» خائبا ، بعد أن هجرته «حنايا» وتركته مستلقيا على السرير ومؤخرته العارية تواجه السقف .. تركته لأنه نكأ ، في لحظة نزق غير محسوب ، جراحا كانت غائرة في أعماقها ، وبهذه اللقطة الخاطفة كشف الكاتب عن التكوين الحساس والمعقد لنفسية المرأة العربية وهو حصيلة منطقية لمحاولة التوفيق العصية بين متطلبات طبيعتها الأنثوية ، والمتطلبات الاجتماعية التي تسوغ وجودها واحترامها ومكانتها في المجتمع .
تدليل عاطفي للنساء !
بدهاء ذكوري مُخطّط ، ومن السطر الأول في الرواية ، كان حضور المرأة طاغيا ، زوجة وعاشقة ، وبعد قراءة فصل الرواية الأول ، يلاحظ القارئ بوضوح أن الرواية تتوجه ، في المقاطع المخملية منها ، الى جمهور النساء في المنطقة العربية ، ففي أجزاء كثيرة من (عرَق الآلهة) عرض الكاتب بوفرة وسخاء ، لكل ما يُلهب خيال الأنثى العربية وتفتقده في حياتها اليومية ، من اللمسات الرقيقة ، المواقف الرومانسية ، الموسيقى ، الشعر ، الرحلات ، الوجبات على ضوء الشموع ، الملابس الحريرية والعطور من أرقى الماركات … إلخ .
وفي الرواية ، تبدو «فردوس» كعشيقة ومحبوبة ، أكثر منها زوجة لفرط ما أغدق عليها بطل الرواية من عبارات الغزل والتدليل ، والإشادة الدائمة بذكائها وشاعريتها وذوقها .. والأمر نفسه ، مُضاعفا ، في تعامله مع «حنايا» .. وبهذا القدر من الإغداق العاطفي على الأنثى ، تجد القارئة نفسها مشدودة بإعجاب إلى شخصية «شمسان» عالم الكمبيوتر ، المثقف ، الرومانسي ، المتحرر، المناصر لحقوق المرأة … وتحت هذا الغطاء الكثيف من التدليل الأنثوي ، لا تملك القارئة – كما حدث معي – إلا أن تتقبل حكاية خيانة شمسان لزوجته فردوس ، دون إدانة أو استنكار، باعتباره أن ذلك كان استجابة لحالة عشق جارف لا سبيل إلى مقاومته !(مع أن الرب كان كريما مع «شمسان» وجعل له قلبين في جوفه ، إلا أن الأمر قد إنتهى به الى خسارة حب شمسيه الاثنتين : فردوس وحنايا) .
وبالمقابل ، وقع الكاتب ، أحيانا ، في المطب الذي يقع فيه الرجال عادة ، وهو عدم القدرة على التمييز بين ما هو عاطفي ورومانسي (من منظور أنثوي) وبالتالي يثير إعجاب المرأة وعاطفتها ، وبين ما هو شهواني وحيواني ، ويدفع بها إلى النفور ، حياءً أو تقززا .. ولا استثناء لهذه القاعدة النسائية إلا أن نكون أمام أمرأة رخيصة أو شاذة
عيون الأنثى ، وهي تجري على صفحات (عرَق الآلهة) ، تلاحظ أيضا ، دون عناء ، أن كثيرا من المشاهد التي يُفترض أنها رومانسية ، سواء بين «شمسان» و«فردوس» ، أو بينه وبين «حنايا» ، قد جاءت جامدة ، إن لم تكن متكلفة وخالية من الحميمية المُفترضة .. والبعض الآخر جاء مفتقرا بشكل مستغرب إلى التهيئة النفسية المناسبة لأجهزة الاستقبال العاطفي لدى المرأة (مع أن قراءة متأنية لتقرير أبي الكشوف ، كانت كفيلة بإظهار الفروق الواضحة في أجهزة استقبال المشاعر لدى كل من المرأة والرجل) ، ولا تفسير عندي لذلك سوى أن حبيب قد كتب كثيرا من أجزاء (عرق الآلهة) وهو تحت ضغط الوقت ، وأعترف أنني وجدت نفسي ، في بعض المشاهد العاطفية ، أفتقد بقوة لأسلوب حبيب الساحر في وصف وتصوير المشاعر وإلى لغة المُبدع علي محمد زيد الآسرة ، ذلك التكامل الجميل بين ملَكتي : الإبداع وسحر البيان ، اللتين تجليت في (الملكة المغدورة) رواية حبيب سروري الأولى التي سيدخل بها التاريخ .
المشي في غابة الشوك !
لا أحتاج أن أقول ، أن هناك أكثر من طريقة لقراءة أي عمل أدبي .. وعلى هذا يمكن أن تقرأ رواية (عرق الآلهة) من وجهة نظر معينة ، قراءة مخالفة تماما لقراءتي المستعجلة هذه ، بل أن وجهات النظر قد تتعدد بتعدد القراء .. فالاشكاليات الكثيرة والخطيرة التي أثارها حبيب سروري في روايته ، ليست ، أو معظمها على الأقل ، قضايا شخصية متصلة بالحياة الخاصة بهذا الرجل أو تلك المرأة ، بل هي قضايا تتعلق بالوجود وبالصراع البشري والتطور الانساني منذ أن وجد الانسان الأول على الأرض وحتى اليوم ، وستستمر في المستقبل ما بقيت الحياة .
فقضايا الألوهية ، ووحدة أو تعدد الآلهة ، وقضايا بداية الخلق ووجود الانسان والكائنات وتطورها ، وقضايا الجسد والعقل والروح وماهية كل منها ، والغاية النهائية من الحياة ومآلها .. كل هذه القضايا الجوهرية والأسئلة المرتبطة بها ، لايمكن أن يحسمها عمل بشري واحد ، بل لايمكن أن يحسمها عمل جماعي لجيل بشري كامل بمفكريه وفلاسفته وعلمائة وكتابه في مرحلة تاريخية معينة ، طالما وأن الحياة الانسانية في حالة صيرورة متواصلة وتطور مستمر .
خذ ، مثلا ، مسألة الاعتقاد البشري الراسخ منذ الازل بوجود إله ، أو آلهة ، قوة أو قوى عظمى جبارة تتحكم في الكون وتسيطرعليه وتحدد مصائر الكائنات والموجودات ، ومسألة ظهور الآديان كحاجة بشرية أساسية للتقرب الى تلك القوى (الآلهة) في جميع التجمعات البشرية الاولى وإن بطرق مختلفة .. هذه المسألة لايمكن حسمها والوصول بها الى نتيجة محددة قاطعة ونهائية . . فقد ظل الدين حاجة أساسية للجنس البشري منذ الآزل وهو مازال كذلك اليوم ، حتى بعد أن أدى التطور العلمي في بعض المجتمعات الى حل كثير من الاشكاليات وتفسير الكثير من الظواهر غير المفهومة والتي كانت في رأي البعض هي سبب الحاجة الى الدين ، بل الى الآلهة .
الدين ، أي دين ، يظل حاجة إنسانية أساسية لأغلب البشر، حتى بعد الثورة العلمية والمعرفية ، فالكثير من العلماء في مجالات تكنولوجية حساسة متدينون ، ونخبة المتعلمين من سكان الأرض ليسوا مستعدين بعد للذهاب الى حد القبول بالقول بأن العلم قد أجاب على كل أسئلة الانسان المتعلقة بالوجود والعدم ، وبالتالي فلم تعد هناك – في رأي هؤلاء – حاجة لوجود آلهة بعد أن أصبح الانسان نفسه إلها متحكما بوجوده ومصيره (!!) ، وأنا شخصيا أنظر الى قصص آلهة الأولمب ، على أنها نوع من الأساطير الدالة على ثراء الخيال الانساني ، ولم أتقبل ما توحي به الرواية من أن آلهة الاغريق الكثيرة (و كانت بعدد الظواهر الطبيعية وبعدد المشاعر الانسانية) كانت آله حقيقية في معتقدات الناس ، ولكن تلك الآلهة استقالت تباعا لانتفاء الحاجة الى خدماتها مع الزمن وتبعا لتطور العقل والعلم .. حتى وان قيل لنا ، أنه في فرنسا ، على سبيل المثال ، لم يعد هناك اليوم إعتراف رسمي بالدين وبوجود إله ، وهذا الامر أصبح مقررا كأحد أهم الأسس الدستورية التي تقوم عليها الدولة .
وكما قلت ، فإن القراءات ووجهات النظر حول هذه الرواية ستتعدد كثيرا ، ومن غير المستغرب أن يقول لنا أحدهم أن هذه الرواية تدخل ضمن مشروع «الفوضى الخلاقة» !! تلك النظرية التي تقوم على مبدأ : شكّك في كل شيء ، وأهدم كل شيء وما هو صالح سيعيد بناء نفسه ويرتفع من جديد .. ولكن من حق كل شخص أن يقول ما يريد .
لكي لا أطيل ، لا بد لي أن أشير، ولو بفقرة واحدة ، الي أن (عرق الآلهة) قد أثارت وناقشت بجرأة غير مسبوقة على المستوى العربي ، أسئلة عويصة ، شغلت الجنس البشري منذ أن وجد الانسان على الارض ، ولم يكن مطلوبا منها ، بل لم يكن بوسعها ، أن تقدم إجابات شافية لكل المسائل المتعلقة بالوجود والعدم .. ولن يكون اختراع الكمبيوتر هو نهاية المطاف .. فالاسئلة الرئيسية المتصلة بالروح والعقل والغاية من الحياة لاتزال على حالها .. كما أن دور الاديان في تقديم الحلول (بصرف النظرعن كون تلك الحلول علمية ام لا) وتوفير الاستقرار والتوازن النفسي والاحساس بالأمان للمتدينين ، وهم معظم سكان الارض ، هذا الدور يعزز اليقين السائد على نطاق واسع ، بأن الدين حاجة انسانية أساسية وجوهرية ، حتى وان كان هناك من لايؤمن بذلك ، لأن الفكرة البديلة التي وفرت لمنكري الحاجة الى الدين حاجتهم من الاستقرار والتوازن النفسي والذهني ، هذه الفكرة البديلة ذاتها تقوم بالدور المفترض الذي يقوم به الدين بالنسبة للمتدينين ، وبالتالي تصبح «دينا» لمن يؤمنون بها حتى وإن لم يشاركهم الآخرون هذا الإعتقاد .
وأخيرا ، أختم قراءتي بالقول ، أن رواية عرَق الآلهة ، للكاتب اليمني العالمي ، حبيب عبد الرب سروري ، عمل أدبي رائد وفريد ، وأتوقع بقوة أن يثور حولها جدلٌ أدبي واسع ، بل أنني أستغرب أن ذلك الجدل لم يثر بعد .. فالرواية تشكك بصحة كثير من المسلمات الدينية والثقافية المستقرة في كثير من المجتمعات ، وتنقد بشكل قاسٍ المعايير غير الإنسانية وغير العلمية التي لا تزال تهيمن على حياة مجتمعات كثيرة عبر الكوكب.. كما تلقي ظلالا كثيفة من الشك حول (المقدس)، ولا شك أن رواية تتبنى كل هذه المقولات (وبصرف النظر عن صحتها من عدمه وفقا للسياق الذي وردت به في الرواية) ، ستثير قطعا عواصف كبيرة لن يهدأ لها غبار .
وميض عـبد الرحمن اليمـاني كاتبة من اليمن