يوسف فاضل
1.
أقف في هذا الممر المرتفع، المطل على خطوط السكك الحديدية الهاربة. تحت سماءٍ رمادية. تقريبًا في نفس الألوان الدّاكنة التي تتحرك في الأسفل على رصيف المحطة. ألوان الشتاء. والوجوه عابسة. وجوه الشتاء. على محياهم قلق الانتظار. ينتظرون قطارات لم يعلن عن قدومها. على وجوههم أيضًا ألق الأماكن التي تنتظرهم. وهذا الألق الفريد يظهر بالأساس على المعطف السماويّ اللون الذي ترتديه المرأة الواقفة على الرصيف. لا شيء يجمع هذه المرأة صاحبة اللون الشادّ، الزاهي، بجهامة الأوان المحيطة بها. كأنما ظهرت لتعوض السماء المكفهرة. والوجوه العابسة. مثيرة انتباهي ليس لهذا السبب وإنما لأنها تقف على حافة الرصيف، مستغرقة في تأمل القضبان الحديدية. لا تحمل حقيبة يد أو تجر حقيبة سفر. لا أحد يرافقها. وبعيدة عن المسافرين الذين انتشروا على طول الرصيف. وكأنما لا تنتظر أحدًا قادمًا من أي مكان. ولا أحد ينتظرها في أي مكان. وأنها قصدت المحطة لغاية واحدة. تنتظر القطار لترتمي تحت عجلاته. ربما لأن نظرتي المتشائمة هي التي تدفعني إلى النزوع إلى هذا الاعتقاد. هذا وارد. وأيضًا لأنني لا أرى وجهها حتى أحدد إلى هذا الحد أو ذاك نواياها. أرى قبعتها التي في لون معطفها. كما لا أستطيع أن أحدّد سنها. قد تكون في الرابعة والعشرين أو الثلاثين. أو أكثر. أو أقل. بدون سبب أخمن أنها قد تجاوزت الثلاثين. ورائي، خلف الواجهة الزجاجية العريضة يعبر المسافرون. ذاهبون إلى عالم ينتظرهم أو هاربون من عالم يلفظهم. حقائبهم تسبقهم. تجري على عجلاتها الصغيرة، المدربة على الهروب. المسافرون لا يملكون سوى الأقدام. ولهذا تظهر الحقائب كأنما تحاول الإفلات من قبضتهم.
2.
نزلت بهذه الحانة في وقت متأخر من الليل. طردني المطر الذي هما فجأة على الرصيف الذي كنت أعبر فلجأت إليها. حانة عدن، هذا اسمها. الأضواء النازلة من السقف زرقاء. وقليلة. أغلب المصابيح معطلة. الموائد مركونة إلى الحائط. والممر يتسرب بينها كنهر دخان يمر بين ضفتين. وكانت امرأة بدينة ترقص في الممر قبل أن أدخل. تراجعتْ كي أمر، انحنت بأدب واستمرت ترقص في أقصى حدود الانتشاء، في جلبابها الأسود المطرز بعظاية ذهبية تتراقص على عتمة ظهرها. وهي تتمايل وتغني (محْلاها عيشة الفلاح). ما الذي يدعوها إلى تمجيد حياة الفلاح المضنية؟ لماذا تغني عن فلاح وليس فلاحة؟ على الأقل؟ في هذا الوقت المتأخر من الليل، في حانة اسمها عدن يستطيع ابن آدم أن يكون قبطان سفينة عابرة للقارات. يستطيع أن يتحول إلى عراف قادم للتو من أثينا. وتستطيع امرأة بدينة أن تصير في عتمة الحانة فلاحًا يتغنى بحياة الكد والتعب، بينما العظاية الخرافية تتلوى على ظهرها. رجل قادم من الخارج، مرّ بجانبي حاملًا معه رائحة المطر. رأيته دون أن أنتبه إليه. حتى جلس على الضفة الأخرى من نهر الدخان. اللحية بيضاء والشعر أبيض. بحيث يبدو وجهه في العتمة كما لو يكون مكسوًا بالثلج. ثيابه رثة، مهلهلة، قديمة، غامقة اللون. أسفل سرواله مبلل. وحذاؤه موحل. وهو نفسه يبدو رثًا وقديمًا ومهلهلًا. نحيف وقد تكون أسنانه تصطك من البرد. لا علاقة له لا بالمكان ولا بالموجودين فيه. عيناه تبرقان كما لو أنه لا يزال يبحث عن وجهه الذي تركه بالخارج. ثم يبحث عنه بين الوجوه الأخرى المشرئبة على موائدها. نهض معتذرًا ليفسح المكان لزبون آخر. وهذا الزبون احتل مقعد الرجل دون أن ينتبه إليه أو يشكره أو يهتم به. والرجل المسن، المكسو بالثلج، يتصرف كما لو كان من واجبه أن يترك مكانه للقادم الجديد ويدفن نفسه في الكرسي المجاور. في المكان الذي يسقط منه الضوء الأزرق. متحاشيًا أن يزعج المحتل الجديد. لم يهتم بالضوء الذي يصبغ شعره بلون فسفوري مشوب بزرقة ذائبة. لم يهتم بالرجل الذي احتل مقعده. كأنما يشغله أمر آخر. مشغول بفكرة لن يسبر كنهها حتى يراها. أو ربما إنه غير مشغول بالمرة. وقد يكون المطر هو الذي دفعه بداخل الحانة. كما دفعني. ولهذا يراقب الباب. كأنما لا يزال يفكر في المطر. وينتظر أن يكف ليستأنف رحلته. بين الفينة والأخرى يرفع ياقة معطفه الثقيل. كواحد لا يزال يقرصه برد الطرقات التي تركها وراءه. يداه ترتعشان قليلًا. استغرقني التفكير في الرجل. ما الذي جاء به إلى هذا المكان الذي لا يشبهه؟ وسط جوقة الرجال المعربدين؟ والفتيات المقهقهات. والعظاية الخرافية التي تغني محلاها عيشة الفلاح؟ في وقت آخر كنت ذهبت إليه وسألته. ولكنني مشغول بفكرة المرأة التي رأيت هذا الصباح في المحطة دون أعرف من تكون.
3.
قد تكون في حوالي الأربعين. وهي تلتفت وترفع وجهها جهة الممر الفوقاني، ماسحة بنظراتها الممر من أقصاه إلى أقصاه. كأنما انتبهتْ أخيرًا إلى أن الشخص الذي تنتظر قد يكون في مكان ما من هذا الممر. حيث أقف. أحدق فيها، مغتنمًا الفرصة التي منحتني فيها وجهها كي أتفحصه على خاطري. قد تكون امرأة عرفتها في فترة سابقة. أغلب الظن أن الأمر هكذا. أدقق النظر في تفاصيل وجهها بوقاحة سافرة. قد تكون تلك الفتاة التي التقيت بها قبل عشرين عامًا. في مكتبة الكلية. ولبثنا واقفين في إطار الباب. وتضاحكنا لأنها ليست المرة الأولى التي نصطدم فيها في إطار الباب. كأنما عن قصد، نتحين الفرصة لنصطدم. أما في تلك المرة، قبل عشرين عامًا أو أكثر، فقد عبرنا الممر معًا ويدي في يدها. وصورة قبلة أولى غالبة على فكري. كلما لمحت ركنًا فارغًا أقول هنا. أو ليس هنا. أقول الآن. وأقول بعد قليل. وأقول فيما بعد. ولا أقف على أي قرار. وربما كانت تجتر نفس الترددات. مدفوعة بنفس الحمى. وهكذا عبرنا ممرات الكلية واخترقنا دهاليزها. وصعدنا كل السلالم. دون العثور على هذا الهنا. أو هذا الآن. عبرنا الشوارع. الشوارع فارغة في هذا الوقت. وولجنا المقاهي. وهي فارغة في هذا الوقت. يدي في يدها. تجمعنا نفس الفوضى. دون العثور على مكان يليق بقبلة أولى. استقللنا الحافلة ونزلنا إلى حديقة الجامعة العربية. ربما أن الحديقة هي المكان الملائم. جلسنا على الكرسي الخشبي الأخضر. لمدة طويلة. لساعات. مكتفيًا بأن أضع يدي حول ذراعيها وأسحبها في الحين وأنا ألتفت من حولي. وهي مكتفية بأن تلعب بأصابعها، تعدّ الوقت بطريقتها. ثم ذرعنا ممرات الحديقة الفارغة. وجلسنا على كرسي آخر، في مكان متوار، محاط بأشجار الصفصاف، وأنا أقول ماذا ينقصنا حتى يكون المكان مناسبًا. وذرعنا ممرات أخرى فارغة بدورها. فارغة تمامًا. وأنا أقول ماذا ينقصنا حتى يكون المكان مناسبًا. يدها حامية كيدي. وربما إن نفس الحرارة التي صعدت إلى شفتي تلهب شفتيها بنفس المقدار. ماذا ينقص إذن؟ عبرنا النهار على هذا المنوال، دون العثور على الشيء الذي ينقص. وبقيت القبلة محبوسة في خيالنا، معلقة على شفاهنا.
مر قطار وحمل نصيبه من المسافرين. وبقيت المرأة صاحبة المعطف السماوي واقفة في مكانها، على حافة الرصيف الآخر، الذي لم يتوقف أمامه أي قطار. وكانت هذه المرة تحدق في اتجاهي. الآن، وعيناي تقعان على عينيها السماويين، لم يخامرني شك في أنها قد تكون هي. وأنها تعرفت علي. بدون أدنى شك. متردد بين النزول إلى الرصيف أو انتظار صعودها إلى الممر. مفضلًا الحل الأخير حتى لا تختفي بينما أبحث عن الدرج المؤدي إلى الرصيف والذي يقع في الجهة الأخرى من المحطة. لا أعرف اسمها. كما لم أعرف اسمها في السابق. هل تقيم في هذه المدينة أم أنها غيرتها إلى مدينة أخرى. وأنها عابرة مثلي. وقد يكون يومها الأخير. كيومي هذا. ولن يتسنى لي أن أراها بعد الآن في حالة ما إذا ضيعتها. دون أن أتساءل أن الأمر ليست له أية أهمية. قبل أن ألتفت إلى المسافرين الذين يمرون خلف الواجهة الزجاجية. وأتذكر أنني جئت في اليوم الخطأ. وأننا في السبت وليس في الأحد يوم سفري. وأن أمرًا ذا أهمية جاء بي إلى محطة القطار. ابن آدم لا يأتي إلى المحطة للتفرج على القطارات وهي تدخل أو تغادر. لماذا جئت إذن في يوم غير اليوم الذي علي أن أسافر فيه؟
4.
رجل خلف ظهري يصيح نحن شعب يهوى التلصص. قريب مني ويصيح (بسبب الموسيقى الشعبية الصاخبة جدًا) كأنما ينفخ في ضلوعي. لم يعد في الحانة كرسي فارغ. أحاول أو أتصور وجه الرجل المصوّت، وشكله وهو يصيح خلف ظهري. دون أن أتوقف عن مراقبة صاحب الشعر الأبيض الذي دفع كرسيه جهة الممر. يرفع ياقة معطفه أكثر، مغلفًا نصف وجهه، كأنما ليختفي. أو كأنما هذه عادته. لفظته المائدة التي كان يحتلها لوحده عندما دخلتُ. تخلّى دون كلمة، دون تأفف، دون احتجاج أو تذمّر، عن مائدته للزبائن الذين لفظتهم الحانات الأخرى. مشغول بأمر آخر. حتى لأقول إنه لا ينتبه إلى نفسه وهو ينتقل من كرسي إلى كرسي. أو يجر كرسيه ليخلي المكان لكرسي آخر. أو ينتقل إلى الممر. عينه دائمًا على الباب. حتى اللحظة التي تحرك فيها جسده بشكل مخالف تمامًا. القدمان كشطتا الأرض. واليدان شدّتا على السروال بقوة. والعنق امتد خارج الشرنقة التي حبسته طوال هذه المدة. كشف وجهه وانتفض كأنما يطرد الثلج الذي يغلف كتفيه. كواحد لا يوجد في حانة وإنما في خلاء، تحت المطر والثلج والرياح. برقت عيناه وهو يحدق في المرأة التي وقفت عند الباب. ذلك أن امرأة عالية القوام دخلت في هذه الأثناء. حاجبة كل ما كان يظهر في الخارج. وقفت بعد الخطوة الأولى من الباب. ترتدي فستانًا ذا لون أخضر فيروزي. لا تنقص العتمة من بهاء وجهها الوضّاح. ابتسامتها واسعة جراء شفتيها القرمزيتين، المكتنزتين. وهي توزعها حولها في سخاء. ثم تقدمت عبر ممر الدخان ووقفت أمام الرجل وانحنت عليه وقبلته. قبلته طويلًا. بنفس الابتسامة السخية. وانتقلت إلى مكان مهيأ لها لم ألاحظه من قبل. ثم وقف الرجل. ورفع ياقة معطفه الثقيل، كأنما ليختفي بعد أن أدى مهمته. وعبر الممر، وغادر الحانة. وفكرتُ أنها ليست المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هذه الحانة لينتظرها. ربما منذ عشرين عامًا. أو ثلاثين عامًا. وهو يرتاد نفس الحانة، ويجلس وحيدًا في البداية قبل أن يطرده الزبائن من مائدته ليحتل الممر، منتظرًا. منتظرًا شيئًا لا يعرف ما هو. مكافأة لا يعرف ما هو شكلها. أو منتظرًا القبلة التي لم يجد المكان المناسب ليقطفها. عندما كان شابًا يافعًا. كما حدث لي مع الفتاة التي لقيت أمام باب مكتبة الكلية. والتي قد تكون تلك التي رأيت هذا الصباح في محطة القطار…
5.
وأنا في أعلى الممر. وأرى كما لو أنها تشير إلي. ملوحة بيدها وتقول لي أن أنتظرها. وعلي ألا أتحرك من مكاني لأنها قادمة. وألتفت من حولي. وأخبط بحذائي الأرض في نفاد صبر. بينما تختفي المرأة تحت الممر. متصورًا أنها ستستقل المصعد الكهربائي وتلتحق بي. وأعد الوقت الذي ستظل مختفية فيه، ريثما تظهر في الجهة الأخرى، خلف الواجهة الزجاجية العريضة، بلون معطفها السماوي، المختلف عن كل الألوان المحيطة بنا. هناك أشخاص آخرون يملأون الممر ولم أنتبه إليهم حتى اللحظة التي صرت فيها أدقق في الوجوه. منتظرًا أن ينبثق وجهها من بينهم. كنا في الواحدة ظهرًا، موعد انطلاق القطار الذي سيحملني غدًا. والذي ينطلق بدوني الآن. لأنني جئت في اليوم الخطأ. ذلك أن المرأة لم تظهر لا في الواحدة ولا بعد الواحدة. حتى اللحظة التي انتبهت إلى أن الممر فارغ. وبقيت مع ذلك أنتظر. وفي لحظة ما بدأت أتصور أن هناك شخصًا يراني في الممر ويستعد لينبهني أنني لست مسافرًا مثلهم. وأنني وقفت في الممر أكثر مما ينبغي. وقد يقف بجانبي، وقد اطلع على السر الذي جعل وقفتي تطول، ويسألني وماذا لو طلبت منك، هذه المرأة التي لا تعرف، صاحبة المعطف السماوي، التي لم تكن تنظر إليك، ولم تكن تنتظرك، ماذا لو طلبت منك أن ترافقها، ترافقها الآن؟ وهناك، في مدينة أخرى، امرأة وثلاثة أطفال ينتظرونك؟ التفتُّ كأنما لو أن هناك فعلًا رجلًا يقف بجانبي ويهددني بسؤاله. ماذا كنت سأفعل؟ لا يوجد جواب. سيكون دائمًا الجواب الخطأ. بقيت لمدة أحدق في المدينة. وتبدو كأنما ابتعدت. وأنها ستظل تبتعد حتى يلتهمها الضباب.
6.
عاد الرجل المصوّت إلى الصياح. وربما لم ينقطع عن الصياح. وأن الرجل صاحب الشعر الأبيض والثياب الرثة شغلني لدرجة أنني نسيته. وكان لا يزال خائضا في موضوع التلصص العزيز عليه. قال إنه يتجول في الشارع ويدخل المقاهي ليتأكد من نظريته. ومرة أخرى ما أن وقف في الظهيرة على عتبة المقهى حتى بادره شخص لا يعرفه لماذا يعرج. وكان سيرد عليه إنه يعرج لأن حجره يؤلمه. ثم مستدركًا بصوت مدوٍّ، وهو منتصب فوق المستمعين إليه: عندما يضع قدمه خارج بيته فإنه يكون دائمًا متأكدًا من أن شخصًا سيسأله لماذا يعرج. لأن التلصص يسكن خلايانا. في الشارع سيجد دائمًا هذا الرجل الذي ينبهه إلى أن سلسلة سرواله مفتوحة. والذي سينتبه إلى نقطة صفراء دقيقة أسفل سرواله التي من المفروض ألا ينتبه إليها أحد. أو ألا يهتم بها في حالة ما إذا خطفت عينه. ولكنه لن يستطيع أن يصبر. شيء ما يأكل عقله ويخدش عينه ويفترس لسانه. والنتيجة أننا شعب يهوى التلصص. مالئًا فضاء الحانة بدوي صياحه. وهو قريب مني، كأنما ينفخ في ضلوعي. مرت من أمامي المرأة الأخرى. لم أرَ غير العظاية التي تتحرك في الممر وتختفي بدورها في الدخان الكثيف الذي يغلف الحانة الآن، في هذا الوقت المتأخر من الليل. المتأخر جدًا. ولا أرى صاحب الحانة الذي يحرك ناقوسًا صغيرًا معلنًا عن نهاية الليلة. في جميع الحالات لن يبقى من كل هذا غير رجل قضى يومه يتلصص على امرأة في محطة القطار. وقضى ليلته على نفس الطريقة. لن يبقى من كل الماضي غير قبلة لم تجد الوقت لتتحقق. حتى يكون هناك هذا الشيء الأخير الذي يندم عليه ابن آدم. ولهذا السبب فقط يستحق كل الأيام التي جرجر وراءه طيلة عشرين عامًا وزيادة. وحتى هذا غير كاف. هذا الرجل المكسو بثلج غير موجود، ربما لن يكون سعيدًا بعد الآن. لأنه لم يعد هناك ما ينتظر. وأن حالة الانتظار هي الحالة الملائمة لهذا الجنس الغريب من المخلوقات.