كان بإمكان عطيات عوض محمود خليل الشهيرة بعطيات الأبنودي (1939 – 2018) أن تختار الطرق المعبدة، الأكثر شهرة وثراء، والأقل تكلفة، وكان الطريق أمامها مفتوحا لتدخل عالم السينما من باب الفيلم الروائي التخييلي بمغرياته؛ لكنها آثرت – كعادتها في كل محطات حياتها- طريقا متعرجا، وعر المسالك بلا عائد تقريبا؛ متسقة مع ذاتها، مؤمنة بالسينما التسجيلية، ودورها في بناء الوعي، وتدوين حياة الإنسان البسيط، رغم ما يعانيه الفيلم التسجيلي الهادف من تهميش جماهيري وتضييق الإعلامي، ونظرة الريبة من السلطات، ما دام يشتبك مع الواقع ويخاتل الحقيقية.
ليس من باب المبالغة أن ننسب لعطيات الأبنودي ريادة الفيلم التسجيلي الاجتماعي، وكان فيلمها التسجيلي الأول(حصان الطين1972) بداية عهد جديد للسينما التسجيلية الاجتماعية في مصر، حيث وضعت الإنسان العادي والكادح والمهمش في بؤرة الضوء، تسلط عليها الكاميرا، لا لتفضحه في ضعفه وفقره، لكن تدافع عنه وتقول لآخر لا يراه، انظر في مجتمعنا ثمة من يستحق أن نراه ونرفع من شأنه وننتشله من فقره، لقد أصرت أن تكون صاحبة رسالة في كل ما قدمته، دون أن تقدم تنازلات قد يتطلبها إخراج الفيلم الروائي، أبسطها إرضاء الذوق السائد وعدم مجابهة السلطة، وغسل يديها من الواقع الحقيقي للناس، ولم تكن عطيات يوما بحاجة أن تغسل الحيوانات في القرى أو وجوه الفلاحين قبل التصوير؛ لكي يظهر ريف مصر طاهرًا نقيا كيوم ولدته أمه، مثلما فعل المخرج محمد كريم في فيلم زينب(1952)، إنما كانت تترك الكاميرا ترصد وتقرأ وتسجل وتلتقط من الحارات والدروب والقرى الوجوه المغمسة بالكد والشقاء، وضحايا الإقصاء المتعمد؛ لتحرر أصواتهم، وتعرض حياتهم بكل تفاصيلها، فتوافر لدينا مجموعة من الأفلام التسجيلية المهشة في فنيته وتوثيقها لذاكرة الوطن، وحرفه وطقوس أفراحه وأحزانه، ويكفي أن نذكر فيلمها التسجيلي عن أمل دنقل (حديث الغرفة8) (1990) باعتباره أهم وثيقة سينمائية توافرت عن واحد من أهم شعراء العربية.
لم تكن عطيات إلا مثالا ناصعا لمثابرة الأنثى العربية، وقدرتها على السبق والمجاوزة، والإصرار على النجاح مهما كانت كلفته، بدءا من تعليمها دون باقي أخواتها، وتقلبها بين وظائف عدة: في السكك الحديدية ومسرح العرائس بالقاهرة ثم المسرح القومي، مرورا بتحولها إلى السينما بعد دراستها للحقوق، وحصولها على زمالة مدرسة السينما والتلفزيون الدولية من بريطانيا في عام 1976، ثم انطلاقتها في مجال السينما التسجيلية عبر رحلة امتدت أكثر من أربعين عاما. نالت أفلامها العديد من الجوائز والتكريمات، وباتت واحدة من أبرز الأسماء في صناعة الأفلام التسجيلية في مصر، ولولعها بالسينما التسجيلية قامت بتأسيس شركة (أبنود فيلم)، واهتمت في كافة أفلامها برصد الحياة الاجتماعية اليومية للشرائح من منطلق رؤيتها للفيلم التسجيلي بوصفه نوعا من التدوين وفقا لمعطيات العصر وأدواته وفنونه، وقد أشارت- في شهادة منشورة- أنها تستطيع من خلال الصوت والصورة، أن تكتب كتابا جديدا بعنوان وصف مصر، عن طريق الكاميرا لا النقوش، وكان يسكنها هاجس أن تدوين الحياة المصرية انقطع بعد أفول الدولة المصرية الفرعونية وتوارى الشعب وتفاصيل حياته»1 ، لقد عاشت مسكونة بهاجس الإبداع، برزت وتفردت في إخراج الفيلم التسجيلي، كما اشتغلت بالتأليف وظهرت موهبتها في السرد الذاتي من خلال سيرتها مع زوجها عبد الرحمن الأبنودي إبان سجنه في الستينيات،(أيام ليست معه)، وقد سلطت من خلاله الضوء على حياة أسر السجناء لتقدم نصا موازيا لما يعرف بأدب السجون، إذ إن السجن ينتقل في هذا النمط إلى الأسرة التي فقدت عائلها، وما تعانيه من مشاق وعبء تحمل المسؤولية بمفردها، كما كتبت (أيام الديمقراطية) الذي يمثل نصا كتابيا لفيلم سابق يحمل الاسم ذاته عن تجربة المرأة المصرية مع الانتخابات، إذ وجدت أن الفيلم ليس كافيا، فلجأت إلى الكلمة، فجاء الكتاب نصا موازيا وإضافة نوعية وفنية للفيلم، ولها أيضا السينما الثالثة وأيام السفر، وإن ظلت الكاميرا هي عشقها الأول والانتماء للفقراء والمقهورين هو الهم الممض الذي رأت أن واجبها هو كشف الحقائق المطموسة خلف قشرة زائفة من الدعاية الموجة والإعلام الرسمي المسيطر على مصر الستينيات وما بعدها، ورغم أهمية عملية التوثيق والتدوين التي تبنتها، نلحظ أنها تعي تماما أن الكاميرا لا تعرف الحياد، وأن مفاهيم من قبل الموضوعية والواقع والحقيقة موضع شك في كل أشكال التمثيل المكتوبة والمرئية، وكل كاميرا تنظر من زاوية ما، إلى ما يُرَادُ لنا أن ننظر إليه وتهمش ما تريد هي تهميشه، وبمعنى آخر تؤثث لنا عالما جديدا من التفاصيل الصغيرة لا يماثل الواقع وإنما يتمثله، ويظل الأمر كله رهنا بالمتلقي ورؤيته، لذا كانت رؤية عطيات وتوجهاتها الاجتماعية اليسارية، وانحيازها للطبقات المهمشة أبرز ما يمكن أن تقرأه في معظم أفلامها، وكانت مثالا للمثقف المهموم بقضايا المجتمع الحقيقة. ربما ظن ظانّ أن مساحة الإبداع في الفيلم التسجيلي قليلة مقارنة بنظيره التخييلي؛ بيد أن الأمر خلاف ذلك خاصة فيما يتعلق بدور المخرج، واختياراته والعناصر المضافة التي لا ينازعه فيها أحد، فليس ثمة قصة معدة مسبقا أو أبطال مشهورون لهم من الأهمية والدور ما لايقل عن دوره، فالمخرج في الأفلام التسجيلية هو البطل الحقيقي في كل مراحل إنتاجه، وليس ثمة حبكة جاهزة إلا في ذهنه هو، والأبطال لا يجنحون إلى التمثيل بمعناه العادي، إنما يتم توجيههم في أضيق الحدود، لذا يمكن القول إن الفيلم التسجيلي مناسب تماما لشخصية الأبنودي المستقلة في كل اختياراتها الفنية وغير الفنية.
كلا الجانبين الجمالي والتوثيقي في الفيلم التسجيلي برؤية المخرج الذي ينتقي موضوعاته وفقا لتوجهاته الفنية والاجتماعية والسياسية، حيث تتعدد وظائفه وأشكاله، ما بين التعليمي والوثائقي والدعائي والنقدي، ويمتلك مخرج الفيلم التسجيلي كثيرا من الخيارات بشأن كل عنصر من عناصره، ومن خلال جملة تلك الخيارات يتشكل المعنى المقصود وتتأسس جماليته، وفي أفلام الأبنودي المبكرة نجد أن كاميراها تحريضية بالدرجة الأولى، منحازة دون مواربة لطبقات الكادحة، تركز على وجوه الأطفال والعمال في لحظات كدهم وراحتهم، والتفافهم حول الموائد الفقيرة، هم البؤرة التتي تتحلق حولها العناصر الفنية الأخرى، يعلو صوتهم بالأغاني الشعبية في الموالد والأفراح وفي الجنازات بما يتناسب مع ما تريد تأكيده من معان متأصلة للحياة المصرية، وتخليق رؤية متكاملة من خلال عمليات القطع والمونتاج والصوت، فوسط صدى الهمهمات وتقاطع الأصوات التي تحتل المشهد يبرز أحيانا صوت الراوي أو الشاعر ليوجه الفيلم توجيها فنيا ودلاليا، على خلاف أصوات الشخصيات الواقعية التي تكتسب دلالتها من السياق الكلي للفيلم الذي يصنع حكايته الخاصة، فهي على دراية أن الفيلم التسجيلي ليس مجرد مادة خام للواقع، وإنما ثمة مسافة قائمة على الدوام بينه وبين وسائل تمثله، فرغم أن الأبنودي أشارت إلى الطابع التوثيقي لأفلامها لوصل ما انقطع تدوينه من حياة المصري، رغم ذلك نجد البعد الفني والجمالي حاضرا لا تقايض به شيئا، لكنه بعدٌ شديد التميز والدقة يحقق للفيلم التسجلي خصوصيته الفنية والنوعية المميزة، لا نستطيع قياسه بمقاييس السينما الروائية، فليس الفيلم التسجيلي نسخة مصورة من الواقع وإلا استطاع كل فرد في عصر انفجار الصورة أن يصبح مخرجا، كما أن في ذلك تجاهلا للتشكيل الخلاق وأثره على العناصر الأخرى المشاركة في بناء الفيلم، كالمونتاج والصوت وعناصر أخرى تثير الجدال حولها، مثل إعادة تمثيل الأحداث أو التلاعب بالأحداث التي تدور أمام الكاميرا وتجعله يصنع بناءه السردي والبلاغي ؛ ولعل ذلك ما حدا ببعض السينمائيين إلى تبني أطروحة(كل الأفلام روائية)؛ لأن الاختيار والمونتاج هما عملية إضافة عنصر روائي أو خيالي للمادة الفوتوغرافية التي تبدو في ظاهرها وثائق» 2.
لقد جاءت أفلام الأبنودي خالية من التجميل والرتوش الفنية والحبكة المصطنعة، بطلاها الوحيدان: الكاميرا والناس، والإضافات الفنية والصوتية في أضيق الحدود، والواقع فيها يحكي قصته ويرسم ذاته بذاته، والكاميرا تقف هناك لترصد وتقطع وتصل وتتسع وتضيق وفق رؤية مخرجة حرة، الأمر كله رهن برؤيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها الفني، هي لا تتخلى عن التسجيل بتقريريته ودوره ولا تتخلى عن الفن بجماله ودهشته، تنحي جانبا في كثير من الأحيان الموسيقى التصويرية وأصوات الرواة الخارجيين، مؤثرة ما يرويه الناس عن أنفسهم، وتترك لأغانيهم وهمهماتهم وعاداتهم في الأكل والعمل والبيع والشراء أن تتصدر المشهد، وتحتل بؤرته دون فرض إطار تخييلي مسبق، تضع على كاهلها كلا من اختيار الموضوع، والمكان، ومزج الصوت، والمونتاج إلى غير ذلك من المعالجات الضرورية التي تجعل الفيلم التسجيلي ذا رسالة ومغزى للمتلقي البصير.
لم تراهن عطيات على شيء رهانها على الكاميرا وطاقتها الإبداعية وقدرتها على التقاط اللحظة، مدركة أن مهمة إيقاظ الوعي وتفكيك الخطابات السائدة أمر ليس بالهين، وأن فهم عالمنا المحيط واستيعاب دورنا فيه ضرورة حياة، فالأمر يتخطى عملية التدوين والتوثيق التي أشارت إليها عطيات في شهادتها، التي ربما جعلتها في الواجهة لمراوغة السلطة وقيودها، إذ من الصعب اختزال الفيلم التسجيلي في وظيفة توثيقية، وحين تدمج الأفلام التسجيلية عنصر الفوتوغرافيا من أجل قيمتها باعتبارها دليلا وبرهانا؛ فإن ذلك يكون في العادة دعما لحجة أو ادعاء ما لا يأتي من مجرد الصور والأصوات، لكن أيضا من خلال تنظيمها بقصد معين. إن المشروع الكلي لفيلم تسجيلي هو التأكيد على تمثيل ( أو تجسيد) صادق وحقيقي»3، ففي فيلمها حصان الطين يظهر الحصان بمظهر البطل المتمرد على القهر الممارس عليه ومشهد هروبه في نهاية الفيلم يؤكد على هذا المعنى، حتى إنه أصبح صوت من لا صوت لهم، وتحول الفيلم إلى رسالة تحريضية ضد التعسف والجور، ومن هنا كان التقاط هذه اللحظة الفاصلة ضرورة فنية لتأكيد الدلالة التي تقصدها المخرجة وتبرز الجانب الجمالي للفيلم، بل نزعم أن الفارق الأساسي هو انتقال البطولة من الممثلين في الفيلم الروائي التخييلي إلى المخرج في الفيلم التسجيلي، وأقل تغيير في زاوية الكاميرا أو الإضاءة واختيار اللقطات التي يتضمنها الفيلم والحذف والمؤثرات الأخرى وكل التقنيات التسجيلية المستخدمة؛ تحمل معها وجهة نظره وهنا يبرز الفارق بين القصدي والتلقائي، وتنتقل الفنيات جملة إلى طرف مغاير للمثل وإبداعه والنص وقوته.
لم يتوان القاصي والداني عن الإشادة بتجربة عطيات الأبنودي بعد وفاتها، علما بأن كثيرا من أفلامها حيل بينها وبين المشاركة في المهرجانات الدولية بتهمة الإساءة إلى سمعة الوطن، وهو ما ظل يؤرقها طوال عمرها، وهو -أيضا- يعكس طبيعة النظرة للفيلم التسجيلي والغض من أهميته أو توجيهه لأغراض دعائية، وترويجية محضة وتهميشه لأبطاله، لقد كانت صور الكادحين والبسطاء من الفلاحين والصيادين وذوي العيون الغائرة والأيادي الخشنة والسحن المعفرة بالتراب والطين ومناظر الشوارع غارقة في قمامتها والوجوه في شقائها وكدها مما يؤرق السلطة؛ لذا كان نصيبها من الهجوم فادحا ومحفزا في نفس الوقت، فهي لم تعين في معهد السينما بعد عودتها من أوروبا، ولم يدرس فيلمها الأول الذي نالت عنه 33 جائزة دولية وعربية، ونالت من الهجوم ما وصل إلى حد الدعوة بإسقاط الجنسية؛ ولم يفت ذلك في عضدها وحيويتها، بل كان محفزا لها أن تعيش لترى وأن تتجول لتكشف ما شاءت دون قيود أو تبعية، فكان وعيها الإبداعي الحاد طريقا للتميز، وأفادت كثيرا من تتلمذها على يد الكندي (بول وارين) الذي علمها أن الفيلم التسجيلي كتابة بالصوت والصورة، فتعلمت منه السينما التسجيلية المباشرة والتقشف في الوسائط الأخرى بقدر الإمكان، وأن تهتم في المقام الأول بالصورة، ولا تلجأ إلى التعليق المباشر إلا في أضيق الحدود، وأن تعتمد على تسجيل المفردات والتفاصيل الخاصة بالإنسان من خلال السينما المباشرة، والتوازن بين التوثيقي والفني، ورغم هذا ظلت الأسئلة العالقة عن طريقة نقلها للواقع وعلاقتها بأبطالها، والمذكور والمسكوت عنه فيما ترصده وتوثقه، وما الحقائق التي تقال؟ ولم هي دون غيرها ولمن؟ محور اهتمام كثيرين ممن هاجموا هذا النمط من الأفلام، ولكن الفن كعادته إشكاليا يثير من التساؤلات أكثر من تقديمه أجوبة معلبة.
وفي فيلمها التالي (أغنية توحة الحزينة1972) طافت حارات القاهرة وموالدها وتجولت بين فرق الألعاب البسيطة لاعبيها من الأطفال، وما يكابدونه من أجل توفير المتعة لمن هم في مثل سنهم، وما يقومون به من ألعاب بهلوانية شاقة، وكعادتها أفلحت في التقاط أكثر اللحظات تعبيرا ودلالة، وأضافت صوتا غنائيا مؤطرا من شعر للأبنودي الزوج ليلخص رؤية الأبنودي الزوجة للحياة التي لا تعرف العدل أو الإنصاف بقوله:
الدنيا كورة وفيها الكل يتفرج
وفيها ناس بتشقى وناس على ناس بتتفرج.
وفي فيلم إيقاع الحياة(1988) أرادت من الكاميرا أن تمسك بتلابيب عادات مصرية من نسيج الحياة في صعيد مصر قبل اندثارها، فطافت بها في 14 قرية من قرى صعيد مصر وتابعت أسواقها وأفراحها وأحزانها وتربية الحمام وختان الأطفال المسلمين وتعميد الأطفال المسيحيين في الكنائس وطقوس العديد والجنازات، وتتابعت أعمالها التي لا تخلو من رؤية ومغزى اجتماعي، يعبر عن دور الفيلم ووظيفته الحقيقية في كشف الواقع دون تزييف، ومن أهم تجاربها في هذا المضمار أيضا، بحار العطش» 1980، «الأحلام الممكنة» 1983, كما أولت عنايتها بالمرأة وقضاياها، بقصد خلخلة الأفكار الذكورية البالية وتوجهات العنف والتمييز ضدها وهو ما عاينته عطيات نفسها في حياتها، لذا كرست كثيرا من أفلامه التسجيلية للحكي عن المرأة وقضاياها المصيرية مثل أحلام البنات وصنع في مصر وراوية…إلخ فرصدت قضاياها في عدد كبير من أفلامها مثل: قضية الديموقراطية في فيلمها،» أيام الديمقراطية « 1999، والتهجير في (أحلام ممكنة1983) وفيلم (راوية1995) الذي جاء لحنا في المقاومة والإصرار وتأكيدا لكينوننة المرأة ووجودها، من خلال فتاة من الفيوم أتقنت صناعة الفخار، وذاعت شهرتها داخل وخارج مصر، بما تقدمه من أعمال فنية رصدها الفيلم بدقة، ولم تنس أن يسلط الضوء على القهر الذي تعرضت له، وكاد أن يودي بها، لولا يد مُدت فانتشلتها وأعادت تأهيلها.
لقد كانت أفلام عطيات التسجيلية نقطة تحول في السينما التسجيلية من الدعائي إلى التحليلي ومن الرسمي إلى الشعبي، ومن الإشادة إلى النقد ومن التماس مع السلطة إلى مجابهتها، ومن التغني بالتاريخ إلى فضح الواقع، من خلال تسليط الضوء على أوجه القصور المجتمعية والسير بين أوساط المهمشين، وسبر أغوار التخلف والوهن المجتمعي، وكان فيلم حصان الطين1972، حدثا مفصليا في مسيرتها الفنية، وفي تاريخ السينما التسجيلية، دعك من الحفاوة التي نالها والجوائز التي حصل عليها، حيث تتجاوز أهميته ذلك، بما أحدثه من تحول في تسليط كادر الكاميرا على الإنسان البسيط وواقعه المرير، وتناقضات الواقع من خلال صناعة الطوب، وما يبذله العمال من جهد مضن مقابل قروش قليلة، حتى الحصان الذي يعمل معهم ويشاركهم هذا العناء يحاول أن يفرَّ بحثا عن مخرج من هذا الشقاء، ومن حصان الطين انطلقت إلى إخراج عدد الأفلام التسجيلية باعتبارها كأداة تعبير وتدوين وتحليل لواقع المجتمع المصري، ورصدا سنيمائيا لتاريخه الحقيقي، تاريخ الإنسان العادي، وإنقاذا للحظات حية في تاريخه من العدم.
الهوامش
1 – عطيات الأبنودي، السينما التسجيلية وإيقاع الحياة، مجلة الفنون الشعبية، ع64، 65، 2003 الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص199
2 – بيزلي ليفينجستون، كارل بلاتينيا، دليل روتليدج للسينما والفلسفة، ترجمة أحمد يوسف، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 مصر 2013، ص786
3 – بيزلي ليفينجستون، السابق، ص787
محمود فرغلي *