صدر حديثا عن الهيئة العامّة لقصور الثقافة المصريّة مختارات على جعفر العلاّق الشعريّة : عشبة الوهم. وهذه المختارات تحتوي على قصائد مقتطفة من مجموعات الشاعر العشر وهي : لا شيء يحدث, لا أحد يجيء (1973)،وطن لطيور الماء 1975، شجر العائلة 1979،فاكهة الماضي 1987,إكستر 1986, أيّام آدم 1993،سيّد الوحشتين 2006,هكذا قلت للريح 2008, ذاهب لا صطياد الندى 2011 ونداء البدايات 2013 .
إنّ مدوّنة العلاق مازالت تحتمل استقبال قراءات جديدة أي تحتمل استقبال أسئلة جديدة. والواقع أنّ قصائد العلاق لا تنطوي على معان جاهزة، قابعة في أعماقها، مستقلّة عن القارئ وإنّما معانيها هي حصيلة تفاعل بين القارئ والمقروء.فالشاعر, اذا استعرنا عبارات نقادنا القدامى, « قد أبعد في معانيه فأبعد شرّاحه في تأويلاتهم وتخريجاتهم» ممّا جعل معاني قصائده حصيلة استنطاق وإصغاء : استنطاق محتملات القصيدة وإصغاء لوعودها التأويليّة.
هذه القصائد ينتظمها،على اختلاف مناخاتها, وتباين مضامينها, سؤال جامع هو سؤال الكتابة, الكتابة بوصفها الدرع الباقية التي يحملها الشاعر في وجه الموت والقبح والبؤس وسوء الطويّة..والكتابه بوصفها استدراكا على الواقع وترتيبا لأشيائه من جديد.. كلّ قصائد العلاق تهجس بهذا المعنى وتلوّح له بطرائق شتى..فالكتابة, في هذه المجموعة, خلخلة للموجود من أجل الظفر بوجود أبهى وأزكى وأنقى .
غيمتان على كتفيه
وليل يقود يديه إلى مكمن الضوء
حيث حرير البداية
العروج إلى «مكمن الضوء»، حيث «حرير البداية» تلك هي وظيفة الشعر, في مدونة على جعفر العلاق الشعرية . ودالّ الضوء من الدوالّ التي تتردّ د في قصائد العلاّق تردّدا لافتا ساحبة وراءها تاريخا باذخا تمتزج فيه العناصر الصوفية بالعناصرالفلسفيّة بالعناصرالدينيّة..
إنّ الشعر، عند العلاق, هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمّل ذاته باستمرار .فقصيدة هذا الشاعر, مثل الكثير من القصائد الحديثة, أصبحت, في الكثير من الأحيان, تخبر عن نفسها فيما تخبر عن العالم, وتحيل على لغتها فيما تحيل على الخارج ..فالشعر الحديث أصبح موضوعا وتأملا في الموضوع وكلاما وارتدادا للكلام على نفسه .
وارثا ضوء أسلافه لا سلاسلهم
يتأمل حشد الفراشات
قافية ها هنا
وهنالك رعد حميم يدب
الى الروح
هذا الشاعر الذي ورث الضوء عن أسلافه, لا سلاسلهم وأغلالهم ما فتئ يحتفي بالشعر بوصفه بحثا مستمرا عن لغة جديدة, عن مجاز مبتكر, بل أنّ مسيرة الشاعر ليست في الواقع إلاّ مغامرة لغوية يسلمه خلالها المجاز إلى مجاز, على حدّ عبارة الشاعر.
وأميرة المجاز التي ورثها الشاعر واحتفى بها في كل مجموعاته الشعرية هي الاستعارة ..
يلاحظ مصطفى ناصف إنّ أهمّ خاصية نوعية للشاعر,، تتمثّل في إدراك الخصائص الفراسية للأشياء وتبلغ هذه الخاصية ذروتها في الاستعارة التي تعدو أو تطمس حدود الواقع العملي . فالطفل والبدائي والشاعر يعملون جميعا من خلال خيال انفعالي توحد ناره البيضاء بين أشياء منفصلة…الخيال الاستعاري عدوّ إدراك الحقيقة أجزاء متمايزة, إنّه يريد بلوغها في جملتها …الشاعر,بهذا المعنى, لا يعدو على الواقع وإنّما يستبصره استبصارا كلّيا.
ومن أخصّ خصائص نصّ العلاق انبناؤه على الاستعارة لكنّ الاستعارة في مدوّنة هذا الشاعر لا تنحصر في بعض السطور الشعريّة وإنّما تتسع لتشمل النصّ, كامل النصّ ..فالقصيدة, لدى العلاق, عبارة عن استعارة موسّعة, مجاز كبير يستغرق كلّ عناصر القصيدة وسطورها ..
قال : أزرعها في مكان يليق بها ..
عزلة مترفعة
مثلا بين حلمين
أو شرفتين
…قرون مضت
وأنا أرقب السومري يفتش عن بقعة
الف جيل مضى
ألف جيل سيمضي
ممالك أودى بها الليل ..
ثمّ اختفت محض أسئلة
من دخان
ما إن نقرأ هذا النصّ حتّى تتداعى في أذهاننا صورة جلجامش الباحث عن عشبة الخلود, كما تتراءى صور رحلاته وهو يقطع الصحارى والمفازات, كما تتراءى صور انكساراته و هزائمه …العشبة تبدّت «عشبة وهم «..وعبارة الوهم من العبارات المكتنزة التي تنطوي على حشد من الدلالات المتناقضة المتباعدة..
إنّ القصيدة,كلّ القصيدة, تحوّلت إلى صورة واحدة وهذه الصورة تتكوّن من مجموعة من الصور الصغرى( أو فلذات تعبيرية) تغذو الصورة الكبرى وتمدّها بأسباب التوهّج والحضور. لاشك في انّ الصّور غير متّصلة من الناحية المنطقيّة,ولكن بينها صلات وعلائق من الوجهة الشعريّة..وهذه الصلات لا يمكن أن يكتشفها غير الشاعر وريث زيوس الذي ابتلع قلب العلم وأعاد تكوينه جسما حيّا كما تقول الأساطير اليونانيّة .وهو بذلك يصل وشيجة قويّة مع تيار شعريّ عربيّ اختار اللغة اللازمة بدل اللغة المتعدّية ..اللغة المتعدّية هي التي تراهن على الخارج النصّي تستمدّ منه شعريّتها, أمّا اللغة اللازمة فهي التي تراهن على نفسها, أي على صورها ورموزها وأقنعتها لتؤسّس شعريّتها…وهذا التيّار الذي بدأ مع مجلّة شعر قد شهد تحوّلات كثيرة جعلته متعدّدا على وحدته, متنوّعا على تجانسه.. والعلاق وإن انخرط في هذا التيّار, واسترفد أهمّ مقوّماته فأنّه حافظ على صوته وتميّز تجربته .
لقد تفطّن الشاعر إلى أنّ القارئ لا يهتمّ في النّصوص إلاّ بما ينحرف عن عاداته اللغويّة ويخرج عنها. فكلّ ما هو خارج عن المألوف يستوقف المتقبّل ويلفت انتباهه, لهذا عمل الشاعر على تأسيس خطاب استعاريّ يستشرف آفاقا فنّية وجماليّة جديدة. فإذا كان الشعر لدى الكثير من الشعراء عملا من أعمال الذاكرة فإنّ الشعر لدى العلاق بات تأسيسا لذاكرة شعريّة جديدة .
لا يمكن بأية حال , أن «نشرح» هذه القصيدة بتحويلها إلى نصّ نثري ..هذا التحويل يسفح ماء القصيدة يحوّل لألاء نارها إلى رماد . فالشعر, إذا أخذنا بعبارات يونج, وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبيرعنه بغيره, فهو أفضل طريقة ممكنة للتعبير عن مواقف وحالات وتجارب لا يوجد لها أيّ معادل لفظيّ لهذا يمكن القول إنّ هذه القصيدة هي قصيدة الاحتمالات والظلال والأخيلة والمجازات يأخذ بعضها برقاب بعض ..الشعر هنا يتنكّب عن الوظيفة الإخباريّة وينهض بوظيفة كتابة الخفيّ والبعيد والمجهول, كلّ غايته تجديد الرؤية إلى الوجود من خلال تجديد الرؤية الى اللغة .وفي هذا السياق يصبح المجاز أداة الشاعر, لغته, وهو, إلى ذلك, نافذة مفتوحة على الشعور واللاشعور, على الذاتيّ والجماعيّ, على الواقعيّ والأسطوريّ…في كلّ الأحوال لا يمكننا ان نترجم مضمون المجاز, أو نحيط بدلالاته نحن نكتفي عادة بالحدس يتيح لنا إدراك بعض أسراره وخفاياه .
عمل الشاعر إنّما يتمثل في هذه المختارات في نقض العلائق القديمة بين الألفاظ وإبرام علائق جديدة تصل بينها هي التي تتيح للغة أن تبتكر نفسها دائما.هكذا يتبدّى الشعر وكأنّه حيلة اللغة حتّى تقاوم الموت والبلى وتتجدّد باستمرار . لكن استخدام المقابلة وقرينها الطباق هو أيضا إحالة على الجدل الذي يقوم عليه الوجود, إحالة على حركة الحياة التي هي نسيج الحياة, إحالة على التغيّر الذي هو قانون الطبيعة والأشياء .والتغيّر معناه المغايرة والمغايرة, كما يقول عبد الرحمان بدويّ, أن يصير الشيء غير ذاته,وهذه الغيريّة معناها وجود التضادّ في طبيعة الوجود…أمّا المنطق الأرسطي القائم على مبدأ عدم التناقض فلم يقنع الشاعرة وهي المنتبهة دائما إلى ضروب المقابلات الي تمتلئ بها الحياة . لكنّ شاعرتنا لا تصدر في هذه القصائد القائمة على التضاد والمتباينات عن وعي فكريّ بقدر ما تصدر عمّا سمّاه بعضهم بالاستشعار القلق للتضاد الذي يسود العالم والوجود.
إنّ العلاق لا يرى الشعر استرجاعا لنماذج مركوزة في الطباع والعقول وإنّما يراه بحثا عن أشكال جديدة قادرة على الإفصاح عن جوهر التجربة .الشعر اكتشاف مستمرّ للزمن في تغيّره وتحوّله .خروج دائم على منطق الدهر والجواهر الثابتة وانتساب إلى منطق التاريخ والأعراض المتحوّلة
وجليّ أنّ العلاّق لا يكتب ليفصح عن معنى قائم في ذهنه, ماثل في نفسه,معنى ورثه عن الشعراء السابقين, يعمد إلى استحضاره, ليعيد صياغته .كلاّ، فالشاعر لا يكتب الشعر لعبّر عن معنى وإنّما ليكتشفه .فالمعنى ليس وراءه وإنّما أمامه.الشاعر القديم كان, في نظر النقاد, يمخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه نثرا ثمّ يعدّ له ما يلبسه إيّاه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه والوزن الذي يسلس له القول عليه . أي إنّ العمليّة الإبداعيّة تنقسم, في نظر هؤلاء, إلى مرحلتين : مرحلة استدعاء المعنى, وهذا المعنى يكون, في أكثر الأحيان مطروحا في الطريق, أي مبذولا ومألوفا, يعرفه العجميّ والعربيّ, على حدّ عبارة الجاحظ, ثمّ تأتي, بعد ذلك, مرحلة استدعاء اللفظ وإقامة الوزن, وتجويد السّبك.. لكنّ الشاعر الحديث لا ينطلق من معنى جاهز مسبقا, لإنّ المعنى, في الشعر الحديث, يتأسّس لحظة الكتابة, بل إنّ الكتابة الحديثة هي بحث عن المعنى, سعي ممضّ من أجل الظفر به, وعد دائم للوصول إليه . وههنا يكمن, في نظري الفارق الرئيس بين الشاعر القديم والشاعر الحديث . فإذا كان الشاعر يكتب ما يعرف فإنّ الشاعر الحديث يكتب ليعرف . الأوّل منشغل بكتابة التجربة أمّا الثاني فمنشغل بتجربة الكتابة .وإذا أهبنا بالتشبيه قلنا إنّ الأوّل أقرب إلى الحكيم الذي أودعته ألآلهة أسرارها أمّا الثاني فإنّه أشبه ما يكون بالأكمه (الضرير منذ الولادة ) الذي يضطرب في ليل العالم مهتديا بعصا الكلمات .
والواقع أنّ القصيدة الحديثة لا يأسرها موقف واحد أو موضوع واحد وإنّما هي مستودع العديد من الأفكار والمشاعر والرؤى التي تجسّد, في آخر الأمر رؤية الشاعر للحياة, الحياة على وجه الإطلاق والحقيقة . لهذا نخطئ الطريق إلى فهم هذه القصيدة الحديثة إذا تحدثنا عن «معنى « لها جاهز سلفا ..القصيدة الحديثة لا تنطوي على معنى قابع في أعماقها يمكن أن نظفر به متى حفرنا في طبقاتها المتراكبة .المعنى هو حصيلة حوار بين القارئ والأثر بين ذاكرة المتقبل وذاكرة النصّ .أي إنّ المعنى لا يوجد قبل القراءة وإنّما يتأسّس لحظة القراءة .ثمّ إنّ كلّ قراءة جديدة تحنّ إلى تجاوز المعنى القديم في اتجاه معنى آخر مختلف .
لقد باتت قصيدة العلاق ذات وجهين فهي من ناحية أولى تفصح عن تجربة كتابيّة وهي من ناحية ثانية تفصح عن موقف من تلك التجربة ..فالشاعر ما فتىء يختبر الشعر, ويتأمّل, في الوقت ذاته, وظائفه ومقاصده .
هذا النمط من الشعر الذي دأب على استجلاء صورته في مرآة اللغة نهض بوظيفتين :
– وطيفة جماليّة ترتبط بطبيعة الخطاب الشعريّ وطرائق تصريف القول فيه .
– وظيفة معرفيّة تتّصل بالرؤى الجماليّة والفنّية التي تحتضنها القصيدة المعاصرة وبالأسئلة الأنطولوجيّة التي تنطوي عليها …
فمن خصائص القصيدة الحديثة أنّها تتأمل الشعر فيما تكتبه, وتكتبه فيما تتأمّله أي إنّها تجمع بين فعلي الكتابة والقراءة جمع تآلف وتداخل ..فليس للكتابة زمن وللقراءة زمن آخر وإنّما هناك زمن واحد هو زمن القصيدة التي توحّد بين فعلي القراءة والكتابة في معيّة جامعة .
. هذا النوع من الشعر الذي كتبه العلاق هو الشعر الكشف, الشعر الإضاءة, الشعر الانخطاف وهو الشعر الذي لايفتأ يذكرنا بأن اللغة هي سكن الإنسان, ذاكرته الذاهبة بعيدا في الزمن, طريقة حضوره في العالم,عنوان تيهه وانكساره..
.لكن مهما تكن قيمة التجربة فإنها لابدّ أن تتجسّد في صياغة, في أسلوب, في طريقة لتصريف القول مخصوصة..وهنا, بالضبط, تتجلّى قيمة الأعمال الأدبية, والشعريّة, على وجه الخصوص, التي كتبها العلاق.فهذا الشاعر قد أولى الأداة كلّ عنايته ….هكذا عمل, في المقام الأوّل, على خلق رموز واستعارات أي عمل على خلق عالم متخيّل لا يحاكي العالم الموضوعي وإنّما يوازيه.. هذ الشعر / الفراسة / الرؤيا / الضوء كان,في الواقع,استدراكا على تيّار أدبيّ جعل الشعر, الذي هو في الأصل مفارق للواقع, مطابقا له . مدونة العلاق أثبتت أنّ النصّ الشعريّ خطاب مستقلّ بنفسه غير مفتقر لغيره, له خصائصه المتميّزة وآلياته الفاعلة وطرائقة في إنشاء الكلام مختلفة.
محمد الغزي