لم يظهر الجسد والزمان كسؤال في الفكر المغربي المعاصر بقوة مثلما ظهر في أعمال المفكر عبد العزيز بومسهولي الذي كرسته مؤلفاته الفلسفية المتوالية كمفكر الرغبة والزمان. وهو العمل الذي أنجزه من خلال بناء مفهومي تراكم عبر تأمل قوي مثلت كتبه فقرات متواصلة منه في مشوار فلسفي لم ينته بعد.
في «الزمان والفكر» العمل المشترك الذي صدر سنة 2002 عن دار الثقافة ، يفتح عزيز بومسهولي منفذا جد دال لتحديد تصوره للزمان من خلال حديثه عن إرادة المستقبل كإرادة عليا للحياة تحرك الكائن الإنساني الغارق في رتابة عالمه اليومي (ص 79). فالمستقبل حسب هذا التصور يمنح «للكائن الوعي بالمسؤولية عن حياة جديدة ، حياة تعتبر تعددا لتجربة الكائن في العالم» .
وبذلك فهو يشيد أفقا أنطولوجيا للزمان على أساس الحياة التي تحدد في مختلف أعماله كسياق للتجاوز سيحمل اسما آخر في كتاب «الكائن والمتاهة» الصادر سنة 2007 هو الرغبة . فالمستقبل هو إرادة عليا للحياة مُحملة بالمضاعفة الكيفية للعيش وهي الإرادة التي تؤسس نفسها في « الماليس بعد «(not yet) بلغة إرنست بلوخ . لكن عزيز بومسهولي يحملها ببعد آخر هو المسؤولية اتجاه حياة جديدة في العالم ، حياة لم تعش بعد.
لا مجال للتردد والالتباس لدى بومسهولي فالمستقبل هنا «لا يعني التقدم في الزمان وإنما حمل الوجود على أن يعاش ثانية بمضاعفة شعور الكينونة بالزمان» (نفسه ص 79) . ينبعث صدى هذا التصور في عمله الأخير «الكائن والمتاهة» حيث يتساءل «هل زمان الكائن بما هو موجود يتأسس كتيه في عمق الوجود، أم أنه يتأسس كتقدم نحو غايات ، أي نحو الاكتمال ؟» (ص 11) . فهذه الإرادة المُحملة بها الحياة التي هي إرادة المستقبل ليست محفزة على غاية مقدرة سلفا بتدبير قـَبْلي ، بقدر ما هي مُحفزة بذاتها مشحونة بطاقة المضاعفة والتجاوز ، فالكائن مسؤول عن المستقبل . وهو ما يدخل بعد جديدا في صلب فكرة المسقبل لدى عزيز بومسهولي . يتمثل في تشكله كقوة تحررية ، إنه ليس امتدادا لذات الواحد أي البناء المسترسل للتكرار المستفيض المُرسخ في تطابق أبدي. يكتشف المستقبل إذن في طاقة المغايرة التي تعمل في صلب الحياة. بمعنى أنه المسلسل التحرري للكينونة « إنه يحمل فكرة تحرير زمانية الكينونة من التطابق فلا يجعل المسقبل معلولا للماضي، مرتبطا به ارتباطا سببيا، وإنما يجعله في تحرر منه ، وهذا التحرر هو الذي يعطيه بعده التزامني»(80). هنا يكرس بومسهولي منظورا تصاغ فيه الحرية كعمل يشتغل في صميم بنية الزمان، يباعد بين أبعاده، يجعل المستقبل من حيث هو إرادة مبثوثة في الحياة يشتغل كمقاومة للماضي وكتبديد لنفوذه. وذلك يعني أنه يحطم بضربة واحدة منطق الحتمية . فالمستقبل كما يقول في (الزمان والفكر) «هو البعد الزمني الذي ينخر بنية الماضي» (ص 80) . إنه الحرية عينها المتحركة في قلب الحياة والشكل الأقوى للتجاوز. والنتيجة الضمنية المترتبة عن هذا التصور والتي لا تعلنها أعمال بومسهولي مباشرة لكنها ترسخها ضمنا هي كون الحياة هي المستقبل ذاته أما « الما حصل» فانقاطع جذري عنها . و الماضي ليس من الحياة .
ينبغي هنا أن نقف مؤقتا عند توضيح أساسي . فبومسهولي عندما يفكر في الكائن المتزمن، فهو يتوجه بتفكيره للإنسان .لذلك فهو إضافة إلى المسؤولية إزاء المستقبل التي يجعل الكائن الزماني مُحملا بها ، يضمن المستقبل القدرة على الأمل التي يستمد منها الكائن حافزه للعيش من جديد . فهو يقول صراحة في «الزمان والفكر»: «إن المستقبل من هذه الوجهة يغدو قائما في صلب الكينونة الزمانية ، ليس لأنه يحقق في الآن تصادمه مع الماضي فقط ، ولكن في إعطائه ومنحه الأمل للكائن ليعيش ثانية …» (ص 80).
لكن ذلك يشتغل في ارتباط مع جعله من المستقبل أرضية لاختبار استطيقا للوجود تعاش كتجربة . يجب علينا هنا أن نجمع عناصر المفهوم الذي يبنيه بومسهولي للمستقبل فهو أولا إرادة عليا للحياة وثانيا تأسيس للمسؤولية في «الماليس بعد» وثالثا حرية متحركة في قلب الحياة ورابعا منبع القدرة على الأمل لمضاعفة الحياة والعيش من جديد . تتجمع هذه العناصر الأربعة لتجعل من المستقبل النواة الجوهرية للزمان التي تتأسس أنطولوجيا على مفهوم الحياة المدركة كسياق للتجاوز. ويظهر جليا أن بومسهولي يصفي في منظوره هذا حساباته مع التصورات السابقة التي تقدمها مجهودات فلاسفة آخرين للزمان من أرسطو حتى كانط، فهو يرى « أن سؤال الزمان ما فتئ يكشف عن اختلاف تصورات الوجود والعالم لدى الكائن الإنساني . فمنذ بارمينيدس إلى سارتر، ما انفك مفهوم الزمان يثير كثيرا من الإشكالات التي تعبر عن تأويلات كيفية لمسألة الوجود ، وموقع الكائن الزماني في العالم ، أي في عالم متغير ، عالم تطبعه الصيرورة ، التي تجعل من وجود الكائن في العالم انخراطا صميميا في تأسيس زمانيته الخاصة أي انبنائه كخاصية تاريخية ( الزمان والفكر ص 44) . والأكثر من ذلك فبومسهولي لا يدرج هذه الكيفيات ضمن ترتيب تاريخي لتطور الأفكار . بل يرى فيها ما هو أعمق : « هذه الكيفيات – يقول – تعبر عن مشروعها التاريخي» (ص44). والاسقاط المباشر الذي ينتصب أمامنا لهذا التصور هو كون الكيفية التي ينطوي عليها هذا المنظور الذي يصوغه بومسهولي نفسه للزمان تعبر في عمقها عن مشروع تاريخي رغم أنه يبدو أكثر تواضعا في خاتمة الفصل الأول من « الزمان والفكر» إذ يعتبر مجهوده محاولة لفهم رؤى العالم لإعادة تركيب فهم مغاير للزمان (ص 46) .
لكن الأهم في الملاحظة الأخيرة يتمثل في كون المساءلة الفلسفية للزمان ليست مهمة تجريدية بغاية تجريدية محضة وإنما تهم تجريبية الكائن أي سؤال فتح آفاق تجريبية في صلب الوجود تمنح لمشروعه في التاريخ شكلا ومعنى وقيمة . وذلك بالضبط هو ما يرسخه ما أشرنا إليه سابقا من جعله المسقبل أرضية لاختبار استطيقا للوجود تعاش كتجربة ، ففي المضاعفة التي حملها المستقبل للحياة « تنتج حيوية الكينونة وشعورها بلذة الوجود» (ص 80).
يدقق صاحبا تصوره بالتذكير في مناسبات متعددة أن مضاعفة الحياة ليست تكرارا ولا تطابقا «وإنما تحمل في ذاتها تباعدا عن نفسها» (ص80) فهذه المضاعفة تتحقق في الغيرية « فهي من جهة أولى لا تعكس الأصل ، والمَا قد حصل – في الماضي كنسخة مطابقة ، وإنما تعرض ذاتها كمخالف، كشكل يخرج عن الشبه بالأصل ليكشف عن الفوارق المولدة فيه ، ومن جهة ثانية فإن هذه الحياة تحمل في ذاتها غيريتها، و في هذه الغيرية احتمال دائم لانبثاق أفق جديد هذا الأفق نسميه المستقبل»(ص80).
تمثل الغيرية – أي حركة التغاير التي تحملها الحياة في صلبها والتي تشكل طاقة المضاعفة التي تنتج أفق تجدد الكائن – المفصل الذي تلتئم حوله في البناء المفهومي الذي ينجزه بومسهولي مفاهيم الكائن والكينونة والحياة ، هذا المجهود وجد تتويجه النظري في كتاب « الكائن والمتاهة» وبشكل أدق في التحديدات التي ينطلق منها وتشكل مدخلا لتأملاته الفلسلفية ، فهو في هذا العمل – كما هو شأن أعماله السابقة – يختار موقف الفيلسوف الذي لا يتحصن في الاقتصار على عرض آراء الآخرين أو إقامة تاريخ للأفكار . بل يخلق إشكالياته ويبتكر أسئلته ويصوغ مفاهيمه الخاصة المحددة لعالمه الفلسفي ، فالروح الفلسفية الحقة بالنسبة إليه تتنافى مع تاريخ الأفكار وتلك هي النقلة الفاصلة بين الفيلسوف وبين معلم الفلسفة .
في هذا العمل يجري عبد العزيز بومسهولي تدقيقات على المفاهيم التي دأب على استعمالها في أعماله السابقة وبشكل أخص مفهومي الكائن والكينونة التي مارست ثقلها النظري منذ كتابه الأول المخصص لقراءة فلسفية لشعر أدونيس (الشعر والتأويل سنة 1998) . وفي هذه التدقيقات الجديدة التي حملتها صياغته المفاهيمية تبرز الغيرية كأساس واصل بين المفهومين .
يقول بومسهولي : « أسمى الكائن ما يلقى به الوجود عاريا من أي تحديد ، لكنه قد يكتسب الخصائص الحيوية التي تعلي من شأنه كقوة قابلة لأن تصير آخر وهو ما يعني أن الكائن هذا الموجود الذي انبثق في خضم الوجود ، إما أن يكون آخر، أو أن الوجود يستغرقه فيظل مجرد كائن غفل، موجود على نحو الامتداد وليس الانفصال ، وإما أن يصير آخر فهو الكائن على نحو الكينونة وليس على نحو الوجود» (ص6-7) جديد هذا التحديد هو أن الكائن في صلبه تحول أي اشتغال للغيرية في صميم الوجود . وهذا الاشتغال هو الذي ينقله إلى مستوى الكينونة . إن مؤشر هذا الانتقال وعتبته الحاسمة ، هي الحدث الذي عنده تنقطع الاستمرارية والاتصال ليتشكل في قلب الوجود النتوء الذي به يحصل الكائن كينونته .
يمضي بومسهولي في تدقيقاته قائلا : « أسمى الكينونة تحقق الكائن غيريا ، انبثاقه كآخرية ، كولادة لانفصال نوعي عن الوجود ، فالكينونة هي هوية الكائن الذي غدا آخر منفصلا ، ومن ثم ففي الكينونة تتشكل الذاتية بما هي قوة تستدعي الرغبة في الــتأسيس، وبالتالي فالكينونة هي مسكن ما أسميه « قوة الذاتية» والكائن الوحيد الذي يغدو كينونة أي يمتلك الخصائص التي تصيره منبثقا كقوة ذاتية لإثبات الانفصال، ليس سوى الكائن الإنساني». ويضيف «الكينونة إذن هي هوية الكائن الإنساني ، لأنها وحدها القادرة على تحويل التناهي إلى إمكانية للتأسيس …» (ص7).
ما ينتصب أمامنا في هذه التحديدات التي يعمل بومسهولي على بنائها هو كون التأسيس في التناهي المُحدد للكائن الإنساني يصبح متاحا فقط من خلال الرغبة في الانفصال ، أي تمزيق وحدة الوجود وتبديد استمراريته . فالحدث الإنساني أي الحدث المكون لجوهر الكائن الإنساني هو الرغبة التي هي انفصال ، وتغاير . لذلك لن يكون الإنسان أبدا تراثا، أي استمرارية خفية تشتغل في قلب الكل المشتت المسيطر على التاريخ. ولذلك أيضا لن يكون مجديا البحث عن الكائن الإنساني في التشييد المثالي لماهية ثابتة تراكمت في التاريخ فيصبح شتاته انطلاقا منها معقولا ، بل في عمق التجريبية التي يُحققها حدث الرغبة في فوريته . فالرغبة هي نواة الانفصال والغيرية .
هذا المسار يتخذ تتويجه الأكثر جلاء في كتاب «الكائن والمتاهة» فتتضح العلاقة التي تنتسج بين الزمان والرغبة حيث يقول بومسهولي : « والزمان ينشأ في الكينونة كرغبة وليس كبنية مقدرة، وزمانية الكائن الإنساني مشروطة بتلك الرغبة التي تجعل من التخلص من أسر الوجود مشروعها الأساسي، إن زمانية الكينونة هي الطريقة النوعية لمقاومة التشميل» .(ص 7-8) .
في هذا المستوى تتضح مضمرات المجهود الذي عمل بومسهولي على بلورته. فالزمان ليس سوى اسم آخر للرغبة . الزمان في حقيقته وفي إمكانه هو الرغبة نفسها . من لا رغبة له لا زمان له . وإرادة المستقبل التي تشحن الحياة في اتجاه مضاعفة ذاتها في عمقها وتحققها هي العمل المباشر للرغبة التي تقود الإنسان لإنتاج مستقبله وتفصله عن الماضي . وبومسهولي في « الزمان والفكر» يعمق منظوره هذا في سياق تحليله لتجربة المُضي إذ يقول : «ومادام النقصان بعدا أنطولوجيا لزمانية الكينونة فإن المستقبل يظل هو تلك البؤرة التي يصبو الكائن إلى استكشافها، وفيما هو يحصل على هذا الاكتشاف يعثر على سر المضي، إنه مضي ليس بالتحول إلى الماضي، وإنما بالانطلاق نحو المستقبل …» (ص66) . فالكائن الإنساني منذور لمستقبله بحكم منطق رغبته ، والماضي مقاومة للحياة .
يلقي بومسهولي بالإنسان في المستقبل ، إنه كائن ينتظر في «الماليس بعد» ومن ثمة فهو شكل عام للتجاوز لكنه مع ذلك جزء بدون كل لإنه اختبار للرغبة ، أي تجريب مفتوح.
وبعيدا عن التصور الأرسطي للزمان كاتصال مساوق للحركة وتصور لا يبنتز الذي يرى فيه نظاما للتعاقب، وخلافا لنيوتن الذي أضفى على الزمان الوجود الواقعي المطلق وكانط الذي جعل منه صورة قبلية للحساسية و هيغل الذي رأى فيه المفهوم ذاته الذي يوجد أمبريقا، بلور بمسهولي منظورا جديدا لإشكالية الزمان يحدده كرغبة. ذلك ما يكتشف في مختلف أعماله بما فيها كتابه «الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق» ففي هذا العمل تبدو نهاية الأخلاق التي هي نهاية الزمان، هي نهاية الرغبة بعد تحقق الإشباع المطلق . ربما أن التأويل الذي ينطوي عليه هذا العمل يضيف بعدا آخرا يتمثل في كون الزمان يتكون في صلب الكائن الإنساني كعلاقة بين الرغبة وإفلات موضوع إشباعها . سمى ذلك في كتاب « الزمان والفكر» بفعل الإرجاء الذي هو « فعل الصيرورة الذي يحيل زمانية الوجود إلى مشروع لا نهائي لا يكتمل …» (ص 67) ، وهو « الذي يمنح الكينونة عطاء المستقبل» (ص67) ، بل إن «تاريخية الوجود نابعة من الأرجاء الدائم للحصول التام للمستقبل الذي فيما هو يحصل ، فإنه يتباعد في الآن ذاته» (ص67) .. لكنه في كتاب « الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق» يتخذ طابع التوثر بين الرغبة وإفلات موضوع الإشباع ، ومن ثمة كان التحقق المطلق للإشباع نهاية للزمان ، أي خمود الرغبة ..
يطال هذا المنظور منطق تكون الذات نفسها فهي في جوهرها رغبة واعية . لكن واعية بماذا؟ هل بموضوع الإشباع الذي تطلبه؟ أم بتملك هذا الموضوع؟ أم بانعدامه كواقع متحقق واحتفاظه بنفسه كخزان للأمل؟ ترسم ملامح زمانية الكائن كما حددها عزيز بومسهولي في أعماله البناء الخفي للذات ، فهو وإن كان لا يزايد فلسفيا بالتنكر لها ، فهو يعيد صياغتها معتمدا تأويلا خاصا به تولد في ذات السياق النظري الذي تبلور فيه منظوره للزمان . إنه لا يعثر على الذات في كيان متعال وإنما في تجرييبات الوجود . إنه نوع من الانتصار للمحايثة . فالذات إنجاز . إنها فعل وحدث يتكون من صلب الرغبة وإفلات موضوع إشباعها . ومن ذلك بالضبط ندرك كيف تكون الذات زمنا.
يصل هذا المنظور مداه في كتاب «الكائن والمتاهة» الذي يعتبر فيه الرغبة المحرك الوحيد للتاريخ . «إن التاريخ – يقول بومسهولي – تحركه الرغبة وليس شيء آخر، والجسد هو منبع تلك الرغبة التي تستحيل إلى قوة بتدخل الإرادة ، فالتاريخ من خلال هذا المنظور هو إثبات للجسد كذاتية تؤسس لتاريخيتها على نحو مغاير للوجود الكلي»(ص104).
ويحدد الجسد باعتباره التحام الرغبة والإرادة.فالفعل الحر هو نتيجة انبعاث رغبة الجسد التي تنقاد بواسطة الإرادة نحو الإشباع. ليدخل الجسد كعنصر فاصل ما بين العالم والوجود الكلي . العالم خاص بالجسد الإنساني «فهو يتمايز عن الوجود الكلي. ذلك أن العالم إنساني ، نتيجة لتدبير استراتيجية الجسد ، وبالتالي فهذا العالم تاريخي بخلاف الوجود الكلي الذي ليس له تاريخ»(ص104).
أكثر من ذلك فالجسد هو الذي يحول وجود الكائن الإنساني من وجود بالضرورة إلى وجود بالحرية.(100)
إنه معقل مقاومة نظام الطبيعة. «انتشل رغبته الخاصة واستقل بها وغدا جسده الخاص..»(ص102).
طبعا بومسهولي يحلل منظوره هذا على قاعدة تمييز دقيق ما بين البدن الذي هو مفعول للطبيعة مادامت كل دوافعه خاضعة وغير منبثقة من رغبته الخاصة التي لا يملكها كما هو شأن الكائنات الحية غير الإنسانية التي لا تملك رغباتها ولا تحوز إرادتها الخاصة بل تبقى ملازمة لحالة الشهوة كما قال سبينوزا ،لأنها لا تعي رغبتها في الاشتهاء ، ولكنها تشتهي بقوة الدوافع الغريزية البيولوجية،(101) ومابين الجسد الذي هو التحام للرغبة والإرادة أي الحرية.
يرفع بومسهولي الجسد الى مستوى غاية إيطيقية عليا تحرك الإنسان الجديد أو الإنسان المستقبلي الذي يستعيد وجوده في قلب الحضور من خلال التخلص من خضوعه لمكر التقنية. فغاية الإنسان الجديد ليست مفارقة مرتبطة بعالم منفصل ، ولن تغدو مؤجلة، «وإنما ستضحى شهادة تؤكد تجلي الإنسانية في لحظة التحام الإنسان بذاته وتفرغه للاستمتاع بالحياة وحقه المشروع في الاهتمام بجسده باعتباره قيمة احتفالية بالحياة ،لا غاية أخلاقية له سوى ان يكون وفق ما هو عليه ،وما هو جدير باستحقاقه متخلصا من تاريخ نسيان الجسد واحتقاره في خضم صراع طويل»(ص88_89).
فاستعادة الجسد هي مصالحة مع الحياة بعد تاريخ طويل من التنكر لها وبخسها «وحينما يتصالح الإنسان مع الحياة ،التي ظل يبخس قيمتها باعتبارها فانية وزائلة ومتناهية،فإنه يستعيد حقه في المتعة المضاعفة تلك التي يعبر عنها وجوده الخاص.»(ص91).
يتمم عزيز بومسهولي في كتاب «الكائن والمتاهة» ما بدأه في عمله السابق «الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق». فقد وجد في المنظور الذي طوره في العمل الأول المنفذ الحقيقي للمبدأ الإيطيقي المحايث الذي صاغه في العمل الثاني . فعندما أنهى كتاب «الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق» بصياغة المبدأ الإيطيقي المحايث باعتباره ينطلق من الكائن الإنساني ذاته، معليا من شأن طبيعته ومن استقلاليته الذاتية التي تقتضتها حريته، وهو ما يجعله «كائن كامل الحقوق لأن الحق ذاته محايث له باعتباره مكونا من مكوناته الأنطولوجية وليست العرضية الخارجية» (الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق ص 91) ، بقي السؤال مفتوحا عن مدخل تحقق هذا المبدأ الإيطيقي في الإنسان الذي هو ليس أمرا متعاليا ولا إلزاما معياريا مفارقا وإنما هو جزء من طبيعته الخاصة؟ هل هي عودة نحو مفهوم «الحق الطبيعي»؟ أم مجرد يوتوبيا عائمة بدون ملامح؟ لكن في «الكائن والمتاهة» يحدد بومسهولي مجال تحقق هذا المبدأ المحايث الذي يشكل نواة الأخلاقية الجديدة التي يقترحها. إنه الجسد الذي يغذو حقا تأسيسيا محايثا للكائن الإنساني تستعاد فيه الحياة ليس كمنحة طبيعية وإنما كغاية جمالية.ليجعل منه فوق ذلك مدخلا لتحقق فكرة السعادة . «إن إيطيقا الإنسان الجديد-يقول-ليست معايير للسلوك أو قواعد محددة لما هو خير أو شر ، ولكنها فن ممارسة الحياة ، ومن ثمة فهي تغدو في صميم الوجود الإنساني ، وليست ممارسة إكراهية تخضع الإنسان على الإنقياد والإنصياع أو الطاعة لأي شكل من أشكال النمط الأخلاقي القديم» (الكائن والمتاهة ص91).
إن المهم بالنسبة لبومسهولي ليس الحق في الحياة وإنما الحق في متعة الحياة.فالغاية القصوى التي يؤصلها في الجسد ليست هي الحياة في حد ذاتها ، وإنما جعلها فرصة لتحصيل وجود ممتع. فمتعة الحياة التي لم تعد مطلبا وإنما حقا جوهريا يمتلكه الكائن الإنساني «هي المدخل لأية سعادة ممكنة» (ص93). و«هذه السعادة تفترض إمكانية الوجود الذي يستفيد من فرصة المتعة التي تعرض للموجود»(93).
الإنسان الجديد –الذي هو الكائن السعيد- هو الذي يقدر جسده كقيمة عليا ويستعيده كمنبع وحيد لسعادته، إنه مجال اختبار متعة الحياة. «إن ذلك يعني-كما يقول بومسهولي – استرجاع الحقوق التي أهدرها الإنسان بنفسه وهو يفكر في سعادة أبدية غير السعادة الزمانية ، مقوضا بذلك سبل إتقانه لفن الحياة ، مفوتا الفرصة على ذاته من أجل أن تتحقق ذاته في العالم على النحو الذي يريد ، فانتهى بذلك الى تجذير ثقافة الحرمان التي حالت لأزمنة طويلة دون رغبة التمتع بالحياة كما هي ، لا كما تم تبنيها في نظم الأخلاق التقليدية»(ص93).
ينبغي التذكير هنا ان عزيز بومسهولي يؤسس تحليلاته على افتراض أفق انثروبولوجي جديد. فالإنسان الذي يتحدت عنه والذي ينعته بالكائن الجديد هو كائن مستقبلي ينتظر بعد أن يحقق الإنسان إشباعه التام من رغبته في الاعتراف التي استغرقت التاريخ. فبعد أن تصبح الغاية (الاعتراف) متحققة وليست مجرد أمل ، تصبح الغاية الأخيرة للإنسان الجديد هي جسده وما يتيحه من متعة. «إن الإنسان الجديد ليس جديدا – يقول – بقدر ما حققته الإنسانية من إشباع ، ولكنه جديد بقدر امتلاكه لهذه الإنسانية التي تخول له حق استمتاعه بحياته في أية لحظة وفي أي مكان»(ص94).
الشكل الأقصى للحرية يتحقق في هذه الاستعادة للجسد. وذلك ما يجعل الإنسان يدرك وجوده كفن وليس كتصريف لقدر أو هبة غيبية . إنه ينحث ذاته من مادة قوامها الرغبة وبأسلوب تشكله الحرية . ليغدو للواجب مضمون جمالي . فالإنسان سيكون أكثر أخلاقية يقدر ما يحققه من متعة . لأن المتعة مصب الحق والقيمة وتكثيفهما النهائي. إنها تنطوي على أقصى إعلاء لشأن الحياة وعلى قيمة الاعتراف وعلى التمكن من الذات. إنها الاستحقاق الأخير لكائن خاض ثلاتة أشكال من الصراع عبر تاريخه. صراعه مع الطبيعة ومقاومة الضرورة ، وصراعه مع ثقافة تجعله مغتربا عن حريته ومقاومته للعبودية ، وصراعه مع التقنية ومقاومة مكر التدبير الأداتي لوجوده . «فليس من سبيل –يقول بومسهولي- للتحقق العيني للحياة سوى بالجسد الحر المستقل الملتحم برغبته وبالإرادة …وليست الحرية سوى الجسد ذاته.إن الحرية والجسد متماهيان. وهذا التماهي هو الذي يشكل هوية الكائن الحر للكائن الإنساني.»(ص97).
التطور النظري لهذا المنظور الفلسفي الذي ينحته المفكر عبد العزيز بومسهولي والذي يمتد من الزمان كإرادة للمستقبل إلى الرغبة وينتهي بإيطيقا المتعة يصل ألى مستوى التأسيس الأنطولوجي في الجسد . فالإنسان بكامله متاح انطلاقا من حرية جسده. و«الكينونة الإنسانية لا تحدد هويتها بغير حرية واستقلالية الجسد وظهوره ككيان جسدي حر، أي كفردية جسدانية»(الكائن والمتاهةص97). لاتقف الأمور عند هذا الحد .فالكوجيطو الحقيقي ليس هو ذلك الذي يثبت يقين الذات من الفكر ، بل الذي يعيد الأنا إلى الجسد. «فلأنا كجسد هو برهان الوجود الإثباتي»(ص97). إن هذا الوضع لا يجد تعبيره الواضح إلا في الصياغة الأتية: «أنا جسدي»، هذا الأنا يحمل وجوده في جسده ويتلقى فيض العالم منه. إنه يتكون في صلب الرغبة كشرخ مفتوح على عتبة الإشباع .«كوجيطو الجسد – يقول بومسهولي – لا يفصل بين الحرية والجسد ، ولا بين الجسد والفكر ، بل إن الجسد علامة وجوده الخاص.»(ص97).
الجسد إثباتنا الوحيد «فمن يفكر ليس إلا الجسد وقد ظهر على نحو مستقل قادر على قول أنا»(ص97). ليقطع بومسهولي مع نزعة معارضة الجسد بالفكر. لأن الأخير ليس فقط قدرة من قدرات الأول (الجسد) بل حركته وتعبيره الخاص. فالفكر من صميم عمل الرغبة من توترها ومجهودها المنتج للعالم . يبدو صاحب «الكائن والمتاهة» كما لو كان يؤمن تصريفا ضمنيا لتلك الفكرة الثاقبة التي أوردها نيتشه في كتاب «هذا الإنسان» والتي تقول: «المثاليات لا طائل من ورائها»(ص 99) «1» . فقد أضحى أي بناء مثالي للكائن الإنساني مجرد فضلة لا لزوم لها، عمل ينطوي على الكثير من التنكر والجحود اتجاه الكيان الصميم الذي فيه وبه يغدو الإنسان إنسانا . فكل شيء فيه اشتغال للجسد وحركة للرغبة. وعندما نضع أقدامنا في الفكر لانكون قد وضعنا أنفسنا خارج حدود الجسد ،بل بالعكس نكون في صلبه. ليس لأن الجسد فكر، وإنما لأن الفكر تنسيق من تنسيقات الجسد. ليس هذا فحسب، بل إن قارئ كتاب «الكائن والمتاهة» يواجه تمادي المفكر عزيز بومسهولي في الدفع بمنظوره هذا إلى إمكاناته القصوى . فعبر الجسد الذي هو شرط التحقق العيني للموجود ، ينكشف الفكر كتماس بالعالم .» فمن فتحة الفرج ينبثق الفكر» (ص97) وذلك يعني أنه يتولد ويتكرر كجسد يظهر كتعدد للآخرية.
ما تثبته أعمال عزيز بومسهولي هو أن الرجل فتح بحق و بلا ادعاء ، أفق حياة فلسفية حقيقية في نسيج الفلسفة المغربية التي اختنقت بفعل هيمنة التقليد الأكاديمي الذي استغرق مجهوده بكامله في الدراسات المخصصة لمتون سابقة أو شرحها وتوضيحها أو تلخيصها أو ترجمة نتف منها. إنه يعي جيدا أن المكتبات لوحدها لن تضمن حياة فلسفية حقيقية كما أن الاكتفاء بتأليف كتب هي عبارة عن أرشفة لأفكار الآخرين، لن يخلق فلاسفة. إنه يعي أن الفلسفة لن تقوم أبدا بأناس أوقفوا مهمتهم على الاستظهار والاسترجاع والاقتباس . إنها أبعد بكثير من سعة الاطلاع أو حفظ النصوص عن ظهر قلب. بل هي –كما يقول في كتاب الفلسفة المغربية- تعبير مفهومي للتأسيس الذي لا يؤصل ذاته إلا عبر الانفصال عن الأسس التي أضحت ثوابت. ومن ثمة فهي إمكانية لا متناهية لتوليد التأويلات ، وخلق الفجوات والفوارق، «إنه تأسيس يخلق تصدعا داخل الثقافة ذاتها،مما يقود هذه الثقافة إلى إعادة قواها وبناء وجودها داخل عالم ما يفتأ يصير…»(الفلسفة المغربية :سؤال الكونية والمستقبل ص6).
وهكذا يحسم بومسهولي انتماءه للفلسفة.فهي بالدرجة الأولى تجليا لقوة حيوية تكمن في الوجود الإنساني. أكثر من ذلك فهي لن تكون رهانا حقا إن لم تكن تجليا لحياة فلسفية قادرة على المبادرة وعلى التجاوز الخلاق. لذلك يقول «إن رهان الفلسفة بالمغرب لا يكمن في متابعة تطورات الفكر العالمي ولكن في الإسهام في حركية هذا الفكر أيضا..(ص8). وذلك الأفق ما زالت الفلسفة المغربية بعيدة عنه لأنها كما يقول «ظلت حبيسة تصور لا فلسفي»(ص8). لكون مجهود المنشغلين بها انصب على تلخيص القضايا والإشكالات وترجمة النصوص أو الإهتمام بقضايا الثرات ومسائله..وانشغالات من هذا النوع لا تتيح انبثاق حياة فلسفية.
ومنطلقات انتمائه للفلسفة تكمن بالدرجة الأولى في اعتبارها تأسيسا في الكوني يستند إلى جرأة خلق الإشكاليات وابتكار المفاهيم «التي تغير الأرض». ومن ثمة فالدروس قد تخلق أصناما وتقدس أوثانا لكنها لن تستطيع أبدا خلق أفكار .الفلسفة اشتغال لحركة السؤال المنبثق من قلق وجودي ومن تمزق الآت ، أي السؤال الذي يمثل فعلا للانفصال المحدث للفجوة والممزق للوحة اليقين.
ابتكر عزيز بومسهولي سؤالا جديدا في صلب الفلسفة المغربية هو سؤال الرغبة وفتح له أفقا نظريا عمل عبر مختلف مؤلفاته على توسيعه وتدقيقه ومراجعته, لم يكن معنيا في ذلك بما قاله التراث عن الجسد ولا باحاطة القراء بتطور الأفكار التي نسجت حوله في تاريخ الفلسفة . بقدر ما كان منشغلا ببناء هذا السؤال وبلورة منظورحوله. فتح لذلك مدخلا هو سؤال الزمان الذي أوله كرغبة ووصل به إلى إيطيقا المتعة. لكن مما يجدر الانتباه إليه هو أن المفكر موضوع حديثنا وكما تترجمه أعماله الفلسفية، وإن كان يلقي بالإنسان في المستقبل ، ويعتبر نواة الزمان هي إرادة المستقبل، إلا أنه يقوم بذلك من أجل الإعلاء من شأن الحاضر وليس من أجل نفيه . فإرادة المستقبل هي التي تصنع الحاضر . وهذا معناه أن الحاضر عطاء المستقبل وليس العكس، إنه نتيجته وفاكهته.
كما أن ما مرره من خلال بلورته لتصوره للجسد ، هو شكل جديد من السؤال الأنثروبولوجي الذي لم يعد يعني من هو الإنسان؟ لكن إلى أي شيء يصير الإنسان؟ وذلك انطلاقا من وعي حاد بثقل التحول ( mutation)الذي رصده بقوة من خلال اشتغاله على التقنية،وأيضا من التخلي النهائي عن المضمون الميتافيزيقي للماهية. لكن تأويل هذا الشكل من الطرح الذي يصرفه من خلال الأفكار المشار إليها أعلاه يقود إلى إمكانين اثنين . الأول هو أن الإنسانية المكتملة ،السعيدة والأخلاقية هي إنسانية الجسد ، و الثاني هو أن الجسد هو الوطن الأخير الذي تبقى لكائن قاده تاريخه إلى مواجهة جمالية وجوده في معقل تناهيه، أي جسده حيث يتجمع زمانه ومكانه و موته ومتعته. وخارجه لن يكون هناك أي معنى لوجوده ..
ربما أن روحا ما للعصر مازالت مبهمة تتحدث من خلال فلسفة عزيز بومسهولي .. إنها روح تعرف هذا العصر بالرغبة التي تحركه و بالإشباع الذي تطلبه وبالشكل المنتظر للكائن الذي سيسوده..
الهوامــــــــش:
1- فريديريك نيتشه: «هذا هو الإنسان» ترجمة علي مصباح. منشورات الجمل. كولونيا الطبعة الثانية 2006.ص 99
أعمال المفكر عبد العزيز بومسهولي المحال عليها :
– «الزمان والفكر» بالإشتراك مع عبد الصمد الكباص دار الثقافة . البيضاء . الطبعة الأولى .2002.
– « الشعر ،الوجود والزمان: رؤية فلسفية للشعر». دار افريقيا الشرق. الطبعة الأولى 2002.
– «الأسس الفلسفية لنظرية الأخلاق» منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب . الطبعة الأولى 2001.
– «أخلاق الغير: نحو فلسفة غيرية» منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب . الطبعة الأولى .2005.
– « الفلسفة المغربية: سؤال الكونية والمستقبل» منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب. الطبعة الأولى 2007.
– «الكائن والمتاهة»: تفكير في الزمان المعاصر» منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب .الطبعة الأولى 2007.
عبد الصمد الكباص باحث في مجال الفكر