(1)
عامود صلب، اسمه «مباركة الفولي»، يواجه عامودا آخر يدعى «منتصر الديب»، شَيَّدت عليهما رواية عزت القمحاوي الجديدة «بيت الديب» طوابق حيواتها المتشعبة. ومثلما تتتبع المرأة التي عاشت أكثر مما ينبغي، رائحة رجل غائب.. تتتبع الرواية تاريخا طويلا، يحضر كالرائحة، يطل في البداية كضيف، ثم لا يلبث أن يحرك بالتدريج الحكاية التي ظنناها في البداية تتحرك بمحفزاتها الداخلية فقط، لكنه يفعل ذلك من دون أن يعوق سيولتها.
يقدم القمحاوي هذه المرة مشروعه الأكثر طموحا، رواية أجيال، تتحقق في قرية نتتبعها منذ لحظة خلقها، هي «العش»، ذلك المكان المختلق في بقعة ما من محافظة الشرقية في دلتا مصر، والذي ترصده الرواية منذ بدأ كفردوس، بلا حاكم، بلا مركز، بلا بيت أعلى من الآخر، بلا حاجة للمال، بلا نقطة دم.. وحتى صار مكانا للبشر.
لا تنتمي مباركة ومنتصر للجيل الأول، لكنهما يكتسبان الجدارة بتفجير مياه الدراما، لأنهما يملكان قصة لا تشبه بقية القصص،كلاهما مادة مثالية لبطل تراجيدي، وكلاهما لا يضيعان الفرصة ليصيرا كذلك.
تعشق مباركة منتصر، يمارسان جنسا غير مكتمل في العتمة، ولا تتوج اللقاءات المحرمة المختلسة بزواج شرعي في النور، بسبب خيانة من عمه مجاهد الذي أرسله ليطلبها له فخطبها لنفسه. هكذا يتيهان، يصير كل منهما طرف حكاية، يبحث عن مكمله.. وفي هذه المسافة، بين هذين العالمين، تتحقق الرواية. حكاية مباركة هي القرية، وحكاية منتصر هي اللقالق التي تصبو إلى العش. سترضخ مباركة لقدرها، لكنها ستحاول تغييره من الداخل، بإنجاب أبناء ليسوا من صلب الزوج، بينما سيهرب منتصر ليصنع لنفسه قدرا آخر. سينتقم من البيت بأن يصير بلا بيت، ولن يصحب معه في رحلة خروجه من الفردوس، «يظلله سرب من طيور اللقلق التي لم يرها أحد منذ مئات السنين، لكنها باقية في الذاكرة بسبب اسم العش… بعض من لمحوا منتصرا يسير تحت السحابة السوداء حذروا من عودة الطيور إلى مهاجمة العش التي لم تستطع أن تحمي شابا من شطط عمه وظلمه، بينما أكد البعض الآخر أنها لم تكن طيورا، بل سحابة ظللت اليتيم».
هذه المقاربة الأسطورية لخروج منتصر، ستظل لصيقة به وهو يعمق من أسطورته بعد ذلك، بينما ستكتفي مباركة بما ارتبط بها من خيالات جعلت الكثيرين يتعاملون معها كممسوسة.
الداخل والخارج، سيصيران بدءا من هذه اللحظة عنصرين أبديين، ممتزجين في حياة مكان لم يكن قبل ذلك يعرف وجودا حقيقيا خارج حدوده.
(2)
تتحقق الرواية في عدة قرون، منذ زمن تأسيس العش، عندما جفف الجيل الأول المستنقع وحولوه إلى مكان يصلح للعيش، وحتى اللحظة الآنية. هذا الزمن الممتد، كيف يمثل في البنية الروائية؟
السارد العليم، ومن غيره؟، يبسط يده على مقدرات الحكي، لكنه لا يركن إلى بنية تعاقبية. لن تبدأ الحكاية من حيث بدأت، وليس مهما أن تنتهي من حيث انتهت. يبدأ السارد حكيه من آخر نقطة، من مباركة الشائخة المعمرة، وهي ترى أحفادها يراسلون أصدقاءهم عبر الانترنت، فتطلب منهم أن يبعثوا برسالة إلى الله كي يتذكرها بالموت الذي تأخر. ستنتهي الرواية عند نفس النقطة، كاشفة في النهاية عن بنية دائرية، هي نفسها الطريقة التي يتعرف بها وعي الشخوص في النسق الريفي على صيرورة الوجود.
من خيط رائحة الرجل يبدأ استرجاع ما حدث. الرائحة حيلة مثالية.. الرائحة ذكرى، أثر. ذكرى الرائحة تستدعي ذكرى الحكاية.. بأشخاص باتوا أشباحا الآن. يبدأ السرد وقد مات كل أبطال السارد.. رغم أنه ينتهي بموتهم أيضا.. وكأن شخوص هذا النص ماتوا جميعا مرتين، مثلما سيولدون مرتين كما سنعرف.
لا يدخر السارد شيئا من مزيات السارد العليم، فهو يسترجع، لكنه أيضا يستبق.. فضلا عن اللحظات التي يثبتها كحاضر. من هنا تكتسب بيت الديب مراوحاتها الزمنية، بحيث تصير نواتها الصلبة ـ حبكتها المركزية ـ قادرة على تدوير كل ما سبق بمقشتها، لتأتي به على عتبتها.
وبالرغم من أن «بيت الديب» ليست بالرواية القصيرة، (320 صفحة من القطع المتوسط) إلا أن مساحات التلخيص فيها ليست بالقليلة. تكمن إحدى مزيات السارد العليم، عندما نكون بصدد عمل متسع في الزمن، على حرية تأرجحه بين «مسرحة» أحداث بعينها، وطرحها كمشاهد، و»تلخيص» أخرى في نسيج الحكي، وهنا بالضبط يكمن أيضا الاختبار الحقيقي لقدرته على إقامة اتزان حقيقي بين هاتين الطريقتين اللتين تصنعان الإيقاع. هذه المراوحة تجعل النص السردي يتحرك بين ما يُروى وما يُرى. وفي بيت الديب، يستدعي المشهد الواحد دائما ظلالا من الحكايات، تربطه بتاريخه، أو بمستقبله. السارد هنا حكاء، يتحرك في كل الأزمنة، فهو أطول عمرا من كل شخوصه، ويعبر الأمكنة المتباعدة، ليس كعين كاميرا محايدة، لكن كصاحب معرفة وكمستبطن، وأحيانا كرائي ومتنبئ.
أيضاً، فالقفزات الزمنية ضرورة ملحة، كي لا يفقد عمل كهذا تماسكه. وربما بدءا من منتصف الرواية، يتضح ذلك بشكل أكبر.. فبعد التأسيس للمكان ولتاريخ القرية ولطبيعة الشخوص في جيل «مباركة» المحوري ـ والذي شهد الوجود الفعلي للقرية على الخارطة المصرية وجعلها لأول مرة جزءا من العالم الخارجي ـ يتحقق كل فصل من لحظة مفصلية، أو منعرج دال، ليصير تلخيصا لحقبة، أو حدث بارز، تتحرك الشخصيات على خلفيته. بعد أن كان هناك جيل «السبعين»، الذي سمي بهذا الاسم بسبب ليلة زفاف مباركة، التي هاج فيها الرجال وعادوا إلى بيوتهم ليخصبوا نساءهم، سيصير هناك جيل حرب اليمن، وجيل النكبة، وجيل النكسة، وجيل الانفتاح، وجيل حرب الخليج. إنها تفصيلة عامرة بالدلالة، تكتسب الأجيال مسمياتها من السياقات الخارجية التي صارت جزءا منها، بعد أن كانت تكتسب هذه المسميات فقط من وقائع داخل الحدود الضيقة للقرية.
يمكنني هنا أن أورد نموذجا للطريقة التي يتحقق بها جدل العام والخاص عبر خطاب السارد:
«قبل أن تحسم الحرب الأوروبية الثانية مصير أي من المتحاربين قوضت مملكة مباركة»..أو:
«نزل السادات سلم الطائرة عائدا من القدس، وخلفه عشرة من الأسرى كانوا في عداد المفقودين، أخذت الكاميرا تستعرضهم. شهقت مسعدة وارتمت في مكانها عندما رأت وجه عادل يملأ شاشة التليفزيون أمامها». إن هذا المقطع الافتتاحي لأحد الفصول، على سبيل المثال، يصلح نموذجا ممتازا للطريقة التي يؤسس بها أحد الفصول لنقلة زمنية: نعرف السياق الزمني، عودة السادات بعد زيارة القدس بكل ما يكتنز به ذلك من أبعاد، عودة عادل ابن مسعدة المفقود بما سيترتب عليه في الحبكة الروائية، ودخول التليفزيون إلى العش كعلامة ثقافية جديدة، توصل رسالتين في اللحظة نفسها: واحدة خاصة، تعني فردا بعينه، والثانية عامة، ملقاة على المجموع.
(3)
يتجسد المكان كمتخيل فني، بينما يتحرك في التاريخ، أو يحركه التاريخ، الماثل كوقائع لا شك في حقيقة وجودها.
العش علامة مكانية تجمع الأرض بالسماء، فالعش أرض معلقة، يابسة سماوية، و هي مكان للطيور(الكائنات غير الأرضية، الكائنات المهاجرة التي لا تعرف الإقامة).. وكذلك تبدو العش/ القرية، في مسافة محتملة بين الواقع والخيال، ويشتبك التاريخ الذي نعرفه، وإن اختلفت وجهات نظرنا فيه، مع المكان المتخيل.
إنها مباركة ومنتصر مرة أخرى. فبينما تخلق مباركة وجودها المفارق داخل العمل، لتصبح بالتدريج أقرب لأشباح المخيلة، ينهمك منتصر في أن يصبح جزءا من التاريخ. وبعد أن بدأ كقاطع طريق، مواصلا عمل أبيه، يصير وطنيا ضد الاحتلال الانجليزي. في لحظة ما، كان الاثنان ( مباركة ومنتصر) يتمرغان في مكان واحد، لكنهما ابتعدا، صار كل منهما وجها لنفس الحكاية، لا يمكنك رغم ذلك أن تراهما في اللحظة ذاتها. بقدر ما تبتعد مباركة عن سمت الشخصية الاعتيادية نحو مالا يصدق، بقدر ما يبتعد منتصر في الاتجاه المعاكس، ليصير اسما قابلا للتوثيق ومن ثم للتصديق.. يصير «حقيقة» مثبتة في الصحف ومن بعدها الصحائف، بينما تغيب هي عن شروط الكائن المتجسد. هل بالفعل تفرق بهما الطريق، أم أن ذلك كان لابد وأن يحدث، حتى لو لم يكن السبب دخول عبثي للعم مجاهد أدخل مباركة إلى دواره وأخرج منتصر منه؟
(4)
في بيت الديب تتواتر الأجيال، وتتشعب الأسماء.
بدءا من الجيل التالي على مباركة ومنتصر، تنتقل الشخصية الريفية إلى محك مفارق، عندما تدخل العش عصر التصنيع. مصنع الغزل، الذي يقيمه سلامة بعد عودته من الحرب، يمثل أول قيمة وافدة، على يدي شخص رأى العالم وهو يحارب في صفوف الانجليز، وقرر أن مكانه بعد العودة لن يكون الحقل.
تنقلب لعبة السلطة بعد قليل، يصبح سلامة مجاهد الديب، الذي يحمل اسم عمه المناوئ للسلطة، في سدة السلطة. ثمة»سلامة الديب» قاطع طريق»، وسلامة الديب «عمدة للعش». في تحرك رمزي عميق، يعيد سلامة ترميم السراي الذي حكم منه الأتراك العش لفترة ابتسرت، ليجلس على كرسي المحتل. سلامة سيتحدى العفاريت التي تقطن السراي، رغم أن وعيه وتعليمه ليسا كفيلين بمواجهة كتلك. إنها حرب جديدة كان لابد أن تربحها السلطة أمام الإيمان الجمعي للمحكومين، بمن فيهم أسرة الديب ذاتها. سلامة، الذي يجسد جزئيا بعضا من قيم عصر الصناعة، هو العقل الذي ينتصر على العفاريت، وسلامة، الذي يجسد لأول مرة رمزا للسلطة من داخل العش، يؤسس لفردية هذه السلطة في مواجهة المجموع، يبيت وحده في السراي فور تطهيرها، ويعود حيا من حصار الأعداء السفليين، لتصير السلطة أقوى من القوى الغيبية التي لا يمكن قهرها، وبالتالي أقوى من القطيع الذي يرى في هذه القوى أقسى ما يمكن مواجهته. في الحقيقة، يوطن سلامة سلطته عبر هذا الانتصار الرمزي تحديدا: لقد انتصر على العفاريت، وبالتالي فإنه جدير بالفصل بين البشر.
ولأول مرة، تسود العدالة داخل البيت عندما تنتفي خارجه: تجلس السيدات على الطبلية مع الرجال، ويأكلن الطعام نفسه.. في الوقت الذي تختفي فيه للأبد لفظة عدالة من القرية.
تتحقق العدالة الاجتماعية أيضا في البيت بزواج علي بمسعدة (اليتيمة المستضعفة، والوضيعة اجتماعيا). وتتحقق في العش، لأول مرة، قيمة لم تعرفها من قبل: يتزوج الشاب بواحدة عبث معها. السلطة، مجددا، تقبل بهذه الزيجة لتحافظ، شكليا، على نسقها الأخلاقي. لا يتحرك سلامة في إقراره بضرورة إصلاح الخطأ من موقف أخلاقي عميق، بل من فكر نفعي. سلامة، يفكر في نفسه، وفي بيته، كصورة، ويعمل بدأب على تعميق ذلك. هذا الولع بـ»الشكل»، هو ما يجعله، في الفترة التي انتزعت فيها العمودية منه قبل أن تعود، يظل حريصا على ألا تهتز الصورة رغم أن دوالها «كالسراي، وغرفة التليفون، والخفراء» لم تعد تحيل لمداليل. إنه يؤجر خفراء، ويحتفظ بهيبة السراي، حتى لو كان ذلك بلا معنى في الواقع.
تحقق علاقة علي بمسعدة ما بُتر في علاقة منتصر بمباركة، لكن الفتاة الجريئة لا تكتفي بذلك. تبوح مسعدة بصراخها الليلي تحت وطأة المتعة، غير آبهة بأي قيم أو أعراف. وفي مفارقة دالة، وعميقة المغزى، تغطي أصوات اللذة العالية على صوت الآذان الوقور المتحفظ. تنتصر مسعدة للفردية، لأول مرة فيما يخص أنثى، وتواجه قيم السلطة، بغريزتها فقط.. بالضبط، مثلما كانت «الفتاة الأولى والأخيرة التي بدأت العمل في المصنع».
مسعدة تبدو تجسيدا فنيا للنمط الأنثوي الجديد الذي لم يكن يمكن أن يوجد قبل تلك الحقبة. ولنلاحظ أن «المصنع» هو المكان الذي شهد مضاجعتها مع علي قبل الزواج. المكان المغلق، المحرض على الخطأ، والذي يختلف عن الحقل، نقيضه المفتوح والقائم في النور.
بدءا من هذا التوقيت، سينساب أبناء آخرون من رحم مباركة، ليسوا من صلب زوجها. الخطأ الذي كان من المفترض أن يكون عابرا، صار مسلكا قابلا للتكرار، من دون وخز ضمير. الفاعل هو «ناجي»، ابن مجاهد، والشخصية التي تقدمها الرواية دائما مقترنة بالخفاء والظلمة، قبل أن تختفي بلا سبب، تاركة سببا واحدا لذلك الغياب هو أن ثمة جنية ندهت ناجي وأسرته.
في منعطف حاسم، سيبدأ الجسد حربه المعلنة ضد السلطة: الدينية والأخلاقية والأبوية. عندما تنتقل الأسرة إلى السراي، ترفض مسعدة مصاحبتهم ـ مخاصمة منطق القطيع مجددا ـ فتكافأ. ومقابل الهمود الذي ينتاب الجميع في بيت السلطة المستحدث، يستمر التوهج في الهامش المناوئ: «تسلل الهمود إلى المخادع المتراصة صفا واحدا على ممر ضيق. لم تنج سوى مسعدة التي لم تنتقل من الدوار. استمرت في المباعدة بين فخذيها لعلي وإطلاق صياحها كل ليلة، ثم المباعدة بينهما وإطلاق صياحها بين يدي الداية مرة كل تسعة أشهر». التحقق الجسدي بوجهيه: المتعة والإخصاب يتحقق بعيدا عن بيت السلطة. بالمقابل، فبمجرد دخول أسرة الديب إلى السراي سيبدأ الفقد، وستنسل الأرواح من أجسادها تباعا، وإن اختلفت الأسباب. من سيذهب إلى الحرب، لن يعود مثلما عاد سلامة، بل سيقتل كسالم ابن مباركة، أو سيفقد كعادل ابن سلامة نفسه، الذي سيعود بعد سنوات طويلة فاقدا جزءا من عقله، أو سيعود فاقدا جزءا من جسده مثل علي.
في الجيل التالي، سيطرأ تحول جديد، غير أن مباركة لن تكون بعيدة عنه.سيبدأ الأطفال الذكور رحلة جديدة، حيث يدرسون في المدينة، مباركة حاضرة في هذا الجيل أيضا، لأنها ستصير المسؤولة عن رعايتهم هناك. في المدينة فقط، سيصبح بمقدور مباركة أن تصبح فردا. وحدتها ستجعلها قادرة على تأمل جسدها لأول مرة، في مرآتها وليس في عيني رجل. «عرفت في فردوسها كيف تحب نفسها. تخلع كل ملابسها بعد خروج الأولاد، وتتأمل عريها على مهل في المرآة، ترى لفة فخذها بحثا عن التغضنات والدوالي التي تشكو منها النساء في سنها، فلا تجد أثرا في الفخد البضة. بأصابع مضمومة كمنقار طائر تسرح بيديها على الفخذين، تقرص أسفل بطنها وتمدهما إلى ثدييها الممتلئين من دون ترهل، تقرص الحلمتين المتوهجتين بحمرة نحاسية..».
لنلاحظ أيضا أن مباركة تقوم بدور الأب. بات هناك جيل من الذكور نشأ في كنف السلطة الأمومية فقط. ستعود مباركة بحفيدة، أتت من علاقة محرمة بين ابنها يوسف وجارته. يوسف الذي ليس من صلب أبيه، ينجب فتاة تقيد باسم امرأة ليست أمها، بعد أن تزوج ابنة المرأة ليخفي الفضيحة. لعبة قدرية غير أنها متقنة، ثمرتها»عطية»، والتي، مستقبلا، ستهرب في لحظة.. كأنها تحقق الحل الذي كان يجب على مباركة اللجوء إليه قبل سنوات طويلة، صورة أكثر شجاعة لمباركة، تصلح كامتداد لها وتلخص كل انحرافاتها السرية.
هذا الجيل، الذي لم يعرف مهدا سوى السراي، ستحصده الكوليرا، مع بعض أفراد الجيل الأسبق. وكأن اللعنة إن لم تأت من الحرب بشكلها المباشر، ستأتي من الوباء الذي حمل الجنود بذرته.
سيأتي جيل جديد تمنحه مباركة نفس أسماء الجيل الذي أطاحت به الكوليرا، لنجد أنفسنا من جديد أمام الأسماء نفسها التي ودعناها. لتبدأ متاهة جديدة من الأسماء التي تستدعي أسلافها، وكأننا في عود أبدي. هذه المرة، ستبرز أخيرا المدينة بتعقيدها الحقيقي، مدينة أبعد من الزقازيق أو بلبيس، أقصد القاهرة. وسنرى لأول مرة انتقال واحدة من فتيات الديب للجامعة، إنها عطية بالذات، حفيدة مباركة التي تدرس الطب، المرتبة الأعلى في سلم الشهادات الجامعية.
يموت سلامة لحظة الإعلان عن وفاة عبد الناصر. إنها مفارقة متخمة بالدلالات، إذ تمثل تزامنا في اللحظة المفصلية التي صارت فيها مصر بلا زعيم وصار بيت الديب بلا حاكم. بدءا من هذه اللحظة، سيسير بيت الديب بالتوازي تماما مع البيت الكبير.
محمود، شقيق العمدة الذي سيفشل في سد فراغه، يسير بالتوازي مع أنور السادات، الذي، للمفارقة، يعود بالغائب عادل من اسرائيل ضمن عشرة أسرى.
بعد موت محمود، ستعود العش بلا عمدة. «لم ترتد مجهولة، مثلما كانت قبل أن تكتشفها بعثة محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، لكن الحكومة لم تعد ترى ضرورة للنظر إلى القرى…». ارتداد العش إلى طفولتها يشبه ارتداد مجاهد إلى طفولته قبل موته، قرية شاخت حتى أنها عادت تحبو.
هذه المرة، هناك جيل الهجرة لدول النفط، جيل الطوب الأحمر، وحيث ستعود العش تتطابق مع مسماها، في عود جديد، فهي مكان لطيورها المهاجرة، يبقى مؤقتا، محطة بين الغياب والحضور.
في خضم هذا التواتر المتلاحق لأجيال متعاقبة، سيتفتت رويدا رويدا السراي، كعلامة على السلطة. مثل دولة عظمى تفتتت وعادت دويلات، ستتفرق الأسرة على البيوت.. وسيصير المكان الذي كان رمزا للسلطة الذكورية ومركزا للحكم، مجرد هامش تقطنه إناث فقط، حين يخلو على مباركة ومسعدة وزينة.. اللائي تنضم إليهن زينب، قبل أن تزورهما عطية العائدة من غيبتها. الرجل الوحيد الذي سيقتحم هذا المكان سيكون «منتصر» آخر، هو حفيد منتصر، يطابقه، وله نفس رائحته.. وكأن منتصر وجد لنفسه مكانا أخيرا في البيت الذي لم يكن من الممكن أن يخطوه. تنتهي الرواية هنا، منفتحة على احتمالات عدة لدراما جديدة يمكن أن يخلقها رجل في كنف نساء.
إن «العش»، بقدر ماهي صورة تلخص وطنا، فهي مكان يلخص العالم، لذا فهي لا تخلو من بعد رمزي. تعبرها الأوبئة، يغزوها المحتلون، ترسل شبابها للحرب، يفنى أبناؤها ويولدون، تحوي كافة الأنماط الإنسانية وعذابات الإنسان الأساسية بالوجود.. وإصراره في النهاية على البقاء.