( 1 )
يسمونني المجنون. كل من يعرفني من أولاد حارتنا يقول بمجرد أن يرى وجهي: جاء المجنون! التصق بي الاسم حتى كدت أنسى اسمي الحقيقي. أتذكر أن أبي كلفني بشراء ستة أرغفة من المخبز القريب من بيتنا. خرجت في الظهيرة، وعدت عند العصر. لم أكن ولدا كسولا يحب اللعب لكي أتأخر إلى هذا الحد. كل ما فعلته يومها أني انتظرت أن يأتي دوري في الشراء، لكني لاحظت أن كثيرين غيري يأتون بعدي وينصرفون قبلي، بعد أن يحصلوا على ما يريدون. حين خف الزحام قليلا، قال لي البائع العجوز: أنت ولد مجنون، لأنك ظللت واقفا في مكانك ولم أتنبه لوجودك إلا الآن. لماذا لم تصرخ لتناديني؟ لماذا لم تمد يدك وتلوح بها لكي أراك كما يفعل سواك؟ قلت: كنت أنتظر دوري. قال بإشفاق: ستظل متأخرا دائما لو انتظرت أن يأتي دورك. ليس هناك طابور و لا يحزنون، لأن النظام مفقود والصبر له حدود، والزحام لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد. كل الذين حصلوا على الخبز قبلك صرخوا.. فسمعتهم، أو لوحوا بأيديهم.. فرأيتهم. هذا كل ما في الأمر يا مجنون! وحين عدت للبيت وبخني أبي توبيخا قاسيا على تأخري الشديد، ثم ما لبث أن ضحك وهو يقول: من حق الناس أن يسموك المجنون، ما دمت تحب الوقوف في طابور ليس له وجود!
حين كبرت قليلا، أخذ أبي يقتطع مما يحصل عليه من عمله لكي ينفق على تعليمي باعتباري ابنه الأكبر الذي يتمنى أن يفرح به. منذ بدأت أتعلم، لاحظ الذين يعلمونني أني ولد عفريت مناكف ومشاكس، لأني كنت أمطرهم بأسئلة فجائية، مترقبا أن أتلقى إجابة على كل سؤال. ومن ناحيتي لاحظت أن منهم من يفرح بأسئلتي، ومنهم من يقول إنها أسئلة خارج المقرر الذي لا بد أن نلتزم به وحده، أما الكثيرون منهم فلم يكونوا يهتمون بالرد على أسئلتي، قائلين إني لم أكبر كما ينبغي، ويتحتم أن أنتظر إلى أن يكبر عقلي ويستطيع أن يستوعب ما هو صعب.
عشقت منذ صغري أن أستمع إلى حكايات حارتنا. يا ما تنقلت من مقهى إلى مقهى، لكي أستمع إلى ما يقوله الشعراء المتجولون على وقع أصوات الرباب الجميلة. تعودت تدريجيا أن أندمج مع ما أسمعه عن الأشياء العجيبة التي حدثت لكل بطل من أبطال الحارة أيام زمان. في مرات كثيرة، لم أكن أشعر بوجودي، ولا بأني مجرد واحد ممن يجلسون في هذا المقهى أو ذاك. كنت أتوحد مع هؤلاء الأبطال رغم ما يفصلني عن كل بطل منهم من زمان سحيق، لم يعاصره أبي، ولا حتى جدي، وإن كان كل منهما قد سمع نفس ما سمعته أنا من بعدهما، فهز أبي رأسه وهو يتمايل ويتعجب، وتمتم جدي بخشوع: سبحان الله.
قنعت في البداية بالتنقل بين مقاهي حي قاسم الذي ولدت فيه، ثم دفعني الفضول لأن أعرف ما يقوله الشعراء المتجولون في حي رفاعة المجاور لحينا. هكذا بدأت أتردد على حي رفاعة لألتقي مع أصدقائي الذين ولدوا فيه، ولأجلس معهم على مقاهي حيهم. الحكايات هي نفس الحكايات، لكن الشعراء في حي رفاعة يروونها بطرق مختلفة عما يرويه شعراء الحي الذي ولدت فيه. في حي رفاعة لا يهتمون كثيرا بما فعله قاسم، وفي حي قاسم يتحدثون قليلا عن رفاعة، أما ما يتفق فيه الجميع، فهو تعظيمهم وتقديرهم للجد الأكبر الذي سميت حارتنا كلها باسمه. إنه الجبلاوي الذي سمعت عنه الكثير من أبي ومن جدي وممن علموني، وكنت في نظر بعضهم عفريتا مناكفا ومشاكسا، لأني كنت أسألهم أحيانا عن طبيعة هذا الجد الأكبر الذي تخشع أصواتهم، وقد تدمى عيونهم، وهم يتحدثون عنه بالاسم، مشفوعا بكلمات الإجلال اللائقة به كما يقولون.
دفعتني حيرتي لأن أتجرأ أكثر، وذات مساء ضاق صدري بالحيرة التي تنتابني كلما حاولت أن أعرف لماذا يقدس أولاد حارتنا هذا الجد الأكبر رغم أنهم جميعا لم يزعموا أنهم قد رأوه بعيونهم، وإن كان منهم من أكدوا أنهم رأوه وهم نائمون. وبالطبع فإني اندهشت بيني وبين نفسي ممن يقولون إنهم رأوه أثناء نومهم، لأنهم في الحقيقة لا يعرفون أي شيء عن ملامح وجهه أو طول قامته أو لون عينيه وما قد يشع منهما عند الفرح أو عند الغضب، فكيف استطاع هؤلاء أن يؤكدوا أنهم رأوه هو بذاته وليس سواه أثناء نومهم؟!
السؤال الذي يعذبني كثيرا هو لماذا خلق الحسد؟ إن الحسد ظل ملاصق لكل جسد. منا من يصادقه، ومنا من يتجنبه ويحاول أن ينساه أو أن يتناساه. والحسد ليس جديدا علينا جميعا بل إنه موجود منذ بدأت الحياة نفسها في حارتنا. لقد أنجب الجبلاوي خمسة أبناء، هم إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم. أربعة من هؤلاء ولدوا من أمهات جميلات بيضاوات أو خمريات، بينما ولد الخامس وهو أدهم من جارية سوداء. وبين هؤلاء ومعهم ولد الحسد، لكنه لم يعلن عن نفسه إلا حين اختار الجبلاوي أدهم لكي يقوم بإدارة شؤون الوقف تحت إشرافه. يومها جاهر إدريس بالعصيان لأنه رأى أنه الأحق من أدهم بإدارة هذا الوقف، فهو الأخ الأكبر من ناحية كما أن أمه بيضاء من ناحية ثانية، وحفاظا على جبروته وهيبته كان لا بد أن يقوم الجبلاوي بطرد إدريس من البيت الكبير شر طردة، ومنذ ذلك اليوم البعيد ظل الحسد يلازم كل جسد كالظل الذي لا فكاك منه.
حين ضاق صدري في ذلك المساء بما جثم فوقه من خواطر ومن أسئلة، قررت أن أزور الرجل الذي اهتم اهتماما شديدا بأن يدون ما عرفه من حكايات حارتنا، ولأني أحب هذا الرجل كان لا بد أن أندفع مشتاقا لزيارته، خصوصا أن حكايات حارتنا ظلت تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، وكان من المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وهو ما فعله لبيب حرفوش ابن حارتنا الذي أحبه، ولو كره الكارهون أو اعتدى عليه المعتدون الجاهلون.
( 2 )
قبل أن يتوجه المجنون إلى بيت لبيب حرفوش، شاء أن يتسكع قليلا إلى أن يقترب الموعد المحدد، لأنه يعرف أن صديقه الكبير الذي سجل حكايات حارتنا وسواها من الحكايات هو من القليلين الذين يعشقون الدقة في كل أمر من أمور حياتهم. جلس المجنون ليشرب الشاي الأخضر في أحد المقاهي القريبة من بيت عجيب، وجاء الجرسون بكوبين أحدهما مملوء بالماء والثاني كوب الشاي، وكما هي العادة رفع المجنون كوب الماء ليروي عطشه أولا، لكنه لم يرتشف سوى بضع قطرات، وأعاد الكوب إلى المائدة النحاسية الصغيرة وهو ينظر متأففا إلى لون الماء المائل للصفرة، بينما تتعلق بين قطراته أجسام دقيقة سوداء وصفراء. ضحك وهو يقول لنفسه: ماذا جرى للنيل؟ ألم يكن الأجداد القدماء يقدسونه ويسمونه المعبود حابي؟ على كل حال فالذنب ليس ذنب حابي، بل ذنب الذين لم يعودوا يحترمونه!
في الطريق إلى بيت عجيب شم المجنون رائحة العطن منبعثة من تل مملوء بالزبالة. قفزت من التل بمجرد اقترابه منه عدة قطط سوداء وبيضاء وصفراء. أما عقله فقد قفز إلى أزمنة بعيدة حين كان أجداده القدماء يعشقون القطط، ويرون أنها رمز جميل للجمال. كانوا يسمونها باست الجميلة المعبودة، وقاموا بصنع تماثيل، تعبر عن مدى حبهم لها. ها هي الآن تقفز من تل الزبالة!
تهلل وجه لبيب حرفوش وهو يصافح المجنون، قائلا:
– طالت غيبتك. سألت عنك مجموعة من أصدقائي الحرافيش، وقيل لي إنك أدمنت الخروج بعيدا عن حارتنا.
– عدت بالفعل منذ فترة قصيرة بعد أن اشتقت لحارتنا ولكي أسعد بلقائي معك.
– ولماذا تهجر الحارة ما دمت تشتاق إليها كلما ابتعدت عنها؟
ضحك المجنون بأدب شديد، قائلا:
– دائما أحب الخروج لكي أتجسس على الحواري القريبة والبعيدة عن حارتنا. أريد أن أعرف ما يدور في شوارعها وأزقتها.
– أما أنا فلا أطيق البعد. لا أحب أن أشعر باللوعة التي تنتاب قلوب الذين يخرجون ويذهبون بعيدا. في نفس الوقت فإني أكتفي بأن أعرف كل ما يدور هنا.
– وهل هذا يكفي؟
– أعتقد أنه يكفي لي أنا على الأقل. قد تختلف البيوت والمقاهي في حارتنا عن بيوت ومقاهي الحواري القريبة منا أو البعيدة عنا، لكن الإنسان في كل حارة هو الإنسان. لا يهمني لونه ولا شكله ولا طريقة كلامه. ما يهمني هو العقل الذي يهتدي به الإنسان، والغرائز التي تدفعه للصواب أو للخطأ. هل لديك اعتراض؟
– لا يستطيع الصغير أن يعترض على ما يقوله الكبير. هكذا تعلمت منذ صغري!
– هذه تربية قديمة، وبحكم أني أكبر منك فإني تعلمتها قبلك، لكني أرى أنها تربية ناقصة حتى وإن كانت جميلة. على أي حال فإني أظن أنك تزورني الآن لكي تناقشني فيما قمت بتسجيله من حكايات حارتنا. أليس ظني في محله؟
– جئت لأستفسر، وليس لأناقش. في ذهني سؤال حائر لا يريد أن يتزحزح.. لماذا قمت بقتل عرفة ساحر حارتنا الرائع رغم أنك تحبه؟
ضحك لبيب حرفوش، وقال وهو ما يزال يضحك:
– هذه هي المرة الأولى التي يتهمني فيها إنسان حتى لو كان مجنونا بأني قاتل! وأنت نفسك تعرف أني من الناس الذين يتحكم فيهم العقل، والعقل ضد القتل. صدقني إذا قلت لك إني لم أقتل عرفة ولا أي إنسان طيلة سنوات حياتي، ورغم هذا فأنا شخصيا قد تعرضت لمحاولة قتل!
– وكلنا فرحنا لأن القاتل الجاهل لم ينجح في محاولته.
– الحمد لله. ولنعد إلى عرفة..
ضحك لبيب مرة ثانية وهو يكمل كلامه:
– أنا لم أقتله. كل ما في الأمر أني قمت بتسجيل حكايته منذ أن ظهر للمرة الأولى عائدا للحارة، إلى أن شاء الناظر المفتري قدري أن يتخلص منه، فاندفع أعوانه ليضعوه في جوال وفعلوا نفس الشيء مع زوجته عواطف، وقاموا بإلقاء كل منهما في حفرة واحدة، ثم أهالوا التراب عليهما، وهما على قيد الحياة.
– ولكن.. هل شبع عرفة وزوجته موتا بعد ذلك؟
– أنا لم أشهد ما جرى بعيني طبعا، لكني سجلت حكايات حارتنا، بفضل أحد أصحاب عرفة، إذ قال لي يوما: إنك من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟.. وأعترف بأني قد نشطت إلى تنفيذ الفكرة، اقتناعا بوجاهتها من ناحية، وحبا فيمن اقترحها من ناحية أخرى.
ومرة أخرى ضحك لبيب وهو يقول:
– أظن أني دافعت عن نفسي بما فيه الكفاية، ولن تستطيع بعد ذلك إلا أن تعلن براءتي!
– أنا كنت أستفسر لا أكثر.
– ولماذا خطر بذهنك أني قاتل عرفة؟!
– لأن حكايات حارتنا كما سجلتها أنت حكايات مليئة بالقتلى وبالقتلة، لدرجة أني أحيانا أتصور أن جذور الأشجار لا ترتوي من الماء بل من الدم!
– معك حق فيما تقول، فهذا ما جرى في حارتنا، منذ أن قتل قدري أخاه وابن أمه وأبيه بسبب الغيرة الحمقاء. وقتها أنكر القاتل أنه قتل أخاه همام، إلى أن تفحصه أدهم المسكين، أبو القاتل والمقتول، وأمسك بطرف كمه وقال في فزع: دم! ما هذا؟ دم أخيك؟! فحملق قدري في كم جلبابه ثم انكمش بحركة لا إرادية، وحنى رأسه في يأس واعترف بحركته اليائسة أنه قتله، فجذبه أبوه أدهم، ليخرجا معا إلى حيث مكان الجثة، وهناك صرخ الأب متفجعا: نحن أسرة الظلام. لن يطلع علينا نهار! وكنت أحسب الشر مقيما في كوخ أخي إدريس، فإذا به في دمنا نحن. إن إدريس يقهقه ويسكر ويعربد، أما نحن فيقتل بعضنا بعضا.
قال المجنون معلقا:
– هذه أول حادثة قتل في حارتنا، وربما على وجه الأرض، لكن بشاعتها أن الأخ يقتل أخاه، والأكثر بشاعة أن هذه الحادثة قد تكررت مرات تلو مرات. ألم يقتل ست أخاه الطيب أوزوريس في زمان أجدادنا القدماء؟ ألم..؟ ألم..؟ يبدو أن القتل لا العقل هو الذي يسطر الأحداث التي سجلتها لنا!
– أرجو ألا تكون محبطا وحزينا إلى هذا الحد. إن الأرض التي تدور بنا قد شهدت انتصارات كثيرة للعقل على القتل، تماما كما شهدت انتصارات للقتل، إنها حرب لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ!
– لكن الذين يقتلون أكثر ممن يعقلون!
– ربما يكون هذا صحيحا، لكن ما جرى وما يزال يجري في حارتنا يكاد يكون هو نفس ما جرى ويجري في الحواري الأخرى سواء أكانت قريبة منا أو بعيدة عنا.
نهض المجنون شاكرا ومحييا ليتهيأ للانصراف، وقال:
– أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك فأنا أخذت من وقتك الكثير، ولكني أرجو أن تسمح لي بتكرار الزيارة كلما خطر لي خاطر أو زلزلني سؤال.
قال لبيب وهو يربت على كتف المجنون:
– على الرحب والسعة. فلتكن لنا لقاءات أخرى في القريب.
( 3 )
لم يستطع أن ينام. داهمته خواطر مزعجة بعد عودته من زيارة لبيب حرفوش. خيل إليه كلما انقض عليه خاطر أن طائرا من الطيور الجارحة السوداء يحوم فوق رأسه. عانى من الأرق ما عاناه، لأن النوم لم يهبط ولم يترفق. جرب – كما يفعل عادة في كل لياليه – أن يتناسى العناء بالاستماع للغناء. تضاعف العناء عندما فشلت التجربة. نهض مغتاظا من السرير. حاول أن ينادي سكينة الروح، بل أن يناجيها متضرعا. بادر لعمل كوب من الشاي الممزوج بالنعناع. جلس متظاهرا أنه يعيش حالة استرخاء. شرعت يداه في تقليب صفحات حكايات حارتنا. زاغت عيناه وهو يحاول أن يقرأ. صرخ فجأة، وهو يقول لأشباح الصمت الساخرة من تساؤلاته ومن صرخته:
هي فوضى.
هي فوضى تتمدد، كأنها ماسورة من مواسير المجاري، وقد انكسرت دون سابق إنذار وسط شارع مملوء بالتراب وبالزبالة، لكي تحوله خلال دقائق إلى مستنقع من الطين والوحل، ينزلق فيه المنزلقون، ويسخر منهم من لم ينزلقوا بعد، وفجأة يتحول الشارع كله إلى مسرح مشوه الأركان، تتعالى فيه الشتائم التي تواجهها – على الفور- شتائم مضادة، يستمتع الجميع بأن يتقاذفوها ويتبادلوها فيما بينهم بسرعة البرق.
هي فوضى.. لكني لم أتبين ملامحها المقززة إلا حين هجرت حارتنا لأول مرة. أخذ خيالي يستعيد كل ما جرى فيها وأنا عنها بعيد. بدأت أحاول أن أفهم لماذا يتقدم سوانا ولماذا نغوص نحن في الوحل؟! وحين رجعت عرفت معنى أن يرضى كل إنسان منا بما يحيط به من فوضى. كلنا نستسلم للفوضى، وكلنا نقنع بها، وشيئا فشيئا نتحول نحن أنفسنا إلى كتل فوضوية تتحرك على الأرض دون ضابط أو رابط. نفتح عيوننا كل صباح لنشتم أولادنا. نغادر البيوت إلى أعمالنا إذا كنا حقا نعمل. تتراشق في الطريق نظراتنا العدائية المتبادلة بيننا. نغتاب الغائبين، والغائبون يغتابوننا في أماكن أخرى.
الكلمات فقدت معانيها. الحرية التي أحلم بها لم يعد لها معنى محدد. لم تعد كلمة جميلة مكونة من عدة أحرف. الحرية تحولت إلى قطعة رخوة من العجين. كل واحد منا يستطيع أن يفردها أمامه. يستطيع أن يمطها فتصبح قطعة مستطيلة، وبإمكانه أن يكورها، وإذا اشتهى أن يجعلها قطعة مربعة الشكل فلا بأس. الحرية أن نذل سوانا. أن يدوس القوي المتجبر على رقبة أي ضعيف يصادفه. أن يستهزئ الضعيف بمن هو أضعف منه. والحرية عند المرأة أن تخطط للزواج من رجلين في وقت واحد، بشرط أن يكون أحدهما غنيا حتى لو كان عجوزا متهالكا، وأن يكون الثاني مفتول العضلات حتى لو كان فقيرا معدما. ولم لا؟ لم لا طالما أن الرجل في حي قاسم يستطيع أن يتزوج امرأتين أو أكثر في وقت واحد؟ لماذا يعطي الرجل لنفسه حرية أن يفعل ما يشاء، بينما يمنع المرأة من أن تتساوى معه؟ متى يكف الرجال عن الأنانية؟ ولماذا يسرق اللصوص الكبار ما يسرقون؟ لماذا يسرقون حتى اللقمة من أفواه الجائعين؟ إنهم لا يرتكبون الخطايا، فهم يمارسون الحرية!
من يلتهم الحمل الجائع
غير الذئب الشبعان؟
ارتاح الرب الخالق في اليوم السابع
لكن لم يسترح الإنسان!
أليس من حقي أنا أيضا أن أفرد أمامي قطعة العجين الرخوة؟ إني أمارس حريتي في الفرجة على ما يجري طيلة الليل وفي وضح النهار. أتفرج على الذين يمارسون حرية التسول أو حرية ابتزاز الآخرين. أتفرج على حرية الشبان المتصعلكين في التحرش بالبنات، وفي اغتصاب بعضهم لبعضهن أمام أنظار الجميع. أتفرج على أصحاب الأعمال وهم يتركون لأمثالي حرية إطلاق الأقوال:
هذا أوان الأونطة
والفهلوة والشنطة
تعرف تقول good night
وتفتح السمسونيت
تقفل بيبان الحارة
وتقول بتفتحها
أما الحواري…
فملعون أبوها… الحواري
يوشك الفجر أن يقترب، لكن النوم لم يهبط ولم يترفق. فلأمارس حريتي في أن أتفرج وحدي على حارتنا. ها هو أول حي من أحيائها الثلاثة يوشك أن يكون مهجورا. لم يعد يسكن فيه غير العجوز المرابي كوهين ومعه قليلون آخرون. هم يعرفون أن الناس تكرههم، لأنهم على سواهم يتباهون. يقولون إن حيهم هو حي الجبلاوي المختار، لأن هذا الجد الجبار قد كلم جبل في الخلاء ذات مساء، وهم يتناسون أن الجد الجبار الذي لم يره أحد من أبنائه أو أحفاده قد كلم رفاعة بعد ذلك، كما أنه أرسل خادمه قنديل إلى قاسم ليبلغه رسالة من عنده.
هكذا تتجاور البيوت في أحياء حارتنا الثلاثة. هنا حي جبل المهجور تقريبا، وإلى جواره حي رفاعة، وهذا حي قاسم الذي ولدت ونشأت فيه،وكانوا يسمونه حي الجرابيع قبل أن يعلن قاسم أنه تلقى رسالة من الجبلاوي جد الحارة كلها. هنا تتجاور البيوت، أما القلوب والعقول فإنها لا تتحاور فيما بينها. لغة الحوار هي الشتيمة والضرب والركل، بل هي لغة القتل، لأن العقل في حالة نوم عميق!
ما أجمل الإنسان!
بل ما أقبحه!
ما أجمل الإنسان الأبيض الذي ينتسب لإدريس!
بل ما أجمل الأسمر والأسود الذي ينتسب لأدهم!
ما أجمل الإنسان الذي يسكن في حي رفاعة!
بل الأجمل منه هو الذي يسكن في حي قاسم!
ما أقبح الإثنين معا، وما أجمل القلة التي ما تزال تسكن في حي جبل، لأنه حي الجبلاوي المختار!
ويظل هذا ضد ذاك من البداية إلى ما ليس له نهاية، وأظل أنا.. أنا الذي ولدت في حي قاسم، لكن لي أصدقاء كثيرين ممن ولدوا في حي رفاعة.. لوني أسمر لكني لا أكره بيض الوجوه، وإن كنت أكره كراهيتهم هم للسمر وللسود. وفي الغربة حين أهجر حارتنا يداهمني الشوق، وفي الحارة حين أعود إليها ينغرز في روحي الشوك! وهاهي شمس الظهيرة تتحدى المارة أجمعين. كل هذا والنوم لم يهبط ولم يترفق. فلأمارس حريتي برغم الشمس ولأنطلق خارج البيت، كي أتجول على راحتي وحدي قرب جبل المقطم، كما أفعل عادة حين يضيق الصدر. ربما يرق قلب النوم لي فأنام في الخلاء تحت ظل أية صخرة هناك
( 4 )
هبت الرياح فجأة في الصحراء قرب المقطم، كأن خيولاً قد عطست في وقت واحد، فتناثر من أنوفها رذاذ يتطاير عبر الأجواء.. مجموعة أوراق، تبدو شاحبة ومصفرة اللون لكنها متناسقة الحجم، أخذت تتناثر متفرقة في كل اتجاه.. حاول رجل يبدو قصير القامة أن يجمعها دون أن تضيع منها ورقة واحدة.. ظل يجري يميناً ويسارا، يتقدم أحياناً أو يرجع إلى الخلف، وكلما اقتربت منه ورقة من تلك الأوراق، يشرع على الفور في التقاطها قبل أن تفلت مع حركة الهواء الذي يحملها ويتلاعب بها دون هوادة.
اكتست ملامح الرجل بالتوتر، وهو يطارد الأوراق، وكأنها أمله الوحيد في الحياة، وكأن ما فيها يحمل أدق أسرار حياته التي لا يجوز أن يعرفها أحد سواه. لم يهدأ للرجل بال إلا بعد أن استطاع جمع معظم الأوراق التي بدت كأنها أوراق كراسة لا يربطها رابط، منذ أن تآكلت أو انكسرت الدبابيس التي تجمع بينها.
تجول بعينيه، متلفتا حوله، وهو يجري بسرعة، كأنما يريد الإفلات من فتوات غلاظ القلوب يطاردونه دون رحمة. إنه يتذكر جيداً ما قاله صديقه ومعلمه له، قبل أن يقع له ما وقع. ليلتها قال هذا الصديق والمعلم: ( سنتلف كل شيء إلا الكراسة.. فهي كنز للأسرار، وسأجعلها فوق صدري، ولن نجد الهرب عسيراً كما تتوهم..)
من بعيد لمح الرجل وهو لا يكف عن الجري وجوها يعرفها حق المعرفة.. إنهم شحاذون ومتسولون ومعاقون كثيرون.. الرياح تحمل إلى أنفه روائحهم المقززة التي تعودوا على ألا تفارق أجسادهم، وظل هو مستسلماً لها طيلة السنوات التي قضاها بينهم.
توقف الرجل لحظات ليلتقط أنفاسه، وهز رأسه كأنما يكلم نفسه: هؤلاء شحاذون ومتسولون ومعاقون.. أعرف أسماء كثيرين منهم.. وأعرف أنهم لا يحبون أن يصوموا عن النظافة، ولكن ما باليد من حيلة، فلكي يكونوا نظيفين، عليهم أن يقتطعوا من القليل الذي يجمعونه من التسول والاستجداء، بعد أن يتعرضوا للإهانات أو الشتائم التي تنهمر عليهم كالسيل.. لكن من يدريني بأولئك الذين يندسون بينهم؟.. ربما كانوا مخبرين سريين.. لا بد أنهم يبحثون عني، منذ أن ( انتشرت الأخبار من غرزة إلى غرزة بأني سأقوم بإتمام ما بدأه صديقي ومعلمي..) ومن الضروري أن احتاط.. الحذر مطلوب.. فالطاغية لن يهدأ إلا إذا رآني أمامه، وقد وعد من يجيء بي حياً أو ميتاً بمكافأة كبيرة.
لا.. لا.. ليس لي من أمان، طالما أني ألمح شبح إنسان، باستثناء الذين أعرفهم من الشحاذين والمتسولين والمعاقين، بل إن واحداً من هؤلاء أنفسهم ربما يحاول أن يقبض عليّ أو أن يستدرجني إلى مكان أو كمين.. مرعبة هي أشباح الأحياء من الناس.. أما الموتى، فإن أشباحهم لا تعني لي شيئاً، بيني وبينها ألفة عجيبة، من طول ما أقمت بين المقابر، متخفياً عن عيون من يبحثون عني، ومن يحلمون بالمكافأة السخية إذا وجدوني وسلموني لناظر الوقف،لعنة الله عليه.
أحس الرجل بالخجل من نفسه.. مسح بإحدى يديه قطرات العرق التي تترنح وتتدحرج على الجبين، أما اليد اليمنى، فقد ظلت متشبثة بما استطاع صاحبها أن يجمعه من أوراق الكراسة العتيقة.. ألقى على الآخرين نظرة خاطفة، لكنها مكسوة بالعنفوان والفرح.. أحس بعدها بقدر من الراحة.. الخوف خفاش كئيب.. وها هو الخفاش يبتعد شيئاً فشيئاً.. تذكر – بمزيج من المباهاة والحسرة – ما سمعه بأذنيه من كثيرين، كان يلتقي معهم سراً أو بالمصادفة..
هؤلاء أجمعوا مما عرفوه أن صديقه ومعلمه قد واجه مصيره المحتوم بشجاعة، لا يتحلى بها أشجع الشجعان في هذا الزمان.. لم يكن صديقه ومعلمه فأراً مرتعداً، وهو يواجه ناظر الوقف، فلولاه ما كان هذا الطاغية قد ساد وطغى على العباد.. ها هو الآن يتحكم في مصائر الرجال والنساء، ويدرب الأطفال على أن يظهروا خائفين منه مهما كبروا مع الزمن.. ها هو يتلقى الأتاوات من الجميع.
(البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطريق ) قد أصبح بيتاً يتحكم فيه.. كأن هذا البيت الذي أقيم على امتداد صحراء المقطم قد أصبح ملكا خالصا له.. وها هم الأعوان والمنافقون والذين يجيدون التطبيل لأي طاغية يلتفون حوله، طمعاً في حظوة أو خوفاً من عقاب، قد يجيء لأتفه الأسباب.
آه من الخوف.. كم حاول صديقه ومعلمه أن يزيح الخوف من قلب كل إنسان، رجلاً كان أو امرأة، وكم تمنى أن يتربى الأطفال، دون أن يخافوا من الخوف.. إنه لا ينسى أبداً ما قاله الصديق والمعلم.. ( الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة.. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت..).
ما بين غمضة عين وانتباهتها.. اختفى الرجل، متشبثاً بما تحمله يمناه من أوراق.. اختفى تماماً كأن الأرض قد انشقت فجأة وابتلعته، لكنه لم يعرف أن المجنون قد رآه وهو يختفي.
( 5 )
رأى المجنون ما رأى، وهو متمدد فوق صخرة منبسطة تعلوها صخرة أضخم منها بكثير،وتتكفل دون قصد بإبعاد أشعة الشمس عما تحتها. أما الرياح فقد استكانت شيئا فشيئا، لينعم المجنون هو الآخر بمرور نسمات لطيفة متجاوبة مع الظلال الناعمة التي أوحت له أنها ملاءة سرير. أحس أنه يوشك أن ينام، لكنه سرعان ما تذكر الرجل الذي ظل يجمع أوراقا متناثرة ثم اختفى. قال لنفسه يبدو أن في الأمر سرا لكني لن أجري الآن وراءه، وعموما ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا!
منتعشا رفع رأسه قليلا، بعد أن أحس أنه قد نام بسلام كما لم ينم من قبل. لم يجد للشمس أثرا باستثناء ما تركته على أجساد الغيوم من ألوان برتقالية وحمراء. قرر أن ينتهز حالة النشوة التي تغمره لكي يتوجه لزيارة صديقه الكبير لبيب حرفوش، بدلا من أن يذهب إليه وهو مثقل بالهموم التي لا نهاية لها. نفض الغبار الخفيف عن ملابسه، وانطلق كأنه يطير.
وبنظرة خاطفة على ملامح وجهه، أدرك لبيب أن ضيفه الزائر الفجائي يبدو رائق المزاج، فبادره قائلا: أظن أن الجو في الخارج منعش وجميل. لهذا فإني لا أتوقع أن تتهمني بقتل عرفة أو سواه كما فعلت خلال زيارتك الماضية.
تجلى الحرج واضحا على وجه المجنون،فأشار لبيب بيده اليمنى إلى كرسي قريب وقال بلطفه المعهود:
– لماذا لم تجلس؟ أرجو أن تشعر أنك في بيتك، إلا إذا كنت تريد أن نظل واقفين ونحن نتكلم؟ لا تتحرج فأنا أنجزت ما كنت أكتبه فبل أن تأتي. تأكد أنك لم تعطلني عن شيء. عندي الآن متسع للراحة وللكلام، بل لسماع أي اتهام جديد.
وأطلق لبيب ضحكة صافية من قلبه، فاطمأن المجنون، وقال:
– أعاهدك أني لن أستفسر منك عن أي قاتل أو قتيل، الآن على الأقل!
– جميل.. ومن ناحيتي، فإني أريد أن نتكلم عن الحب، حتى لو اعترض على هذا صديقنا رجاءعبد المؤمن، مؤكدا أن الحب لا يتكلم كثيرا. دعني أذكرك بأنك لم تسألني أو تستفسر مني عن أية قصة من قصص الحب، رغم أنها بلا عدد، وهي واضحة تماما فيما قمت بتدوينه من حكايات حارتنا فهل أنت لا سمح الله ضد الحب؟!
– لا.. لست ضده بالطبع، بل إني أحب الحب لذاته، لكن القلب إذا تجهم فليس بإمكان الحب أن يتفتح كالزهرة الجميلة.
– أظن أنك تود أن تذكرني بما قاله صديقنا صلاح، لكني في الحقيقة لم أنس ما قال:
أقسى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة
جعلته يا سيدتي قلبا جهما
وأنا لا أعرف كيف أحبك
وبأضلاعي هذا القلب
إني بالطبع أتذكر هذا وسواه، لكنك على ما يبدو تريد أن تحرمنا من صفاء الجو من حولنا. قل لي ألم تعشق ولو مرة؟
بدا المجنون كأنه مضطر للدفاع عن نفسه، فقال باستحياء ممزوج بالخيلاء:
حقا.. إني أحببت مرارا
وعرفت الحب – النور، عرفت الحب – الموت، نعست، صحوت
وعلى إيقاع النار رقصت
دللت مرارا
ولعنت مرارا!
لقد أحببت بالفعل أكثر من مرة، لكن قصص الحب التي عشتها لم تكتمل ولو مرة. أحببت امرأة ذات مرة، فطالبتني بأن أتزوجها قبل أن أتأكد من حبها لي، وأحببت أخرى وحين صارحتها بأني لست من الأغنياء فرت هاربة قبل أن أكمل ما كنت أقول، أما الثالثة فلم يكن لها قلب ولم تكن تطرب لأجمل قصائد الحب ولم تكن أحلى موسيقى تهز من رأسها ولو شعرة…
– الخلاصة أنك أحببت، لكني أريد أن أسألك عما إذا كانت هذه القصص قد دارت هنا في حارتنا أم خلال هجرانك للحارة وابتعادك عنها؟ أنا أتصور أن قصص الحب خارج حدود حارتنا لا بد أن تكون قصصا ناقصة، لأنها لا تزيد على كونها حبا في منفى، وأظن أن الحب في المنفى هو ما عانى منه صديقنا بهاء نادر من قبلك!
– ربما.. وربما لأنك يا أستاذ لبيب لم تعرف من الحب غير الحب في حارتنا دون سواها، وبعيدا عن النساء، أود أن أعرف الآن إلى أي حد أحببت أنت ساحر حارتنا عرفة؟
– أهذا سؤال؟! طبعا أحببته من كل قلبي، وقد وصفته في بداية تدويني لما دونته بأنه ابن حارتنا البار، حتى وإن كان لم يكمل المشوار.
– يبدو لي أنك أحببته أكثر من حبك لجبل ورفاعة وقاسم!
– حين يكون لك أب وجد وعشت معهما منذ أن كنت طفلا، فإن حبك لهما لا بد أن يكون مختلفا عن حبك لجد جدك أو لجد جد جدك، لأنك لم تعرف أي واحد من أولئك الأجداد معرفة شخصية عن قرب. ولابد أن نتذكر كذلك أن ما قام به كل من جبل ورفاعة وقاسم يختلف تماما عما فعله عرفة. إن المقارنات هنا لا تفيد لأنها ليست ذات جدوى، فكل الذين سبقوا عرفة إلى الظهور في حارتنا كانوا على صلة روحية بالجبلاوي، وحاول كل منهم في زمانه أن يحقق ما طلبه منه الجبلاوي، ومنهم من قتل ومنهم من نجح في رسالته.
ضحك المجنون وهو يعلق قائلا:
– كنا نتحدث عن الحب لكنك تستدرجني للكلام عن القتل رغم أني كنت ابتعدت عنه!
– معك حق. فلنعد للحب.. إن عرفة ابن حارتنا البار أحب أبناء حارته. وبدافع الحب أراد أن يزيح عنهم ما ناءوا بحمله من ظلم واضطهاد، ومن عبث واستهزاء، أراد لهم أن يعيشوا حياة كريمة تليق بالإنسان. وفي سبيل تحقيق هدفه سهر الليالي وهو يعمل ويجرب، لكي يحرم الفتوات المتجبرين من نقاط قوتهم، ولكي يريهم أن النبابيت لا قيمة لها أمام ما اخترعه هو بعد تجارب صعبة، تتطلب أن يظل العقل يعمل دون كسل أو استرخاء..
– لكنه بكل أسف لم ينجح.
– بل إنه نجح!
– كيف نجح وقد جرى له ما جرى على أيدي أعوان الناظر الشرير؟
– صحيح أنهم قتلوه، لكني أعتقد بل أؤكد أن هناك من سيكملون مشواره بنفس الجدية والحيوية.
– أهذا ما تتمناه؟
– أتمنى أكثر من هذا. أتمنى أن يعثر تلميذه الوفي حنش على كراسة السحر التي قام عرفة بتسجيل نتائج تجاربه المضنية على صفحاتها، فلو أن حنش وجد تلك الكراسة فإن مهمة الشبان القادمين بعد غياب عرفة ستكون أسهل وأسرع.
قال المجنون بنبرة فرح:
– وأنا أتمنى أن يكون الرجل الذي رأيته ظهر اليوم هو حنش!
– لم أفهم. أهذا لغز؟
– ليس لغزا. كل ما في الأمر أني رأيت رجلا في خلاء صحراء المقطم، وهو يقوم بجمع أوراق كراسة تناثرت أورافها وسط الرياح!
وضع لبيب يده على إحدى أذنيه بكل اهتمام، ثم ضحك وهو يقول:
– لا فائدة فيك. صدق من سموك المجنون!
تتابعت الضحكات، واستأذن المجنون في الانصراف، وفي نيته أن يتوجه الليلة أو في الغد إلى الصحراء من جديد، وقال لبيب وهو يودعه: جميل أننا لم نتحدث الليلة عن القتل، بعد أن أغرتنا أحاديث الحب بأن نترقب الأمل.
(6)
قبل أن تختفي الشمس تماما في اليوم التالي لمح المجنون شبحين مقبلين من بعيد، فاندفع تجاههما بهدوء، وهو يحرص على ألا يراه أحد منهما، وحين اقترب إلى حد ما، أدرك أن هذين الشبحين هما رجل وامرأة، أما الرجل فإن الدماء تغطي وجهه، بينما ظلت المرأة تسير وراءه بخطوات متعثرة، كما لو أنها بطة عرجاء.
وبفضول، قد يؤذي صاحبه أحياناً أو يفيد، أو قد يكشف عن أمر مخبوء، وقف المجنون أمام الرجل الذي تغطي الدماء وجهه، وأخذ يتأمل ملامحه المتعبة، ثم سأله بلهفة واندفاع..
– ألست أنت عرفة؟!
– لا.. يا ابن الحلال.. لست من تظن!
– لكني أظن أنك عرفة!
– أنت حر في ظنونك، وأنا كذلك حر في أن أقول لك إن ظنونك ليست صائبة.
– من حقك طبعاً أن تنكر، خصوصاً أن كثيرين من أولاد حارتنا يقولون إن الطاغية قد دفنك حياً أنت وزوجتك عواطف.
صرخت المرأة على الفور:
– ما هذه المصيبة الجديدة التي توشك أن تحل بنا؟ من أنت أيها الرجل الأحمق، وماذا تريد، ولماذا تقف هكذا أمامنا كأنك قاطع طريق؟!.
حاول المجنون أن يبدو رصينا وهادئاً. أخرج على الفور قطعة نظيفة من الشاش من حقيبة صغيرة، يعلقها على كتفه، وقال للرجل الذي تغطي الدماء وجهه.
– يا سيدي.. لا أريد أن أعرف من أنت، ولكن لا بد لي أن أضمد هذه الجراح، فأنا لا أطيق رؤية الدماء من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف تتحمل أنت المشي في هذه الصحراء بينما وجهك ينزف؟.. لا بد أن أفعل شيئاً، فأنا دائماً أتألم مع المتألمين، حتى لو لم أكن أعرفهم، كما أني أحب مساعدة المجروحين، حتى وإن لم يطلبوا مني أن أساعدهم!.
لم يُبْدِ الرجل الذي تغطي الدماء وجهه أية ممانعة، فشرع المجنون في العمل.. أزاح الدماء بقطعة الشاش، وتهلل وجهه عندما عرف أن الجراح ليست عميقة، وإن كان التراب اللزج يلتصق بها، وأخرج من حقيبته زجاجة صغيرة، ثم استخرج منها دهاناً غريباً، وأخذ يتفنن في تدليك الوجه، وأحس بفرح أكبر حين رأى أن هذا الوجه يتحلى بقدر لا بأس به من الوسامة، فبدأ يتمايل وهو يتأمل الوجه، منتشياً بما استطاع أن يحققه، ثم قال:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصاً عليها مستهاماً بها صَبَّا
فحبُّ الجبانِ النفسَ أورده التُّقَى
وحبُّ الشجاعِ النفسَ أورده الحربَا
ضحك الرجل، وقد تجلت الفرحة بالحياة واضحة على ملامح وجهه. قال بنبرة لا تخلو من الثقة:
– أنا بالفعل أحب الحياة، لكني لا أحبها لنفسي فحسب، وإنما لكي أحبب اليائسين منها فيها، طالما أن في عروقهم نبضاً حياً، أما عدو الحياة في نظري فهو الخوف، ولن تتاح لنا الحياة ما دمنا نخاف الموت!.
بنبرة مبتهجة، قال المجنون دون أي تردد:
– أنت إذن عرفة كما خمنت أنا من البداية..
فلا تكن متسرعاً، فأنا أريد – أولاً – أن تعرف أني لست إنسانا جبانا، بل إني أتمنى لو استطعت أن أقتل الخوف الكامن في قلوب الخائفين، لكي يصبحوا أحياء حقاً، وأريد أن تعرف – ثانياً – أني رجل شجاع، لكني – في نفس الوقت – لا أحب الحرب، بقدر ما أحب الحب، وأجمل حب – في نظري – هو حب الحياة، بشرط أن تتحقق العدالة فيها بين الناس، وها أنت تدفعني للكلام معك، دون أن أعرف حتى الآن من أنت، لأن كل همك أن تعرف من أنا.. قل لي أنت من تكون، وإلا سأتهمك فورا بأنك رجل جبان!.
– لست جبانا، ولكن ليس لي اسم محدد بمنتهى الصراحة، فأنا أترك للناس حرية أن يسموني كما يريدون، دون أن أعترض على أي واحد منهم، ما دمت أشعر أنهم ناس طيبون.. هناك من يسمونني أمل، وهناك من يقولون إن اسمي فرح، وهناك آخرون يتندرون ويضحكون، لأنهم يسمونني المجنون!
ظلت المرأة تتابع الحوار بعينين مندهشتين، ثم صرخت كمن لدغتها فجأة أفعى:
– والعياذ بالله.. مجنون.. مجنون!.
تسمرت المرأة في مكانها وقد شحب وجهها، أما الرجل الذي أشرق وجهه، فقد ضحك من أعماق قلبه، وهو يقول:
– كثيرون هم المجانين.. فأي مجنون أنت؟
– ما دمت تريد أن تعرف، فلا بد أن تعرف أني مجنون بالفضول وحب الاستطلاع يا عرفة!.
– والفضول سيحرقك!.. ماذا يهمك من اسمي؟ بل ما قيمة الأسماء في حد ذاتها؟.. هناك أسماء كثيرة لا تحمل مسمى يدل على جوهر معناها.. وها أنت تصر على أن تسميني عرفة بينما الأسماء كثيرة، خصوصاً أنها بالمجان.. لا أحد يدفع شيئاً مقابل اسمه الذي اختير له.
– الفضول ليس عيباً في أكثر الأحيان، بل إن الحياة نفسها لم تتقدم إلا لأن الأحياء يحبون الفضول أو لديهم حب الاستطلاع، وهو الذي يدفع الشجعان منهم لأن يكتشفوا من الأسرار ما لم يكن يعرفه أحد!.
– إذا كنت أنت واحداً من هؤلاء الشجعان، فإني أتمنى أن أعرف منك حكاية الرجل الذي تسميه عرفة، وتصر كذلك على أنه أنا!
– يبدو أنك لست مطمئناً لي حتى الآن!
– بل إني أحس أنك رجل طيب القلب، لكنك حقاً مجنون، فقد وقفت أمامنا دون أن تتزحزح أو تفسح لنا الطريق، وأخذت تسأل وتسأل دون أن تسأم من تكرار السؤال، بينما الرمال تتناثر من حولنا، ورياح هذه الصحراء لا تريد أن تهدأ. كل ما يهمك أن تعرف اسمي، دون أن تعرف أن جسدي مرهق، بل في غاية الإرهاق، بسبب تلك المسافات التي قطعتها مشياً على الأقدام بصحبة هذه المرأة الطيبة..
إذا كنت تريد أن تساعدني حقاً، فلننطلق إلى أي مكان آمن، بشرط أن يكون قريباً من هنا، فقد كلت قدماي، وأريد أن أجلس ولو قليلاً، بل أريد أن أتمدد على الأرض، حتى أمنح جسدي ما يستحق من الراحة. بعد هذا يمكن أن يكون لكل حادث حديث، وربما لو راق لي المكان الآمن، فإني سأظل أتكلم معك دون انقطاع إلى أن تتعب وتنام!
( 7 )
– يبدو لي أنكما جائعان.
هذا ما قاله المجنون للرجل والمرأة، بعد أن اطمأنا إليه، وتبعاه إلى أن وصلوا جميعاً إلى مغارة عالية في جبل المقطم، ولم يكن الوصول إليها سهلاً، فقد بذل الثلاثة جهداً كبيراً، وكادت الأقدام تزل، والأجساد تنزلق بسبب صخرة خادعة تبدو ثابتة فإذا بها تتدحرج أو بسبب حفرة مكسوة بالرمال الناعمة التي لا تتيح للأقدام فرصة الثبات، وكان لا بد للرجلين أن يتعاونا في مساعدة المرأة التي تقلد دون أن تقصد مشية البطة العرجاء.
تنهد الرجل بارتياح وهو يتمدد على الأرض داخل المغارة، وهتفت المرأة: لا أريد أي طعام.. كل ما أريده الآن أن أنام.. أما المجنون، فقد تظاهر بأنه لم يتعب، وقال وهو يحرك ساقيه بطريقة بهلوانية.. لن أرتاح إلا بعد أن أنزل من هنا، لآتي بأي طعام لكي تشبع البطون الخاوية، فأنا أيضاً جائع جداً، وربما يفقدني الجوع، لو استمر، ما تبقى من عقل.
– إياك أن تهرب، وإياك أن تتوه!.
– كيف أتوه وأنا الذي كنت الدليل إلى أن وصلنا إلى هنا؟!.
بمجرد أن خرج المجنون من المغارة، قالت المرأة وهي تمدد جسدها على الأرض، جاعلة من يديها وسادة لرأسها:
– معجزة أنا نجونا.. حتى الآن لا أكاد أصدق أني ما زلت حية. هل يمكن أن يخرج ميت من القبر؟.. لولا الله ولولا إرادة الحياة التي اشتعلت جمرة متقدة في قلبك، لكنا في عداد الهالكين.
رد الرجل بهدوء، وهو يتنهد:
– لولا الله.. ولولا إرادة الحياة.. ولولا المطواة الحادة التي كادت تنغرز في جنبي لحظة سقوطنا في الحفرة الرخوة ما كنا الآن هنا، نواصل ما هو مقدر لنا من حياة. أتذكر أني حاولت أن أمسك المطواة التي كانت داخل ثوبي، ولم يكن الأمر سهلاً على يدين مرهقتين. لقد ظللت أحاول وأحاول وأنا أدرك أن الوقت أثمن من أي كنز ثمين، فإما أن أموت اختناقاً داخل الجوال وإما أن أتشبث بالمطواة، لكي أقطع الحبل بها بأقصى سرعة ممكنة. فرحت حقاً حين اكتشفت أن فدميّ قد أصبحتا حرتين، تتحركان دون قيود، فازداد إصراري على الحياة رغم كيد الطغاة، وهكذا اندفعت لأمزق أحد أطراف الجوال بحرص شديد، حتى لا أترك فرصة للتراب المتراكم أن ينفذ داخله.. وكنت أحاول أن استنشق الهواء بحرص أشد، وإلا فإن الاختناق قادم لا محالة.
– وبعد أن مزقت الجوال الذي وضعوك فيه، تذكرتني وأنقذتني.
– ليس بهذه السهولة.. فقد كان لا بد أن أكافح بأي ثمن، لكي أخرج أنا أولاً من الحفرة، حتى أتنفس بعمق واستعيد بعض طاقتي، حتى أتمكن من إزاحة التراب من حولك ومن فوقك، ثم أمزق الجوال اللعين الذي دفعوك داخله أمام عيني بأوامر الملعون قدري ناظر الوقف.
– ما أحلى الحياة.. سأحاول أن أنام ولو قليلاً.. فأنا في غاية التعب.. لا توقظيني إذا نمت، حتى لو جاء الرجل المجنون بأشهى طعام.. ما أشتهيه الآن هو أن أنام. بعد أن أصحو سأطلب منك أن تروي لي بقية الحكاية.. حكايتنا نحن الإثنين.
( 8 )
تعود المجنون أن يتذكر نصيحة غالية، يعرفها منذ صباه، ويلتزم بها عادة، كلما سار في طريق، حتى لو كان قد قطعه من قبل مئات المرات. هكذا خرج من باب المغارة، وهو يتمايل برشاقة، وينظر إلى حركة قدميه نظرة إعجاب، فبهذه الحركة الدقيقة يمكنه أن يحتفظ بتوازنه أثناء هبوطه من أعلى الجبل إلى السفح، ومنه إلى الطريق العام. مع كل قفزة بارعة أو خطوة متناسقة، كانت أعماقه تهتف: «قَدِّرْ لرجلك قبل الخطو موضعها» وشرد ذهنه فجأة، محاولاً أن يتذكر اسم قائل هذه النصيحة التي لم يقلها له وحده بطبيعة الحال، بل قالها لكثيرين، ممن نقلوها فيما بعد لآخرين من الأصدقاء والأهل.
بينما كان المجنون يسأل نفسه شارد الذهن عمن يكون أول من قال.. قدر لرجلك قبل الخطو موضعها، إذا به يتعثر ويسقط بكامل جسده على الأرض، بعد أن خانته صخرة، تصور أنها ثابتة في موضعها، فإذا بها تتدحرج بسرعة مخيفة، مرتطمة بحواف الجبل أثناء سقوطها، ولولا أنه تشبث بكلتا يديه بصخرة أخرى لكان قد تدحرج هو الآخر ولم يصل إلى السفح إلا مهشم الرأس.
بالرغم من أن ظهره ظل يوجعه وهو مستسلم لسقوطه المفاجئ على الأرض، فإنه سمع دبيب أقدام مهرولة تتجه نحوه، وسمع من يقول له: حمداً لله على سلامتك ونجاتك. لقد كدت تهلك فعلاً. لم أتصور وأنا أرى ما جرى أنك ستنجو. هيا انهض يا رجل. لم يتمالك المجنون نفسه، وهو يحاول النهوض، حيث قال على الفور: ها أنا أراك مرة ثانية في يوم واحد. متى؟.. قال الرجل الذي يساعده على أن ينهض، وجاءه الجواب سريعاً: لقد رأيتك في الظهيرة، وأنت تحاول استعادة أوراق بعثرتها الرياح في كل اتجاه. وقتها ظللت تتحرك يميناً ويساراً لتمسك ورقة هنا وأخرى هناك، وحين حاولت أن أقترب منك لأعرف ماذا تفعل أو لأساعدك، كنت قد اختفيت في أعماق هذا الجبل. هل هذه الأوراق مهمة عندك إلى هذا الحد؟.. أجاب الرجل باقتضاب: إنها أمانة، لا بد أن أحافظ عليها، أليس كذلك؟ هيا انهض ولا تتكاسل إذا كان لديك عمل تؤديه.
شرع الرجلان يهبطان نحو السفح بخفة وحذر ودون عناء. الهبوط دائماً سهل، والسقوط أسهل، أما الصعود فإنه يتطلب مشقة لا يتحملها الضعفاء ولا الذين لا يتحلون بالعزيمة والمثابرة.
– ما رأيك في كوب شاي بعد أن نهبط بسلام؟
– الجوع يقرص معدتي.
– اتفقنا. نأكل أولاً ثم نشرب.
– بشرط أن تقبل دعوتي.
– ليس مهماً أن تدفع أنت أو أنا. المهم أن نجدها قبل أن تعود لبيتها.
– من؟
– أم صفية.. المرأة العجوز.. سندويتش فول أو فلافل من يدها يجعلك كالحصان، والشاي المنعش كذلك لديها. المهم ألا تكون قد عادت بعربتها المتآكلة.
دبت الحيوية في جسدي الرجلين، بعد أن أكلا حتى شبعا وارتشفا الشاي بالنعناع، وقالت لهما أم صفية.. لا بد أن أعود، فالتعب قد حل، ولا بد لي أن أتوقف لبعض الوقت عند مدخل الحارة، لكي أدفع الأتاوة بعد أن أتلقى الشتائم والإهانات التي تعودت أن أتلقاها قبل أن أصل للبيت. قبل انصرافها طلب منها المجنون أن تجهز أربع سندويتشات أخرى، وتضعها في لفافة ورقية.
– أما زال ظهرك يوجعك؟
– أشعر بتحسن، خصوصاً بعد أن أكلت.
– لكنك تبدو مهموماً!
– لست مهموماً، لكني أفكر في موضوع، لم يعد أحد يتذكره أو يتحدث فيه مع سواه. هل تتذكر ما جرى في حي العباسية؟
– أشياء كثيرة تجري في الدنيا وليس في العباسية وحدها، فما الذي تسألني أنت عنه؟
– يبدو أن الشرطة لم تستطع القبض على القاتل الغامض الذي أفزع حي العباسية بأكمله.
– لماذا تتذكره الآن؟ هل تميل إلى النكد؟
– بل أحب التفكير.
– ستظل إذن مهموماً، لأن التفكير فيما جرى لن يوصلك إلى أية نتيجة. كل حوادث القتل التي وقعت لم يتوصل فيها أحد إلا إلى الحيرة، والشرطة نفسها بجلالة قدرها قيدت كل هذه الحوادث: ضد مجهول!
– وإلى متى سيظل هذا القاتل مجهولاً؟
– إنه بارع بكل تأكيد.
– لقد قتل كثيرين بطريقة واحدة. قتل المدرس الذي تجاوز السبعين في حجرة نومه، وقتل لواء قديماً من رجال الجيش، وقتل زوجة المقاول التي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، وقتل رجلاً كان يجلس في آخر عربة للترام رقم 22 أمام شارع عشرة، أما ما يؤكد أنه قد تحدى به الجميع فهو إقدامه على قتل الضابط محسن عبد الباري الذي تركزت كل أمنياته في أن يقبض عليه بعد كل جريمة من جرائمه السابقة.
– المرعب في كل هذه الجرائم أنها كلها قد نُفذت بدقة وبإحكام وبطريقة واحدة لا تتغير. حبل يلتف حول عنق الضحية وجحوظ في العينين وتجمد للدم حول الأنف والفم. كل الضحايا تم قتلهم بحبل، حتى الضابط محسن نفسه حيث التف الحبل الجهنمي على عنقه، وهو جالس إلى مكتبه في قسم الشرطة، ويومها تزلزل القسم بمن فيه.
-.. والناس؟.. الناس ظلوا يتنفسون الرعب مع الهواء، وكل منهم يروي ما شاهد أو سمع، ويتوقع أن يحدث له ما حدث لمن سبقوه من ضحايا.
– لهذا كان لا بد أن يظهر من ينسيهم كل ما جرى ويجري، وهذا ما فعله المدير العام لوزارة الداخلية حين طلب من جميع الصحف ألا تنشر كلمة واحدة عن الموضوع. لقد قال بالحرف الواحد: ( لا حديث بعد اليوم عن الموت، يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة، ولن نكف عن البحث..)
– حتى الآن، فإن البحث لم يتوصل إلا إلى أن القاتل مجهول، وربما يتطلب الوصول إلى نتيجة مرضية، تعيد الأمن للقلوب، أن يظهر عقل ما يتفوق على كل ما سبقه من عقول، وعندها فقط يمكن أن يصبح القاتل معروفاً، بعد أن يتم القبض عليه بالطبع، وهذا أمر شاق، بل يكاد يكون من المستحيل.
– قليلون هم الذين يتذكرون ما جرى، ويبدو أنك واحد منهم، أما الكثيرون فقد نسوا أو تناسوا ما ظل يتكرر ربما حتى الآن.
– هناك من سكتوا تماماً، اعترافاً منهم بصعوبة معرفة القاتل، وهناك من ألهاهم التكاثر، وعلى أي حال، فإننا سنلتقي مرة أو مرات إذا أحببت لكي نتحدث، أما الآن فقد حان أن أنصرف.
– هل ستنصرف هكذا دون أن أعرف ما اسمك ودون أن تعرفني يا صاحب العقل الحصيف؟
– أخاف أن تبتعد عني نهائياً إذا عرفت أن كثيرين يسمونني المجنون، أما أنت فلست في حاجة لأن تقول لي اسمك أو من أنت، لأني أكاد أجزم بأنك حنش.. صديق عرفة الساحر.
– فلتظن كما تشاء أيها العاقل الذي يدعي الجنون، وقبل أن تذهب، أقول لك إني أحببتك، وسأكون هنا في هذا المكان غداً إذا أحببت أنت أيضاً أن تراني.
افترق الرجلان، وبدأ المجنون رحلة شاقة، رحلة الصعود إلى أعلى الجبل، وعلى امتداد الرحلة ظل يؤنب نفسه، لأنه كاد ينسى الجائعين اللذين تركهما يستريحان في المغارة.
( 9 )
اعتدل الرجل الذي كان متمدداً داخل المغارة في جلسته، وهو يتناول اللفافة بفرح ولهفة، وشرع على الفور في إخراج أول سندويتش تلمسه يده، وانقض عليه بعنف، ثم أخذ يتمهل في المضغ ليتذوق، أو يتسرع في البلع ليشبع، وهو يتمتم: الجوع حقاً كافر. أما المرأة النائمة فقد رفضت أن تستيقظ، مؤكدة وهي تفتح فمها عن آخره لتتثاءب، أنها محتاجة للنوم أكثر من اشتياقها للطعام.
– في الهواء هنا رائحة عفن، ما رأيك أن نجلس عند باب المغارة، لكي نشم هواء الجبل في الليل؟
قال المجنون:
– كنت سأقترح هذا، لكنك سبقتني. هيا بنا.
السكون شامل وعميق. نجوم تتناثر في سماء شفيفة. قمر غير مكتمل يسكب نوره الخافت على جنبات الجبل. هنا يمكن للإنسان أن ينسى العالم تماماً، ويمكنه أن يتذكر كذلك كل شيء يخطر بباله. حفيف غصون تتمايل أحياناً، وأصداء نباح كلاب من بعيد. تتصاعد الأصداء، ترن في الفضاء، ثم ما تلبث أن تتلاشى وتسقط في هاوية الصمت التي لا يراها أحد. وها هما الرجلان يجلسان متجاورين، كما جلس قبلهما مئات بل ألوف من الناس الذين هربوا من الحارة سعياً للأمان، أو هرباً من القتلة، أو ربما للابتعاد عن زحام الآخرين وعن صراعاتهم ومشاحناتهم التي لا تنتهي.
هناك من جلسوا هنا لكي يتأملوا البيت الكبير، البيت الذي عاش فيه جدهم بعد أن بناه وشيده على أحسن ما يكون، دون أن يتيح لهم أن ينعموا بسكناه إلا في حالات نادرة لا تكاد تذكر، وهناك من ظلت قلوبهم، تتجاوب فيها الحسرات مع النبضات، وهم ينظرون إلى سور البيت فلا يرون ( إلا رؤوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم عن أي أثر للحياة ) حيث تتحول الحسرات في قلوبهم إلى تساؤلات غاضبة حيناً أو عاتبة حيناً آخر: ( أليس من المحزن أن يكون لنا جد مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟ ).
قال الرجل الذي استعاد حيويته بعد أن التهم السندويتش وهو يتنفس بعمق:
– حارتنا حارة عجيبة حقاً، تختلط فيها الأساطير والخرافات بما قد يكون قد حدث فعلاً على أرضها، داخل البيوت أو في منعطفات أزقتها أو في الغرز والمقاهي التي تستقبل داخلين وتودع خارجين. لكن العدالة غائبة، وستظل كذلك غائبة، طالما أن الفتوات يتقاتلون دون هوادة، وهم لا يتوقفون عما يفعلون إلا حين يظهر من بينهم من هو أقوى، فيفرض سطوته عليهم أجمعين، بعد أن يكسر شوكة كل منهم، لكن الزمان لا يتيح دائماً للأقوى أن يظل الأقوى باستمرار، وهكذا تتكرر المأساة، وتتساقط أجساد بغير عدد، ضحية لكل تكرار.
– حدثن عن عرفة. أريد أن أعرف حكايته على وجه التحديد، بدلاً من أن تروي لي ما كان مما لم تعشه أنت وإنما سمعت عنه، فما أكثر الحكايات، وما أكثر ما فيها من أساطير وخرافات.
– قل لي أنت أولاً ماذا تعرف عن عرفة؟
– سواء أكنت أنت عرفة أو كنت رجلاً آخر سواه، فإني أحب هذا الرجل الساحر من كل قلبي. كم كان يتمنى أن تتحقق العدالة بين الناس، وكان يمكن أن يتحقق ما تمناه، لكن أصحاب النفوذ ظلوا يحاربونه ويطاردونه، إلى أن جاء من سحقهم وقتلهم واحداً تلو الآخر، وأصبح هو الآمر الناهي، واستعان بعرفة، وتظاهر بأنه يحبه ويريد أن يكرمه ويرفع من مكانته، ثم استدرجه شيئاً فشيئاً، لكي يحتكر سلاحه العجيب الذي أثبت تفوقه على النبابيت والسكاكين وعلى أقوى العضلات وأعلى القامات.
– وماذا بعد؟
– حين أدرك عرفة أنه أصبح أسيراً لهذا الآمر الناهي، قرر أن يهرب هو وزوجته عواطف، لكنه لم يفلح، فقد دفنهما أعوان الطاغية، وهما على قيد الحياة.
– إذا كان الأمر كذلك، فهذا معناه أنهما قد شبعا موتاً!
– هناك روايات عديدة، بعضها يؤكد أن عرفة وعواطف قد شبعا موتاً كما تقول، بعد أن وضعهما أعوان الآمر الناهي داخل جوالين، وألقوا بهما داخل حفرة عميقة، وهذا ما يوضحه لبيب حرفوش الرجل الطيب الذي تكفل بتسجيل تلك الرواية، فقد سجل بالحرف الواحد أن عرفة – وهو داخل الجوال – (.. قد ارتعد قلبه.. واشتد به العذاب المتوقع حتى أوشك أن يصيح بهم اقتلوني، ولكنه لم يفعل. وفجأة هوى الجوال إلى الأرض، فشهق وارتطم رأسه بالأرض فعصر الألم عنقه وعموده الفقري، وانتظر بعد لحظة، وأخرى انقضاض النبابيت أو ما هو أفظع، ولعن الحياة كلها من أجل الشر حليف الموت، وسمع من يقول:
– احفروا بسرعة حتى نعود قبل الصبح.
لِمَ يحفرون القبر قبل القتل؟ وخيل إلى عرفة أنه يحمل المقطم فوق صدره، وسمع أنيناً ما لبث أن ميز فيه نبرة عواطف، فندت عن جسده المقيد حركة عنيفة، ثم ملأت دقات الحفر أذنيه، فعجب من غلظة أكباد الرجال، وإذا به يسمع من يقول:
– سيلقى بكما إلى قعر الحفرة ثم يهال عليكما التراب دون أن يمسكما إنسان بسوء!.
فصرخت عواطف على رغم إعيائها، وهتفت أعماق عرفة بلغة لم يدرها أحد، ورفعتهما أيد شديدة، ثم رمت بهما إلى قعر الحفرة، فانهال التراب، وارتفع الغبار في الغسق. )
– معنى هذا أنهما قد شبعا موتاً كما قلت، إذا كان الرجل الذي سجل هذه الحكاية دقيقاً فيما سجله..
– هذا الرجل دقيق حقاً، لدرجة أن كثيرين ممن يعرفونه يعرفون الوقت من خلال تحركاته نهاراً أو ليلاً، لكن هناك روايات أخرى، توحي بأن عرفة وعواطف لم يشبعا موتاً، وقد نغصت هذه الروايات على ناظر الوقف حياته، وأمر أعوانه بالقبض على أي إنسان يروي تلك الروايات، بعد أن أصبحت حياته جحيماً لا يطاق، وإن كان الجميع يتصورون أنه ينعم بما لم ينعم به أحد.
لقد لاحظ كثيرون، من بينهم أعوان هذا الناظر المقيت، أن التراب الذي كان فوق الحفرة ليس مستوياً كما كان، وأن هناك يداً قد عبثت بهذا التراب، وقال أحد أعوانه إن الكلاب ربما تكون قد عبثت بالتراب، بينما قال آخرون إن عرفة قد استطاع بطريقة أو بأخرى أن يفلت من الموت وحده، وربما يكون قد استطاع كذلك أن ينقذ زوجته عواطف.
– وأنت.. لأية رواية تميل؟!
– بالحدس وليس باليقين، فإني أصدق الرواية الثانية، خصوصاً وأني أراك أمامي، دون أن أكون في حالة نوم أو سكر!
– أنت مجنون!
– أحياناً يكون الجنون طريقاً يقود إلى المعرفة!
– يعني..
– يعني أنك عرفة.
– نعم أنا عرفة.. ولكن هل يستطيع المجنون المولع بالفضول أن يكتم ما عرفه، وأن يحتفظ بالسر؟
– السر في بير.. كما يقولون.. وعندي لك أيضاً مفاجأة!
– ما هي؟
– سأحرقها إذا أخبرتك عنها الآن.
– أنت تدفعني لفضول أكبر من فضولك الذي عرفته عنك!
– سأريحك.. سأحرق مفاجأتي.. ربما أحضر لك غداً كراسة السحر التي تحتوي على أسرار سلاحك العجيب الذي أردت به أن تحقق العدالة بين الناس.
( 10 )
– أستطيع القول إن قامتك ليست قصيرة، على عكس ما وصفك الرجل الذي سجل حكايات حارتنا، رغم أنه مشهور بأنه دقيق فى الوصف. هذا ما أستطيع أن أقوله لك يا حنش وأنا مطمئن تماما إلى ما أقول‘ فأنا بصراحة ظللت أنظر إلى قامتك متفحصا ومتمعنا عندما كنت أقترب منك شيئا فشيئا ‘ وقد أحسست بل أدركت أنك أكثر طولا مما كان قد قيل في وصفك.
هذا ما استهل به المجنون كلامه وهو يمد يده ليصافح حنش بحرارة فى بداية لقائهما الجديد عند أحد منحدرات الجبل كما كانا قد اتفقا من قبل. شاء المجنون بهذا الاستهلال أن يجامل حنش الذي كان يرتدي جلبابا نظيفا يبدو أنه جديد. أراد المجنون أن يتقرب إلى حنش بما قاله له، حتى تتوثق الصداقة الوليدة بينهما بما يتيح للأسرار المخزونة في الصدور أن تظهر بشكل يشبع نهم المجنون لأن يعرف كل شيء عن أي شيء يثير اهتمامه.
حنش من جانبه لم يستسلم سريعا للمجاملة، وإن كان قد ارتاح لها فانفرجت ملامح وجهه، وضحك ضحكة عصبية سريعة، تغلغل فيها قدر من التوتر، دفعه لأن يسأل بحدة عما قيل في وصفه. لم يجد المجنون بدا من العودة إلى ما كان عندما دخل كل من عرفة وحنش الحارة للمرة الأولى بعد طول غياب.
( في يوم من الأيام، قبيل العصر، رأت الحارة فتى غريبا قادما من ناحية الخلاء يتبعه آخر كالقزم. كان يرتدي جلبابا ترابي اللون على اللحم، ويشد على وسطه حزاما شطر جلبابه شطرين، انداح أعلاهما وتدلى بأشياء فيه، وانتعل مركوبا باهتا متهتكا. أما رأسه فبدا عاريا مشعث الشعر غزيره، وكان أسمر اللون، مستدير العينين،حاد البصر، تلوح فى محجريه نظرة قلقة نافذة، وفي حركاته ثقة واعتداد. وقف قليلا أمام البيت الكبير ثم تقدم على مهل يتبعه صاحبه.. ).
وكالبرق، وهو يتتابع في ومضاته الخاطفة، مرق شريط سريع حافل بالأسماء وبالأحداث التي شهدتها حارتنا وفقا لما تتناقله الأجيال، وما يرويه الرواة في المقاهي مع اختلاف في التفاصيل. هكذا ومضت في خيالات المجنون أسماء عديدة من أدهم إلى قاسم مرورا بجبل ورفاعة، وسواهم ممن أسهموا في صنع أحداث كثيرة خطيرة ومثيرة، عاشها من عاشوها، وجاء بعدهم من جاءوا ليتذكروها، ما بين مصدق لها على طول الخط أو مكذب لبعضها أو مندهش مما ورد فيها أو غير مبال بها، إلى أن شهدت الحارة قدوم عرفة، الفتى الغريب القادم من ناحية الخلاء، يتبعه من قيل في وصفه إنه قزم أو كالقزم.
نظر المجنون إلى الأفق الفسيح الممتد الذي لا يخلو من غيوم متباينة الألوان ما بين صفراء وحمراء ودكناء. ظل شارد البال عما حوله وعن حنش الجالس بجواره، لكن سؤالا مفاجئا أخرجه من شرود باله: والآن كيف تراني يا مجنون؟ أأنا حقا قزم؟ حاول المجنون أن يكون لبقا أو مراوغا، فقال وهو يبتسم متوددا: يا حنش إنك بالطبع لست عملاقا، لكنك تبدو أمامي أكثر طولا مما قيل في وصفك، أليس هذا ما أكدته لك منذ بداية هذا اللقاء الذي يجمعنا؟
صمت الاثنان لبعض الوقت، وتشاغلا بمتابعة حركات الناس التي لا تكاد تتوقف. كل منهما ظل يراقب طوابير تتحرك دون انتظام في اتجاهات مختلفة، تتحكم فيها فوضى لها رائحة الوباء أو تحيط بها أسرار أو فقاقيع تمتزج فيها الشتائم بالصرخات وبالغبار. فجأة تجول المجنون بنظراته في الأفق الفسيح الممتد، هامسا بصوت هادئ كأنه يناجي نفسه أو كأنه يريد أن يدفع حنش للاستماع إليه دون أن يجبره أن يستمع:
لست أنساك وقد أغريتني
بالذرى الشم فأدمنت الطموح
أنت روح في سمائي وأنا
لك أعلو فكأني محض روح
يا لها من قمم كنا بها
نتلاقى وبسرينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها
ونرى الناس ظلالا في السفوح
بنبرة مندهشة، تمتزج فيها سخرية مبطنة بعدم إدراك ما يقال، قال حنش: آه.. يبدو أنك عاشق.. أراهن أن هناك امرأة في حياتك وربما نساء، لكننا يا مجنون لا نجلس فوق إحدى القمم، بل فوق أحد منحدرات الجبل. من المؤكد أننا نجلس هنا معا ونرى الناس ظلالا في السفوح كما تقول، لكن هذه الظلال التي نراها تحتنا يمكن أن تصنع شيئا، يمكنها أن تخترق أسوارا أو أن تحطم جدرانا يتحصن داخلها الظلم الذي يتحكم في الحياة ويجعلها لا تطاق.
ارتفع صوت المجنون قائلا: أكاد لا أصدق أن هذه الظلال الفوضوية يمكنها أن تصنع شيئا، أي شيء. الكل مشغول بنفسه. لا أحد يفكر في سواه. الطاحونة تطحنهم واحدا واحدا، وإذا ظهر من بين كل هذه الظلال رجل واحد يحاول أن يتصدى للناظر قدري أو لواحد من رجاله الغلاظ فلن تجد أحدا يساعده أو يسانده، لكنك قد تجد من يتفرج عليه ليرى كيف سيلاقي مصيره المحتوم، بل إنك قد تجد من يساعد في القبض عليه لقاء مكافأة أو حتى دون أي مقابل!
اقترب حنش من المجنون، كأنه يريد أن يبوح له بشيء خطير، لم يعد يستطيع أن يخفيه بين ضلوعه. قال له هامسا:من قلب هذه الظلال التي تراها فوضوية لا بد أن يشرق أمل ما، لابد أن يتحقق الخلاص. أصارحك بأني ألتقي مع كثيرين من الشبان في الخلاء، وكلهم يؤكدون لي أنهم أصبحوا يحبون عرفة أستاذي ومعلمي، بعد أن عرفوا أنه – يرحمه الله- كان يسعى لأن يجعلهم سعداء.
ـ وأنت ماذا تنوي أن تفعل؟
ـ أنا خائف عليهم، وأحاول أن أكون محتاطا وحذرا، لا أريد أن أجعل هؤلاء الشبان يتحمسون أكثر مما ينبغي، لكني في نفس الوقت لا أريد أن أحجب عن لياليهم إشراقة الأمل.
ـ ماذا لو أن المرحوم عرفة ما يزال على قيد الحياة؟ هل كنت ستظل خائفا؟ قل لي أأنت فأر أم حنش؟
ـ احفظ لسانك يا مجنون. أنا لست فأرا. آه لو أن عرفة كان قد نجح في الهرب! كان سيعود للحارة بكل تأكيد. كان سيقضي على الناظر اللئيم، الناظر الذي استطاع بفضل عرفة أن يتخلص من الفتوات جميعا، ليصبح وحده الفتوة. من يومها لم يعد هذا اللئيم يخشى أحدا، لم يعد يقيم حسابا لأحد. آه لو كان عرفة قد نجح. عرفة مات، ومعه ماتت آماله في أن يتغلب سحره الجبار على ظلم الناظر الذي كدر وجه النهار.
ـ أتعتقد يا حنش أن عرفة قد مات فعلا؟
ـ أهذا سؤال؟ فعلا صدق من يسمونك المجنون! الكل يعرف أن أعوان قدري وضعوا عرفة هو وزوجته في جوالين ثم حملوهما وألقوا بهما في حفرة عميقة، وبعد هذا كله تأتي أنت الآن لتسألني إن كان عرفة قد مات أم لا!
ـ قل عني مجنونا كما تشاء، ولكن ألم تسمع من يقولون: خذوا الحكمة من أفواه المجانين؟ على أي حال فإني لن أغضب منك، لكني ما زلت أقول ربما يكون عرفة حيا يرزق في مكان ما!
ـ قل ربما كما تشاء. لن أناقشك كثيرا، لكني أعترف لك بأني خائف على هؤلاء الشبان الذين ألتقي معهم في الخلاء. أنا متأكد أن هؤلاء أحياء يرزقون، لكن قدري لن يرحم واحدا منهم إذا وقع في قبضته. أنا أيضا خائف على نفسي.
ـ يبدو أن خوفك قد أنساك ما ظل عرفة يقوله باستمرار «.. الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة.. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت.. «وعلى أي حال فقد آن لي أن أنصرف. لماذا لا تأتي معي إذا كنت لا تخاف مني أنا أيضا؟! أراهن أنك لو جئت معي فإنك سترقص إذا كنت تجيد الرقص!
ـ لا مكان للخوف في قلبي أو قلبك ما دمنا معا. سآتي معك يا أعقل المجانين!
(11)
سدد المجنون نظرة طويلة إلى حنش، وهما يقتربان معا من باب المغارة، وقال بصوت مبتهج: عليك أن تجهز نفسك لمفاجأة لم تخطر لك على بال، وهذا ما كان بالفعل حيث كاد يغمى على حنش وهو يرى بعينيه أستاذه ومعلمه عرفة بشحمه ولحمه وبجواره زوجته عواطف فهتف من أعماق قلبه بأعلى صوت: أنا لست نائما لكن ما أراه بعيني المفتوحتين يبدو لي حلما جميلا ومستحيلا، لا أستطيع أن أصدق.. لا أستطيع..وفي لحظة تبدو كأنها هاربة من الزمان اندفع حنش وعرفة ليذوب كل منهما في الآخر، وترددت في أرجاء المغارة أصوات القبلات،بينما أطلقت عواطف زغرودة خافتة ومندهشة وهي تمد يدها لتصافح حنش بحرارة، أما المجنون فقد استبدت به حالة من الطرب، وهو يردد بأعلى صوته:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
على الأرض جلسوا جميعا متلاصقين كأنهم تحولوا فجأة إلى أجنة متداخلة في رحم واحد، وما لبث عرفة أن سأل بكل لهفة عن كراسة السحر، واطمأن إلى حد كبير حين بادره حنش قائلا إنها في الحفظ والصون ولكن ربما تكون قد ضاعت منها عدة أوراق، ولن تكون هناك مشكلة طالما أن ذكاء الأستاذ كفيل بأن يجعله يتذكر ما ضاع، وظلت الأحاديث تتشعب بين حنش وعرفة، إلى أن لاحظ عرفة أن المجنون يستمع لما يقال بذهن شارد.
– فيم تفكر؟
– لا أفكر في شيء محدد.. إني أستمع جيدا لما تقولان
– بل إنك شارد كأنك لست معنا وإنما في ملكوت آخر. صارحنا بما في القلب من هواجس. لقد أصبحنا حقا إخوة.
– ليس هناك سر.. كل ما في الأمر أني مشغول بمتابعة أشياء جديدة في قضية إنسان، كانوا قد حكموا عليه بالإعدام!
– هل هو من أقاربك؟
– لا…
– من أصدقائك؟
– لا.. لكن قضيته تهمني لأنه إنسان أولا وأخيرا.. هو إنسان مثلي ومثلكم، وأريد أن أعرف بعض الأمور التي استجدت في قضيته.
ضحك عرفة وهو يسأل بلا مبالاة
– أهو مجنون مثلك أم عاقل مثلنا؟
– هو إنسان ضائع، يستحق الرثاء لحاله. ظل يبحث عن أبيه الذي لم يكن يعرفه أبدا ولم يكن قد رآه ولو مرة واحدة طيلة حياته إلى أن أخبرته أمه قبل أن تموت بأنه ليس من أبناء الزنا، وأن له أبا كانت هي قد تزوجته زواجا شرعيا ثم اختفى تماما ولم تعد تعرف شيئا عنه، وأكدت الأم كلامها بأن أطلعته على وثيقة زواجها منه وسلمته إياها وفيها صورته الشخصية التي تبدو واضحة الملامح، وطلبت منه أن يبحث عنه لكي يعيش حياة كريمة، وقد حاول هذا الإنسان بالفعل أن ينفذ ما طلبته منه أمه، فأخذ يتنقل من مكان إلى سواه باحثا عن هذا الأب الغامض.
– وهل نجح في بحثه؟
– المشكلة أنه أثناء بحثه الخائب عن أبيه، تورط وأقدم على قتل إنسان بريء ثم تورط أكثر وأكثر حين انقض بكل قوته على رقبة المرأة التي حرضته على القتل ولم يتركها إلا جثة هامدة.
هنا تدخل حنش في الحديث، وقال إنه سمع من أحد الشبان الذين يلتقي معهم في الخلاء إشاعة غريبة، تؤكد أن رجلا من المحكوم عليهم بالإعدام قد نجح في الفرار من السجن قبل أن يتم تنفيذ الحكم الصادر ضده.
– كثيرون هم المحكوم عليهم بالإعدام،سواء أكانوا قتلة ومذنبين أو كانوا أبرياء، فمن هو الذي استطاع الفرار؟
– سمعت أن اسمه صابر.
– صابر سيد سيد الرحيمي؟
– ربما. أما ما أتذكره بوضوح فهو أن اسمه الأول صابر.
تنهد المجنون وهو يتمتم كأنه يكلم نفسه:
مسكين أنت حقا يا صابر. حاولت أن تسير في الطريق الذي لا يوصل إلا إلى المستحيل. لقد سمعت عن لغز أبيك ولكنك ظللت تحاول حل اللغز. أبوك يا صابر لغز صعب غير قابل للحل. هل كنت تتصور أنك ستراه أو تهتدي إلى مكانه وهو الذي كتب ذات مرة لأحد أصدقائه ( إني أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول إصبعك بين طرفي شاربك ) بل إنه قال لذلك الصديق ما هو أكثر.. قال له ( لا تعد نفسك في الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب ).. مثل هذا الأب – إن كان له مثيل – لا يمكنك يا صابر أن تصل إليه حتى لو حصلت على أعمار مضاعفة فوق عمرك. لو عشت يا صابر ألف سنة وليس مائة فلن تجني من البحث سوى خيبة المسعى على الطريق!
فجأة خرجت عواطف عن الصمت الذي كانت ملتزمة به، فقالت وهي توجه كلامها للمجنون:
لماذا تشغل بالك يا مجنون بهذا المدعو صابر؟ أنا سمعت عنه من أم زنفل التي كنت أقيم عندها، عرفت أنه قاتل خطير، وربما كان أبوه كذلك، وطالما أن هذا الأب لديه قدرة عجيبة على الاختفاء ثم الظهور المفاجيء لعدة لحظات فلماذا لا يكون هو القاتل المجهول الذي أفزع سكان حي العباسية كلهم بعد أن قتل منهم كثيرين بطريقة واحدة، بل إنه تحدى الجميع عندما قام بقتل الضابط محسن عبد الباري بنفس طريقته المرعبة في القتل،وأين قتله؟ لقد قتله في قلب قسم الشرطة، وهو الضابط الذي كان يحلم بالقبض عليه بدلا من أن تسجل كل حوادث القتل بأنها ضد مجهول؟ إذا كان هذا المدعو صابر قد هرب فعلا من السجن، فذلك لأنه إنسان شهواني مثل كثيرين من الرجال، ويريد أن يبحث عن امرأة من نوع كريمة التي خنقها بيديه دون أن يتذكر أنها كانت تهبه جسدها كل ليلة وتظل معه إلى أن يطل الفجر. أنا لا أتصور أبدا أنه يمكن أن يكون قد هرب لكي يعاود البحث عن أبيه، طمعا في ثروة أو جاه. صابر إنسان قاتل ورجل شهواني، و كانت له مع النسوان اللواتي عرفهن حكايات فاحشة، وهي حكايات كررها مع كريمة التي أعطته ما أعطت وكان جزاؤها منه هو القتل، أما حكايته مع البنت البريئة إلهام فكانت مجرد حكاية يتسلى بها أو ترضي غروره، في أوقات ابتعاد كريمة عنه.
لم يتردد المجنون في القول إن عواطف قد ظلمت صابر ظلما شديدا، وإنه مقتنع تماما بأنه كان يريد أن يعثر على أبيه، لكنه حاول أن يخفف عن نفسه عناء البحث باللجوء إلى أحضان كريمة في الليل والتطلع إلى وجه إلهام في النهار! وساد الصمت فجأة، في حين بدا عرفة مهموما، ونهض من مكانه وحده، لكي يشم هواء الجبل عند باب المغارة.
(12)
أنا مثل صابر تماما. أنا لا أعرف من هو أبي، وهو كذلك. عرفت أشياء كثيرة عن أمي، وكذلك عرف صابر عن أمه ما عرف. حين عدت إلى حارتنا – حارة الجبلاوي – قي بوم من الأيام، وبصحبتي حنش، كنت أعرف أن جبل ورفاعة وقاسم لم يعودوا إلا مجرد أسماء تتردد بين الناس، لم يعودوا إلا مجرد أغان ينشدها شعراء المقاهي المسطولون، وكنت أعرف كذلك أن أهل الحارة ( قد انقلبوا إلى ما كانوا عليه في الزمان الأسود،بلا كرامة ولا سيادة، تنهكهم الفاقة وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات ) وحين سألتني النساء بعد دخولي الحارة عمن أكون، قلت لإحداهن وأنا أحاول التودد إليها أنا ابن خالدة الذكر جحشة، فقالت لي: وأين أمك؟ ماتت.. الله يرحمها.. يا ما قعدت أمام مقطفها سائلة عن الغيب وترمي هي بالودع، أما الرجال فقد قابلوني بالسخرية لدرجة أن أحدهم قال لي:طالما سألنا أنفسنا في ذلك الزمان حينما حملت أمك: ترى من يكون أبوك؟ فهل خبرتك الحقيقة؟ وأتذكر أني حاولت أن أداري ألمي بالتظاهر بالضحك وقلت: ماتت هي نفسها قبل أن تعرفه.
هذه هي أمي جحشة بنت زين، أما بسيمة عمران أم صابر فكانت قوادة، تكسب الكثير وكان لديها أملاك وعقارات، لكنها دخلت السجن بسبب مكيدة دبرت ضدها بإتقان، وحين خرجت منه أكدت لصابر قبل أن تموت إن أباه قد أحبها وتزوجها زواجا شرعيا لا شبهة فيه، أما هي فقد هربت منه بعد معاشرة سنوات، وهي حامل مع رجل من أعماق الطين. هكذا استطاع صابر أن يعرف أنه ليس من أبناء الزنا، واندفع للبحث عن أبيه، لكي يستعيد الكرامة المهدورة، وتتحقق له الحياة الجميلة بما فيها من عز وجاه.
الفرق بين صابر وبيني أني تزوجت عواطف عن حب، ودخلت في صراعات مع أحد الفتوات إلى أن فزت بها، ولم أفكر في خيانتها مع نساء أخريات إلا عندما عشت منعما ولكن كالسجين خلال استحواذ الناظر الكريه على ما كنت أنجزه له وحده من اختراعات تتضاءل أمامها قوة أقوى نبوت. أما صابر فلم يتزوج. لم يعرف الاستقرار الذي يحققه وجود زوجة في البيت. صابر لم يعرف الحب، وكان دائما منساقا وراء شهواته، إلى أن ذهب للبحث عن أبيه فإذا به يتعرف على امرأتين في وقت واحد، وهذا ما أتعبه كثيرا، بدليل أن الرجل الذي سجل تفاصيل حياته- وهو نفس الرجل الذي كتب حكايات حارتنا- قٌال مما قاله: ( آه.. كثيرا ما عشق صابر أكثر من امرأة في وقت واحد، لكنه مع إلهام تعذبه كريمة ومع كريمة تعذبه إلهام، والتوحيد بينهما أمنية لا يجرؤ على تمنيها. )
أما الفرق المهم أو الأهم بين صابر وبيني فهو أنه اندفع باحثا عن وهم مستحيل، لأنه لم يكن يريد أن يعمل بجهده هو، ولم يكن يريد الاعتماد على نفسه، بل كان يحلم بأن يتجلى له الأب الغائب، لكي يخلصه -عندما يظهر من سرداب أو باب – مما يعانيه في دنياه، خصوصا بعد أن أوشكت نقوده أن تتبخر، وبالطبع فإن الأب المخلص لم يظهر لكي يخلص الإبن الضائع. أما أنا فحسنا فعلت. لم أتعلق بأي وهم و لم أزخرف السراب. لم أقل لنفسي إنه ماء يسقي الذين يحلمون بالارتواء بعد أن يعذبهم العطش. اندفعت لا لأبحث عن أبي، وإنما لأعمل بكل قوتي وجهدي. أرهقت جسدي لكي أعرف ما أريد أن أعرف. عرفت أن الظلم ظلمة، وكان لا بد من البحث عن النور لكي تتبدد ظلمة الظلم.
أتذكر أن زوجتي سألتني ذات مرة: ما العمل؟ صارحتها، قائلا ( لست إلا ابنا لامرأة حقيرة وأب مجهول، والكل يعرف هذا ويتندر به، ولكن لم يعد لي من هم في الدنيا إلا البيت الكبير، وليس غريبا على مجهول الأب أن يتطلع بكل قوته إلى جده. وحجرتي الخلفية علمتني ألا أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي، فلا محيد عن الوصول إلى البيت الكبير، وقد أجد القوة التي أنشدها وقد لا أجد شيئا على الإطلاق، ولكني سأبلغ برا هو على أي حال خير من الحيرة التي أكابدها. ولست أول من اختار المتاعب في حارتنا، كان بوسع جبل أن يبقى في وظيفته عند الناظر، وكان بوسع رفاعة أن يصير نجار الحارة الأول، وكان في وسع قاسم أن يهنأ بقمر وأملاكها وأن يعيش عيشة الأعيان، ولكنهم اختاروا الطريق الآخر…)
بالطبع فإن لكل هؤلاء تقديرهم وإجلالهم، وأنا أعرف تماما أني لست مثلهم، لكني حاولت أن أقدم للناس ما ينفعهم وما فيه الخير لهم ولسواهم من الآخرين، ولا بد أن أعترف بأن الظلم كان أقوى مني. لم أنتصر عليه، وفي نفس الوقت فإني لم أستسلم أمامه. مع هذا فإني أشتاق أحيانا لأن أعرف أبي، إنما لذة العمل في السحر تخفف من نار الشوق. لقد عملت وأجهدت جسدي وعقلي، وهذا أفضل بكثير مما فعله صابر. أن نكتفي بالبحث عن وهم دون أن نعمل بكل قوانا، فهذا هو العقم بعينه ولا شيء سوى العقم..
(13)
عاد عرفة إلى قلب المغارة مرتاح البال إلى حد كبير، لكنه لاحظ عدم وجود حنش وعلى الفور بادرته عواطف قائلة إنه لم يشأ أن يزعجك لما أحس أنك تفكر في أمر يشغلك،فتسلل من وراء ظهرك دون أن تشعر به، بعد أن استأذن منا لقضاء مصلحة، ووعد بألا يتأخر، فقال لها بلهفة لم يحاول إخفاءها: أتمنى أن يتذكر ما وعدني بإحضاره، أما هي فقد قالت وهي تضحك: أريد أن أنام لأرتاح من وجع القلب، بعد أن صدع المجنون دماغي بكلام كثير لم أفهم منه شيئا.
بدوره ضحك المجنون وهو يقول لعواطف فلتهنئي بالنوم،لأني سأصدع دماغ زوجك، ثم بادر بالنهوض من مكانه مصطحبا معه عرفة لكي يجلسا معا أمام باب المغارة، حيث الهواء الذي يرد الروح، والنور الذي يرصع جنبات الجبل، ويخفف من إحساس الإنسان بالرهبة حين يدرك أنه مجرد كائن ضئيل.
قبل أن يهم المجنون بالجلوس تجول بعينيه على امتداد البصر، وظل يمعن النظر، كأنه يريد أن يرى ملامح الأرض منذ أن طرد الجبلاوي ابنه إدريس لأته تبجح في حضرته، وجاء الدور بعد حين على أدهم وزوجته أميمة لكي يغادرا البيت الكبير نهائيا بعد خطأ فادح وقعا فيه، وكان إدريس هو الذي جرهما وحرضهما لكي يقعا في ذلك الخطأ الذي لم يغتفره لهما الجبلاوي، وظل المجنون يتجول بعينيه وكأنه يريد أن يرى البقعة التي شربت أول دم بشري يسيل فوقها من جسد أول قتيل والغريب أن القاتل هو قدري، وأن القتيل هو همام، وكل منهما أخ للآخر.. كل منهما ابن لأدهم وأميمة! وسكت المجنون لحظات ثم قال وهو يهم بالجلوس بالقرب من عرفة:
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت.. أحزان بلا جدوى
ودمعة سدى
قال عرفة – بصوت تمتزج فيه السخرية بالحزن – استرح يا صديقي.. استرح أيها الحائر المحير، لأعرف منك – أولا – لماذا اصطحبتني للجلوس وحدنا عند باب المغارة، رغم أني كنت هنا منذ قليل، كما أني أريد منك – ثانيا – أن تشرح لي معنى الكلام الجميل الذي قلته الآن! وابتسم المجنون ابتسامة حزينة وهو يقول: هذا الكلام الجميل قاله أحد أصدقائي الذين استقر الحزن في أعماق قلوبهم منذ أدركوا أن الظلم لا نهاية له، فبمجرد أن يتحرك إنسان ضد أي نوع من أنواع الظلم يشرع الظالمون في القضاء عليه، والغريب بل المؤلم أن الظالمين يستعينون عادة بالمظلومين عند القضاء على مثل هذا الإنسان. إني كلما تذكرت هذا الكلام الجميل- كما تقول – أعود بذاكرتي إلى كل ما سمعناه مما ينشده الشعراء وتتغنى به أنغام الرباب على المقاهي، ومن هنا.. من هذا المكان العالي نستطيع أن نرى كل ما جرى.
– ألا نستطيع أن نرى ما نريد أن نراه من هنا أو في حارتنا أو في أي مكان طالما أن في وجوهنا عيونا وبها نبصر؟
– لا أقصد الرؤية بالعين.. أقصد أن نتأمل في كل ما جرى بالعقل وبالقلب، لكي نستطيع أن نتعرف على ما قد يأتي و ربما على ما لن يأتي!
– وماذا بعد؟!
– لن أسألك أي سؤال إلا إذا كانت لديك الرغبة أو النية في أن تفكر معي وأن تجيب!
– سأفكر معك كما تريد، رغم أن كثرة التفكير لا تورث غير الهم، ولهذا يفضل كثيرون أن يرتاحوا، قائلين.. العبد في التفكير والرب في التدبير! قل لي فيم تفكر ولكن دون أن تطيل!
– أنت تضع شروطا مسبقة!
– لا.. فلتبدأ ودون شروط
– أبدأ فأقول إني أفكر فيك أنت، وأحاول أن أعرف الفرق بينك وبين من سبقوك؟
– من هم هؤلاء السابقون؟
– أنت تعرف قصدي.. أنا أقصد جبل ورفاعة وقاسم!
– هكذا بمنتهى البساطة!
-… بمنتهى البساطة
– أعترف لك كما اعترفت من قبل بيني وبين نفسي أن الفرق كبير جدا بيني وبينهم.. كان لهؤلاء طريق واحد، وقد ساروا فيه واحدا تلو آخرولكن بوسائل مختلفة، أما أنا فلم أسر في نفس ذلك الطريق الذي سار فبه ثلاثتهم.
– كلامك جميل فأنا أعرف ربما أكثر منك أن لهؤلاء جلالهم وجمالهم، لكني أتصور أن هناك ما هو مشترك بينك وبينهم. مثلا فإن لكل منهم خوارق وعجائب، أذهلت العقول، وأنت كذلك ظللت تعمل في السحر، يعاونك حنش إلى أن فعلت ما فعلت.. لقد ظل الفتوات ومن معهم يتقاتلون فيما بينهم بالنبابيت وبالخناجر، ولهذا كان لا بد أن يقترب كل مقاتل أو قاتل ممن يريد قتاله أو قتله، لكن زجاجاتك الحارقة جعلت القتل يتم عن بعد كما جعلت أعداد القتلى تتزايد!
– يبدو لي أنك تريد أن تهاجمني بكل ما فيك من جنون، بينما الحقيقة أني لم أكن أقصد غير الخير فيما فعلت
– ماذا؟! يا له من خير!
– لا تهزأ يا مجنون وأرجوك ألا تضيف لجراحي جرحا جديدا.. يكفيني ما أنا فيه، كنت أنوي ومن كل قلبي أن أستخدم سلاحي السحري – ثمرة جهدي وسهري – لوأد الشر، للقضاء على الفتوات الذين يخطفون اللقمة من أفواه الناس المقهورين ويصفعونهم ويركلونهم بالأقدام، فإذا بسلاحي يتحول دون قصد مني بل رغما عني إلى سلاح يتحكم فيه من هو أكثر شرا منهم أجمعين، وحين حاولت الفرار ألقاني أعوان الطاغية الشرير قدري في حفرة أنا وزوجتي وتصوروا أنهم قد قضوا علينا، لكن الله قدر لنا أن نعيش، وأن تكون أنت يا مجنون أول من يرانا بعد النجاة من موت محقق..
– الخلاصة أن السلاح الذي أردت أنت به نصرة الخير أصبح ملكا خالصا للشر.. وهذا ما دفعني لترديد كلام صديقي.. لا تحلموا بعالم سعيد – فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد! والعجيب أنك كدت يا عرفة تموت بنفس الطريقة التي قتل بها الأشرار رفاعة الطيب!
– كيف هذا يا مجنون؟!
– هل نسيت الحكايات؟! أنت استطعت أن تنقذ نفسك بنفسك حين أزحت عنك تراب الحفرة، وبعد خروجك منها لم يعد التراب مستويا كما سواه القتلة بأيديهم، وهذا ما أثار الظنون والتأويلات حول مماتك أو نجاتك. ( أما رفاعة فقد سأل الجناة بمنتهى البراءة لماذا يبغون قتله، وعلى الفور تلقى ضربة نبوت هوى على رأسه بشدة، فصرخ صرخة عالية وهتف من أعماقه يا جبلاوي، وبعد أن تم القتل ألقاه الجناة في الحفرة، وجاء أصحابه الجبناء أو الحكماء – سمهم كما تشاء – فتحسسوا الأرض في الظلام إلى أن صرخ أحدهم وهو يتشمم يده: إن هذا دمه، وقال آخر وهو يتفجع ويتحسر: تمهلوا فهذا جسده. حمل الأصحاب جسد رفاعة إلى أن وصلوا إلى مقبرته وهبطوا إلى جوف القبر حيث واروه الثرى وهم يبكون ) لكن أعجب ما جرى بعد ذلك أن جميع الذين بحثوا عن رفاعة في هذا القبر لكي يتأكدوا من موته لم يجدوا الجسد، وقيل إن الجبلاوي حمله بنفسه ودفنه في حديقته الغناء بالبيت الكبير.. أنت نجوت وها أنت حي ترزق دون أن يعلم كثيرون أنك نجوت، أما جسد رفاعة فقد اختفى دون أن يستدل أحد على مكانه، ومنذ ذلك اليوم البعيد والرواة يختلفون فيما بينهم بشأن ما جرى لجثته، لدرجة أن أحدهم ظل يؤكد أن القتيل ليس رفاعة وإنما هو شخص آخر يشبهه، وهناك من يزعم أن الجبلاوي شخصيا قد حمله بنفسه ليقيم معه في البيت الكبير، بعد أن أدرك أنه قد قاسى ما قاسى من المستهزئين ومن المتآمرين عليه.
قال عرفة وهو في غاية التأثر:
أراد رفاعة إخراج العفاريت من صدور الناس لكي يشفوا من العلل والأمراض لكن الجناة أخرجوه من الحياة كلها، وبقي أصحابه يحاولون أن يخلصوا الناس من عللهم وأمراضهم، لكن كل واحد من هؤلاء الأصحاب شق لنفسه طريقا مختلفا عن سواه، وهكذا الحياة، لابد من ظهور خلاف بين الأصحاب حول الفكرة الواحدة، حيث يرى كل واحد منهم أنه المخلص لها أكثر من غيره، وأنه الأمين عليها وحده!
قال المجنون: إن ما جرى لرفاعة معناه أن تطهير الأبدان وحده ليس كافيا… هذا هو ما أدركه قاسم فيما بعد عندما جاء… قاسم أدرك أن الرحمة وحدها لا تكفي… قاسم مزج القوة بالحب. رأى ضرورة أن تتم تقوية الأبدان جنبا إلى جنب تطهير الأرواح، فالقوة وحدها دون رحمة قوة غاشمة، والرحمة دون قوة هي عجز عن الفعل المثمر.
اصفر وجه المجنون فجأة حين رأى عقربة تقترب رافعة ذيلها إلى أعلى، وهنا تحرك عرفة بثبات وهو يمسك حجرا قريبا منه، وبضربة متقنة تم سحق العقربة تماما، وبعد انتهاء مهمة السحق قال عرفة بثقة وهو يبتسم: هذا يؤكد أن القوة لا بد منها حين يتطلب الأمر استخدامها!
بدأ الفجر يتسلل بهدوئه الجميل المألوف، وتراءى شبح يتسلل ويقترب شيئا فشيئا وهو يصعد الجبل. سادت حالة من الترقب. المجنون بدا متوجسا، أما عرفة فقد تهيأ للقتال إذا لزم الأمر، وفجأة صاح بابتهاج: حمدا لله على السلامة. وتسارعت خطوات الشبح الذي لم يكن سوى حنش.
– لماذا تأخرت إلى هذا الوقت؟ أين كنت؟
– تفضل أولا وتسلم مني الأمانة!
– لا أكاد أصدق. أهذه كراسة السحر؟ أهذا مستودع الأسرار يعود بعد أن كنت فقدت الأمل. ما أحلى فجر هذا اليوم الذي…
لم يكمل عرفة كلامه، فقد دوت أصوات انفجارات عالية ومرعبة تكاد تصم الآذان، وارتفعت سحب من الغبار الخانق لتغطي الجبل وهي قادمة على دفعات من السفح البعيد!
( 14 )
بدا المشهد مرعبا أمام حنش الذي نزل من المغارة بأقصى سرعة لكي يعرف ما جرى عند السفح. مئات من سكان الأحياء القريبة كانوا قد سبقوه في الوصول. حين تفحص وجوههم بنظرات خاطفة وجد آثار النوم بادية عليهم. عرف أن معظمهم من حي قاسم، ورأى آخرين من أبناء حي رفاعة، أما الذين كانوا يسكنون حي جبل فقد خرجوا – باستثناء قليلين منهم – من الحي ولم يعودوا إليه منذ سنوات. لذا لم يلحظ وجود أي واحد منهم.وأحس حنش بقدر من الاطمئنان الخفي عندما لمح وجوه شبان ممن يلتقي معهم في الخلاء وفي الخفاء.
– حادثة مخيفة.. حادثة مروعة
– لا تقل حادثة.. قل إنها كارثة
– ماذا حدث؟
– انظر أمامك.. كل هذه الكتل الصخرية سقطت فجأة من الجبل فوق البيوت التي كانت تحتها مباشرة.. ها هي الصخور أمامك، أما البيوت فلن تراها.. هي الآن أنقاض تجثم فوقها هذه الصخور.
– هل مات أحد؟
– أهذا سؤال؟! كثيرون مدفونون الآن تحت هذه الكتل الصخرية التي لا ترحم.. منهم من اختنقوا بالتأكيد، ومنهم من انسحقوا تماما، ومنهم من يستغيثون ويترقبون أن يخرجهم أحد من تحت الصخور ومن بين الأنقاض قبل أن يلحقوا بمن سبقوهم..
اقترب من حنش واحد من الشبان الذين يعرفهم. صافحه والألم يطل من عينيه وقال دون مقدمات:
– ما جرى أفظع من أفظع كابوس.. القتل بالنبابيت أرحم.. الزجاجات الحارقة التي جربها المرحوم عرفة أخف وطأة.. ما جرى كابوس نراه بالعيون ونحن متنبهون وواعون.. رأيت بعيني أجسادا بلا رؤوس، ورؤوسا ليست لها أجساد.. شاهدت الموت وهو يقتحم كل بيت دون أن يتمهل.. لم يفرق بين طفل يرضع وامرأة لا تقوى على الحركة.
ودون مقدمات اندفع رجل في حوالي الأربعين من عمره ليلقي برأسه على صدر حنش، بينما جسده يهتز بعنف كأنه في حالة تشنج..
– ألست أنت مينا جرجس؟ ما الذي حدث لك؟
– هل نسيتني؟
– لا يمكن أن أنساك، لكني لم أتوقع أن ألقاك هنا وسط هذه الكارثة.
– لي من الكارثة نصيب. أنت تعرف أني كنت أقيم في أحد بيوت حي رفاعة، لكنهم طردوني منه، بعد أن تراكم الإيجار ولم أستطع أن أدفعه. جئت إلى هنا لكي أعيش مع من يعيشون عيشة لا تليق بالإنسان بل حتى بالحيوان. عشت هنا رغما عني، لكن المصيبة لاحقتني. البيت الذي أسكنه وفيه تسع عائلات لم يبق منه حجر واحد. الصخور التي تراها أمامك جعلته مقبرة لابنتي الوحيدة التي لم أستطع إنقاذها. أتعرف ماذا جرى لها؟ لقد تفتت جسمها الصغير أمام عيني. أسوأ شيء أن ينهار كل شيء حولك و لا تستطيع فعل شيء. أنا وزوجتي التي تجلس أمامك على الأنقاض ننتظر أن يستطيع أحد أن يستخرج جثة ابنتنا التي كانت النور الوحيد في حياتنا البائسة.
على الناحية الأخرى المقابلة للمكان الذي وقعت الكارثة فيه، شوهد عدة فتوات ومعهم بعض أعوان الناظر قدري وحفيده المتهور الجلف كمال. لا أثر للغبار على وجوههم أو على ملابسهم. لماذا جاءوا؟ هل امتلأت قلوبهم بالرحمة فجأة؟ قال أحدهم وهو يتظاهر بالحزن وقد قطب ملامحه بطريقة مفتعلة:
– الموت راحة لمن ماتوا، وعلى أي حال فهم الذين سعوا بأنفسهم إلى الموت لأنهم رفضوا أن يغادروا هذه البيوت وهم يدركون أن الجبل يمكن أن يفتك بهم وببيوتهم في أية لحظة.
– لا تحزن عليهم كثيرا يا سيدي. ما جرى قضاء وقدر.
– المشكلة أن هؤلاء الذين يقفون فوق الأنقاض يحملوننا نحن المسؤولية الكاملة عن تساقط الصخور، بل يقولون إن لدينا بيوتا كثيرة لكننا بخلنا عليهم بسكناها!
– ما جرى قد جرى. إنه القضاء والقدر. والبيوت التي بنيت حديثا ليست لهؤلاء الذين يراقبوننا وينظرون إلينا بحقد. هذه البيوت فارغة فعلا لأنها تنتظر أن يسكن أولادنا فيها عندما يتزوجون. أليس هذا من حقنا؟!
– أيا كان الأمر، فإن علينا أن ندفع تعويضات لعائلات المصابين حتى نتفادى تلك النظرات الحاقدة التي تكاد تخترق صدورنا.
– يمكننا أن ندفع بالطبع لعائلات المصابين، أما العائلات التي دفن أفرادها تحت الصخور فإننا لا نستطيع أن نعوضهم،ما دام هؤلاء المدفونون لم ينهضوا لأنهم لن يعودوا إلى الحياة مرة ثانية، فنحن لسنا ملزمين تجاههم بأي شيء.
– ولكن هل هناك عائلات دفنت فعلا وبالكامل تحت الصخور؟
– معي قوائم بأسماء بعضهم. هناك أسرة مكونة من ثمانية أشخاص، وقد لقوا جميعا حتفهم، وهم: قرني عبد التواب – 54 سنة وابنته رشا – 24 سنة وآية رمضان أحمد – 10 سنوات وأختها شروق – 5 سنوات والحسيني غريب حامد – 10 سنوات ومحمد علاء عبد المنعم – 3 سنوات وإلى جانب هؤلاء هناك الطفل مروان تامر قرني الذي لم يتعد أسبوعه الأول، وأمه إيمان عبد الحارث عويس…
– يكفي.. توقف عن قراءة الأسماء.. على أي حال هؤلاء كلهم راحوا فأراحوا واستراحوا!
-.. ولكن سيدي.. هناك أهالي الناس الذين ما زالوا تحت الصخور، ونحن لا نعرف إن كانوا قتلى أم على قيد الحياة، فماذا نفعل؟
– نتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. لا بد أن نتأكد أنهم إما ماتوا أو أنهم أحياء.
اندفع شاب مكتئب تجاه حنش، وهو يسرع في خطواته وقد بان الخوف في عينيه، وقال على الفور:
– اهرب بسرعة من هنا يا حنش. إن أعوان الناظر قدري لمحوك، وقد ينتهزون الفرصة ليقبضوا عليك.
وكأنه فص ملح وذاب في الماء اختفى حنش، وهو يسمع مينا جرجس يقول:
– هؤلاء يرصدون كل كبيرة وصغيرة حتى وهم يتفرجون على الكوارث!
( 15 )
لم يعد يحلو لي مقام أو يهنأ لي منام. ما أشقاني. كم أتعذب. عذابي ثقيل ومضاعف. عذابي فوق الاحتمال. أتعذب لأن البهجة قد غابت عني. رحلت من قلبي دون أمل في أن تعود. أتعذب لأني لا أستطيع أن أبوح بما أعانيه حتى لأقرب الناس. لا أصدقاء لي. لو بحت بما في القلب من عذاب فإني أعرف ما سيجري. سيتظاهر كل الذين يلتفون حولي بأنهم يتألمون من أجلي. هم يكذبون.. يمثلون بل يجيدون التمثيل. الشماتة سترقص دون توقف في أعماق قلوبهم السوداء. آه لو استطعت أن أفتش تلك القلوب دون أن أستثني منها قلبا واحدا!
اليوم أخبروني أن حنش، هذا الفأر الهزيل، تجرأ وظهر علنا أمام الجميع. قالوا إنهم حاولوا القبض عليه لكي أقتله بيدي أو لأشهد مقتله. اعتذروا بأنهم لم يريدوا إثارة الناس ضدهم فقد كانت نظراتهم مسكونة بالغضب وبالحقد. بيوتهم القديمة الخربة اختفت من على سطح الأرض. مات منهم من مات. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ أقول للجبل لا تهتز وللصخور لا تتساقطي فوق البيوت! والنتيجة أن هذا الحنش غاب وذاب في الزحام. أفلت من أيديهم. هذا إذا كانوا صادقين فيما قالوه. هؤلاء أنفسهم هم الذين أكدوا لي أنهم دفنوا الساحر الماكر هو وزوجته. وهؤلاء أنفسهم هم الذين لم يظهر الخجل على وجوههم مع تزايد الإشاعات المقلقة لهم ولي.
ما معنى أن عرفة لم يمت؟ أكاد أجن. أأصدقهم أم أكذبهم؟ وكيف بعد هذا كله يحلو لي مقام أو يهنأ لي منام؟
أنا لم أكن أريد أن أؤذيه لو أنه أطاعني. الأحمق فضل أن يهرب ولم ينجح. كان مغتاظا من سيطرتي عليه. لم يكن يحبني أبدا. أنا أيضا لم أكن أحبه. مصلحة واحدة ربطت كلينا بالآخر. القضاء على الفتوات بسلاحه الذي لا يستطيعون أن يقاوموه. هو نفسه جرب سلاحه لأول مرة ( عندما أخرج الزجاجة من عبه، واستقبل الذين كانوا يطاردونه بمنتهى الثقة، وقذف عليهم الزجاجة، وما هي إلا ثانية حتى دوى انفجار لم تعرفه أذن من قبل، وتتابعت صرخات وتأوهات ).. وأنا نفسي جربت هذا السلاح عندما أعطيت لخدمي مجموعة قوارير ( وإذا بالقوارير تنهال من أيديهم على عجاج وأعوانه، ودوي الانفجارات يزلزل الجدران، وشظايا الزجاج والرمال تصيب الوجوه والأطراف وتفجر الدماء )
بفضل عرفة أصبحت أمتلك مجموعة كبيرة من تلك القوارير. هي رهن إشارتي ويمكنني أن أستخدمها وقتما أشاء. لم أعد أخشى أحدا. لكن الإشاعة الجديدة تبدد ما كان من راحة بال واطمئنان. هناك من يقولون إن اثنين ممن لم يغادروا حي جبل لديهما مجموعة قوارير يخبئانها في بدرومات البيوت التي هجرها سكانها في نفس الحي. وهناك من يؤكدون أن أكثر من حارة من الحواري البعيدة عن حارتنا فيها زجاجات وعقاقير ربما تكون أكثر فتكا مما أمتلكه. هل خانني عرفة دون أن أدري وباع أسرار سلاحه لأبناء تلك الحواري البعيدة؟ هل هم أنفسهم لديهم سحرة لا يقلون شأنا عن عرفة؟ آه لو استطعت أن أفتش بيوتهم بيتا بعد بيت! ولكن هيهات. أنا وحيد ومكروه. لا أحد يثق بي،وأنا نزعت من قلبي الثقة في أي أحد باستثناء حفيدي كمال، لكنه مكروه مثلي. لو صدقت الإشاعة فلن أكون وحدي الذي يمتلك ما اخترعه عرفة. لابد من التفكير مرات ومرات قبل أن أتسرع في استخدام ما عندي. لم أعد وحدي الذي يمكنه التحكم في الآخرين والسيطرة عليهم. آه لو كان ما سمعته حقيقة وليس مجرد إشاعة. وآه لو كان الساحر الماكر قد تمكن من التوصل إلى اختراع أقوى من تلك الزجاجات التي صنعها. وقتها كان يمكن أن أظل حيا إلى الأبد.
لقد قلت له ذات ليلة، وكنا وحدنا منتعشين بنسيم الليل ومسطولين بأنفاس الجوزة: (حياتي لا ينقصها شيء، حتى الشباب تعيده الأقراص، ولكن ما جدوى ذلك كله والموت يتبعنا كالظل؟ كيف أنساه وهو يذكرني بنفسه كل ساعة؟ ) قلت له ألا يستطيع الناس مهما اختلفوا أن يجمعوا السحرة ليتوفروا على مقاومة الموت؟ وطلبت منه أن يعمل بكل جهده لكي يظل الإنسان حيا إلى ما لا نهاية. لم يستطع أن يرد بنفس الثقة التي أعهدها فيه حين كنت أسأله عن كثير من الأمور. أحنى رأسه كأنه يعتذر لي وقال ( إني أعمل كل يوم، ولكن ما أعجزني أمامه.) آه لو كان عرفة قد استطاع أن يميت الموت، أن يلغي وجوده، لكنت الآن في أهنأ بال، يحلو لي المقام ويطيب المنام،لأني أعرف أني سأفيق في الصباح متجدد الطاقة وعاشقا للحياة، ومتحكما في إدارة الوقف وفي الناس أجمعين. آه كم أتعذب، وعلى نار الشك أتقلب!
(16)
استبدت بالمجنون موجة عاتية من القلق والحيرة. غمغم وهمهم وهو يسدد نظراته إلى الأفق الممتد أمامه. ردد ما قاله ذات يوم أو ذات ليلة أحد أحبائه: لكي يكون الموت حقا… ينبغي أن تكون الحياة عادلة. بادره عرفة كأنما يحاول التخفيف عنه: يبدو أنك مجنون فعلا. مرة أراك تضحك أو تبتسم دون سبب، ومرة تكاد تجهش بالبكاء بغير سبب. ما سر هذا الاكتئاب إن كان هناك سر؟ لم يجبه المجنون بشكل مباشر، لكنه أخذ ينظر إلى البعيد، وهو يقول بصوت منغم ( ها أنا أستدير بوجهي إليك أيا زمنا ليس يوجد بعد، أيا زمنا قادما من وراء الغيوم – ها أنا أستدير بوجهي إليك، فأبكي لأن انتظاري طال، لأن انتظاري يطول، لأنك قد لا تجيء، لأن النجوم تكذب ظني، لأن كتاب الطوالع يزعم أنك تأتي إذا اقترن النسر والأفعوان، لأن الشواهد لم تتكشف، لأن الليالي الحبالى يلدن ضحى مجهضا، ولأن الإشارات حين تجيء.. تجيء إلينا الإشارات من مرصد الغيب يكشف عن سرها العلماء الثقات، تقول: انتظار عقيم – انتظار عقيم )
قال عرفة بهدوء:
– هذا كلام حزين، وإن كنت لم أفهم منه الكثير. يبدو أنك دوخت زوجتي بمثل هذا الكلام من قبل. لماذا لا تصارحني بما في قلبك؟ ألست صديقك؟
– ونعم الصديق، لكني لا أحب أن أنغص عليك بما يدور في ذهني. على أي حال فانا لا أدري إن كان من حقي أن أسألك عن أهمية كراسة السحر التي دونت فيها ما دونت، لقد كدت تطير من الفرح عندما أحضرها لك حنش « وكأنها طفل أعادوه إلى أبويه «.
– بماذا تشعر إذا أدركت أن حياتك فارغة من المعنى؟ بالكراسة تكتسب حياتي معناها. إنها ثمرة عمل متواصل على امتداد سنوات من العمر.
– لكنه لم يكن عملا من أجل الخير.
– كنت أقصد من ورائه الخير، لكن ما باليد حيلة.
– يؤسفني أن أقول إنك ارتكبت جريمة، بينما كان كل من جبل ورفاعة وقاسم يريدون الخير، إما لناسهم كما فعل جبل وإما للناس أجمعين كما فعل قاسم. ألم يخرج جبل كل الثعابين والأفاعي من بيوت الأشرار والطيبين على حد سواء؟ ألم يحاول رفاعة إخراج العفاريت من صدور الناس حتى لا توسوس لهم وتدفعهم دفعا إلى ارتكاب الخطايا؟ ألم يوزع قاسم أموال الوقف بالعدل؟ ألم يجعل للمرأة نصيبا في الميراث؟ أما أنت فماذا فعلت؟ ألم تمنح ثمرة جهدك لطاغية مستبد فزاده عملك طغيانا واستبدادا؟
– أرجوك أن ترحمني واحذر أن تجمعني مع جبل ورفاعة وقاسم. طريقي يختلف تماما عن طريقهم، والذين أحبوا كل واحد من هؤلاء وآمنوا بما عرفوه منهم لم يحبوهم إلا بقلوبهم، أما الذين أحبوني فقد عرفوا قيمة العقل حين يظل يفكر حتى لا يصدأ. التجارب التي قمت بها لا يمكن أن تعتمد على القلب. العقل وحده هو الذي يشير إلى نجاح تجربة أو فشل أخرى. أنا لا أعتمد على طلاسم وغيبيات، وإنما على مرئيات. أشم ما أمامي إذا استدعت الحاجة أن أشم. أتحسس باليد. أرهف السمع. أنظر وأراقب. أتطلع إلى نتيجة في خاتمة المطاف. هذا عمل العقل.
– سامحني إن كنت قد ضايقتك، لكنك تعرف أن الفقراء والمتسولين لم يستفيدوا من سلاحك. المستفيد الوحيد حتى الآن هو الناظر قدري الذي لم يعد يهتم إلا بأن يبقى على قيد الحياة، متمتعا بما لديه. شغله الشاغل أن تظل ملذات الحياة متوفرة وبلا انتهاء له ولمن يسهرون معه ولمن يتطلعون لأن يرثوه إذا وافاه الأجل المحتوم. انظر كيف ترك الذين فقدوا بيوتهم ينامون في العراء، وكيف تصور أنه يمكن أن يخدعهم عندما أرسل لهم حفيده المغرور كمال لكي يقدم لهم العزاء. وانظر إلى عصابته المفسدة والفاسدة، ألم يقتل أحدهم راقصة لأنها رفضت أن تنساق وراء المزيد من نزواته؟ ألم يلهث آخرون منهم وراء الثراء السريع، فباعوا للناس لحوم الحمير على اعتبار أنها لحوم أبقار وجواميس؟ جبل ورفاعة وقاسم موجودون الآن في أغاني الشعراء وحدها، ويبدو أن كثيرين من الذين يتحدثون باسم كل منهم لم يعودوا يهتمون ولو بقراءة صفحات أعمالهم!
– أظن أني قد صدعت دماغك بما فيه الكفاية، وآن لك أن تستريح مني، أما أنا فسأخرج لبعض الوقت ولن أتأخر كثيرا.
– إلى أين؟
– اطمئن. لن أهرب منك كما حاولت أنت أن تهرب من قدري فيما مضى. سأتوجه للقاء صديق قديم في حي رفاعة ولن أتأخر.
( 17 )
في طريقه إلى بيت صديقه مدحت الرفاعي، ظل المجنون يهز رأسه بين حين وآخر، وهو يفكر فيما ازدحم به عقله من أفكار وتخيلات. قد يتلاقى الناس مع الناس عدة ساعات كل يوم، لكنهم يظلون بعيدين عن بعضهم برغم القرب والتلاصق والزحام.. لماذا؟ لأن لكل منهم ليلاه أو دنياه. لكل منهم وساوسه التي يحاول أن يخفيها عن سواه. علاقتي مع مدحت ليست من هذا الطراز. بيننا علاقة صداقة متينة الجذور. على امتداد سنوات لم تفلح الزوابع الفجائية في خدش صداقتنا الجميلة. نتفق كثيرا، وقد نختلف، لكن صداقتنا تظل على ما هي عليه بل تتأكد.. هو يعشق الخروج من حي رفاعة في حارتنا، يدفعه شوق جارف لأن يعرف ما يحدث في الحواري البعيدة. أنا كذلك. يا ما خرجت من حي قاسم لفترات طويلة. الخروج يتيح لي أن أرى ما لا تعرفه حارتنا كلها. الحارة دائما مشغولة بأوضاعها، بمشاكلها، بالفتوات الذين يتلاحقون، بالمتسولين الذين يتزايدون. لا أحد من أبناء حارتنا يهتم بأن يعرف ما يدور في حواري غيرهم حتى لو كانت قريبة. كلهم يخافون من البعد عن الحارة. كلهم يؤكدون أن حارتنا هي أصل مصر أم الدنيا. هم يؤكدون ما يؤكدون، لكنهم دائما يختلفون. الخلافات قد تتحول إلى مشاجرات أو حوادث قتل أو خطف. ناس لهم وجوه كالصخر يخطفون بنات صغيرات من حي رفاعة. بعد وقت قصير يقولون إن قلوب البنات أصبحت تميل لكل ما قاله قاسم. بنات أخريات يتم خطفهن من حي قاسم. بعد وقت قصير يقال إنهن هجرن حيهن لأنهن أصبحن مقتنعات بما قاله رفاعة. الذين لم يهجروا حي جبل يبتهجون، بل إنهم يشمتون فيما يحدث. هؤلاء لا يحبون أحدا غيرهم. في السر والعلن يقولون إن حيهم هو حي الجبلاوي المختار.
أخيرا بعد تسكع طويل، وجلوس على أكثر من مقهى، تسارعت خطوات المجنون إلى أن وصل حي رفاعة. بعد التحيات والأحضان، عاتبه مدحت على تأخره في زيارته. جلس الصديقان في البلكونة التي اعتادا أن يجلسا فيها مع كل لقاء.
– طالت غيبتك. أين كنت يا مجنون طيلة المدة التي انزويت فيها؟
– كنت في الخارج. أرصد حياة ليست كحياتنا هنا.
– وأنا كذلك قمت برحلة مشوقة. زرت حارة بعيدة عنا.كنا قد سمعنا عنها، وعن أهلها الذين لا يكفون عن العمل. إنهم يعملون بإخلاص. الكل يعمل. الكبير والصغير. المرأة والرجل. العجيب أني لم أكن أستطيع أن أميز بينهم لأن أجسادهم متقاربة في الطول. وجوههم ليست بيضاء ولا سمراء. اللون الأصفر يكسو معظم الوجوه. استمعت إلى أغانيهم وتراتيلهم رغم أني لا أفهم ما يقولون. جلبت لك بعضا من تراتيلهم التي أدهشتني.
– ما الذي أدهشك فيها؟
– أقترح أن نستمع معا إلى القليل من تلك التراتيل. ربما أصبحت أنت أيضا في حالة دهشة!
اندمج المجنون في الاستمتاع بالسماع. للموسيقى لغة فريدة تفهمها القلوب، حتى لو كانت قادمة من الحواري البعيدة. قفز فجأة من مكانه، ولولا أن مدحت يعرفه حق المعرفة حين يبتهج أو يحزن، لكان قد تصور أنه سيلقي بنفسه من البلكونة!
– ما سمعته الآن من تراتيل هذه الحارة البعيدة، يكاد يكون هو نفسه ما سمعته مرات ومرات عند أداء تراتيل حيكم، حي رفاعة!
– هذا ما أدهشني، فقلت لنفسي لا بد أن نستمع معا إليها، لكي أرى إن كنت ستندهش مثلي أم لا!
– ما الذي أوجد هذا التشابه العجيب؟ ومن أخذ من الآخر؟ أيهما سبق الآخر.. حي رفاعة في حارتنا أم أهل الحارة البعيدة
– لا أنت ولا أنا نستطيع أن نقطع برأي. ربما لم يسرق أحد من الآخر. ربما تكون التراتيل قد انطلقت من قلوب أهل الحارة البعيدة في نفس الوقت الذي انطلقت فيه من قلوب أبناء حي رفاعة، ويمكنني أن أقول لك أيضا إن بعض تراتيل أبناء حي قاسم متقاربة مع ما سمعناه الآن وما سمعناه من قبل. صدقني إن للموسيقى لغتها الفريدة، إنها لغة الأرواح الهائمة، أرواح من راحوا ومن سيروحون!
– الغريب الذي اكتشفته كذلك أن أهل تلك الحارة البعيدة لم يسمعوا إلا أقل القليل عن جبل ورفاعة وقاسم ممن نحفظ نحن سيرهم، ويتغنى بأعمالهم شعراء الرباب عندنا.
– هذا صحيح، فأهل تلك الحارة البعيدة كما عرفت في رحلات سابقة يعيشون بطريقة مختلفة عن حياتنا. لهم رجال يمجدونهم ويكنون لهم التقدير بل التقديس. ونحن أيضا لا نعرف إلا أقل القليل عن سير رجالهم وأبطالهم. أما ما يجعلني أغبط هؤلاء الناس البعيدين، بل أحسدهم عليه – رغم أني لا أحب الحسد ولا الحاسدين – فهو عدم وجود فتوات غلاظ القلوب عندهم. إن كل إنسان منهم يجاهد ضد شهوات نفسه بنفسه. حصاد حقولهم ثمار تتوزع بينهم دون أن يظلم أغنياؤهم فقراءهم. الاغتصاب جريمة.. جريمة بالقول وبالفعل لا بالفول وحده…
– سيكون لنا حديث أطول عن هؤلاء البعيدين ولكن فيما بعد. أما الآن فإني أريد أن أزف لك خبرا سيسعدك، وقد أحببت أن أبوح لك به!
– هيا أخبرني.. أبهجني!
قطب مدحت الرفاعي وجهه قليلا، وأخذ يسرد ما يعرفه المجنون، لأنه لم يعد سرا. المشاحنات والمشاجرات التي تقع بين أبناء الحيين تعكر صفو كل من له عقل، سواء أكان من حي رفاعة أو حي قاسم. لم يعد الحب موجودا إلا بين العقلاء. والعقلاء لا حول لهم ولا قوة لكن لهم عقولا يتحركون بأنوارها. « الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام «… لم يعد في الحي أمان. من حقي أن أخاف على بناتي الصغيرات مما قد يقع ضدهن أو حتى ضد إحداهن من طيش أو بطش.
قال المجنون بقدر من الإشفاق:
– أهذا هو الخبر الذي تريد أن تبهجني به؟!
ابتسم مدحت وهو يقول بنبرة خلت من الهموم:
– لقد بنيت لي بيتا جميلا، لأقضي فيه بعض الوقت، كلما حاولت أن أبتعد عن المنغصات.
– هذا خبر جميل حقا. مبروك
– الله يبارك فيك. بيتي الجديد لا يعرفه أحد. لقد اخترت أن أبنيه في الخلاء البعيد، ليكون بمنأى عن عيون المتطفلين وما أكثرهم. لقد حدثتك من قبل عن أقاربي الذين هاجروا من هنا. بعض هؤلاء أرسلوا لي رسائل مؤثرة، يفوح الشوق منها للحي الذي هجروه. من ناحيتي فأنا أنوي أن يسكنوا البيت الجديد طيلة إقامتهم إلى أن تبرد نار الشوق.
– هل بيتك الجديد كبير إلى هذا الحد؟
– نعم.. وستراه بنفسك.
بنبرة هادئة مزجت بين الجد والدعابة، قال المجنون:
– هل توافق على أن يسكن في هذا البيت ولو لفترة محدودة ثلاثة من أصدقائي الذين ضاقت بهم الدنيا؟
– بالطبع. هذا أمر يسعدني، طالما أنهم أصدقاؤك. والآن هيا بنا لتتفقد البيت إذا لم يكن لديك مانع.
( 18 )
كلاهما مدخن شره، كأنهما ينفثان من صدريهما غضبا هائلا على ما آلت إليه أوضاع حارتهما البائسة واليائسة من قرب انفراج الهموم. مسافة طويلة قطعاها سيرا على الأقدام، وكل منهما يواصل المسير لأنه يجد صديقه إلى جواره فيتشجع ويطمئن. حين فتح مدحت الباب الخارجي لبيته الجديد، تراءت للمجنون حديقة صغيرة، لكنها منسقة، وفيها أزهار متنوعة الأشكال والألوان وكلها توحدت لكي تهدي الداخلين روائح عطرية منعشة.
– فلنسترح قليلا هنا قبل أن نتفقد البيت من الداخل.
اختفى مدحت لبعض الوقت، ربما لكي يأتي ببعض الشراب والفواكه. تجولت نظرات المجنون ما بين الأزهار التي تهتز وتتمايل على الأغصان. ظل يتمتم وهو شارد العقل.. جميل أن يكون في كل بيت حديقة. لكن هذا ما لا يستطيعه الجميع. الناس ألهاهم التكاثر. يتناسلون كما لو أنهم أرانب. الأرض ليست كذلك. الأرض تكاد تضيق بهم. يقال إن أبانا الأكبر أدهم كان أول إنسان يعشق حديقة. أحلى ساعات يومه أو ليله تلك التي عاشها وقضاها في حديقة البيت الكبير، منذ أن اختاره الجبلاوي لإدارة الوقف. يقال كذلك إنه لم يكن يمل من النفخ في الناي، بينما يمتع عينيه بمنظر الماء الذي يترقرق أمامه. لكن ما جرى قد جرى. حرضه أخوه إدريس على التسلل لقراءة الوصية، وشجعته زوجته لكي تضمن مستقبل الأبناء كما زينت له، وهو نفسه رأى أن معرفة ما في الوصية سيريحه، وأنه ليس جريمة تلصص على الأسرار.لكن الأمر انكشف. لهذا طرده الجبلاوي هو وزوجته شر طردة، أما من حرضه فقد تجلت الشماتة في نظراته وكلماته. بعد الطرد توالت المصائب. ابنه الشرس قدري أقدم على قتل ابنه الوديع المطيع همام. آه لو كان أدهم قد رفض تحريض إدريس وتشجيع زوجته ونداء الفضول في أعماقه. الندم لا يجدي، لكن الألم الذي اعتصر قلبه ظل يزلزله، حتى بعد أن صرخ في وجه زوجته: (.. فلنقاس المقدور صامتين، ولنتحمل الألم صابرين، الشر من بطنك ومن صلبي خرج، واللعنة حقت علينا جميعا )
أفاق المجنون من شروده على صوت مدحت وهو يداعبه:
– أهكذا يحاصرك الشرود كلما خلوت لنفسك؟ فيم كل هذا التفكير؟
– كنت أفكر في الحديقة!
– هي أمامك، فلماذا تفكر فيها؟
نظر المجنون إلى السماء البعيدة وهو يقول:
– لماذا لا يستطيع كل من لا يملك حديقة في بيته أو حتى في شقته القيام بتنسيق حديقة في أعماق قلبه؟
– لأن اللعنة حقت على الجميع.
– كان يمكن أن تكون في كل قلب حديقة، لو كان رفاعة قد استطاع إخراج كل العفاريت من صدور الناس.
– رفاعة عمل ما في وسعه. هل سنظل جالسين هنا نتذكر ما فات دون أن نهتم بما نحن فيه، ودون أن نحقق هدفنا من المجيء إلى هنا؟.. هيا معي لنتفقد البيت.
أبدى المجنون فرحته التي تجلت على ملامحه. رسوم ولوحات لحدائق غناء معلقة على الجدران. الغرف كبيرة ومرتبة. كل شيء على ما يرام.
قال مدحت بمحبة صافية:
– كما ترى. البيت كبير. يتسع لأقاربي القادمين، كما يتسع لإقامة أصدقائك الذين لم تحدثن عنهم!
– أخاف أن يغمى عليك لو عرفت شيئا عنهم!
– والعياذ بالله. من هم هؤلاء؟
– هم ثلاثة كما قلت لك من قبل. اثنان منهم يفترض أنهما في عداد الأموات، أما الثالث فهو مطارد، لأن الناظر الممقوت قدري يحلم بالقبض عليه حيا أو ميتا!
– لن أخشى شيئا ما دمت وعدتك بأن يقيموا هنا، لكني أخشى عليك أنت. بنبغي أن تكون متنبها وحذرا دائما.
– شكرا لك يا صديقي. هذا ما كنت أتوقعه منك. لن نحتاج إلا لغرفتين. غرفة لرجل وزوجته، وغرفة للرجل المطارد. حبذا لو كانت الغرفتان متجاورتين، ولهما باب مستقل عن الباب الرئيسي إذا أمكن.
– المسألة بسيطة، ولكن هل من حقي أن أعرف أصدقاءك هؤلاء؟
– بالطبع هذا من حقك، ومن حقي أنا أن أطالبك بألا تبوح بالسر.
– وهذا من حقك.
– هل تتذكر الساحر عرفة؟
– أتذكره طبعا رغم أنه شبع موتا من زمان.
– وهل تتذكر زوجته عواطف؟
– أعرف أن الفتوات قد قتلوها هي وعرفة.
– وهل تتذكر حنش تلميذ عرفة؟
– نعم.. ولكنه مطارد من زمان والبحث ما زال جاريا للقبض عليه.
فغر مدحت فاه دهشة وهو يسمع المجنون يقول:
– هؤلاء هم الذين أتحدث عنهم، وهم الذين سيقيمون هنا في الغرفتين إذا أذنت بذلك!
– وإذا كنت أنت لم تجن تماما فإني لا أملك سوى أن أقول أهلا بهم ولكن أرجو أن تكون حذرا وأنت تصحبهم.. لا تجازف يا مجنون حتى لا يقع لنا سوء أو تدهمنا مصيبة!
( 19)
ما بين البيت الجديد في الخلاء البعيد والمغارة في قلب الجبل مسافة طويلة وهي موحشة بلا شك،لأن على المجنون أن يقطعها وحده، عائدا إلى من وعده قبل خروجه ألا يتأخر كثيرا.تغلبت رقة النسيم الرحيم على وحشة القلب، ودندن المجنون من الأغنيات ما يشتهي. إن عرفة ينتظره بقلق، لكنه سيزف إليه بشرى وجود مأوى يليق بالآدميين. أصيب فجأة بالهلع حين أخرجته من انسجامه كتلة سوداء تتحرك أمامه بثبات وهدوء. سخر من نفسه حين تأكد أن الكتلة السوداء ليست شبحا. إنها امرأة تلتف بالسواد من رأسها حتى القدمين. تتابعت الكتل السوداء من خلفه وإلى جواره يمينا ويسارا. تنبه أنه قد اقترب من مشارف حي قاسم من ناحية الخلاء. حتى عهد قريب لم تكن النساء على هذا النحو. ماذا جرى؟ إن النساء في عهد قاسم نفسه لم يكن هكذا. كن يمشين بصورة طبيعية. كن يعملن. يضحكن بأدب إذا كانت هناك ساعة للترويح عن القلوب. كان بإمكان قاسم أن يحولهن إلى كتل سوداء لو أراد فقد كانت كلمته نافذة ومطاعة، لكنه لم يفعل. كان يعرف أن للحياة مذاقا حلوا. ما الذي جرى؟!
– تأخرت كثيرا يا مجنون. يبدو أن السهرة قد طابت لك عند صديقك!
– كنت سعيدا بالطبع، فهو من أصدقائي القدامى، ولم نكن قد التقينا معا منذ فترة طويلة.
– نحن أيضا كنا سعداء. حنش جلب لنا من الطعام والشراب ما لذ وطاب. أكلنا وشربنا وحمدنا الله.
واستكمل عرفة كلامه وهو يضحك:
– المهم أننا ارتحنا لبعض الوقت من وجع الرأس الذي تتسبب فيه مناقشاتك وأسئلتك التي تظل عادة دون إجابة!
– على أي حال ها أنا أعود ومعي بشرى جميلة
– أبعدنا عن ألغازك. أفصح. بشرنا إن كان ما ستقوله حقا بشرى!
– سنهجر المغارة. آن أن نغادر هذا المكان.
– أنت مجنون. إلى أين؟
شرح المجنون ما يقصده بثقة. نهض عرفة من مكانه ليعانقه. أكدت عواطف أنها رهن إشارة زوجها، وأنها ستظل إلى جانبه حتى لو وقع له مكروه لا قدر الله.
– وأنت يا حنش.. ماذا تقول؟
– الذهاب إلى هذا البيت الجديد ليست فكرة مجنونة، إذا كانت مضمونة ومأمونة. أتمنى أن أرى صديقي ومعلمي عرفة في أحسن حال، هو وزوجته المخلصة الوفية. أما أنا فقد تعودت على مأواي في الجبل، كما أني لا أريد أن أكون بعيدا عن الشبان المتحمسين لعمل عرفة، بعد كل ما عرفوه عنه مني. إنهم يتصورون أنهم يستطيعون أن يفعلوا شيئا ما يزلزل الظلم ويبدد الظلمة. لا يجدر بي أن أخذل هؤلاء، فلولاي ما كانوا قد هجروا بيوتهم ليقيموا في الخلاء في انتظار ما قد يتحقق على مر الأيام. لكني بالطبع لن أكون بعيدا. سآتي لأعرف مكان البيت، ولكي أكون إلى جانبكم جميعا حين يتطلب الأمر.
لم يعترض عرفة على كلام حنش، لكنه التفت إلى المجنون، وقال وقد بدا في عينيه بريق عجيب:
– إذا كنت يا مجنون قد تفقدت البيت الجديد فعلا، فهل ترى – بصراحة – أنه يصلح لكي أعود إلى مزاولة عملي؟
أومأ المجنون برأسه، فقال عرفة بنبرة جمعت بين الحيرة والثقة:
– لا أدري كيف ستسير الأمور. ماذا لو طلب مني صديقك أن أسخر سحري لصالحه وحده دون كل عباد الله؟ ماذا يمكنني أن أقعل لو أن حكايتي الموجعة مع الناظر قدري قد تكررت من جديد؟ ماذا لو تحول بيت مدحت الرفاعي إلى سجن، وتحولت أنا إلى سجين، عليه أن ينفذ كل أوامر السجان دون أن يتفوه بكلمة اعتراض؟!
( 20)
بيت ولا في الأحلام. لا أظن أن الحيطان ستكون لها هنا آذان. سكون شامل يلف أرجاء المكان. الخلاء الممتد يكاد يفصلنا عن كل أحياء حارتنا. كل شيء يوحي بالأمان. لكن الحديقة وحدها تثير مخاوفي. إنها تذكرني بما كان. بالليلة الموحشة التي زلزلت أعصابي. ليلة أن تسللت من تحت سور حديقة البيت الكبير.. في تلك الليلة لم أكن أريد إلا أن أقرأ وصية الجبلاوي بدلا من تظل مخبأة في علم الغيب. كنت أود أن أعرف ماذا كتب الجبلاوي فيها، ولمن من رجاله سيترك مهمة توزيع ما سيخلفه وراءه؟ لم أكن أريد أكثر من هذا. لكني بدلا من أن أعرف ما أردت أقدمت دون قصد على القتل. حتى الآن لا أصدق أني قتلت الرجل الغامض الطيب. يبدو لي أنه كان ميتا قبل أن تمتد يداي لتخنقاه. أما ما أنا متأكد منه فهو قتلي لسعد الله فيما بعد. تسللت من النفق الذي حفرته بمعاونة حنش، وظللت أنتظره. أنتظر الفتوة الذي لم يكن يرحم أحدا. « الوقت ظل يمر أثقل من الذنوب، لكن الغرزة انفضت عقب وصولي بنصف ساعة. خرج الساهرون المعربدون، وأغلق الباب وعاد البواب متقدما سعد الله نحو السلاملك. تناولت من الأرض حجرا بيسراي، وتسللت متقوسا والخنجر بيمناي ثم كمنت وراء نخلة، حتى هم سعد الله بارتقاء أول درجة من درجات السلم فانقضضت عليه وأغمدت خنجري في ظهره فوق القلب، ندت عنه صرخة ثم تقوض بناؤه « وكما دخلت متسللا من تحت سور حديقة بيته، خرجت كذلك ولكن بأقصى ما عندي من سرعة…
تنبه عرفة وهو مطرق الرأس إلى صوت بالقرب منه. رفع رأسه قليلا. رأى من حوله عواطف والمجنون ومدحت الرفاعي الذي بادره قائلا:
– يبدو لي أنك محتاج لنوم عميق. أعرف أنك قطعت مسافة طويلة إلى أن وصلت، ولابد أنك بحاجة للراحة. البيت بيتك، فاذهب لكي تستريح لبعض الوقت. غرفتك أنت وزوجتك مرتبة. بمقدوركما أن تنهضا وأن تذهبا إليها الآن، بعد أن ألقينا جميعا نظرة خاطفة على البيت.
– واضح أنه بيت جميل دون مبالغة. شكرا لك. كل شيء يوحي بالأمان، ربما باستثناء الحديقة!
– كيف؟ لا أفهم ما تقصده!
– ألا يستطيع أحد أن يتسلل في الليل من الحديقة إلى البيت؟
– خاطر غريب. كن مطمئنا يا أخ عرفة. توكل على الله. نم آمنا، وسيوقظك المجنون فيما بعد، حين تبدأ سهرتنا مع بعض أقاربي.
نهضت عواطف من مكانها، مالت بجسمها قليلا، لتحمل بقجة مملوءة بالملابس وكيسا يبدو أنه مربوط من طرفه الأعلى بإحكام. بدا على ملامحها امتنان طيب لحنش الذي استطاع إحضار ملابسها مع الكيس الذي وضع فيه عرفة أدوات السحر قبل محاولة الفرار من الناظر قدري. وظل مدحت والمجنون جالسين وحدهما في صالة البيت الواسعة.
قال مدحت بقدر من القلق:
– هل تذكر ما قلته لي في لقائنا السابق؟ ألم تكن تتمنى أن يقوم كل إنسان بتنسيق حديقة، إن لم تكن في بيته، ففي قلبه؟ ها أنت رأيت عرفة وهو ساحر يبدي تخوفه من الحديقة!
– ربما لا يكون في الأمر خوف ولا يحزنون. أظن أن عرفة يحب كل حديقة في وضح النهار، أما في الليل فقد تتراءى له خيالات أشباح من خيالات حياته المثقلة بالشقاء.
– ولماذا لم يصطحب صديقه حنش معه؟
– حنش يفضل حياة الصعلكة، لكنه جاء معنا حتى مشارف البيت ليهتدي إليه حين يأتي لزيارة صديقه بين حين وآخر.
– وماذا عن الغرفة التي خصصناها له؟
– ستكون غرفة احتياطية إذا سمحت بذلك. يبيت حنش فيها حين يأتي، وأنام أنا فيها إذا سهرت هنا سهرة طويلة،بدلا من عودتي في الليل وحدي.وربما يحتاج عرفة لتلك الغرفة إذا شاء أن يعود لتجاربه السحرية.
– كلام جميل. اذهب أنت كذلك للراحة فيها الآن إلى أن تبدأ السهرة، وتتعرف على من جاءوا مع أقاربي المتشوقين لسماع حكايات جديدة من حكايات حارتنا.
( 21 )
بدت الصالة الكبيرة في بيت مدحت أشبه بقاعة للأفراح. على أحد جدرانها لوحة بالأبيض والأسود، محفور عليها رسم يمثل رفاعة وهو يتألم قبل أن يشرع القتلة في الإجهاز عليه. لوحات أخرى متناسقة بالقرب منها، تمثل حدائق من وحي خيال من رسموها. موسيقى هادئة أقرب إلى التراتيل ترفرف في أجواء الصالة. مصابيح متنوعة الأشكال، تشع منها أنوار ليست متوهجة ولا خافتة.
البسمة الرصينة المرسومة على كل وجه من وجوه الجالسين والجالسات تقرب المسافات بينهم، فبل أن يفضي التعرف إلى ما قد يفضي إليه. استهل مدحت السهرة بالإشارة إلى أقرب الجالسين إليه، وقال.. هذا جهشان الرفاعي، أحد أقاربي الأعزاء. هجرني منذ سنوات طويلة عندما قرر أن يهاجر بعيدا عن حارتنا. لم تنقطع أخباره عني، وأظن أن أخباري كانت كذلك تصل إليه. ظللت أتشوق لأن أسعد بلقياه، وهاهو يتفضل ويتعطف بزيارتي التي أتمنى أن تطول. الجميل في الأمر أنه لم يأت وحده كما نرى بالطبع. جاء مصطحبا أقارب آخرين وأصدقاء طيبين، وعليه طبعا أن يقدمهم إلى من ينورون البيت ويقيمون فيه. هذا صديقي المجنون.. لا تندهشوا. هو عاقل بالطبع لكن اسم المجنون قد التصق به. وهذا عرفة، ساحر بارع و…
انبرى المجنون مقاطعا مدحت وهو يقول إن عرفة ليس ساحرا، لكنه واحد من عشاق السحر. هز مدحت رأسه موافقا، وأضاف.. وهذه الإنسانة الطيبة هي عواطف زوجة عاشق السحر. أما جهشان فقد اعتدل في جلسته وزادت ابتسامته اتساعا، وقال:
– أنا لست غريبا عن حي رفاعة. فيه ولدت قبل أن يولد مدحت بأربع سنوات. حبن استحكمت الخلافات بين الناس، قلت لنفسي نحن أبناء حارة واحدة، ولابد أن النفوس ستعود إلى صفائها القديم. ما حدث أن الأمور زادت تعقيدا. ضقت بنفسي وضقت بكل ما حولي وقررت الخروج. بكيت وحدي أحيانا. ندمت على أني خرجت أحيانا أخرى. الآن أنا مستقر في حارة ليست يعيدة تماما، لكن حارة الجبلاوي تكاد تجهلها. إنها حارة عجيبة يسميها أهلها وهم يتندرون حارة الخزف وأحيانا يسمونها حارة الفخار. وها أنا بينكم الآن لكي يهدأ الشوق لحي رفاعة، بل للحارة كلها دون تمييز. معي من أقارب مدحت الآخرين هذا الرجل الطيب إسكندر غالي،وقد هاجر وهو صغير من حي رفاعة، أما هذه السيدة التي تبدو مطيعة وهادئة فهي زوجتي سارة، وهاتان الحلوتان هما جولدا جبيل وأسمهان الطرزي..
– هل أنتم جميعا من سكان حارة الخزف هذه؟
– هذا صحيح، لكن للحارة عدة أحياء، تختلف أو تتفق فيما بينها بين وقت وآخر.
– وما الفرق في هذه الحالة بينها وبين حارة الجبلاوي التي هجرتها؟
– قبل أن أغادر حارة الجبلاوي كنت أعتقد أن الفرق سيكون شاسعا، ثم أدركت بعد ذلك أن الفرق ليس كبيرا، لكن حارة الخزف، ربما لأنها صغيرة وتضم أحياء متنوعة كثيرة، فإنها تتأثر بالجو. حين يكون النسيم منعشا يتعاون أبناء كل الأحياء وينسون خلافاتهم، لكن الويل للجميع إذا هبت عواصف حادة من الشرق أومن الغرب على حد سواء.
وأكمل جهشان كلامه وهو ينظر إلى رجل رصين، توحي ملامحه بأنه عانى كثيرا، وقد جلست إلى جواره امرأة حسناء، يتدلى شعرها على كتفيها
– هذا الرجل هو هادي ما شاء الله. عرفته خلال بعض رحلاتي وتصادقنا من يومها، أما الحسناء التي إلى جانبه فهي لميعة الصابي، والإثنان ليسا من حارة الخزف، وإنما من حارة أبعد عنها قليلا،هي حارة الطوفان..
– يا ستار يا رب..الطوفان؟
– هذا هو اسمها من كثرة ما مر عليها من الكوارث والمآسي.
– ما علينا.. كل حارة ولها مأساة أو أكثر.. يقولون: ما حد خالي من الهم – حتى الحصى في الأراضي – لا له مصارين ولا دم – ولا هو من الهم فاضي.
حاول مدحت أن يلطف أجواء الحديث، فقال يبدو أن كلنا في الهم شرق، أما المجنون فقد وجه سؤالا مباشرا لهادي ما شاء الله، حيث سأله عن الطوفان الذي اقترن باسم الحارة، ولم يتردد هادي في القول إنه طوفان قديم، لم يبق على أحد من الناس باستثناء قليلين ممن قدرت لهم النجاة في ذلك الزمان البعيد.
– لكني سمعت أن حارتكم كانت تتمتع بحدائق مزهرة ومثمرة على امتداد الفصول، فلماذا لم تسموها حارة الحدائق بدلا من حارة الطوفان؟
– لأن الحزن هو الأبقى، أما الفرح فعمره قصير!
– وهل سيطول هذا الحزن؟
– إلى أن يأتي الله بالفرج؟
– أهناك موعد محدد لمجيء الفرج؟
– كلما زادت الأمور سوءا، وتجهمت القلوب، وأجهز القتلة على المزيد ممن يقتلون، فإن الفرج سيأتي.. لابد أن يأتي.. سيأتي لا محالة لكي يملأ الأرض في حارتنا عدلا بعد أن امتلأت ظلما وجورا، وبالتأكيد فإن الفرج لن يهل علينا وحدنا. صحيح أنه سيأتي إلى حارتنا أولا، لكنه لن يغفل عما يجري ويحدث في حواري غيرنا. أؤكد لك أن الأرض كلها ستعرف العدل، لن يكون للاضطهاد مكان، ويومئذ سيفرح المخلصون وينعمون بأطايب الحياة..
– أظن أن هناك من سبقوا أبناء حارتكم في انتظار الآتي بالفرج.
– من هم هؤلاء؟ هل تعرفهم؟
– ألم يسبقكم أبناء حي رفاعة؟
– لا أدري.. عموما من حق المظلومين في كل مكان أو زمان أن ينتظروا الفرج وإلا فلا معنى لحياتهم على الأرض.
– هل الانتظار دون أي عمل يكفي وحده لإزاحة الكوارث؟
– لكل إنسان طريقته التي بها يجتهد.
ظل المجنون يتفحص وجوه الجالسين والجالسات خلسة، لاحظ أن جولدا جبيل تكاد تلتهم عرفة بنظراتها كلما حانت التفاتة منها إليه، قال لها محاولا أن يكون طبيعيا وهو يتكلم:
– هل تسمحين لي بسؤال فضولي.. ما سر اهتمامك بزيارة حارة الجبلاوي في صحبة أقارب مدحت؟
– ليس في الأمر سر. أنا مثلك تماما. أنا مجنونة بالتعرف على ما يجري في كل مكان وفي أي أرض. أهذا يضايقك؟
– ومن قال إني متضايق؟ المعرفة مطلوبة ومرغوبة. وبالمناسبة أود ألا أضايقك إذا سألتك عما إذا كان لديك أقارب في حي جبل. ألديك هنا أقارب؟
– أعتقد أن اسمي هو الذي أوحى لك بهذا السؤال. اسمي جولدا جبيل. مجرد تشابه مع اسم جبل. على أي حال فإن سكان حي جبل قد هاجروا منه وتركوه منذ سنوات طويلة، وأنت بالتأكيد تعرف هذا أكثر مني!
فجأة شاء مدحت أن يخفف من حرارة النقاشات، خصوصا وأن السهرة هي الأولى، أي أنها بداية للتعارف بين الجميع، وليست خاتمة له، فقال وهو يكرر ترحيبه بالجميع:
– هيا جميعا.. يا سيدات ويا سادة.. كلوا واشربوا.. دعوا أحاديث الكآبة واطربوا.
( 22 )
احمرت من أثر السهر عيون، وتجلت النشوة على بعض الخدود. تثاءبت عواطف مرتين، وفي الثانية استأذنت من الجميع ومن عرفة، لكي تأوي إلى أحضان النوم. تردد في الصالة صوت، يدعو الساهرين والساهرات إلى مزيد من السهر.
أفق خفيف الظل.. هذا السحر
نادى: دع النوم وناج الوتر
فما أطال النوم عمرا ولا
قصر في الأعمار طول السهر
استأذن مدحت في مغادرة البيت. قال إنه تعود ألا ينام إلا في بيته بحي رفاعة، خصوصا أن زوجته لا تذوق النوم إذا كان في الخارج.تمنى للجميع نوما هانئا، أكد أنه سيعود في الصباح ولن يتأخر. قالت لميعة الصابي للمجنون إنها تعشق الجلوس في الحديقة خلال الليل لكي تتأمل النجوم في السماء إذا كان الجو رائقا. طلبت منه أن يؤنسها إذا أراد. انسحب الباقون تباعا إلى الغرف المخصصة لهم. اقتربت جولدا جبيل من عرفة، رمقته بنظرة خاطفة لكنها مسكرة. قالت وهي تتمطى وتتظاهر بالخجل:
– النوم يجافيني عقب انفضاض أية سهرة حلوة. ما رأيك في أن نكمل نحن السهر إذا لم تكن تريد اللحاق بزوجتك؟
– زوجتي تنام مبكرا. هذه الليلة استثناء في حياتها. أما أنا فلا أعمل إلا في الليل. هذا طبعا إن كان عندي ما أعمله. أين سنكمل السهرة؟
قالت وهي تعاجله بنظرة أخرى مسكرة:
– اتبعني لتعرف يا صديقي
سارت جولدا بخطوات رشيقة هادئة، فتحت باب غرفتها، أشارت لعرفة أن يدخل، على الفور أغلقت الباب بعد دخوله، دون أن تحدث صوتا أو جلبة. أشارت بحركة رشيقة من إصبعها إلى كرسيين متلاصقين أمام السرير.فهم عرفة الإشارة فجلس محرجا، وقد اكتسى وجهه بحمرة ملحوظة..
– يبدو لي أنك رجل ظريف، رغم أنك لم تتكلم إلا قليلا.
– شكرا. هذا كلام طيب لا يصدر إلا من إنسانة طيبة، لكني أعتقد أني لا أستحقه!
– بل تستحق ما هو أكثر. قل لي أولا وقبل أن أنسى.. أأنت ساحر كما قال مدحت أم مجرد مهتم بأمور السحر كما قال صديقك المجنون؟
– لا أعرف على وجه التحديد. يجوز أن أكون في منزلة بين المنزلتين!
ضحكت وهي تهز رأسها، قائلة:
– إجابة مراوغة لا تصدر إلا من رجل مراوغ أو لا يود الحديث!
أحس عرفة بالحرج فحاول أن ينفي ما سمعه، قائلا:
– لو كنت لا أحب الحديث مع امرأة جميلة مثلك ما كنت قد جئت.
– على فكرة. صديقك المجنون حاول أن يضايقني أو هكذا أحسست. ظلت أسئلته تتلاحق، كأنه محقق يستجوب متهما. على أي حال سامحه الله. أما النبيذ الذي شربته خلال السهرة فلم يعجبن. أنا دائما أحتاط حين أقرر السفر. لهذا جلبت معي ما يكفي مما أحب خلال إقامتي هنا.
نهضت برشاقة غزال، مراعية أن تلامس ساقها ساق عرفة ملامسة سريعة، تبدو أنها غير مقصودة. مالت بجسمها قليلا لتتناول حقيبة أنيقة بجانب السرير. استخرجت منها قنينة فاخرة. قالت بصوت هامس. هذا شرابي المفضل.. لا أدري إن كنت قد جربته أم لا؟ في هذه القنينة سحر يختلف عما تعرفه أنت. طلبت من عرفة أن يساعدها في فتح القنينة. جاءت بكوبين صغيرين، صبت في كل كوب ما يملأ نصفه تقريبا. سألت عرفة عما يرى فأكد لها بدهشة وسذاجة أنه لا يرى سوى مجرد ماء. استمهلته، ثم سلمته أحد الكوبين وهي تكمل الكوب بالماء. تغير لون الشراب في لحظة. اقترب اللون من لون الحليب. صبت لنفسها قدرا من الماء في الكوب الثاني. أصبح اللون حليبيا كذلك. رفعت كوبها إلى فمها وهي تتلذذ بشم الرائحة المنبعثة. قالت لعرفة هيا اشرب وجرب. فرغ الكوبان. أحس عرفة بلسعة خفيفة في حلقه وبنشوة من يكتشف شيئا جديدا. همس في أذنها إن ما يشربه أقرب إلى السحر. ربتت برقة على كتفه قائلة جاء دورك لكي تصب لنا من السحر! عدة أكواب أخرى، أحس بعدها عرفة بخدر لذيذ يسري في عروقه. أما هي فنهضت من كرسيها، متظاهرة بأن خطواتها قد تثاقلت. ارتمت على السرير وطلبت منه أن يجلس بجوارها إلى أن تستريح. لم يكن عرفة بحاجة لهذا الطلب. أمسكت يده وهي متمددة أمامه. أدركت أن يده مستسلمة. جذبته إلى صدرها وهي تعتدل قليلا، ثم قبلته في شفتيه. ذهل عرفة عن نفسه وعن الوجود كله. هم بتقبيلها. تمنعت بدلال، وطلبت منه أن يساعدها في الجلوس على حافة السرير. فعل ما أمرته به منتشيا وكأنه ملك الكون بأسره. اشتكت من حرارة الجو رغم أنه كان باردا ومنعشا. قالت إن الشراب يشعل الجسد. خلعت قطعة مما ترتديه. الجو ما يزال حارا، والجسد المحموم يوشك أن يشتعل. نظرت بتأفف إلى عرفة. ألا تشعر بالحر اللافح؟ أحس بالخجل. أدرك ما ينبغي أن يفعل. بحركة طائشة تجرد من ثيابه. أصبح كيوم ولدته أمه. يا ترى ولدته من أي أب؟ أهذا سؤال يولد الآن؟! حاول الرجل في أعماقه أن يسيطر على الموقف. هيهات. جذبته بقوة، ثم أرقدته فوق السرير. صعدت فوقه بعنف مهرة غاضبة. تجاوب منتشيا ومستسلما لمشيئة المهرة. بالتدريج أخذ يتفاعل ويندمج في تجربة جديدة عليه. تجربة أجمل من كل تجاربه الكثيرة في عالم السحر. همس وهو يقرص صدرها.. هذه هي المرة الأولى التي أتحول فيها إلى مفعول لا فاعل. تأوهت وهي تؤكد له.. ستعتاد أن تصبح مفعولا، لكن لا بد لك من تدريب متواصل!
سمع الإثنان صوت الباب الرئيسي للبيت وهو ينفتح ثم ينغلق بهدوء. توقفا عن الهمس. أرهف كل منهما السمع. عرفا أن لميعة كانت مع المجنون في الحديقة. تساءل عرفة ما الذي يدفعهما للجلوس في الحديقة حتى قرب الفجر. طلبت منه جولدا أن يخرج بمنتهى التنبه والخفة إذا كان يريد أن يضمن له سهرة معها.. ربما كل ليلة!
( 23 )
ما أحلى سهرة الأمس مع المجنون. لكني أتساءل: أهو مجنون حقا كما يزعم أصدقاؤه الذين عرفوه ورافقوه؟ إن تصرفاته تبدو طبيعية. أقواله فيها من الحكمة ما فيها. ربما تنطبق عليه مقولة: خذوا الحكمة من أفواه المجانين! لا.. إنه ليس بمجنون. هو بالحزن مسكون. أظن أن ما يدركه ويعيه من عبث الحياة هو الذي يجعله يوحي لسواه أنه مجنون. خلال سهرتنا في الحديقة، كررت شفتاه ما أحس به ووعاه. همس وهو في غاية التأثر: « ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد.. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن.. ما كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد.. « داعبته قائلة: رغم أن ما قيل من زمان هو ما يقال الآن إلا أن نجوم الليل قد تأتي بالجديد!
يبدو لي أنه لا يحب أن يكون سببا في كآبة سواه ممن لا يحبون التأمل قي الحياة. هؤلاء- كما قال لي أكثر من مرة- قد ألهاهم التكاثر، فاندفعوا فرحين مبتهجين، دون أن يكون هناك سبب واحد يدعوهم للفرح والبهجة. في البدء تعدهم الحياة بزينتها وبأحلام وآمال، لكنهم في النهاية يخرجون منها إلى مجهول يترقب سقوطهم دون جدال. مع هذا رأيته يبتسم أو يضحك باستمرار. يبدو لي أن البسمة عنده دمعة، أما الضحك فهو نحيب!
لاحظت أنه يبتسم ابتسامة غريبة، بينما كنا نهم بالجلوس على مقعدين خشبيين من المقاعد الموزعة في أنحاء الحديقة. ابتسمت أنا كذلك، ثم سألته عما إذا كان هناك ما يدعو للابتسام؟ تحولت ابتسامته إلى ضحكة ساخرة. قال لي إنه كان يتخيل أننا جميعا يمكن أن نتغير من حال إلى حال خلال سهرة التعارف! كيف؟ قال: كنت أترقب أن يتحول أحد الساهرين إلى أسد، وأن يتحول آخر إلى طاووس! أهذا كله بسبب وجود عرفة الساحر؟ لا.. لا.
أخبرني أنه تخيل ما تخيل، حين كنا نرتشف النبيذ المعتق. قلت له إني لا أحب حل الألغاز. قال وهو يواصل الضحك: أراد أحد الوعاظ القدامى أن يحذر الناس من شرب النبيذ، فروى حكاية غريبة، يرجع زمنها إلى أيام جدنا آدم..الحكاية باختصار أن آدم لما غرس شجرة الكروم جاء إبليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه، فلما طلعت أوراقها ذبح عليها قردا فشربت دمه، فلما طلعت أعنابها ذبح عليها أسدا فشربت دمه، فلما نضجت الأعناب ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه! ما معنى هذه الحكاية؟ معناها في رأي ذلك الذي يعظ سواه أن شارب الخمر وبالذات النبيذ تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، لأنه حين يبدأ الشرب يزهو لونه كما يزهو الطاووس بألوان ريشه، فإذا جاءت بدايات السكر لعب وصفق ورقص كما يفعل القرد، فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية فأخذ يعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه، ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير ويبادر إلى النوم وقد انحلت قواه!
ضحكت من أعماق القلب. سألته عمن تخيل أنه قد يتحول إلى خنزير خلال سهرتنا. أجاب بحرج: لا أحد يا لميعة. واصلت الضحك وأنا أقول: وماذا عني أنا؟ قال برقة: طبعا كان يمكن أن تتحولي إلى غزالة. يا له من مجنون ظريف! من حال الضحك تحولنا إلى الجد. تطلع إلى وجهي كأنه يريد أن يستشف شيئا أطويه بين ضلوعي. سألني باهتمام عن الحي الذي أقيم فيه مع أهلي في حارة الطوفان. قلت له إن حينا صغير إذا قسناه بالحي الذي يقيم فيه هادي ما شاء الله. حينا صغير، بل إنه أصغر أحياء حارة الطوفان. أجداد أجدادي أقاموا فيه بجوار منابع الماء الجاري لكي يتطهروا من الخطايا و الذنوب. نحن موجودون في حينا منذ زمان بعيد،وقبل أن يظهر عندكم جبل ورفاعة وقاسم. نعرف أن الجد الأكبر – الصانع المعبود – يمتلك كل شيء، لكنه لا يستطيع التفرغ لكل الشؤون. لهذا يقوم 360 شخصا من أخلص أعوانه المقربين بتدبير تلك الشؤون، كل حسب مرتبته ومنزلته.
قال لي باهتمام واضح:
– أظن أن التقويم السنوي عندكم هو نفس هذا العدد أي 360 يوما في السنة.
فلت له هذا صحيح تماما يا مجنون. وأحب كذلك أن تعرف أن جدنا الأكبر لا يفعل إلا الخير وحده، أما الشرور فيفعلها آخرون سواه. جدنا منزه عن الشر. ونحن نتأمل النجوم باستمرار إذا كان الجو رائقا كما أخبرتك من قبل، لأن السعد والنحس لا يأتيان إلا منها. هل هذا يكفي؟!
سألني عما إذا كنت أنظر إلى نجم معين. قلت له ما شعرت أنه أبهجه وأطربه. قلت له إني أتأمل نجم السعد الآن، ما دمت أنت تجلس معي في الحديقة. نهض من مكانه بهدوء ولطف. قطف زهرة فل. قربها من أنفي لأستنشق رائحتها فبل أن يسلمها لي بكل رقة.
( 24 )
كعادتها كل صباح، تقلبت عواطف في الفراش. شكرت الله على نعمائه. كم تحملت عدم الراحة في النوم على أرض المغارة. هاهي تشعر الآن أنها إنسانة شأن سواها. خمنت أن زوجها نائم في الغرفة الثانية. لابد أنه ظل يعمل بعد انفضاض السهرة. إلى متى سيبقى السحر يشغل عقله دون أن يريح جسده؟ نهضت وسارت بهدوء نحو الغرفة الثانية. عرفة يغط في النوم وبجواره يتمدد المجنون. لم تشأ أن توقظ زوجها. خرجت بنفس الهدوء إلى الصالة التي شهدت سهرة التعارف. لم تسمع سوى وقع قدميها على الأرض. بدا البيت كما لو أن كل الذين تجمعوا فيه قد هجروه وغادروا. اتجهت مباشرة إلى المطبخ. انهمكت في غسل الأكواب وترتيب الأطباق. قبل أن تفرغ تماما من أداء الواجب، وجدت يدا تربت على كتفها. التفتت خلفها. عرفة يداعبها، ويسأل عن أي طعام جاهز لأنه يحس بالجوع يقرص أمعاءه. عرفة ليس وحده. المجنون يكاد يجن إلى شرب شاي الصباح. قالت لهما إنها ستلبي طلب كل منهما. اعترض المجنون، قائلا وهو يضحك: الشاي الذي أعده بنفسي لا يعلى عليه! سمع الثلاثة وهم في المطبخ صوت الباب الرئيسي للبيت وهو ينفتح. ها هو مدحت يعود. التهم عرفة ما التهم بشهية مفتوحة. شرب الشاي وتجشأ.حمد الله. قال إنه شبع تماما، لكنه لم يشبع بعد من النوم. استأذن ونهض.
امتلأت الصالة تدريجيا بالخارجين والخارجات من غرف النوم. أبدت عواطف استعدادها لإعداد الطعام للجميع. تلقت كلمات شكر وامتنان. قالت أسمهان الطرزي بلطف مشوب بالحسم: لا تشغلي بالك بأحد. بإمكان كل منا أن يتدبر شؤونه بنفسه. نهضت جولدا من مقعدها بعد أن لاحظ كثيرون أنها تبدو متململة. قالت: تعودت أن أتمشى يوميا بعد أن أصحو مباشرة. أستأذنكم لأتمشى قليلا وسأعود بسرعة لأسعد بالجلسة معكم. حذرها مدحت من مغادرة الخلاء المحيط بالبيت. قال لها مداعبا: عليك أن تتحملي المسؤولية إذا ذهبت بعيدا وضللت الطريق. ضحكت وشكرته مؤكدة أنها لن تذهب بعيدا.
قال مدحت موجها كلامه للجميع:
– قلت لكم منذ أن التقينا إن البيت بيتكم. لا حاجة لأن أكرر هذا الكلام. بناتي الصغيرات متشوقات للقاء عمهن جهشان وزوجته سارة. إنهن الآن منتظرات على أمل اللقاء.
قال جهشان بشوق:
– ما أخبار كل منهن؟ أظن أنهن قد كبرن الآن. مرت سنوات دون أن أسعد برؤيتهن. أما زالت كل منهن تخاف من زيارات صديقاتهن في حي قاسم؟
فال مدحت وقد تكدرت ملامحه:
– ستعرف هذا منهن بنفسك. هيا معي. لا تتهرب ولا تتكاسل. ستأتي سارة بالطبع معنا.
نهض الثلاثة، ولم ينس مدحت أن يؤكد للباقين أن البيت بيتهم، ووعدهم بالعودة قبل أن تبدأ السهرة الجديدة. وبنظرات متشوقة، ظل جهشان يتابع كل ما يراه في الطريق، متلفتا حينا لليسار وحينا آخر لليمين. لن يعود الزمان للوراء. ما كان قد كان، ولكن ربما يكون تحت الشمس جديد. رأى على بعد مسافة ليست بالقصيرة امرأة تسير بخطوات سريعة، وظلها يتبعها تحت الشمس. خيل له أنها تبدو كما لو كانت تقلد طريقة جولدا في المشي. قال لنفسه: يخلق من الشبه أربعين. تردد فبل أن يسأل مدحت بقدر من الدهشة: أليس هذا الذي يبدو من بعيد هو حي جبل؟ أجابه مدحت بالإيجاب، وأضاف إن أغلب من كانوا فيه هجروه!
( 25 )
ليلة أخرى جديدة، لكن هل سيكون فيها حقا جديد؟! الوجوه نفس الوجوه، وكذلك الأسماء! التكرار منشار يقطع أعصاب القليلين الذين يحبون أن يبقوا في حالة دهشة. الآخرون وهم الكثيرون يتكررون باستمرار. يرون أن الحياة لا بد أن تسير وفقا للإيقاع الذي عرفوه وألفوه. يزعجهم أن تحدث مفاجآت إلا إذا جلبت لهم منافع لم يكونوا يتوقعونها. لم يستمع أحد إلى الصوت الذي ظل يدعوهم ليلة أمس إلى مزيد من السهر. بدلا منه تردد في الصالة صوت حزين، يمطر تساؤلات كثيرة ومثيرة بغير حصر.
جئت.. لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
ولسوف أبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري…
ضحك جهشان وهو يقول أما نحن فنعلم من أين أتينا. أضافت زوجته جئنا سائرين بكامل إرادتنا إلى أن وصلنا لبيت مدحت. قالت أسمهان الطرزي وهي تضحك للمرة الأولى… كانت لنا عيون، وبها أبصرنا طريقنا. تجاوبت الضحكات وارتفعت أصواتها. فجأة قال المجنون بكل تركيز إنه يعرف أن رجلا غاضبا من حارة الطوفان لا يعجبه كل هذا الذي سمعناه! قال هادي ما شاء الله هل تعرف هذا الرجل يا مجنون. أوضح له أنه كان قد قابله في إحدى الحارات القريبة. سألته لميعة عن اسمه. رد عليها قائلا إن الأسماء لا تعني شيئا. ما يعنيني أن هذا الرجل الغاضب قد تهكم على كل ما سمعناه من تساؤلات كثيرة ومثيرة.المفارقة أن الصوت الذي سمعناه يعلن عن حيرته وخيبته. إنه يكاد يبكي وهو يردد لست أدري. صوت الرجل الغاضب على العكس تماما. إنه يؤكد أنه يدري لماذا يحدث ما يحدث. يشير إلى الفساد الذي يخنق الرحمة والحب بين الناس. يتحدث عن التعساء وعمن لا يجدون القوت. إنه يصرخ بعنف: أين حقي؟
يا قصورا لم تقم إلا بسعي الضعفاء
هذه الأكواخ فاضت من دموع البؤساء
وبنوك استحضروا الخمرة من هذي الدماء
فسل الكوخ يجبك الدمع فيه
أين حقي؟
طلبت جولدا من المجنون أن يتوقف. قالت إن النكد يلازمنا، ولسنا بحاجة لمن يذكرنا به. همست لميعة أخشى أن يختفي الليلة نجم السعد، طالما أن أرواحنا ليست في حالة صفاء. لكن جولدا ضحكت ضحكة صاخبة، وهي تقول للميعة لا تخافي على نجم السعد. إنه قريب منك إلى أدنى حد! رفع جهشان يده بالكوب الذي يحمله. ضحك وهو يقول إن ما في كوبه ليس من دماء البؤساء، وإنما من أجود أنواع العنب اللذيذ!
همسات تتجاوب معها همسات. قفشات تتصدى لها قفشات مضادة. قطة تسللت إلى الصالة، قادمة من الحديقة وهي تموء. قالت أسمهان إن القطة لا تريد دما ولا نبيذا. إنها تسأل أين حقها في الطعام… ضحك الجميع حين قالت زوجة جهشان إن القطة لا تدري من أين جاءت، وأرجح أن روح الصوت الذي سمعناه تتقمصها وتسكن فيها!
لا جديد تحت الشمس. ولا جديد في الليل بالنسبة لعواطف. استأذنت لتنام، لأنها تعودت أن تصحو في الصباح الباكر. انسحبت جولدا إلى غرفتها بعد أن سددت غمزة، أدرك عرفة مغزاها.تمنت زوجة جهشان ألا يجثم على صدرها كابوس أثناء النوم، بعد أن أفزعتها الكتل المكورة السوداء التي شاهدتها وهي تتحرك في حي قاسم، في طريقها لزيارة بيت مدحت في حي رفاعة. انصرف الساهرون تباعا لكي يناموا، بعد أن نبههم مدحت أنه سيحضر غدا مباراة مهمة في كرة القدم، وضحك قائلا: إن مصير الدنيا كلها سيتحدد على ضوء نتيجتها. خرجت لميعة بصحبة المجنون إلى الحديقة. الجديد أن أسمهان طلبت أن تشاركهما الجلسة، فهي كذلك تحب أن تتمعن في النجوم. ظل عرفة يراقب الحركة في الصالة، إلى أن تأكد أنها قد خلت تماما. تسلل كاللص إلى غرفة جولدا، ليرشف من السحر الذي تفوق على تجاربه القديمة، ولكي يرتاح من المبادرة إلى الفعل، ويتحول باستسلامه لأحضان جولدا إلى مفعول!
(26)
كما تسلل إلى غرفتها، خرج منها بنفس الحيطة والحذر. أحس أن قدميه تحملانه بصعوبة. هي سكرة أقوى من سكرته التجريبية السابقة. لم يعد عرفة تلميذا خجولا. لقد تقدم في المعرفة. هذا سحر جولدا يتجدد ويتمدد أكثر بكثير مما جرى في الليلة السابقة. صعدت فوقه دون أن تسمح له بتقبيلها. امتنعت هي أيضا عن تقبيله في شفتيه. سقت أرضه المتعطشة بلعابها. راحت تشد شعر صدره، حينا برقة مفرطة، وحينا بعنف. أمسكت بيدها اليمنى عضوه المتأهب. صبت عليه بيدها اليسرى قطرات مما يدخره الكوب الذي يحضن ماء السحر الحليبي اللون. أخذت ترتشف القطرات، قطرة تلو أخرى بتلذذ عميق. فتحت عينيها الزرقاوين لكي ترصد ما تود أن ترصده. انفتحت شفتاها فجأة للاستيلاء على العضو المتأهب. أخذت تستحلبه بهدوء. أخرجته من فمها وراحت تداعبه وتدشنه وهو يهتز أمام عينيها شاكرا وممتنا. مصت رأسه ببراعة عاشقة، تحاول دائما أن تتفوق حتى على نفسها في الحب. صعدت دون مقدمات فوق أرض المفعول. هيأت للعضو المتأهب مكانا يمرق منه. لم يكن نفس المكان الذي يعرفه عرفة. ظلت تصعد وتهبط. تتثنى حينا وتشهق حينا. تتأوه وتتلذذ بأنها تتأوه. تناور ثم تتحرك بهمة ونشاط، كأنها تحرث أرضا عذراء، طال انتظارها للارتواء.أين هذا السحر مما جربه مع زوجته ومع نساء أخريات، على مر سنوات؟ هذا هو السحر، وإلا فلا!
أحس فجأة أنه لا يريد أن ينام وحيدا أو بجوار المجنون إذا كان قد سبقه للنوم. حرص أن يتماسك حتى لا تخذله قواه. قام بتغيير وجهة قدميه، واندفع ليفتح باب الغرفة التي تنام فيها زوجته. مسكينة أنت يا عواطف. لم تعرفي من الحياة إلا السعي المتواصل لكي تعاوني أباك في عمله، وبعدها تزوجتك وأصبحت حياتك معي محصورة في أداء واجبات منزلية وأخرى زوجية. في كل ما قمت بأدائه عشت تحسين بقيمة الواجب تجاه الأب وتجاه الزوج. خلال الليالي التي ضاجعتك فيها لم تحاولي ولو مرة أن تكوني الفاعل. هاهو زوجك يتحول إلى مفعول، أما الفاعل فهو امرأة أخرى سواك وليس أنت. على أي حال فأنت لو كنت قد قمت بدور الفاعل لكنت قد نهرتك وزجرتك!
تمدد بكل ما استطاع من هدوء بجانب عواطف. لم يستطع أن ينام. طارده خاطر أو هاجس غريب. سأل نفسه: ما الفرق بيني وبين صابر سيد الرحيمي الذي يتعاطف معه المجنون؟ ألم يكن صابر يتمنى أن يجمع في أعماق روحه بين كريمة وإلهام؟ كانت أمنية عصية المنال. كريمة هي كريمة، وهي غذاؤه الدسم في الليل. إلهام ليست كريمة. إلهام هي القلق النشوان. هي من أعطته طمأنينة الروح، لكن الطمأنينة ما تلبث أن تتبدد. لا.. لن أكون مثل صابر. سأعود إلى تجاربي في السحر، وسيعود حنش ليعاونني. متى؟ فلأنتظر إلى أن تعود جولدا إلى حارتها، وأعود أنا إلى عواطف وحدها.
ارتاح عرفة من عناء التفكير. هدأت نفسه. نام بعمق كما لم ينم من قبل. لم يهنأ بالنوم إلا قليلا. أفاق مذعورا، وقد انحشرت في صدره صرخة مكتومة. رأى القاتل المجهول يمد يديه بحبل رفيع ليخنق عواطف وهي إلى جانبه. لقد توقف الناس عن متابعة جرائمه التي أفزعت سكان حي العباسية، بعد أن استسلموا جميعا لفكرة استحالة القبض عليه. ها هو يعود، ليرتكب ضد زوجته ما سبق أن ارتكبه ضد آخرين من الرجال والنساء، من العجائز والشبان. نهض والعرق يتصبب على جبهته. تحسس جسد زوجته. أمسك إحدى يديها. فوجيء بها تسأله بمنتهى الهدوء: ما لك يا صابر؟ عانقها بحنان لم يسبق أن منحها إياه من قبل. قبلها برقة. تحسس عنقها. لا أثر لأي حبل حول رقبتها. تمتم دون أن يفصح متسائلا: متى يتم القبض على القاتل المجهول؟ متى يراه الناس وهو مقيد اليدين دون أن يكون معصوب العينين؟ ومتى يتاح للجميع أن يروا هاتين العينين الجهنميتين، وهما تنطفئان ويخبو فيهما بريق الحياة؟ استغرق في النوم وهو يحضن عواطف بقوة كي لا تفلت منه!
( 27)
في ملعب الحارة الكبير احتشد المتفرجون بالمئات على الجانبين الأيمن والأيسر، وفوق مقعد مريح جلس الناظر قدري معتدا ومزهوا بنفسه، وقد تغير لون شعره الأشيب بفضل الحنة السوداء، كأنه يرد على الإشاعات التي أكدت أن صحته تتدهور, وأن أمراض الشيخوخة قد تجمعت لتتحالف ضده.وخلف الناظر مباشرة جلس حفيده كمال الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وذلك لحماية جده من القاتل المجهول، بعد أن سرت إشاعة أخرى تؤكد أن هذا القاتل قد ينتهز فرصة الزحام ليقوم بعمل ما ضد الناظر، وبدا الفتوات وقد ارتدوا أفخر ما لديهم، ومعهم رجالهم الغلاظ، وهم يتبادلون الأحاديث، واضعين النبابيت على الأرض أمام أعينهم. وبالقرب منهم وجوه كثيرة مألوفة لكنها تبدو اليوم كأنها غير مألوفة. إنهم الشحاذون والمتسولون الذين يزحمون الطرقات من الصباح إلى الليل، وقد ارتدوا جلاليب نظيفة هي نفس الجلاليب التي يلبسونها وهم يمارسون عملهم اليومي بكل إصرار، لكنهم اهتموا هذه المرة بغسلها، وإلى جانبهم متسولون أحسن حظا. فقد حصلوا منذ يوم واحد على جلاليب جديدة زاهية، وزعتها عليهم زوجة الناظر قدري، لكي يظهروا بمظهر لائق خلال المباراة.
إلى جانب الشبان والرجال جلست مجموعات لكنها قليلة من النساء، بعضهن يرتدين فساتين قصيرة، وبعضهن يتشبهن بالرجال، وكل منهن ترتدي بنطلونا ضيقا أو واسعا، ومعهن نساء من حزب الكتل المكورة السوداء، لكنهن كن يغامرن بين حين وآخر ويقمن برفع ما ينسدل على رؤوسهن لكي ترى كل منهن ما تشتهي أن تراه من الألوان على حقيقتها، وتبحلق في وجوه الرجال لتراها على طبيعتها. وشوهد شاب من أبناء أحد الفتوات وهو يفسح الطريق لامرأة تمر من أمامه،وانتهز فرصة اقترابها منه ليقرصها في فخذها المكتنز، بينما دحرجت المرأة عليه نظرة غامضة لكنها ملتهبة، وفالت امرأة لصديقتها المتكورة جانبها: فلنرفع أيدينا إلى السماء لندعو الله أن ينصر فريقنا. إن الأصفر هو الحل.
اشتعلت الأكف بحرارة التصفيق، والحناجر بصيحات صاخبة، حين نزل الفريقان المتنافسان إلى أرض الملعب. فريق يرتدي لاعبوه فانلات حمراء، بعد أن أكدوا من قبل في السر وفي العلن أن لاعبي الفريق المنافس ليست لهم عقول، فهم يهيجون ويندفعون كالثيران حين يرون اللون الأحمر أمامهم. أما لاعبو الفريق الثاني فقد لبسوا فانلات صفراء ليؤكدوا للجميع أنهم أكثر مهارة من الفريق الأحمر في ركوب سفن الصحراء، دون أي حاجة لأن يساعدهم أحد في الركوب، ووقف كثيرون فجأة وهم يصفقون للاعب من الفريق الأحمر. وهنا سأل المجنون صديقه مدحت عن اسم اللاعب، فضحك وهو يقول: هذا مرزوق عبد السميع، وهو من أشهر اللاعبين، لكنك لا تعرفه طبعا لأنك من أكبر الجهلاء بهذه اللعبة التي جعلت اسمه يتردد على كل لسان!
لضمان نزاهة المباراة جاء إلى الملعب حكم أشقر، عيناه زرقاوان، وعلى ظهر الفانلة التي يرتديها رسم واضح حتى للبعيدين عنه لامرأة طويلة القامة متوجة بتاج يوحي بأنه متوهج ومتألق، وهي ترفع يدها اليمنى عاليا بكبرياء ما بعده كبرياء،وأمام عينيها يبدو بحر شاسع باللون الأزرق. وقال مدحت إن هذا الرجل جاء خصيصا لأنه معجب بمهارات مرزوق عبد السميع ودهائه في مراوغة المنافسين، فضلا عن الصداقة الحميمة التي تجمعه مع حفيد الناظر.
ظل المجنون مندهشا طيلة المباراة التي كسبها الفريق الأحمر، لأنه لاحظ أن الكرة تعود بسرعة عجيبة إلى قدمي مرزوق حتى وهو بعيد عنها، فمال مدحت ناحيته بهدوء، وهو يقول: لا تندهش يا صديقي فالحكاية خدعة في خدعة. انظر إلى مرزوق. إنه يرتدي حذاء كبيرا لأنه يضع داخل كل فردة قطعا صغيرة من الحديد المصقول، كما أنه يقوم قبل بداية أية مباراة بسرقة الكرة، حيث يضع داخلها قطعة من قطع المغناطيس، ثم يعيدها بمنتهى البراءة إلى مكانها، ولهذا لا بد أن ترتد الكرة إليه باستمرار مهما حصل عليها لاعبون آخرون! وضحك مدحت ضحكة عالية على غير عادته حين سمع المجنون يسأله: هل الحكم يعرف حكاية الحديد والمغناطيس؟ وجاءت الإجابة بسرعة البرق: إن الحكم يعرف كل كبيرة وصغيرة، لكنه يتغاضى عن الغش الذي يلجأ له بعض اللاعبين إذا كان هذا في مصلحته. أما إذا رأى أن المتفرجين لم يعودوا يطيقون مرزوق أو سواه، فإنه يظل يهددهم بالطرد من الملعب، وقد ينفذ تهديداته بالفعل إذا أحس بالشك والريبة أو أدرك أن هذا اللاعب أو سواه قد انتهت صلاحيتهم. وطبعا هذا ما يحاول مرزوق عبد السميع أن يتجنبه، والحقيقة أنه اسم على مسمى، فالرزق يأتيه من كل اتجاه، إلى جانب أن أذنيه الكبيرتين تسمعان جيدا تعليمات هذا الحكم أو سواه من الحكام الذين يأتون من حارة الفرنجة.
أخذ أحد المعلقين يصف مرزوق خلال سير المباراة، قائلا بصوت حماسي نحاسي الرنين: الكرة الآن مع مرزوق عبد السميع، وهو ينطلق كغزال فوق أحد الجبال، لهذا فإنه سيظل عنوان الفخر لحارتنا، إنه الوحيد الذي يجيد ويتفنن كما يريد. وأضاف المعلق بعد أن ارتفع صوته أكثر وأكثر: أنا متأكد أن مرزوق سيلعب في المباراة القادمة بساق واحدة، وذلك لكي يغيظ الأقلية الحاقدة والجاحدة لمهاراته في اللعب.
بعد انتهاء المباراة أطلق أحد الفتوات ضحكة غليظة وهو يقول لعدة متسولين ممن ارتدوا جلاليب بيضاء زاهية: حظكم حلو. كان لابد أن تدفعوا ثمن ما تلبسونه لو أننا خسرنا المباراة، واندهش مدحت حين رأى الشاب الذي كان قد قرص المرأة في فخذها يخرج بصحبتها، متأبطا ذراعها، بينما يرمقه آخرون بإعجاب، وينظر إليه سواهم نظرات كراهية وحسد.
قال مدحت للمجنون وهما يحاولان اختراق الطوابير الفوضوية الخارجة من ملعب الحارة: علينا أن نسرع بالعودة إلى البيت، فقد وعدنا الضيوف بأن نعود بمجرد انتهاء المباراة. لا مجال للتسكع أو للجلوس في المقهى.
(28 )
النهار له عيون كما يقولون. لابد أن شيئا عاجلا مهما قد دفع حنش لأن يغامر، منطلقا إلى بيت مدحت الرفاعي. إنها زيارته الأولى للبيت منذ أقام فيه أستاذه ومعلمه مع زوجته. الزيارة ليست في الليل الذي يتيح للطيبين وللأشرار على حد سواء أن يبوحوا ببعض ما لديهم من أسرار وهواجس. الزيارة في عز الظهيرة! فتحت عواطف الباب الجانبي، بعد أن سمعت عدة طرقات عليه. وجدت أمامها حنش، وهو يتصبب عرقا. رحبت به على الفور، ودعته للدخول.قام بفتح باب الغرفة التي كان مفروضا أن يقيم فيها لولا أنه فضل عليها حياة الخلاء. المجنون ليس في الغرفة. لم يمض وقت طويل إلا وانفتح الباب، ليطل منه عرفة وهو يفرك جفونه.
– أهلا يا حنش. أوحشتني كثيرا. حدثني عن أخبارك.
– أنا بخير كما ترى.
– ولماذا لم تأت إلى هنا في الليل؟
– قررت أن أتهور، وأن أزورك في الظهيرة!
– في الأمر سر.
– هذا ما جئت من أجله!
– يبدو لي أنه أمر عاجل.
– لن أطيل عليك. الحقيقة أني كلفت شابين من أقرب الشبان إلى قلبي بأن يراقبا هذا البيت بين حين وآخر.
– أهذا عمل أخلاقي؟
– سمه ما شئت. لكن كان لا بد منه لكي أطمئن، وأعرف ما يدور!
– وماذا عرفت يا شاطر؟!
– عرفت – مثلا – أن رجلين، معهما امرأة قد خرجوا ذات صباح، قاصدين حي رفاعة.
– ما لا تعرفه أن هؤلاء الذين تقصدهم هم مدحت صاحب البيت الذي نقيم فيه وواحد من أقاربه هو وزوجته.
– لا يهمني هؤلاء، ما دمت أنت ترى أنهم طيبون. ما يقلقني وما جئت لأجله يتعلق بامرأة واحدة، تخرج من هذا البيت كل صباح!
– هل تعرفها؟
– لا أعرفها، لكني أعرف ما تقوم به. إنها تقوم بزيارات متكررة لحي جبل، حيث تدخل أحد بيوت الحي بعد أن تتلفت يمينا ويسارا، كأنها تريد أن تتأكد أن أحدا لا يراقبها أو يتتبع خطواتها!
– اطمئن. سأتابع الموضوع.
– وأنت… هل بدأت تعود لممارسة العمل؟ وهل تحتاج لمساعداتي كما كنت تفعل فيما مضى على امتداد الليالي؟ ما أجملها وأحلاها تلك الليالي.. هل تتذكر أم أنك نسيت ما كان؟!
– لم أنس بالطبع، ولن أنسى.
– هل راجعت كراسة السحر التي دونت فيها ما دونت حتى لا تنسى؟
ابتلع عرفة ريقه بصعوبة، وهو يقول:
– قلت لك لا تقلق، سنعود للعمل بعد أن أرتاح لعدة أيام. لا تنس ما جرى لي يا حنش.
قال حنش بثقة ورجاء، قبل أن يهم بالانصراف:
– الشبان المخلصون لذكراك كما أفهمتهم ما زالوا متحمسين. لا أريد أن أخذلهم، تماما كما لا أريد منك أن تخذلني!
استأذن حنش مودعا بعد أن زرع شوك الشك في قلب عرفة. بعد انصرافه جلس عرفة وحده شارد الذهن، وهو يتمتم: أين الكراسة؟ أظن أني نسيتها في غرفة جولدا، وأظن أنها هي التي يقصدها حنش، حين تحدث عن امرأة تخرج من هنا لكي تتوجه كل صباح إلى حي جبل. في الأمر سر، لكني سأعرفه دون إبطاء أو تلكؤ، ولن أسمح لجولدا أن تتلاعب بي!
( 29 )
سأقتلها.. لا بد أن أقتلها إن كانت قد سرقت كراسة السحر مني.. لا.. لن أقتلها.. ربما أكون أنا الذي نسيت الكراسة في غرفتها. ما ذنبها في هذه الحالة؟ بل إني لن أقتلها حتى لو كانت قد سرقتها. إلى أي حد ستتغير الأمور لو أني اندفعت وقتلت؟ بالطبع سأكون الخاسر الأكبر.. سأفقد كل ما يكنه المجنون لي من المحبة.. ستكون الصدمة عنيفة، بل مدمرة لعواطف.. سيندم مدحت أشد الندم حين يعرف أنه يستضيف قاتلا. ستكون فضيحته مدوية أمام أقاربه وكل من جاء معهم لزيارة حارة الجبلاوي. القتل سهل. يغضب الإنسان منا فيعمى القلب ويغيب العقل. صحيح أن القتل عندنا أصبح أمرا عاديا. القاتل المجهول يقتل من يشاء لأن أحدا لم يتمكن من القبض عليه. لكن هناك قتلة معروفون، دون أن يتجرأ أحد على القبض عليهم، أو حتى الإشارة إليهم بأسمائهم. هذا إذا كان هؤلاء طبعا من الأقوياء. ساعتها يتطوع آخرون كثيرون لإلصاق التهمة بالقضاء والقدر. تسقط الصخور على بيوت الفقراء وتدفنهم تحتها. يقال إنه القضاء والقدر. في كل يوم أو ليلة يتم العثور على قتلى في الشوارع والأزقة. يتحدث الجميع ومنهم شهود عيان عن القضاء والقدر. هل القضاء والقدر متفرغان لحارتنا وحدها وليس لهما عمل إلا هنا؟ أنا شخصيا قتلت من قبل، وأقنعت نفسي أني لم أقتل. لكني هذه المرة لن أقتلك يا جولدا حتى لو كنت تستحقين القتل.
لن أقتل، لكني سأحتال كي تعود الكراسة لأحضاني كما كنت أفعل. لن يستطيع فن جولدا في السحر أن يسلبني كراستي. أوشك أن أجن. إننا لا نعرف غالبا قيمة الأشياء إلا إذا فقدناها، وما قيمة حياتي كلها إذا لم أستطع أن أعيد مستودع الأسرار وحصاد ليالي التعب والعناء؟ وكيف سأواصل العمل لو قررت أن أعود إلى ما كنت.. عرفة الساحر!
إني أحيانا أحس بالرثاء لحالي. أشعر بالإشفاق على نفسي. ماذا فعلت؟ كنت أريد الخير،كل الخير للناس التعساء. كنت أتمنى أن يصبح سحري سلاحا لهم وليس عليهم. آه لو كنت عشت في أمان. ربما كان ما أتمناه الآن قد تحقق. لكني لم أكن أعمل إلا في بدروم ضيق، أعيش فيه مع عواطف، ويساعدني فيه حنش، وليتني كنت أعمل وأنا مطمئن. ألم أكن واحدا ممن يدفعون الأتاوات للفتوات؟ ألم يسخرني الناظر الكريه فيما بعد لمصلحته؟ ألم يحاول أن يقتلني بعد أن فشلت في الهرب من الحارة كلها؟ ألم يخطر في بالي أن أعود لتجاربي بعد أن سلمني حنش الكراسة، ولكن كيف أعمل وأنا مختبيء في جوف مغارة؟ كيف يمكن أن أعمل دون أن تكون معي أدوات وقوارير للعمل؟ وحين أتيت للإقامة في هذا البيت، ألم أكن أفكر في أن أبدأ من جديد، قبل أن أستسلم لسحر سواي؟ أنا الآن حي، لكنها حياة كالموت، طالما أني لا أعمل!
إسكندر غالي قريب مدحت، رجل كتوم. لا يتكلم كثيرا. إنه يفضل أن يظل مستمعا. وإذا تكلم لا يطيل في الكلام. وإذا ضحك على نكتة تقال أو موقف مضحك، فإن ضحكاته تبدو صامتة أو مبتورة. قال لي خلال سهرة التعارف: إذا كنت بلا عمل فلماذا لا تجرب الخروج؟ لماذا لا تهجر الحارة بمن فيها وما فيها؟ إنك بالتأكيد ستجد عملا لائقا بك في إحدى الحارات القريبة أو البعيدة. لو كنت عاشقا للسحر كما قال المجنون، فإن الهواء في الخارج سينعش هذا العشق ويمنحه حياة أفضل وأجمل. أما لو كنت ساحرا حقا كما قال مدحت فإنك ستحظى بحفاوة فوق حدود الخيال. ستنضم لآخرين من السحرة. لن يضيق أحدهم بك، فهو يعمل وأنت كذلك تعمل. لن يحسدك أحد. في الخارج لا وقت للحسد.
قلت لإسكندر إني أحب حياتي هنا في حارتنا، ولا أستطيع البعد عنها. قال لي: ومن قال إنك لا بد أن تنسى حبك لحارة الجبلاوي، وأنت عنها بعيد؟! ربما تستطيع أن تقدم خيرا كثيرا لها لو أنك غامرت وهاجرت بعيدا. تأكد أنه لا كرامة لساحر في حارته خصوصا إذا كانت هذه الحارة هي حارة الجبلاوي! سألته بوضوح عما إذا كنت سأحظى بحفاوة حقا لو عرف الآخرون أني من أبناء حي قاسم وكلهم متهمون بأنهم يحبون القتل؟ أجاب ببساطة: إذا عرف هؤلاء الآخرون أنك تعشق عملك، فلن يسألك أحد من أين أتيت، ولن تضطر للقول جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!
وعدت إسكندر أن أفكر في الأمر. قال بثقة وهو يحاول أن يبتسم: أستطيع أن أساعدك لو فكرت ثم قررت أن تهاجر. سأكون إلى جانبك. أحسست بالطمأنينة تسكن قلبي. شعرت بدفء كلماته. لكن سؤالا مقلقا يحاصرني: من يضمن لي ألا أقع في حفرة جديدة؟!
على أي حال لابد أن أستعيد كراسة السحر أولا، سواء بقيت هنا أو قررت أن أهجر حارتنا وأمضي إلى المجهول.. الكراسة أولا.. إنها حياتي.
( 30 )
الشمس التي تكرر ما تقوم به من عمل، تواصل ما تفعله بالأرض. هي الآن توشك أن تغيب. عتمة خفيفة تهبط تدريجيا على الخلاء المحيط بالبيت الجديد لمدحت. تدريجيا بدأ الجميع يتوافدون على الصالة الكبيرة. بدت الصالة كما لو كانت صورة مصغرة لحارة الجبلاوي بأحيائها الثلاثة المتقاربة والمتنافرة في آن واحد. جلس مدحت وأقاربه متجاورين، كأنهم يمثلون حي رفاعة. كذلك جلس عرفة وزوجته ومعهما المجنون، وكأنهم نواب عن حي قاسم. الحي الذي كان يسمى قبل ظهوره حي الجرابيع. بالطبع فإن أحدا لا يمثل حي جبل، لكن من المؤكد أن جولدا جبيل لها علاقة من قريب أو من بعيد مع المتبقين ممن أقاموا فيه، وفضلوا ألا يهجروه. لكن الصورة المصغرة لحي الجبلاوي تحمل لمسات إضافية.ففيها من يمثل حارة الخزف أو الفخار، وفيها من يمثل حارة الطوفان. والفرق بين حارة الجبلاوي وصورتها المصغرة يتجلى فيما يحدث في الأولى من مناكفات وصراعات، قد يسقط أثناءها قتلى وجرحى. أما الصالة فلم تشهد أية حادثة قتل باستثناء ما راود عقل عرفة بعد تخمينه أن جولدا قد خبأت كراسة السحر التي لا غنى له عنها بعد أن أفقدته الوعي في إحدى لياليها الساحرة!
ابتهج الجميع، خصوصا من جاءوا من حارة الخزف، حين تردد في مستهل السهرة صوت رقيق، يبدو كأنه هبط عليهم من السماء، ليخفف عن أرواحهم عناء استعادة ما مضى أو الجدال المضني حول الحاضر أو التنبؤ بما قد يأتي:
يا عاقد الحاجبين
على الجبين اللجيني
إن كنت تقصد قتلي
قتلتني … مرتين
ضحكت لميعة، وهي تقول: يبدو أن القتل يرافقنا حتى أثناء الحب، وعلقت أسمهان قائلة إن هذا النوع من القتل جميل لأن الدماء لا تراق فيه ولا تسيل، بينما قال المجنون إن هذا القاتل الذي يقتل مرتين أذكى بكثير ممن يقتلون القتيل مرة واحدة، دون أن يتبين لهم أنهم قد قتلوه فعلا. تعكر صفاء وجه عرفة، ثم تكدر تماما، حين تصور أن المجنون يريد أن يذكره بما كان قد جرى له، ليلة أن ألقاه الجناة في الحفرة، لكنه ما لبث أن خرج منها حيا!
نهضت أسمهان فجأة من مكانها، واتجهت نحو سارة لتجذبها من يدها، وهي تطالبها بأن تشاركها الرقص. تهللت الوجوه وتمايلت بعض الأجساد، وتحركت الأكف للتصفيق مع ما يتطلبه الإيقاع من حركات أو سكنات. انتهزت جولدا ما بدا من انشغال الجميع بالرقص، فاقتربت من عرفة وهي تقول بمنتهى البراءة: لك عندي أمانة، وفهم عرفة المغزى، فهز رأسه شاكرا، دون أن ينطق ولو كلمة واحدة ودون أن تسأله عواطف التي سمعت ما قيل عن نوع تلك الأمانة!
تململ هادي ما شاء الله في كرسيه، كأنه يجلس على مسامير أو أشواك. بعد قليل قام ليجلس بجانب المجنون. قال له بنبرة قلق حاول أن يخفيها:
– بالي مشغول.. انقطعت عني أخبار حارتي – حارة الطوفان منذ أن جئت لزيارتكم يا أبناء حارة الجبلاوي.
رد المجنون متسائلا:
– أما زلت تنتظر الفرج الآتي؟
– لابد من الانتظار.. ليس بوسعي إلا أن أترقب وعده!
– ألم يطل موعد الوعد؟!
– للغائب حجته، وأنا أدري أنه أدرى مني بموعد قدومه بالخير وبالبركة، لكنه لن يطل علينا إلا حين يتفاقم الظلم، ويتزايد الاضطهاد على المستضعفين في حارتنا.
– ألا يكفي كل ما حدثتنا عنه من ظلم واضطهاد، لكي يتعجل الفرج في عودته من بعد طول غيبته؟
– أؤكد لك أنه سيأتي لكن للغائب حجته كما قلت!
حاول المجنون أن يكون هادئا في كلامه، وهو يقول:
– إذا كنت تراني صديقا، فلماذا لا تصارحني بما يدور في خاطرك؟ إنك تجيب على ما أطرحه، وكأنك تحاول أن تتقيني. ترى.. هل تقول لي ما يرضيني حتى لو كنت أنت غير راض عنه في أعماقك، لكي تجاملني أو لتهرب من أسئلتي؟
– طالما أنك صديق فإني لا أحاول أن أتقيك أو أخبيء عنك شيئا مما أعتقده، لكن لا بد لي أن أحتاط إذا واجهت من أشك فيهم وأرتاب منهم. الحيطة عند الشك والريبة مستحبة ومطلوبة، لهذا أقول أحيانا ما لا أعتقده حتى أتقي شر من أرتاب في أمره!
– ما دام الأمر كذلك وما دمت تراني صديقا.. قل لي هل أنا على حق إذا صارحتك بما أشعر أنه يبدو عليك؟ يبدو لي أنك تتلذذ بمرأى الظلم وبكل ما تتحدث عنه من أشكال الاضطهاد!
على الفور قال هادي ما شاء الله بنبرة استنكار:
– أتلذذ؟ لا.. لا إنما أنا أتحصن بالانتظار وفي يقيني أن للوعد موعدا، ولكن ماذا عنك أنت؟ هل تنتظر الفرج مثلي؟
– لا أنتظر الفرج، بل أنتظر الطوفان!
– لكن الطوفان جاء من قبل، ولم ينج أحد منه، حتى الذين اعتصموا بقمم الجبال، فإذا جاء طوفان جديد فإنك شخصيا لن تنجو، لأنه سيجرف الجميع من الأشرار والطيبين على حد سواء.
– إني أتطلع إلى طوفان غير فوضوي، طوفان يمكنه أن يميز، حتى لا يجرف إلا الأشرار وحدهم!
– هذا طوفان لا يتحكم فيه إلا المجانين من أمثالك!
– ما أتطلع إليه، تطلعت إليه من قبل امرأة عاقلة من حارتكم أنتم!
– لا.. لا.. إنها لا بد أن تكون امرأة مجنونة!
– هذا يعني أنك، وبمنتهى البساطة، تتهم الأميرة المقدسة عشتار بالجنون، فهي نفسها التي صرخت في وجه الذي أطلق طوفانا أقدم من الطوفان الذي نتحدث عنه. كان هذا في زمانها، ولهذا فإنها رأت المأساة بعينيها، وصرخت حين رأت الأشرار والطيبين يغرقون جميعا دون استثناء!
– يبدو لي ان كلامك صحيح، فأنا أتذكر الآن أن عشتار قد واجهت من أطلق الطوفان الأقدم، وصرخت في وجهه، قائلة:
كيف دون ترو تمكنت من إحداث الطوفان؟
كان عليك تحميل المعتدي وحده إثم اعتدائه
وتحميل المخطئ وحده وزر خطيئته
وعند ذلك.. ارحم حتى لا يهلك
وتشدد حتى لا يمعن في الشر!
اقترب مدحت من المتحدثين المشغولين بحوارهما الثنائي، وقال لهما مداعبا:
– سهرتنا الجميلة توشك أن تنفض، وأنتما لم تشبعا بعد من الكلام، وحرمتما نفسيكما من أشهى طعام، وضاعت عليكما فرصة رؤية جهشان وهو يراقص زوجته، ويتفوق عليها أمام عيوننا!
لا جديد فيما يتعلق بعواطف. أخلدت للنوم قبل الجميع، ويبدو أنها نسيت حكاية الأمانة التي تحدثت عنها جولدا أمامها… ولا جديد في تهيؤ المجنون ولميعة ومعهما أسمهان للذهاب إلى حديقة البيت. الجديد أن جولدا طلبت من عرفة أن يسبقها في الذهاب إلى الحديقة، لكي يختار مكانا يجلسان فيه وحدهما بعد أن تعود من غرفتها، ووافق عرفة على طلبها دون أن يظهر غيظه من الطلب، ودون أن يستفسر عن السبب!
( 31 )
عند طرف الحديقة من ناحية اليمين، جلس المجنون مع لميعة وأسمهان. وفي أقصى اليسار جلس عرفة وحده، مترقبا قدوم جولدا، وتسارعت دقات قلبه، وهو يراها قادمة، دون أن يكون معها ما تحمله مما يترقبه. لماذا لم تحضر الأمانة التي حدثته عنها أمام زوجته؟ أين الكراسة؟
تظاهرت جولدا بأنها لا تعرف شيئا مما يدور في عقل عرفة تجاهها. جلست بالقرب منه، وقالت وهي تبتسم:
– أعتقد أنك ستظل صديقا حميما لي مهما فرقت بيننا الأيام. لقد تأكد لي هذا حين وافقت على أن نجلس هنا في الحديقة، رغم كل ما سمعته عنك من أنك تخاف الجلوس فيها أثناء الليل.
قال عرفة، محاولا أن يكون طبيعيا في نبرات صوته:
– أنت سمعت عني، لكن لم تسمعي مني. على أي حال أرجو أن تتأكدي أني أحب هذه الحديقة كما أحب سواها من الحدائق، لكني أحبها كلها في وضح النهار..
– لأن النهار له عيون كما تقولون!
– لليل أيضا عيون لكنها تختلف عن عيون النهار. نستطيع في النهار أن نرى كل ما حولنا، اما في الليل فإننا نرى أشياء وتحتجب عنها أشياء أخرى..
– كلامك جميل يا صديقي.. والآن لماذا لم تسألني عن سر طلبي أن نجلس هنا، وليس في غرفتي كما تعودنا.. لن أتركك تسأل، لأني سأجيب.. لقد رأيت أن نجلس هنا لكي نبتعد قليلا عن حكاية الفاعل والمفعول، وننسى السحر السائل الذي تتحفنا به القنينة. لماذا؟ لأني أريد أن أبوح لك بأمر يهمني وأنت بكامل وعيك، حتى تكون مشورتك مجدية وصائبة!
– وما هو هذا الأمر الذي يتطلب أن أكون واعيا؟
– قررت أن أسافر وحدي غدا، ولكني لن أخبر أحدا، فقد علمت أن إحدى أخواتي تعرضت لحادث فظيع، ولابد أن أكون إلى جوارها إلى أن تتماثل للشفاء، وفي نفس الوقت فإني لا أحب إزعاج أحد ممن جئت معهم.
– وماذا جرى لأختك؟
– كانت تسير وحدها عائدة لبيت العائلة في الليل ‘ فقابلها شبان متوحشون وفوضويون. أجبروها على المشي معهم بعد أن كمموا فمها، وفي أحد الأزقة المظلمة قام واحد منهم باغتصابها، ثم تناوب عليها الآخرون. تركوها بعد ذلك وهي تنزف، وقذفها واحد منهم بحجر، وهو يقول لها إن البيت الذي تقيمون فيه ليس لكم. لقد كان بيتنا نحن. واقترب منها ليشد شعرها وهو يصرخ كالثور الهائج: قولي لأهلك حين تعودين إليهم…
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا.. ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل…
قال عرفة وقد تكدرت ملامح وجهه تماما:
– من المؤكد أن هذا الحادث فظيع فعلا، ولكن هل بيتكم كان حقا بيتهم؟
– البيت ليس بيتهم، وحتى لوكان بيتهم، فما ذنب أختي؟ ولماذا لم يلجأ هؤلاء السخفاء للعدالة؟
– أهناك عدالة على وجه الأرض؟ ألم تعرفي أنت بنفسك كل ما يحدث في حارتي؟ البؤس في كل ركن.. واليأس في كل قلب.
– أنا لا أتحدث عن حارتكم. أنا أتكلم عن حارتي الأصلية القريبة من حارة الخزف. إن عصابات من الشبان الحاقدين على أهلي وعلى جيراننا يهاجموننا باستمرار، لا يريدون أن يفهموا أن بيتنا كان لنا، حتى لو كنا هجرناه لبعض الوقت. أتعرف معنى قولهم إن البيت بيتهم؟ هذا معناه أن نكون بلا سكن، بلا أرض، وأن نغرق في النهاية في البحر!
– يبدو أنه لا نتيجة ترجى من مناقشة الأمر. كأننا نتجادل حول البيضة والدجاجة، وأيهما سبق الآخر.. قد تقولين أنت إن الدجاجة جاءت أولا، وقد أقول لك بل البيضة هي التي جاءت أولا! على أي حال، قلبي معك وقلبي أيضا مع كل من ليس له بيت.
– وأنا لا شأن لي بمن ليس له بيت. ماذا سأفعل له؟ هل أعطيه بيتي وأنام أنا في الخلاء أو أغرق في البحر. أنا آسفة حقا لأني شغلتك بآلامي وأوجاعي المزمنة. أرجو ألا تبلغ أحداأني سأسافر إلا بعد أن أسافر بالفعل. قل لهم إن هناك أمرا عاجلا دفعني للسفر، ولكن من فضلك لا تذكر لهم شيئا عن الحادث الذي تعرضت له أختي. أظن أن الوقت قد داهمنا، فتعال معي بكل هدوء لكي أسلمك الأمانة التي يبدو أنك نسيتها في الغرفة.
نهضت جولدا وتبعها المجنون، وحين اقتربا من باب البيت قالا في آن واحد لمن ظلوا جالسين في الحديقة: تصبحون على خير، وأضاف عرفة وهو يحاول أن يداعب لميعة وأسمهان والمجنون: الجدل لا يفضي إلى شيء، البيضة أولا أم الدجاجة يا ترى؟!
فتحت جولدا باب غرفتها، وطلبت من عرفة أن يدخل وراءها بهدوء، لكنها لم تسمح له بالجلوس على الكرسي الذي تعود أن يجلس عليه. وبادرت بالتقدم نحو إحدى حقائبها، واستخرجت منها كراسة السحر. سلمتها لعرفة وهو واقف، وهمست في أذنه: سواء كنت عاشقا للسحر أو ساحرا محترفا فإني قد أحببتك. اندفعت فجأة بحركة رشيقة خاطفة، لتفتح حقيبة أخرى، وأخرجت منها قنينة مما جلبته معها. سلمتها كذلك له، وهي تقول: إذا سألتك زوجتك عن الأمانة، فكل ما عليك أن تريها قنينة السحر، وبإمكانك طبعا أن تسقيها منها إذا شئت. والآن لابد أن أودعك ولكن بطريقتي.
ظل عرفة واقفا في مكانه بالقرب من باب الغرفة، دون أن يدري ماذا يفعل، واقتربت جولدا منه، وتحسست عضوه الذي لم يكن متهيئا لعمل شيء. مدت يدها فجأة وأخرجته. تأملته، ثم قبلته، وأخيرا وضعته في فمها إلى أن اختفى داخله. أخذت تستحلبه. تمصه بشراهة. تعضه أحيانا بأسنانها. ابتلعت كل قطرة مما تدفق في فمها.. شهقت شهقة لذيذة. أعادت ما استخرجته إلى موقعه. مررت أصابعها على شفتيها. قالت لعرفة وهي تهم بفتح باب غرفتها ليخرج منها: يمكنك أن تكون فاعلا مع زوجتك أو غيرها من النساء، أما معي فستظل أنت مفعولا دائما. هذا إذا تجددت لقاءاتنا فيما بعد في أي مكان، وإن كنت أفضل أن أراك مفعولا في بيتي إذا قررت أن تزورني ذات يوم،وإياك أن تنساني، لأني لن أنساك،ولكن تذكر دائما أن الحب نوع من أنواع الحرب، وأنا لا أستمتع بالحب إلا إذا كنت أنا الفاعل!
( 32 )
كاد عرفة يفتح باب الغرفة التي تنام فيها زوجته، لكي يخلد للنوم بقربها، لكنه تراجع عما ينويه، واستدار ليفتح باب الغرفة الثانية، حتى يبقى وحده، مفكرا فيما قالته له جولدا. أدرك مقدما أن النوم مطلب صعب. كيف يمكنه أن ينام وذهنه مزدحم بخواطر عجيبة متناقضة لا يجمعها إطار؟ لماذا قامت جولدا بإخفاء كراسته؟ ولماذا قررت أن تعيدها إليه؟ هل صحيح أن لها أقارب أو أصدقاء من أولئك الذين لم يهجروا حي جبل؟ لابد أنها تعرف أحدهم على الأقل، وإلا لما كان حنش قد اهتم بمراقبتها هو ومن معه من الشبان. ولماذا اختارته هو بالذات لتقول إنها تحبه؟ ولماذا اهتمت بما قاله مدحت في سهرة التعارف الأولى، حين قال إن عرفة ساحر، في حين قال المجنون إنه مجرد عاشق للسحر؟ ولماذا تطلب منه أن يقوم بزيارتها في حارة الخزف أو في حارتها الأصلية؟ ألمجرد أنها – كما قالت – لا تستمتع بالحب إلا إذا كانت هي الفاعل وليس المفعول؟ ولماذا روت له ما تؤكد أنه قد حدث لأختها؟
حاول بكل طاقته أن يطرد من ذهنه تلك الخواطر وسواها. لم يستطع. جافاه النوم رغم أنه متعب، وعليه أن يرتاح ولو قليلا. حاول أن يستلقي بهدوء على السرير، وألا يشغل ذهنه بأي شيء في العالم كله. لمح فجأة مجموعة من الأوراق، ملقاة على الأرض بالقرب من السرير. دب فيه نشاط غريب. نهض بسرعة. تناول الأوراق. أدرك من خط كاتبها أنها أوراق كتبها المجنون وتردد طويلا وهو ممسك بالأوراق. يقرأ أم لا يقرأ؟ في قراءة الأسرار خيانة، لكنه لن يخون المجنون، بقدر ما يجتاحه من حب للاستطلاع. ربما يكون ما ينويه هو نفس ما أقدمت عليه جولدا. لكن المجنون صديق، أما جولدا فإنها امرأة مريبة، تتظاهر بالبراءة والطيبة. فليقرأ وليسامحه المجنون إذا عرف فيما بعد!
في الورقة الأولى قرأ عرفة ما كتبه المجنون عما أحس به من رعب خلال زيارة قام بها لإحدى الحارات البعيدة. متى قام المجنون بتلك الزيارة؟ لم يستطع عرفة أن يعرف، لكنه قرأ الورقة من أولها إلى نهايتها، وكانت بعنوان رؤيا المجنون:
* رأيت أشجارا من نار، تدور حول نفسها، تتملص من جذورها.. تتخلص مما يثبتها في الأرض. رأيتها تندفع في الهواء..تطير بعنف في كل اتجاه. أغصانها المشتعلة تتراءى كأنها خناجر ونبابيت تنفث النار. ورأيت الأغصان تقتحم الجدران، دون أن يصمد أمام اندفاعها ولو جدار واحد من تلك الجدران.
* رأيت أسماكا تقفز من مياه الأنهار، ومن بين أمواج البحار. رأيت زعانفها تتحول إلى أجنحة. رأيتها وهي تنقض بشراسة على الأطفال، تفقأ عيونهم، وهم يتخبطون ويصرخون، وقد فقدوا العيون. ورأيت طيورا مخيفة الأشكال تتنافس مع الأسماك الطائرة في نشر الفوضى على الأرض، حيث تنسى الأم طفلها الرضيع وهي تحاول النجاة من شر ما تراه.
* رأيت أطفالا صفر الوجوه، وكلهم قصار القامة،يندفعون دون وعي، يجرون بأقصى ما يستطيعون، يدوسون على جثث ملقاة تكدست بها الشوارع. رأيتهم وهم يتخلصون من ملا بسهم التي تشتعل فيها النار. رأيت جلودهم وهي تنسلخ من أجسادهم الصغيرة وتتناثر أمام عيونهم التي تكاد تخلو من أي بريق.
* رأيت رجالا شقر الوجوه، طوال القامة، يرقصون مبتهجين، وهم يرون الأطفال يحترقون، وكأنهم يحرضون النار أن تسأل: هل من مزيد؟ رأيت الدم الذي حرم قاسم إراقته دون وجه حق،وهو يجري أنهارا حمراء، بينما يتسلى برؤيته هؤلاء الرجال الشقر الطوال. رأيت العفاريت التي حاول رفاعة أن يخرجها من صدور الناس أجمعين، رأيتها وهي تعود مزهوة إلى صدر كل رجل من هؤلاء الرجال، وكلما دخل عفريت تعالت صيحات النشوة السوداء. رأيت الثعابين التي جاهد جبل لكي يزيح أذاها عن الناس أجمعين، رأيتها وهي تلتف على أجساد من تبقى من الأطفال، لتتكسر عظامهم الهشة وهم يتساقطون، طفلا وراء طفل.
ارتاع عرفة بعد أن قرأ ما قرأ. اصفر وجهه. قرر أن يتوقف عن القراءة، لكنه أحس كما لو كان إدريس الذي سبق له أن أغوى أخاه أدهم، يغويه هو شخصيا ويغريه بمواصلة ما بدأه طالما أن الأمر لن ينكشف، وحتى لو اكتشفه المجنون فإنه لا شك سيسامحه!
اندفع بشوق ممزوج بالخوف لقراءة الورقة الثانية. لم تستغرق قراءتها وقتا لأن سطورها موجزة للغاية، وليس لها عنوان:
هذا ما قاله أغلى أصحابي ذات زمان، بعد أن أثقلت روحه الأحزان…
* في بلد لا يحكم فيه القانون
يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة
لا يوجد مستقبل
في بلد يتمدد فيه الفقر…
كما يتمدد ثعبان في الرمل
لا يوجد مستقبل
في بلد تتعرى فيه المرأة كي تأكل
لا يوجد مستقبل…
سمع عرفة وقع أقدام تقترب، فألقى الأوراق من يده في نفس المكان الذي كان قد التقطها منه، وتظاهر بالنوم، بينما انفتح باب الغرفة بهدوء، ليدخل المجنون وينام بعد أن أضناه طول السهر.
( 33 )
لست طفلة صغيرة، لكني اكتشفت ما لم أكن أعرفه عن نفسي. اكتشفت كم أنا إنسانة حيية. من المجنون خجلت ومن لميعة الصابي. ليس هذا فحسب وإنما من نفسي كذلك خجلت! خلال سهرتنا الجميلة في الحديقة، توسطنا المجنون، وعن يمينه لميعة، وأنا جلست إلى يساره. ظلت لميعة تجيب على أسئلته التي يوجهها إليها. هي أسئلة عبثية حينا وحينا تبدو جادة بل حادة كالشوك. لكنها لم تتردد في الإجابة على أي سؤال منها. بل إنها أحيانا كانت هي التي تبادر بطرح الأسئلة، وسمعته وهو يجيب بثقة وبصدق. يقول لا أعرف حين تستعصي عليه إجابة، ويتكلم بوضوح حين يواتيه جنونه بالمعرفة بإجابة حاسمة. ظللت وحدي أستمع ولا أتكلم. من جانبه، حاول المجنون أن يدفعني للكلام، بل حاول أكثر من مرة أن يشجعني كي أتكلم. داعبني، قائلا إن صوتك جميل يا أسمهان. ولو أنك غنيت ولو أغنية واحدة لزاد جمال سهرتنا جمالا. الأغرب أنه قال لي لو لم تكوني مهذبة لطلبت منك أن تشتميني لأن مذاق الشتائم بصوتك سيكون له طعم حلو!
ربما لا يعرف المجنون أني جاهلة تماما بما يتصور أني أعرفه. هو يعتقد أني أخفي أسراري كما يفعل هادي ما شاء الله. الحقيقة أني لا أخفي شيئا، إذ ليس عندي ما يمكن أن أخفيه وأداريه. إن فاقد الشيء كما يقولون لا يمكن أن يعطيه. تستطيع لميعة بالطبع أن تتحدث وأن تسأل وأن تجيب لأن لديها ما تقوله مما تعرفه. هادي ما شاء الله يستطيع أن يجيب على ما يريد أن يجيب عليه من الأسئلة، لكنه لا يجيب على أسئلة أخرى، رغم أنه يعرف إجاباتها. لماذا هذا؟ هذا ليس لمجرد أنه يحب الكتمان، ولكن لأنه تعلم أن يتقي شرور الآخرين ممن ليسوا من أبناء الحي الذي يقطنه في حارة الطوفان. أحيانا يقول ما يرضي هؤلاء الآخرين وليس ما يرضيه هو نفسه. إنه يخبيء ما في قرارة نفسه، ربما خوفا من أن يتعرض لأذى إذا جاهر بما يعتقد أنه صواب.
لست لميعة المنفتحة على الآخرين، ولست هادي ما شاء الله المنفتح حينا والمنغلق على نفسه أحيانا. أنا أسمهان الطرزي. أجداد أجدادي لم يحبذوا أبدا أن تتعلم النساء ولو شيئا بسيطا مما هم به ملمون وعارفون. هم يعشقون الأسرار، ويعرفون أن المرأة لها لسان ثرثار، وأنا لست سوى واحدة من نساء الحي الذي نشأت فيه!
سألني المجنون عن الكتاب المنفرد بذاته. قلت له ما أعرف وهو أني لا أعرف عنه شيئا. كان لابد أن يعتقد أني مثل هادي ما شاء الله. المفارقة الغريبة أن المجنون يعرف عن أجدادي أكثر بكثير مما أعرفه أنا.. أنا التي سماني أهلي أسمهان الطرزي!
بالطبع فإني لم أستطع أن أقول للمجنون إن عامة الرجال من أهلي هم أيضا لا يعرفون شيئا يمكن أن يجيب على أسئلته المنهمرة كالمطر. هؤلاء الرجال هم من عامة الناس، ولأنهم كذلك فهم جهال. والجاهل لا يعرف أي شيء حتى لو كان يمشي في وضح النهار، أما الحكيم فعيناه في رأسه، ولهذا يمكنه – بكل بساطة – أن يسلك في الظلام!
أهل لميعة وهي معهم يعتقدون أن جدهم الأكبر يتحكم في كل شيء، لكنه لا يستطيع التفرغ لأي شيء. لهذا السبب فإنه ينيب عنه أعوانه الكثيرين الذين يبلغ عددهم 360 معاونا، يتناوب كل منهم العمل على امتداد أيام السنة، والسنة عندهم 360 يوما، أي أن كل نائب ينوب عن جدهم الأكبر يوما واحدا من كل أيام السنة، لكي يرتب الأمور، وفد يبرع في الترتيب، ولكنه قد يتسبب في وقوع الشر، والجد الأكبر ليس مسؤولا بالطبع عن هذا الشر، لأنه منزه عن فعله! ترى.. ماذا يمكن أن أقوله للمجنون، أنا أسمهان الطرزي؟
حدثني المجنون عما يعتقده أهلي نقلا عن أجداد أجدادي. حدثني عما لم أكن أعرف وليس عما أخفيه، فأنا بالفعل لا أحاول أن أخفي ما أعرفه لو كنت أعرف. قال لي إن أهلي يحرصون أن يكون عددنا ثابتا، لا يتغير بالزيادة أو بالنقصان، فمقابل من يموتون منا يولد أطفال جدد بنفس العدد. قال لي كذلك إن أهلي لا يسمحون لأحد أن يشاركهم فيما يعتقدون، حتى لا يزيد عددهم، وإنهم بما يفعلون قانعون، إنهم لا يحبون ما يفعله أبناء حي رفاعة ولا أبناء حي قاسم، فكل هؤلاء يحبون أن يروا أعدادهم تتزايد باستمرار، وهم في هذا يتنافسون!
لست طفلة صغيرة، لكني أتحول إلى كتلة من الخجل، حين أعرف أن ما أعرفه عن أهلي ليس شيئا يذكر، بالقياس إلى ما يعرفه المجنون ولميعة وآخرون كثيرون. إني أتحول حقا إلى كتلة من الخجل حين أعرف حقيقة قيمة المرأة عند أهلي أجمعين. قيمة المرأة عندنا أنها بلا قيمة! إنها مجرد وعاء لإنتاج الأطفال حتى لا يتناقص عددنا. هذا ما لا يفعله أبناء حي رفاعة هنا في حارة الجبلاوي. صحيح أن الرجل منهم يتزوج امرأة واحدة، لكنه يصونها ولا يخونها، وهو ييسر لها أن تعرف ما يعرفه هو. وفي حي قاسم، يتاح للرجل ويجوز له أن يتزوج أكثر من امرأة، بشرط أن يكون عادلا في حبه لهن، وكلهن مثله تماما، يعرفن ما يعرفه، لكنهن حين يتحولن إلى كتل مكورة سوداء تسير في الشوارع – كما رأيت بعيني – يجهلن تماما أن ما يفعلنه بأنفسهن هو مما يرفضه بل يبغضه قاسم!
لست طفلة صغيرة.
أنا امرأة ناضجة. أنا شجرة مثقلة بالثمار، لكني حرمت نفسي من متعة الحياة ولم أسمح لأي رجل أن يقطف ولو ثمرة واحدة. إن ثماري تعربد في حديقة جسدي. تكاد تتمرد. توشك أن تحتج. إنها تحس بالهوان، لأني لم أمنحها سوى الحرمان. لكن أنوثتي بكل ثمارها أصرت أن تعلن عن نفسها، لا مع رجل من الرجال، بل مع امرأة. آه لو أن المجنون درى بما جرى بيني وبين جولدا. قد أذوب من فرط خجلي. قد أتلاشى لو أنه اكتشف ما حدث. إني أتمنى من كل قلبي ألا يعرف حتى تظل صورتي في خياله هى صورة المرأة الودبعة ذات الصوت الرائق.
قبل الفجر منذ ليلتين، كنت أتهيأ للنوم بعد انتهاء إحدى سهراتنا الحلوة. سمعت طرقات خفيفة على باب الغرفة التي أنام فيها. فتحت الباب بحذر، وإذا جولدا واقفة أمامي. قالت لي همسا إنها تريدني لأمر عاجل، وطلبت مني أن آتي معها لغرفتها. دفعتني المفاجأة للاستجابة السريعة. اصطحبتني وأنا لا أرتدي إلا قميص النوم القصير والشفاف. أغلقت باب غرفتها بإحكام. تحسست شعري، وهي تهمس: لم أستطع النوم رغم أني حاولت. يبدو أن ظهري يؤلمني قليلا. ستقومين أنت بكل رقة يديك بتدليك ظهري إلى أن أرتاح. قبل هذا لا بد أن نشرب نخب صداقتنا، فأنا أخمن أنك ستكونين صديقة جميلة لي وإلى الأبد. شربت من كوبها رشفة واحدة، ثم قربت الكوب من فمي ودعتني لأشرب وهي تمسكه بيدها. استجبت لها والدهشة تسكن عقلي. بعد قليل تخدر العقل. لم يعد مندهشا. أصبح يسبح في محيط لا نهائي من الرغبات الخفية. رأيتها تشرب قطرات على مهل، لكنها لم تبلعها. اقتربت مني. ألصقت فمها بفمي. سقتني القطرات التي اختزنتها لي. لم أمانع ولم أحتج. بادرت لتقبيلي لا قبلة امرأة لامرأة، بل قبلة رجل لأنثى يشتهيها. ظللت أشرب من فمها مرة فمرة فمرات. تلذذت بهذه الطريقة الغريبة في الشرب. أحسست أنه قد آن لثمار جسدي أن تجد اليد التي تقطفها. أدركت وأنا شبه مخدرة أن يد جولدا ستبادر لتحريك الثمار. ستجعلها تهتز أمام عينيها. أرقدتني جولدا على السرير بكل لطف ونعومة. رفعت قميصي إلى أعلى بخفة يد ساحرة ماهرة. فتحت عينيها تماما. استغرقت في تأمل الثمار. تجلت في العينين نشوة عجيبة. طرت فرحا بثمار جسدي. بهدوء عجيب، تجردت من كل ما ترتديه. تجولت مرة ثانية بعينيها في أرجاء حديقة جسدي، وبنفس خفة الساحرة الماهرة وجدتها فوقي. قربت وجهها من وجهي فشعرت بأنفاسها الحارة التي أنستني نفسي تماما. قالت لي: صوتك يهيج كل شهوتي، وقبل أن تهم بتقبيلي، كنت أنا المبادرة. رغم جمالها الأنثوي أحسست أني أقبل شفتي رجل. تأوهت من اللذة حين احتك النهدان بالنهدين. تناولت بإحدى يديها نهدي الأيمن وقبلته، ثم اندفع فمها الجائع ليرضع نهدي الأيسر. توقفت قليلا وهي تنظر في عيني لترى مدى استجابتي لما تفعله. وجدتني مستسلمة للنشوة الجامحة. أحسست أن محراثا يوشك أن يشق الأرض العذراء أو شبه العذراء. أحسست أن يدها التي هبطت إلى أعمق الأعماق قد تحولت إلى محراث، لكنه محراث ناعم ولطيف. أدخلت إصبعين من أصابع يدها فجأة في العمق. وأنا تأوهت، وكاد صوتي يعلو في سكون الليل. انسحب رأسها بعيدا عن وجهي، حيث اتجه إلى هدفه. ظلت تشم العمق. لعقته بلسانها لعقا سريعا، ثم استغرقت في اللعق. ظل جسدي بكل ما يحمله من ثمار يهتز. أما هي فقد ظلت تلعق بلطف حينا وحينا بعنف. وأنا من ألم اللذة أو من لذة الألم شهقت حين دست إصبعا من أصابع يدها في أعمق أعماق ما تحت ظهري. نهضت فجأة واعتدلت لأراها بعيني ولأعود متمددة مرة أخرى ومستسلمة لما قامت هي بأدائه على أجمل وجه، وسرعان ما انطلق من صدرها صوت غريب كأنه صوت رجل عربيد، وتدفق الماء يروي أرضا ظلت عطشى حتى جاء أوان الارتواء.
نسيت نفسي وأنا خارجة من غرفتها، حيث خرجت عارية وقميصي على يدي، وفي أذني يتردد صوتها وهي تقول لي: أنا دائما أحب أن أكون الفاعل لا المفعول!
أحكمت إغلاق باب غرفتي ونمت عارية تماما، لكي أتمتع بالنظر إلى ثمار حديقتي عندما أصحو من النوم.
يا ترى.. هل سيغضب المجنون لو درى بما جرى؟ ربما لن يغضب، بل إنه قد يفرح لأجلي، فهو لا يحب أن يرى أشباح الحرمان وهي تنقض على جسد أي إنسان، امرأة كانت أو رجلا كان!
( 34 )
تظاهر عرفة بأنه مستغرق في النوم، لكنه فتح عينيه بحرص شديد،ليختلس النظر إلى المجنون، وهو يضع أوراقه بكل دقة واهتمام في خزانة خشبية مثبتة بشكل بارع في الحائط. قال لنفسه: صبرا جميلا. لا بد أن أواصل القراءة حين يخرج من الغرفة صباحا أو حتى حين يستغرق في نومه بعد قليل.
دقائق معدودات مرت على عرفة، وكأنها عدة ساعات، ظل خلالها يرصد ويتابع ‘ إلى أن تأكد أن المجنون قد راح في سبات عميق. نهض بحرص أشد مراعيا ألا يصطدم بأي شيء حوله حتى يبقى السكون الشامل على ما هو عليه. وبمنتهى الحرص قام بفتح الخزانة، وبمجرد أن أمسك بالأوراق، أغلق الخزانة من جديد، وتسلل خارجا. إلى أين؟ هل يذهب إلى الصالة أم إلى الغرفة التي تنام فيها زوجته؟ قرر أن الاختيار الثاني هو الأفضل، ضمانا للسرية. تنبهت عواطف حين أضيء النور، تقلبت في السرير،وسألت زوجها عما إذا كان محتاجا لشيء. شكرها، وطالبها بأن تواصل نومها. جلس متوترا على الأرض، ومرت عيناه بسرعة خاطفة على الورقتين الأولى والثانية، وبدأ يتمهل ويتأنى عندما وصل إلى الورقة الثالثة، أخذ يقرأ بتركيز دقيق، بعد أن لمح اسمه مكتوبا. ترى ما الذي كتبه المجنون؟ هذا ما ظل يتابعه بشغف ما بعده شغف.
أسعدتني رحلتي إلى حارة الفرنجة. إنها حارة ظلت تعاني وتتلوى على إيقاع البؤس، لكنها بفضل رجالها تغيرت من سيء إلى حسن، ومن حسن إلى ما هو أحسن. تحولت من حارة تتشابه مع حارتنا البائسة إلى حارة يتباهى بها أبناؤها. أصبح الناس خارجها منبهرين بها، يتطلعون إليها وإلى زيارتها كما لو كانت منارة. أكدت لي رحلتي ما كنت أعتقده. أكدت لي أن العقل الإنساني واحد، رغم اختلاف الناس في ألوان بشرتهم وأفكارهم ولغاتهم. إني أحاول في كل رحلة من رحلاتي أن أبحث عما هو متشابه وعما هو مختلف بين الناس. في هذه الرحلة عرفت حكاية عجيبة، بدا لي التشابه واضحا بين بطلها الذي تتشابه حياته مع حياة عرفة في أمور كثيرة. لم أتعرف على البطل، ولن أتعرف أبدا عليه، لسبب بسيط، هو أنه مات منذ زمان. عرفت تفاصيل الحكاية من الرجل الذي اهتم بتسجيل وقائعها بدقة مفرطة. الرجل الذي سجل ما سجل يدعى باتريك، أما اسم البطل فهو جان جرنوي، وقد اخترت أنا أن أسميه عرفة الإفرنجي، نتيجة لما لمسته من تشابه عجيب بين هذا البطل الذي لا أعرفه والبطل الثاني الذي أعرفه حق المعرفة!
عرفة الإفرنجي ساحر بارع، لكن تجاربه في السحر قادته إلى الجريمة، حولته إلى قاتل. كذلك حال عرفة ابن حارتنا. كلاهما ساحر وقاتل، لكن الفارق بينهما يتجلى في جنس المقتولين على يدي كل منهما. عرفة الإفرنجي لم يقتل ولو رجلا واحدا خلال كل نشاطه في القتل، لكنه قام بقتل ما يزيد على عشر نساء، كلهن جميلات بل فاتنات، وعرفة ابن حارتنا لم يقتل ولو امرأة واحدة أثناء كل ما أقدم عليه من عمليات قتل، لكنه قتل ثلاثة رجال على الأقل! والعجيب أو الغريب أن النهاية العبثية والمرعبة لحياة عرفة الإفرنجي كادت تكون هي نفسها خاتمة حياة عرفة ابن حارتنا لولا أن الله سلم!
توقف عرفة لحظات عن متابعة ما يقرأ. خفق قلبه بشدة وتسارعت نبضاته. لكنه سرعان ما اندفع للقراءة، وهو يسأل نفسه: يا ترى كيف انتهت حياة هذا الرجل الذي يسميه المجنون عرفة الإفرنجي؟!
بحثا عن روح العطر الكامن في أجساد الجميلات الفاتنات، اندفع عرفة الإفرنجي لقتلهن، واحدة بعد أخرى ليس لأنه يشتهيهن، وإنما ليجمع خلاصة الخلاصة من ذلك العطر الكامن في أجسادهن دون أن يكون له نظير، ودون أن يسبق لأنف إنسان أن شمت مثله في العمق والبهاء والروعة. وحينما أدرك في النهاية أنه أصبح قريبا من وجهته، عائدا إلى المكان الذي هجره منذ سنوات فرح فرحا طفوليا، ورأى أن يكافئ نفسه على ما حققه، ففتح القنينة المملوءة بخلاصة الخلاصة من عطر أجساد اللواتي قتلهن، ورش منها على ملابسه وعلى جسده. وكان لا بد أن تفوح رائحة العطر الذي لا نظير له، و هنا اندفع ما يقرب من ثلاثين شخصا من اللصوص والمجرمين ومن الشباب الجانحين المتصعلكين في الليل، اندفعوا جميعا منذ أن شمت أنوفهم تلك الرائحة التي سحرتهم، اندفعوا إلى مصدر الرائحة، اندفعوا ليهجموا على عرفة الإفرنجي، انقضوا عليه وطرحوه أرضا،كل منهم يريد ملامسته، يريد الحصول على جزء منه. هكذا التمعت الخناجر فجأة، لتنغرز فيه وتقطعه ثم هوت الفؤوس والسواطير على المفاصل مهشمة العظام، وخلال دقائق كان قد تمزق إلى ثلاثين قطعة،خطف كل فرد من المجموعة إحداها، منسحبا إلى الوراء وقد ملأه الجشع الممتع ليلتهمها، وبعد نصف ساعة كان جرنوي أو عرفة الإفرنجي قد اختفى عن وجه الأرض دون أدنى أثر! وهنا لابد أن أسأل نفسي: ألم يكن عرفة ابن حارتنا سيلقى مثل هذا المصير الدموي المرعب؟ لقد كاد القتلة أن يقتلوه حين دفنوه حيا هو وزوجته، لكنه نجا بأعجوبة، بفضل عشقه للحياة، وها هو يحاول أن يبدأ من جديد، وأن يواصل تجاربه في السحر، هذا إذا لم يكن اليأس قد أطفأ النور في قلبه!
توقف عرفة عن القراءة، وهو يلهث بشدة، والعرق الغزير يتساقط من جبهته كما لو كان قد قطع المسافة ما بين جبل المقطم والبيت الكبير وهو يجري بأقصى سرعة. نهضت عواطف من نومها. رأته جالسا على الأرض مطرق الرأس. ظنته مريضا. قالت له سأعد لك شايا بالنعناع وأعود بسرعة. سمع عرفة صوت فتح باب الغرفة التي ينام فيها المجنون. حين تأكد أنه قد خرج منها، قام من مكانه مسرعا، لكي يضع الأوراق في نفس مكانها في الخزانة، وخرج بكل هدوء وحذر إلى الصالة الكبيرة.
( 35 )
أين ذهبت جولدا؟ كيف اختفت؟ هل خطفتها عصابة أثناء جولتها الصباحية التي لا تتخلى عنها أبدا؟ هل سافرت وحدها لسبب أو لآخر؟ دخل مدحت غرفتها، لم يجدها، ولم يجد أية حقيبة من حقائبها. خرج جهشان الرفاعي ليبحث عنها في الخلاء المحيط ببيت مدحت، ولما لم يجدها قرر أن يواصل مهمته في البحث. ذهب إلى مشارف حي جبل، لكنه عاد خائبا وهو يلهث. أجهشت أسمهان بالبكاء وهي تؤكد أن جولدا ظلت ساهرة مع عرفة إلى قرب مطلع الفجر في الحديقة. علقت لميعة قائلة: ربما تكون قد أخبرته بما تنويه. رد هادي ما شاء الله قائلا: وربما لم تخبره بأي شيء، وأضاف: للغائب حجته. أبدى مدحت دهشته من جلوس عرفة في الحديقة ليلا رغم أنه لا يحب رؤيتها إلا في النهار. لم يشأ عرفة أن يتورط. أنكر تماما أن جولدا قد حدثته عما يدور بذهنها. قال إنها كانت مهمومة وقلقة، لكنها لم تشرح له السبب. لم يعلق الجنون إلا بمقولة يرددها عادة في بعض المناسبات: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا. نظر مدحت إلى الأرض باهتمام، وانتفض من مكانه بسرعة ولهفة. وجد ورقة صغيرة ملقاة تحت أحد الكراسي. التقطها وعيناه تتسابقان في القراءة. قرأ بصوت مرتفع ومتوتر ما هو مكتوب.. أعرف أني سأتسبب في إزعاجكم جميعا. أنا آسفة لأني اضطررت للسفر لظرف مفاجئ. شكرا لكل من رافقوني في الرحلة. لقد عرفت أشياء كثيرة، وكلها مفيدة. أتوجه بالشكر بشكل خاص لمدحت على حفاوته الجميلة بي وبكل من جاء إلى بيته من رفاق الرحلة.. جولدا.
حاولت أسمهان أن تخفف من حدة القلق. قالت وهي تضحك: ربما تكون قد تذكرت موعدا من مواعيد الحب. أنا أعرفها جيدا. إنها تعشق المغامرات، ولها أكثر من صديق في أكثر من مكان. طالبها عرفة بشكل متوتر أن تتوقف عما تقوله، فلا مجال للمزاح إذا اختفى فجأة إنسان. قال مدحت بنبرة هادئة: أعتقد أن أحدا منا لم يتسبب في مضايقتها، ربما باستثناء المجنون. نظر المجنون إليه نظرة هادئة مبطنة بالعتاب، ثم قال بصوت منغم: إن كيدهن لعظيم!
نهض مدحت من مكانه، قائلا: يبدو أن المجنون يدفعنا كلنا لا للبحث عن جولدا وحدها، ولكن لنتكلم عن جميع النساء، هل هن مظلومات أم ظالمات، وهل هن وحدهن اللواتي يدبرن المكائد أم للرجال نصيب في تدبيرها،وقد يكون أكبر من براعة النساء. ساد الصمت لبعض الوقت، ثم تردد في الصالة صوت حيران:
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
يقول الناس إنك خنت عهدي
ولم تحفظ هواي ولم تصني
يكذب فيك كل الناس قلبي
وتسمع فيك كل الناس أذني
اندمج عرفة في الاستماع للصوت على غير عادته. أحاط رأسه بيديه ليعيش مع نفسه. هزت عواطف رأسها باستنكار واستسلام. التفت مدحت نحو عرفة وقال بإشفاق إن الشك قد يدمر صاحبه. علقت لميعة قائلة إلا إذا كان هذا الشك خصبا فلا شك أنه يفيد صاحبه، بشرط ألا يطول!
قال جهشان وهو يداعب الجميع وأولهم زوجته: أنا لا أحب الشك، طالما أن سارة تثق بي وأنا كذلك أمنحها ثقتي، فأنا أحبها من كل قلبي، وهي -على ما أعتقد – تحبني، لكني أود أن أعرف رأيكم في شك من نوع آخر، إنه الشك المتبادل بين كل أحياء حارة الجبلاوي. قال إسكندر غالي على الفور: إن هذا الشك هو الذي دفعني للهجرة منها وأنا صغير. رد عليه المجنون قائلا: لكنك باعترافك لمست هذا الشك وعشته مرة أخرى في حارة الخزف التي اندفعت إليها،وربما قلت لنفسك: كلنا في الهم شرق!
هل ولد هذا الشك فجأة كأنه نبات شيطاني؟ لا بالطبع، فهو ميراث قديم، قد يختفي تحت السطح حينا، حين تشرق الأنوار في حارتنا كلها، لكنه ما يلبث أن يطفو ويظهر من جديد، حين يمارس الفتوات أدوارهم،ويستأثر كل فتوة منهم بالتسلط على المساكين الذين يجرون وراء أرزاقهم في الحي الذي يدعي أنه يحميه، بينما يكتفي الناظر بالفرجة والمتابعة،طالما أن ريع الوقف يأتيه دون نقصان، وهكذا تتحقق العدالة في النهب والسلب!
يضحك الفتوات على عقول المساكين. يخدرونهم بالحكايات التي يرويها شعراء الرباب عما كان من قديم الزمان. وبالطبع لا بد أن يتلاعب هؤلاء الشعراء، فيما ينشدونه في المقاهي عن أعمال جبل ورفاعة وقاسم. كل شاعر من هؤلاء يروي ما يرويه، حسب أهواء أبناء الحي الذي ينشد فيه،لكي تتعالى صيحات التباهي والفخر بما لم يلمسوه أبدا في حياتهم البائسة والمزرية، لأنه حدث أيام زمان. حتى الجبلاوي الذي لم يشاهده أحد منهم، هم فيه يختلفون. شعراء حي جبل يتباهون بأن حيهم هو حي الجبلاوي المختار، وأبناء حي قاسم يتهكمون ويتندرون على هذا التباهي بالذات، مؤكدين أن الجبلاوي لم يفضل حيا على سواه. هم يعترفون بأنه كلم جبل في الخلاء، وقال له لا تخف، أنا جدك الجبلاوي. هم يعترفون أيضا بما تحدث عنه رفاعة، حين أكد أنه كذلك قد قابل الجبلاوي، لكنه لم يتبين ملامحه بسبب الظلام الكثيف وبسبب رهبة اللقاء. وهم يعرفون تماما أن قنديل خادم الجبلاوي قد التقى مع قاسم لينقل إليه رسالة منه.
قال المجنون إنه عرف خلال رحلاته أن لكل حارة من الحواري القريبة والبعيدة جد كبير، يتذكره الناس هناك بكل تقدير وإجلال، وقد يتشابه أجداد تلك الحواري مع الجبلاوي في بعض صفاته أو جبروته أو رحمته، وهم يشتكون لهذا الجد الكبير مما يواجهونه في حياتهم إذا تدهورت أحوالهم، لكنهم لا يكتفون بالشكوى وحدها، بل يعملون بكل همة وحيوية، لكي يتخلصوا بأنفسهم مما هم منه يشتكون.
قالت أسمهان وهي تضحك: وما الجديد فيما تقولون؟ إني أعرف كل هذا الذي تعرفون، إذ ليس لديكم أسرار مخبأة وراء الأسوار. أما أنا فأعترف لكم بأني لا أعرف شيئا عما دار في عقول أجدادي، لأن المرأة عندنا مسكينة وجاهلة، وليست أهلا لأن تغوص وراء أسرار تتحصن داخل أسوار. وعلى أي حال، فإني متشوقة لسماع رأيكم في موضوع، أشرتم إليه، ثم أغفلتم ذكره أو رأيتم أن تتناسوه. أظن أنكم كنتم تنوون أن تتحدثوا عن كيد النساء، بعد أن اكتشفنا فرار امرأة كانت معنا، لكنها ابتعدت عنا دون مقدمات!
أطلق إسكندر ضحكة صاخبة على غير عادته،وهو يقول: أتعرفون حكاية المرأة التي كانت تخاصم زوجها كلما اشتاقت لأن يضاجعها؟ اكتسى وجه عواطف بحمرة الخجل، أما أسمهان فأجابت، وهي تحاول أن تداري خجلها: إذا كانت الحكاية طريفة وفيها مكيدة أو مكائد، فلا بأس من أن تحكيها. رحب إسكندر بالطلب، وقال: إنها امرأة عاشقة للحب. تتزين. تتعطر. تتثنى ببراعة وهي ترقص، لكن زوجها لم يكن يهتم بهذا كله، إلا إذا تظاهرت بأنها غاضبة منه ولو لأتفه الأسباب. عندئذ يبادر لإرضائها، فيداعبها ويحملها إلى السرير، بينما تظل هي متظاهرة بالغضب إلى أن ترتوي تماما.و قبل أن ترفع رأسها من فوق الوسادة تميل لتهمس في أذن زوجها: قاتلك الله. كلما أغضبتك، تأتيني بشفيع لا أستطيع رده!
قال هادي ما شاء الله إنه لا يرى أن هناك مكيدة في الحكاية، لأن المرأة كانت تطالب بحقها الطبيعي، وليس معقولا ولا مقبولا منها أن تبحث عن شفعاء من الخارج، خصوصا أن زوجها لا يتأخر في إرسال من يتشفع له. ضحك الجميع لا لأن ما قاله هادي قد أضحكهم، وإنما لأنه قال ما قال بطريقة رزينة ورصينة لا تتناسب مع الحكاية.
حاول المجنون أن يقلد طريقة هادي في الكلام، فاعتدل في جلسته، وقال:
جاء الآن دوري في الكلام. إن النساء يختلفن فيما بينهن، فهناك المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك،ويداها قيود. الصالح قدام الله ينجو منها.أما الخاطئ فيؤخذ بها وهناك المرأة التي عيناها حمامتان ترفرفان ليلا في بهاء النجوم. وهناك من لا تحلو لها الحياة إلا إذا دبرت كل ليلة مكيدة، وهناك المرأة التي تكره المكائد لأنها تحب أن تنعم بصفاء الحياة…
تهيأت عواطف للقيام، لكي تنام قبل أن تنفض السهرة التي طالت عن كل السهرات السابقة. قالت وهي تهم بمغادرة الصالة: لماذا تتحدثون عن النساء وحدهن؟ أليس هناك رجال يتفوقون على النساء في تدبير المقالب والمكائد؟ ردت لميعة قائلة: الإنسان إنسان، رجلا كان أو امرأة.
سكت المجنون لحظات، لكنه عاد إلى ما كان عليه من شهية مفتوحة للكلام:
إني أدعوكم لأن تتذكروا معي ثلاث نساء، كلهن معروفات لنا جميعا أو لمعظمنا على الأقل. لولا الأولى ما كان جبل قد استطاع أن يفعل شيئا. أما المرأة الثانية فهي التي حماها رفاعة من القتل، فتزوجها لمجرد أن يحميها، لكنها قابلت جميله بالجحود والنكران، أليست هي التي وشت به وخانته إلى أن تمكن القتلة منه؟ والثالثة امرأة منعمة وثرية ساعدت قاسم اليتيم الفقير، ولولاها لكان مصيره لا يختلف كثيرا عما حاق برفاعة من مصير.
اهتمت لميعة بما قاله المجنون وهي تقول له:
يبدو أنك تدافع عن النساء، فمقابل امرأة واحدة خانت الرجل الذي حماها،ثم ساهمت في قتله، هناك امرأتان أخريان، أخلصت كل منهما لمن عرفته بغير حدود.وأنا الآن متشوقة لمعرفة ما قامت به كل امرأة منهن.
انفتحت شهية المجنون للكلام أكثر من ذي قبل.
قال وهو يتأمل وجه لميعة:
إن المرأة الأولى التي أقصدها هي هدى هانم، زوجة أحد نظار الوقف السابقين ويقول الرجل الدقيق الذي سجل حكايات حارتنا إن هدى هانم رأت طفلا عاريا يستحم في حفرة مملوءة بمياه الأمطار، فمضت تتسلى بمشاهدته إلى أن مال قلبها الذي حرمه العقم من نعمة الأمومة إليه. أرسلت من حمله إليها وهو يبكي خائفا، وتحرت عنه فعلمت أنه طفل يتيم ترعاه بياعة دجاج. استدعت هدى هانم بياعة الدجاج وطلبت إليها أن تنزل لها عن الطفل فرحبت بذلك غاية الترحيب. وهكذا نشأ هذا الطفل الذي لم يكن سوى جبل في بيت الناظر وفي رعاية حضرته، ينعم بأسعد أمومة في الحارة جميعا، وأدخل الكتاب فتعلم القراءة والكتابة، ولما بلغ رشده ولاه الناظر إدارة الوقف، ثم كان ما كان من أمر جبل الذي نعرفه جميعا.
– وماذا عن المرأة الخائنة؟
– إنها ياسمينة التي شوهدت وهي تخرج سكرانة من بيت الفتوة الذي يعاشرها معاشرة الأزواج، فتجمع كثيرون ممن يتحدثون في العلن عن الشرف، وقرروا قتلها، غسلا للعار. وهنا تقدم رفاعة ليعلن للجميع أنه سيتزوجها، وسيعاقبها بنفسه على ما اقترفته، وفي الحقيقة أنه لم يقدم على ما أقدم عليه إلا صونا لحياتها، لكنها انتهزت فرصة انشغاله الدائم بتخليص أجساد الناس من العفاريت، فعادت إلى سيرتها الشائنة مع نفس الفتوة، ولم تكتف بهذا، بل وشت برفاعة، وأخبرت من ينوون قتله بنيته المبيتة للهرب منهم، وكان ما كان من مقتله الذي نعرفه جميعا، رغم اختلافنا في طريقة قتله، وفي أي مكان ووري جسده التراب. إن أهله – مثلا – يقولون إن الجد – الجبلاوي قد حمل جسده ودفنه بنفسه في حديقته، بينما يقول آل جبل إن جثته ضاعت في الخلاء!
– هل أزعجك لو طلبت منك أن نعرف منك ما فعلته المرأة الثالثة؟ وحتى لو كنت سأزعجك فذلك لأني أحب ألا تختتم كلامك بالحديث عن امرأة خائنة. هيا.. حدثنا يا مجنون عن الثالثة الوفية!
– الوفاء ليس نادرا كما أن الخيانة هي الأخرى ليست نادرة. لهذا لا بد أن يتواجه الضدان، طالما أنه يوجد على الأرض إنسان.
– أنا أريد المعرفة، ولكن دون فلسفة!
– لماذا هذه القسوة يا أيتها الرقيقة؟ أنا لم أخض في بحر الفلسفة. كنت أتحدث عن طبائع الناس ومدى اختلاف إنسان عن سواه. عموما فإن المرأة الثالثة هي السيدة قمر، وهي التي بادرت بالتفكير في زواجها من قاسم، وحين جاء أحد أقاربها ليحاول ثنيها عن عزمها،مؤكدا أن كل فتوة يحلم بالزواج منها، قالت له: أنا لا أحب الفتوات. لا أريد أن أتزوج من أي واحد منهم. كان أبي رجلا طيبا، وكم قاسى من عنتهم حتى أورثني كراهيتهم، أما قاسم فهو رجل مهذب، لا ينقصه إلا المال وعندي منه الكفاية. هكذا تزوجت قمر بكامل إرادتها من الرجل الفقير الذي كان يرعى غنمها هي وأغنام سواها من الموسرات. ليس هذا هو المهم. المهم أنها أول من صدقته عندما حدثها عن رسالة الجبلاوي التي أبلغه إياها قنديل، ولولا أنها شجعته وساندته لما كان قدر له أن يبلغ الرسالة لأحد. لولا هذه السيدة لكان قاسم قد قتل كما قتل كثيرون ممن سبقوه.
قال مدحت، موجها كلامه للجميع:
– سهرتنا طالت أكثر مما يحدث كل ليلة، كل هذا بسبب لميعة والمجنون. أعتقد أن علينا الآن أن نتناول طعام العشاء الذي يبدو أنه قد برد، وربما يحتاج لتسخين.
رد جهشان، قائلا:
– على أي حال.. لابد أن نأكل حتى نشبع، فربما يكون هذا الطعام هو العشاء الأخير!
– لماذا يا جهشان؟ هل تقصد أن تضايقنا في ختام سهرتنا الجميلة والطويلة؟
– لا أقصد شيئا من هذا بالطبع، لكنا كنا قد اتفقنا أن نسافر غدا أو بعد غد على أقصى تقدير. لا تنس أن لدينا جميعا أعمالا لا بد أن نعود إليها، و نيابة عن كل من سعدوا بالحفاوة الجميلة يسعدني أن أتوجه بالشكر الجزيل لك على كل ما حظينا به هنا من كرم ومحبة، وأتمنى أن تتكرر زياراتنا في المستقبل.
أوشكت تباشير الفجر أن تبوح بما تحمله من بهاء، فتهيأ الجميع للنوم بعد سهرة مطولة، وتدافعوا إلى غرف النوم، لكنهم سمعوا فجأة ضجيجا هائلا وهادرا، ظل يترامى إلى مسامعهم، قادما من أقصى الخلاء البعيد!
( 36 )
ليس على الأرض السلام إلا في صالات البيوت الجديدة، والبعيدة عن المناكفات والصراعات والنفوس المشحونة بالقلق والمهيأة للانفجار في أية لحظة ولأتفه سبب. على الأرض السلام في الصالة الكبيرة في بيت مدحت. لقاء تلو لقاء، وسهرة تعقب سهرة، ولم يتكدر صفو الوئام إلا مرات لا تكاد تذكر. هنا تلاقى الجميع من أبناء حي رفاعة وقاسم ومن بعض الحارات القريبة من حارتنا،هنا تلاقى الجميع، وكأنهم يحتفلون بقدوم الربيع، حيث الحدائق تهدي الناس أجمل وأزهى ما لديها، دون أن تفرق أو تميز أحدا عن أحد.
الذين اندفعوا للكلام لم يعدموا مستمعين لهم، وسرعان ما تتبدل الأدوار حيث ينصت الذين تكلموا للذين كانوا يستمعون.ولم يتلبد الجو إلا قليلا. لكن كل الذين تكلموا أو أنصتوا لا يستطيعون أن يتكلموا ببساطة ولو مع أضعف فتوة من بين الفتوات. لا يستطيعون أن يعدلوا كرسيا مقلوبا في الشارع. لا يستطيعون إلا الوقوف في الشارع للفرجة على صفعات تنهال على قفا مسكين أو على ركلات تجود بها قدم فتوة على مؤخرة امرأة بائسة. لا يستطيعون إلا أن يأكلوا أو يشربوا أو يدخنوا، وهذا أضعف الإيمان!
اندلع خبر غير متوقع، وظل يسري كالحريق. هكذا عرف الجميع سر الضجيج الهائل والهادر الذي ترامى إلى الأسماع. لم يعد سرا خفيا ما جرى في بيت الناظر القريب من البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي قرب خلاء جبل المقطم. حادثة دموية مروعة وقعت في البيت. من القاتل ومن القتيل؟ الحكاية باختصار أن الناظرقدري تهيأ منذ إطلالة الفجر للخروج إلى الشوارع مع حشد من الأعوان والفتوات والمنافقين. ارتدى الناظر أفخر ما لديه، وهو ينوي أن يخرج لاستعادة ما كان له من هيبة قديمة عند الناس. وقف متباهيا في بهو البيت، وأحاط به من حضروا مبكرا لكي يكونوا معه في صدارة الموكب. وفي لحظة خاطفة كالبرق، اندفع شابان ممن يتقدمون الفتوات في مواكب الأفراح نحو الناظر الذي تصور أنهما سيرجوانه أن يحقق لهما مطلبا عاجلا. فجأة لمع خنجران وراحا يؤديان مهمتهما الحادة. تحول جسد الناظر إلى نافورة تتدفق منها الدماء، مندفعة نحو وجوه القريبين منه. حالة من الذهول أطبقت على الواقفين أجمعين. ارتفعت صرخات النساء اللواتي اندفعن من داخل البيت إلى البهو. خدشت الصرخات بهاء الفجر. هذا هو الفجر الدامي. خرج النائمون من بيوتهم. اكتشف بعضهم أنهم خرجوا بملابس النوم. وبدلا من استعداد الناظر للخروج متباهيا، أصبح واجبا أن يتهيأ الحاضرون ومن ظلوا يتوافدون تباعا، لإعداد الجثة الغارقة في الدماء للخروج النهائي من البيت، بعد أن تمكن الشابان اللذان استطاعا الفرار أن يخرجاه من الحياة ذاتها، دون أن يتحقق له ما كان يتمنى أن يفعله عرفة من أجله، بفضل ما أتقنه من سحر، لكي يظل ينعم بالحياة من غير أن يتبعه هادم اللذات كالظل.
لم يستطع الفتوات أن يبعدوا الناس الذين تجمعوا واحتشدوا حول أرجاء البيت. فقد احتشد المتسولون بثيابهم الرثة المتهرئة، وتجمع الساهرون الذين خرجوا من المقاهي مسطولين، والكلاب تبارت في النباح. ولم يصدق أحد أن ما جرى قد جرى. ناظر الوقف بجلالة قدره يخر صريعا داخل بيته المحاط بأقوى سور. ناظر الوقف يسقط غارقا في دمائه أمام الأعوان والفتوات والمنافقين!
صرخ أحد الفتوات في المحتشدين الذين تشكلت منهم حلقات متلاصقة. طالبهم بأن يبتعدوا ويرجعوا للوراء، إلى أن تكتمل إجراءات تشييع حضرة الناظر القتيل. لم يبتعد سوى قليلين. هذا يوم استثنائي لا يطاع فيه لفتوة أمر!
بعد ثلاث ساعات، ارتفعت صرخات النساء من جديد إيذانا بخروج موكب الجنازة. الأعوان والفتوات تقدموا الموكب، وكل منهم يتلفت حوله يمينا ويسارا، خوفا من مفاجآت يقوم بها شبان آخرون، فتتكرر أحداث اللحظة الخاطفة كالبرق. بالطبع فإن الموكب لم يتمهل، فالكل يتعجل، ويتمنى ألا تحدث مفاجآت أخرى مروعة. وكالبرق اندلعت إشاعة قوية، لم تقلق إلا الذين يعنيهم الأمر وحدهم. خلال سير الموكب تناقلت الشفاه ما أكده بعض المتسولين. هؤلاء قالوا إن حنش قد اندس بين المشيعين، وظل يسير لمسافة ليست قصيرة، ثم اختفى كأن الأرض تحته قد انشقت وابتلعته. قال آخرون إن حنش لم يكن وحده. كان معه شبان ممن هجروا الحارة إلى الخلاء منذ أن قيل ما قيل عن مقتل أستاذه ومعلمه عرفة.
أحد المتسولين أكد أن حنش دفعه بكتفه ليفسح المجال لحركة قدميه، عندما اشتد التدافع والتجاذب بين المشيعين. قال له رجل يمشي بجواره: يا غبي.. اخرس. ستجلب لنا مصائب نحن في غنى عنها. يكفينا ما نحن فيه. همس رجل آخر: ما فعله حنش شجاعة فائقة. رد عليه صوت يتجشأ: هذه ليست شجاعة، بل وقاحة! تساءل صوت يحب الدعابة حتى أثناء تشييع الجنازات: لو قبض أحدنا على حنش، فلن يحصل على أية مكافأة، بعد أن راح الرجل الذي وعد بأن يدفعها!
ما العمل؟
في الليل، توافد المعزون المقربون ومعهم الفتوات من كل حي. وبعد أن انفض سرادق العزاء الكبير خارج البيت، تجمعوا في البهو، ليتداولوا فيما يفعلون، ومن الذي يمكن اختياره ليخلف القتيل الطيب العادل، ويتولى من بعده حمل أمانة الوقف على كتفيه، ويا لها من عبء!
ظلت المداولات ساخنة وكأنها لا تريد أن ترسو على بر،وكلما ارتفعت الأصوات قال أحدهم يا جماعة.. حاولوا خفض أصواتكم احتراما للناظر الذي شيعناه ودفناه. وحين بدا أن قرار اختيار ناظر جديد أصبح متعسرا جدا، ضرب أحدهم الطاولة بكفيه، وقال: جاءتني فكرة، أعتقد أنها ستروق لنا جميعا. ما رأيكم في اختيار حفيد الناظر، لخلافة المرحوم جده؟
عدة دقائق مرت، ثار خلالها لغط ما بين قائل هذا اختيار حكيم، وقائل إن الاختيار غلط في غلط.ومرة أخرى ضرب أحد الأعوان على الطاولة بكفيه، وقال:
اسمعوني، فأنا لم أتكلم بعد حتى الآن. في رأيي أن الأفضل لنا جميعا أن نختار كمال حفيد حضرة الناظر الراحل.
تزاحمت التعليقات وتناثرت الأسئلة.
– كمال هذا شاب طائش!
– والأدهى من ذلك أنه مغرور.
– لكن مصالحنا لن تتأثر إذا وافقنا على اختياره!
– لماذا؟
– لأنه ضعيف الشخصية،ومتبلد وأهوج.. ويمكننا إذا شئنا أن نجعله يمشي على العجين دون أي لخبطة!
– وإذا دفعه غروره للتعرض لمصالحنا؟
– لن يستطيع أن يتعرض لأي واحد منا، لأن رقبته ستكون في أبدبنا.
– اتفقنا، بشرط أن يتذكر هو دائما أنه مجرد بالونة منفوخة وجوفاء!
– نعم.. اتفقنا.
لم يكن المتزاحمون حول بيت الناظر قد انفضوا بعد. كل واحد منهم يتساءل أو يسأل عن الناظر المرتقب. بعد طول ترقب، خرج من البهو أعوان الناظر الراحل، يتوسطهم الأكبر عمرا،وأرهف المتزاحمون آذانهم، فساد صمت يشبه الصوت الذي يسبق العاصفة.
رفع الأكبر عمرا يده،ملوحا بها يمينا ويسارا في الهواء،ثم قال:
– رحم الله حضرة الناظر قدري. ستظل سيرته العطرة نبراسا لنا حتى بعد أن فقدناه. كان رجلا حكيما. يزن الأمور بمنتهى الدقة. نحن سنسير على نهجه الذي انتهجه، وعلى نفس الطريق الذي لم يتردد في السير فيه. ولكي نظل دائما نتذكره، فإننا اخترنا حفيده الشاب الذكي والمتواضع لكي يكون ناظر الوقف الجديد. اخترنا لكم حضرة الناظر كمال، وأختم الآن كلمتي بما أريد أن ترددوه معي لأنه سيكون شعار حارتنا:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسما
بدأ المتزاحمون يتفرقون، وهم يلغطون ويتهامسون، وقال أحد الشبان، والدموع تكاد تفر من عينيه: أما أنا فسأردد ما سمعته من قبل..
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد
ظل المجنون نائما دون أن يهتم بأن يصحو مبكرا، ليعرف سر الضجيج الهائل والهادر الذي ترامى إلى الأسماع. اضطر للنهوض من السرير عندما سمع طرقا متواصلا على الباب الجانبي لبيت مدحت. هرع إلى مصدر الصوت، وفتح الباب. وجد أمامه حنش واقفا في حالة توتر شديد. سأله بلهفة عن عرفة، فأخبره أنه كان ينام بجواره، لكنه لم يجده بعد ذلك. سأله عما إذا كان قد خرج من البيت، ورد المجنون إنه ليس متأكدا. أخبره حنش بما جرى من مقتل الناظر قدري في بهو بيته، وباختيار حفيده كمال ناظرا جديدا مكانه. قال مستهزئا, ذلك لأن كمال خير خلف لجده الذي سلف. وسكت حنش لحظات، بدا خلالها مترددا. قال له المجنون أهذا كل ما لديك؟ أجابه قائلا: أرجوك أن تبلغ عرفة إذا رأيته أن أهالي الضحايا الذين دفنتهم الصخور تحتها قد تجمعوا متجمهرين في نفس مكان الكارثة، صرخ كثيرون منهم: أين أنت يا جدنا؟ لماذا هجرتنا كأننا لسنا من أحفاد أحفادك؟ هل يحق لك أن تتخلى عنا، حتى لو كنت مشغولا آناء الليل وأطراف النهار؟ إنك لم تمت، لكنهم حجبوك عنا حتى لا ترى ما يجري. إنهم يستغلون اسمك في كل شيء. هذا ما أمرنا به الجبلاوي، وهذا ما ينهانا عنه. يا جدنا.. فظيع أمر ما يجري – وأفظع منه أن تدري.
قال حنش إن كثيرين جاءوا متحمسين، ليعلنوا تضامنهم مع هؤلاء المنكوبين. سأله المجنون: هل تعرف أحدا منهم؟ قال ببساطة واعتزاز: أعرفهم جميعا، واحدا واحدا. إنهم الشبان المخلصون لذكرى عرفة، لكني في الحقيقة تهورت بل ربما أكون قد جننت مثلك! سأله المجنون بقلق: ولماذا تهورت؟ وكيف؟ قال بهدوء: لقد أخبرتهم بما لم يكونوا يعرفون. قلت لهم إن عرفة حي يرزق وسيأتي لزيارتهم قريبا جدا. وطبعا تعالت صيحات البهجة مدوية في أرجاء جبل المقطم. لقد أردت أن أزيح عن نفوسهم ما أحسست أنه يطل من عيونهم. أردت أن أزيح الهم والغم وأعراض اليأس حتى لا يفقدوا الأمل بالآتي الذي طال انتظاره.
سكت حنش قليلا، ثم مد يده ليصافح المجنون بحرارة، مستأذنا في العودة من حيث جاء، وقال وهو ينصرف: أوصيك أن تروي لعرفة ما سمعته مني بمجرد أن تراه.
عاد المجنون قلقا وحزينا إلى الغرفة التي خرج منها. عاد وهو يردد بأعلى صوت ما سمعه ذات زمان من أغلى أصحابه الغائبين: رعب أكبر من هذا سوف يجيء!
( 37 )
قبل أن يهم المجنون بمغادرة البيت الجديد لمدحت الرفاعي، أدرك أنه سيكون آخر المغادرين. لا أحد في البيت. اختفت الأصوات التي ظل يسمعها في كل سهرة. كم أطربته وهي تتغلغل في وجدانه. أين السهرات الجميلة؟ كلها راحت مع عودة الضيوف إلى حاراتهم التي جاءوا منها. حتى مدحت نفسه خرج مندفعا ليذهب إلى بيته القديم في حي رفاعة. كان لابد أن يفعل ما فعل، لكي تطمئن بناته إلى وجوده معهن، حين يداعبهن وينفض عن قلوبهن البريئة أشباح الخوف نتيجة فقدان الأمان. عرفة وعواطف خرجا كذلك من البيت. متى وإلى أين؟ ليس يدري! لم يبق سواه. أصبح وحيدا وبعيدا عن الأصدقاء. أحس بالوحشة وهي تفرد أجنحتها السوداء في كل الأرجاء.
قرر الجنون أن يفعل ما يفعله عادة في نهاية كل رحلة من رحلاته. قرر أن يقوم بجولة أشبه بمراسم الوداع. ذهب لتفقد المطبخ. كل شيء مرتب على أحسن ما يكون. تذكر عواطف وتمنى لو كانت أمامه الآن ليشكرها من كل قلبه على جهدها المتواصل طيلة ما مضى من أيام. قام بفتح أبواب غرف النوم، واحدة تلو أخرى. كلها مرتبة، ولا أثر للفوضى. الاستثناء الوحيد واضح في غرفة واحدة لا أكثر. الغرفة التي ظلت جولدا تنام فيها قبل فرارها الغريب أو المريب. في الصالة لاحظ وجود عدة أوراق صغيرة. التقطها ليقرأ ما فيها فيما بعد. عاد إلى الغرفة التي ظل ينام فيها وحده أحيانا أو مع عرفة في بعض الأحيان. قام بترتيب مفارش السرير. اكتشف تحت وسادته مجموعة أوراق. التقطها وضمها إلى سواها.
استقر رأيه بعد بعض التردد أن يجلس في الحديقة، لكي يقرأ الأوراق دفعة واحدة. آه.. هنا كانت تجلس لميعة إلى جواره. تذكر نظرات عينيها حين قطف لها من الحديقة زهرة فل. وهذا كرسي أسمهان. لم يكن يجاملها حين أكد لها أن صوتها رائق وجميل. وهناك عند اليسار جلس عرفة مع جولدا رغم أن الوساوس تجتاحه إذا جلس قرب أية حديقة في الليل. هو الآن وحده تماما.
من فرط إحساسه بالوحشة، تمنى أن تؤنسه الكلمات المكتوبة حين تنطق بما تخفيه. أليست الكلمة إنسانا ناطقا، يمكنه أن يعبرعما في الأعماق؟!
أمسك أول ورقة من الأوراق الصغيرة. قربها من عينيه. قرأ: أنا هادي ما شاء الله. أكتب لك قبل مغادرتي لحارتكم، لأشكرك على تجاوبك معي ومع غيري خلال المناقشات التي دارت في كل سهرة.أدعوك لزيارة حارتي، ولكن ليس الآن، لأني لا أستطيع أن أضمن أن تعود سالما. القتل عندنا في حارة الطوفان أصبح عملا عاديا وروتينيا. قد يقتلك قاتل لمجرد أنه يسألك عن اسمك فتقول له اسمي عمر. قاتل آخر قد يقتلك إذا عرف أن اسمك علي. وللقتل عندنا مدارس. هناك مدرسة تفصل رأس الإنسان عن جسده. هناك مدرسة أخرى تقطع أجساد المخالفين بالسواطير والمناشير. أكرر دعوتي لك ولكن ليس الآن.
ورقة ثانية تقول: سأظل أتذكرك وأتذكر زهرة الفل التي قطفتها من أجلي في ليلة مرصعة بالنجوم، وتراءى لي نجم السعد ناصعا ولامعا… لميعة.
انتعشت روح المجنون، ومضى ليقرأ بقية ما نطقت به الأوراق الصغيرة، واندفع مشتاقا ليمسك بمجموعة الأوراق التي وجدها تحت وسادته. إنها رسالة إليه، وممن؟ من عرفة..
لم أشأ أن أبلغك بما اتخذته من قرار يتعلق بمغادرتي لهذا البيت الجميل. خشيت أن تنهاني عنه، وخشيت كذلك أن يمنعني حبي لك من أن أنفذ ما قررته إذا أخبرتك وجها لوجه بما أنويه. لقد أحببتك منذ لقائنا الأول، لأني أحسست أنك تريد أن تساعد سواك لا بالكلام، وإنما بما تستطيع أن تفعله. أنت الذي قدتني إلى المغارة في الجبل، دون أن تهتم بما قد يواجهك من مخاطر. وأنت الذي أقنعت صديقك مدحت بأن أقيم أنا وزوجتي في بيته الجديد. شعرت بالأمان حقا، لكني أعترف بأني ظللت خائفا من حديقة البيت في الليل، فقد يتسلل منها من يقتلني ليلا. عرفت منك ومن ضيوف مدحت ما لم أكن أعرف، لا لأني لست محبا للمعرفة، ولكن لأن حارتنا التي انغلقت على نفسها لا تتيح لنا حرية أن نعرف سوانا، ولا أن نتعرف على ما يجري في الحواري البعيدة بل القريبة من حارتنا.
أنت إنسان واضح، بل فاضح لنفسك. أدركت منذ بداية لقاءاتنا أن وجهك مرآة لقلبك. إذا حزن القلب يتكدر صفو المرآة، وإذا ابتهج تكاد المرآة تشع صفاء ما بعده صفاء. وأنت لم تخبيء عني سرا من أسرارك. حدثتني عن مغامراتك خلال رحلاتك. شرحت لي ما واجهته من مصاعب أثناء غيابك الطويل عن حارتنا. حدثتني عن أوفي أصدقائك الذين عرفتهم وأحببتهم. قلت لي إنه أصغر منك في العمر، لكن توارد الخواطر بينكما جعلك تشعر أن لكما روحا واحدة، لكنها موزعة بين جسدين. أتذكر أنك ضحكت حين قارنت بين بدانة صديقك ونحافة جسمك. قلت إن الروح هي الأساس، أما الجسدان فهما مجرد هيكلين تأوي إليهما الروح! حدثتني كذلك عمن عرفتهن من النساء. حدثتني كثيرا عن نوارة التي ظلت تؤنس قلبك كلما ضاقت بك الدنيا. حدثتني عن كثيرات سواها. عن الخائنات، وعن المخلصات، عن المتقلبات تقلب الأمواج الهائجة، والهامدات الساكنات كالمستنقعات.
حدثتني طويلا عن الحواري البعيدة عنا. قلت لي إن الناس هناك يعرفون كل كبيرة وصغيرة عنا، أما نحن فإن نظار الوقف يبرعون في إخفاء ما لا بد أن نعرفه عن هؤلاء الناس، لكي يريحوا أنفسهم مما تجلبه المعرفة معها، فهم دائما يتخوفون من كل جديد، ويتصورون أنه يهدد مصالحهم أو يقوضها من أساسها. حدثتني عن الحارة الكبيرة الضخمة التي سميتها أنت حارة النمل الأصفر، لأن أهلها يستعصون على الإحصاء بسبب كثرة أعدادهم. حدثتني عن حارة أخرى لكنها صغيرة، والماء يحيط بها من كل جانب، وهي التي سميتها حارة النحل، لأن أهلها لا يتعبون من كثرة العمل، مؤكدين أن الشمس تأتي ومعها في كل يوم ما هو جديد ومفيد لهم ولغيرهم. وحدثتني عن حارة ملأى بالعجائب والغرائب، وهي حارة تضم أحياء كبيرة، وربما تزيد مساحة حي واحد منها عن مساحة حارتنا كلها، وأظن أنك سميت تلك الحارة اسما غريبا أضحكني، فقد سميتها حارة البقرة، لأن حيا كبيرا من أحيائها يعشق الأبقار، وقد يقاتل إذا عرف أن أحدا قام بذبحها.
قلت لي أيضا إن الناس في تلك الحواري البعيد يحترمون أجدادهم القدامى ويجلونهم، لكنهم يعتمدون في حياتهم على أنفسهم، ولا يترقبون أوقافا يمكن أن توزع بينهم، أما نحن فقد مكثنا طويلا ونحن ننتظر أن يوزع علينا جدنا الجبلاوي ولو بعض عطاياه من خيرات أوقافه التي نسمع عنها ولا نرى منها شيئا، وقد علمنا الانتظار أن نتواكل، حالمين أو سكرانين بما قد يأتي.
أتذكر أني سألتك عما سمعته عن أجداد هؤلاء الذين يعيشون في حواري النمل الأصفر والنحل والبقرة، فقلت لي إنهم كثيرون، لكن أشهرهم جودة المستنير الذي تتشابه حياته مع حياة رفاعة عندنا. لقد ولد جودة مثلما ولد رفاعة تماما. كلاهما ولدته أمه دون أي دنس، لكن جودة سبق رفاعة في الميلاد. والجميل عند كل هؤلاء الناس أنهم يفعلون الخير لمجرد أنه خير، وليس لأنهم ينتظرون ثوابا من جودة أو من سواه من أجدادهم،وهم يحاولون ألا يتسببوا في وقوع الشر ‘ لأنهم يعرفون أنه شر، وليس خشية من عقاب مخيف يحيق بهم!
الأهم من كل هذا ما أكدته لي أكثر من مرة. أتذكر جيدا أنك قلت لي إن تجاربك في السحر يا عرفة تجارب مهمة، لكن السحرة في الحواري البعيدة قد توصلوا إلى ما يتفوق على كل تجاربك التي تفخر بها رغم أنها أصبحت عندهم أقرب إلى لعب الأطفال! لقد كاد هذا الكلام الذي ظللت تؤكده لي يتركني فريسة للإحباط واليأس، ولم يخفف عني سوى تأكيدك على ضرورة أن نعمل، لأن اليأس ليس عملا، كما أن التواكل لا يثمر أملا.
من ناحيتي أنا، أريد أن أصارحك بما في قلبي دون أن أضايقك. أنا أعرف أنك تعرف أن أهل حارتنا لا يتذكرونك. الذنب ليس ذنبهم ولا هو ذنبك. الذنب ذنب الغياب الطويل على امتداد سنوات. وإذا كان أهل حارتنا لا يتذكرونك، فإن أهل الحارة التي أقمت فيها طويلا ينكرونك، فلست واحدا منهم. كثيرون منهم رأوا فيك وافدا غريبا، وهكذا تجرعت علقم الغربة مرتين، مرة بسبب آفة النسيان في حارتنا، ومرة بسبب ما انهال عليك من أشواك النكران من كثيرين ممن أقمت بينهم.
هنا وهناك عملت مخلصا، لكي تساعد سواك ولكي تحاول إزاحة الظلم عن المظلومين ورفع الاضطهاد عن أكتاف المضطهدين، لكنك لا تملك سوى قلمك. ماذا يفعل القلم في مواجهة النبوت أو الخنجر أو السيف؟!
قد نلتقي مرة ثانية، وربما يبخل الزمان علينا بلقاء جديد. قلبي معك.
( 38 )
آن للمجنون أن يغادر، عائدا إلى بيته الذي هجره طويلا. قام من مكانه المفضل في الحديقة. دخل البيت الذي ضم الضيوف على امتداد ليال وأيام لا تنسى. تفقد الأشياء. أغلق باب كل غرفة بدقة وإتقان. امتلأت حقيبته بالمفاتيح التي سيسلمها لمدحت فيما بعد. ألقى نظرة أخيرة على الصالة الكبيرة. مرق شريط سريع في ذهنه عما كان. أغلق الباب الخارجي، وخرج ليفتح باب الحديقة، بعد أن قطف لنفسه زهرة فل. أطلت عليه هالات النور الرقيقة وهو ينظر إلى السماء. إنه الفجر الجديد. تمنى ألا يكون فجرا داميا مثل الفجر الذي سبقه.
هو الآن في مواجهة الشارع. سيمشي في الخلاء. لن يرى أحدا إلا ظله الخافت وهو يتبعه. ستتجول عيناه في بيوت حي جبل شبه المهجور. سيرى في شوارع حي رفاعة نساء يتركن لشعرهن حرية أن يستريح على أكتافهن، ويتركن للنسمات حرية العبث ببعض الخصلات الجميلة. وسيرى الذعر يطل من شرفات بعض العيون. وسيضطر اضطرارا لأن يمشي في شوارع حي قاسم بقرب الكتل المكورة السوداء، وسيلاقيه رجال يطلقون عليه وابلا من نظراتهم المشتعلة بما فيها من شك أو كراهية، سيحاول بالطبع أن يتجنب نظراتهم، حتى لا يتعكر مرأى النهار في عينيه. قد يضحك دون صوت وهو يرى إلى أي حد يتفنن هؤلاء الرجال في ترتيب شعر ذقونهم ولحاهم. ربما يتردد في أعماقه صوت حكيم قديم:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟!
انطلقت منه- دون قصد- ضحكة ساخرة مدوية، وهو يتذكر أمثال هؤلاء الرجال الذين يذهبون إلى بيوت الراقصات، ليقنعوهن بأن يتحولن إلى كتل مكورة سوداء مقابل دفع أموال لا بأس بها لكل راقصة منهن، وعليهن إذا وافقن أن يبحثن عن نساء أخريات لإقناع كل منهن بأن تتحول إلى كتلة مكورة سوداء، لكن المثير والغريب أن بعض الراقصات يعدن من جديد إلى مزاولة المهنة، لأنهن قد أنفقن ما حصلن عليه من أموال بغير حكمة ولا تدبر أو تدبير،و دون أن يدركن أن القناعة كنز لا يفنى، وكان واجبا عليهن أن يعرفن أن الحياة ذاتها ليست دارا للبقاء، وأن المال ليس من زينتها المستحبة والمفضلة!
رجال آخرون تذكرهم المجنون. إنهم أولئك الذين يدربون الأولاد على صناعة الموت، أو على عدم التشبث بالحياة واغتنام الفرص التي ستسنح لهم عندما يهجرون ملذات الدنيا المغرية والفانية، خصوصا أن كل ما على الأرض إلى زوال.
وهناك رجال ليسوا من هذا الطراز أو ذاك. إنهم أولئك الذين يؤكدون أن المال والنساء زينة الحياة الدنيا، لهذا يسرقون في السر أو في العلن، ويعلمون أولادهم كيف يقتدون بهم باعتبارهم مثلا أعلى لهم، ولهذا نراهم أو نسمع عنهم وهم يتحرشون بالنساء، ويغتصبون المرأة التي لا تستسلم لنزواتهم وشهواتهم، وإذا خافوا من الفضائح فلا بأس من أن يأمروا أعوانهم بتنفيذ العقاب، وأهونه الحرمان من الحق في التمتع بالحرية في الحياة، وأشده القيام بإلغاء الحياة ذاتها دون تردد أو إبطاء.
ولكن أين ذهب عرفة؟
لماذا غادر البيت الآمن؟
هل اختل عقله، فقرر أن يهجر زوجته، لينطلق وحده، باحثا عن سحر جولدا الذي كاد يفقده صوابه؟
هل وشى به الواشون عند أعوان الناظر الجديد البعيد عن الكمال؟ هل تم القبض عليه هو وزوجته عواطف التي تطيعه حتى لو أخطأ في حقها؟ لو قبضوا عليه هذه المرة فإن خروجه من الحفرة لن يتكرر، لأن القتلة لن يتركوه يفلت، وقد يستفيدون من خبرات حارة الطوفان، وبدلا من إلقائه حيا في حفرة جديدة فإنهم سيبادرون لتقطيع جسده بالسواطير وبالمناشير.
أين ذهب عرفة؟
هل خطفته عصابة متخفية في حي جبل، ليعرف أفرادها إلى أية درجة قد وصلت تجاربه في السحر؟ وقد يكون من المفيد لهم أن يستغلوا براعته ومهارته في الميدان الذي عشقه من كل قلبه.
هل تمكن عرفة من الاختفاء في مكان ما، لكي يظهر فجأة قبل ظهور الفرج الذي يترقبه هادي ما شاء الله؟
أمنية نورت قلب المجنون. يا ليتها تتحقق. آه لو كان عرفة في طريقه الآن إلى الخلاء قرب جبل المقطم، بالتأكيد فإن حنش سيكون أول الفرحين، سيمطره بالقبلات، وسيكون له لقاء بل لقاءات مع الشبان المتحمسين المترقبين الذين يتأرجحون ما بين نور الأمل وجحيم اليأس، وقد تبدأ مرحلة جديدة، قد ينتصر عرفة الساحر على الناظر الجديد، حفيد الناظر الفقيد، وقد تختفي الكتل المكورة السوداء من الشوارع لكي تكتسي بالبياض والإشراق، ولن يكون المجال مفتوحا أمام الذين يسرقون بحجة أن المال زينة الحياة،ولا بد لهم أن يحصلوا عليه، حتى لو سرقوه!
أنت الآن طريد يا عرفة.
لاتهتم.
لا تهتم حتى بحكايات الذين تم طردهم أيام زمان.
ولكن تذكر ان أدهم قد تم طرده من بيت الجبلاوي، لا لشيء، إلا لأنه أراد أن يعرف ما هو مخبأ في الأوراق التي لم يسبق لأحد أن عرف ما فيها من ألغاز وأسرار. وأنت حاولت أن تعرف،دون أن تفلح تماما، وعليك الآن أن تحاول وأن تنجح.
انتصر يا عرفة.
جرب أن تذوق حلاوة الانتصار.
انتصر حتى على شهوات نفسك.
تخيل المجنون أنه يسمع صوتا يتردد صداه في كل اتجاه. تذكر بوضوح أنه قد سمع نفس الصوت من قبل، إنه صوت لبيب حرفوش:
لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.
انطلق المجنون، ضرب الأرض بقدميه بقوة. سأل نفسه بصوت مرتفع كأنه يكلم شخصا آخر سواه..إذا كانت حارتنا- كما نتصور- هي أصل الدنيا، فهل يجوز أن تتقدم الدنيا كلها، بينما تظل حارة الجبلاوي وحدها غارقة في الماضي، ومتخلفة عن سواها من الحواري؟
وأيهما سيأتي قبل الآخر.. الطوفان أم الفرج؟
فجأة توقف المجنون عن المشي، لا ليعرف كم قطع من مسافات، ولا لينظر إلى السماء. تجولت عيناه الحزينتان، وهو يقترب من الجبل، ربما ليرى حارته التي أحبها من بعيد. راعه ما يرى فيها من خراب، ولم يخدعه ما تراءى على رمال صحرائها من سراب.
قال لنفسه: هي فوضى.. شئنا أم أبينا، هي فوضى. لكل منا رأي خاص به، لكنه يريد لهذا الرأي الخاص أن بتحول إلى قانون عام، يفرضه على الجميع إذا استطاع إلى ذلك سبيلا.
حاول جاهدا نسيان ما قاله أغلى أصحابه الغائبين، لكنه لم يفلح، فأخذ يردده بأعلى صوت:
يا أهل الحارة
يا أهل الحارة
هذا قولي:
انفجروا أو موتوا
رعب أكبر من هذا سوف يجيء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت
أو ببطون الغابات
لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكم…
أو تحت وسائدكم، أو في بالوعات الحمامات
لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القردة
لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا..
حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة
كومة قاذورات
فانفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا…
حســـن توفيـــق
كاتب وشاعر من مصر