الكاتب البحريني عبدالله خليفة (1948ــ 2014) يُعد بحق أحد أهم الروائيين في أدب القصة القصيرة والرواية الحديثتين في الوطن العربي، فقد تابعت إبداعه القصصي والروائي منذ ستة عشر عاماً، وكتبت ونشرت الدراسات والقراءات عن أغلب ما إبدعه في مجال القصة والرواية في المجلات الثقافية العربية المُحكمة، كمجلتي نزوى والبحرين الثقافيتين الفصليتين، وفي الصحافة الثقافية اليومية والأسبوعية، وربطتني به صداقة أدبية وزمالة عمل في ثقافية جريدة أخبار الخليج البحرينية، التي يشرف على صفحتيها الأسبوعية وإلى يوم وفاته يرحمه الله تعالى في يوم 21 أكتوبر 2014.
هذه التجربة القرائية في إبداعه هي حصيلة صداقة أديبين، اضعها في هذا البحث بين يدي القارئ المتخصص والقارئ العادي، لمعرفة لماذا ازدوجت المقاييس في تقنيات الفن القصصي والروائي لدى هذا المبدع، وعدنا من جديد نقرأ روايات هي في الحقيقة قريبة جداً من تقنيات كتابة السيرة بل هي تلبس لبوسها في احيان كثيرة مع المحافظة على قناع هنا، وهناك لشخصياتها، بدافع حياء كاتبها العربي من إشارة النقد لهذه الحياة المسرودة في المتن القصصي أو الروائي، وليس سراً، فقد اُستل هذا القناع من تقنيات وآليات العمل الروائي.
تجربة عبدالله خليفة في الكتابة الأدبية، كنموذج لهذا الضرب من الكتابة الجديدة، هي أظهار إيجابيات التقنيات التي استخدمها الكاتب، وسلبياتها على مجمل تجربة الكاتب الإبداعية، متوخياً أن تكون دراستي منتمية إلى حقل الدراسات الثقافية أكثر مما هي منتمية إلى حقل البحوث الأكاديمية التقليدية، والأطروحات الجامعية الصارمة، لإبراز تجربة الكاتب كمؤشر دال على التغييرات الكبرى التي اصابت أدبنا الروائي والقصصي، خصوصاً بما يتعلق ببحثي عن مزايا الكتابة الجديدة، وصعوبات كتابتها، والنماذج المطروحة في القصة القصيرة والرواية، التي كتبها هذا الكاتب، ونجحت في استيعاب هذه التحولات الكبرى في الأدب الغربي، والتي درست تقنياتها ومادتها دراسة معمقة في العديد من مقالاتي المنشورة طوال ثلاثين عاماً من نشاطي الثقافي والأدبي المتخصص.
وكان بحثي ليس بعيداً عن حياة كتابها وسيرهم الذاتية، وما عاشوه من تجارب حياتية مختلفة، فالكتابة الجديدة لا تختلف كثيراً عن حياة كتابها، وما عاشوه من تجارب بل أنها في بعض الأحيان هي حيواتهم، مسجلة سطراً بسطر وكلمة بكلمة، وكأنما تقرأ سجلاً لاعترافاتهم بما عاشوه من تجارب سياسية، واجتماعية في فترة إحباطهم، وفشلهم أو بعد نجاحهم، وفي بعض الاحيان تقترب صفحات تلك الكتابات الأدبية -قصصية وروائية- جداً من تفصيلات المدونات اليومية لأي مثقف أنتظم في تدوين ما يحصل في حياته يومياً، إلى درجة أنهم اضطروا لفتح الأدراج عن رسائلهم الغرامية، التي كتبوها لحبيباتهم في فترة من فترات حياتهم ونشروا رسائل حميمية تلقوها من اصدقائهم و أهلهم، وكما كتبت عن ذلك في نماذج قصصية وروائية كثيرة أجنبية وعربية.
فقد امتلأت قصص مجموعتين قصصيتين لعبدالله خليفة بهذا النوع من القصص التي تحكي محكيات من حياة كاتبها، فنجد في مجموعته « سهرة » التي صدرت عام 1994 و«دهشة الساحر» التي صدرت عام 1997 الكثير من القصص التي تحكي عن معاناة كاتب وصحفي في بداية طريقه إلى الكتابة والنشر، وهو يعيش وسط عائلة بحرينية متوسطة الحال، وعلى عادة هكذا عائلات في شرقنا لا ترى في الأدب وكتابته غير ضياع الوقت والجهد، وأن ابنهم إن استمر في هكذا ولع، فإنه ضائع لا محالة، وليس أمامه غير طريق الفقر والحاجة، وأن لا طائل ياتي من وراء حرفة الأدب والكتابة، وبعض العائلات ترى في نبوغ أولادها في هذا الجانب نقصاً في العقل والمواهب، وكارثة ألمت بها لأنها رُزقت بفرد لا يستطيع أن يقف على رجليه وحده، وسيبقى عالة عليها، وبدلاً من أن يكون عوناً لها في مواجهة الحاجة والفقر، فقد صار مصدر قلق لها وعاهة دائمة في النسيج العائلي.
كتابة للتغيير
وهذا ما نلمسه في الكثير من قصص المجموعتين للكاتب عبدالله خليفة إلى جانب النشاط الفكري والسياسي لأبطال قصص أخرى نستقرئ منها حياة كاتبها في بواكير شبابه حين كان ناشطاً فكرياً في سنوات الدراسة الثانوية، وناشطاً سياسياً فيما بعد في المعهد العالي للمعلمين.(1)
فقصص مثل: السفر، سهرة، قبضة تراب، الطوفان، وغيرها من قصص المجموعتين كما سنرى في فصول لاحقة من الكتاب كتبها الكاتب من وهج تجربته الشخصية، فهي سرود عن حياة الفقراء من العمال واصحاب حرفتي الصيد والغوص من الباحثين عن رزقهم في صيد السمك أو الِلؤلؤ أوعمال حفر آبار النفط المياومين، والصحفيين المتعاونين مع الصحف الفقيرة، التي لا تكاد أن تغطي ثمن مطبوعاتها، وتتخذ هيئات تحريرها من الصحافة وسيلة لحسم الصراع السياسي مع خصومها الطبقيين أو من يعادونهم فكرياً وسياسياً.
القصة لدى هذا الكاتب كما الرواية والمقال السياسي، وكل هذا النتاج الأدبي والفكري لبس لبوس الحياة الشخصية لكاتبها، وحكت القصص والروايات عن همومه الفكرية والسياسية والأجتماعية، وكل هذه الهموم لم تكن معزولة كما سنرى عن هموم المواطن العادي، ولا عن تطلعاته في البحرين والوطن العربي عامة، صحيح أن الفقراء والمحتاجين الذين كتب عنهم عبدالله خليفة لا يقرأون ما كتب عنهم، وهو يعرف هذا، فهو يكتب عنهم وليس لهم، أنه يكتب على أمل التغيير لاحوالهم والتخفيف عن معاناتهم من قبل الحكومات واصحاب الشأن السياسي، ألتزاماً منه بما يفرضه عليه واجب الوفاء لأهله، ومن عاش معهم وعانى معهم وبسبيلهم طوال سنوات عمره، والناقد يجد في «المسرود» وهو نتاج اللحمة بين حياة الكاتب والمكتوب عنه، وهذا المسرود الذي بين أيدينا هو خير حقل لدراسة كتابات الحساسية الجديدة في الأدب العربي في مجالي القصة والرواية.
أن الروايات التي نشرها الكاتب عبدالله خليفة كالينابيع، الأقلف، ذهب مع النفط، عنترة يعود إلى الجزيرة، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، ساعة ظهور الأرواح، محمد ثائراً، علي بن أبي طالب شهيداً، وغيرها من الروايات والمجموعات القصصية حبلى بموضوعات جديدة على القارىء شكلاً ومضموناً، فقد ضمن رواياته معرفة فلسفية واقتصادية وسياسية ونفسية وميثولوجية، وتاريخية، ومعرفة السارد في هذه الروايات مساوية لمعرفة الكاتب، فالسارد تبعاً لهذا لديه قضية فكرية وسياسية، وجمالية يريد توصيلها إلينا عبر ــ فن كلي ــ هو فن الرواية كما هو معروف هذا الفن النصي نقدياً والرواية من كُلِيَاتَهْا تجمع بين اعطافها جميع فنون القول، وهي خير مبحث لمن اراد البحث في حياة كاتبها والمجتمع الذي كتبت عنه وله، هذا في المضمون، أما في الشكل، فكتابات عبدالله خليفة الروائية والقصصية جمعت بين الأساليب التقريرية والبلاغية الجمالية القائمة على الاستعارة والمجاز، والإيقاع، والرمز والإشارة، ولذلك فكتابات هذه الكاتب المهم حملت للمتابع ما يحتاجه للكتابة عن هذه التجارب الأدبية، وكاتبها، وفرز ما احرزته من نجاحات أو اخفاقات لتطوير الأدب القصصي والروائي البحريني والخليجي والعربي عامة شكلاً ومضموناً.
نجيب محفوظ
لقد قرأ عبدالله خليفة اعمال نجيب محفوظ قراءات تمثلية*، فقد وضع نصب عينيه تجربة هذا الكاتب الكبير في الكتابة والحياة، ونجد ذلك واضحاً في كتابه الذي نشره عن إبداع نجيب محفوظ واستخلص منه حقائق كثيرة عن الإبداع لدى هذا الكاتب المصري، فكتب عنه قائلاً: «أن انتقال نجيب محفوظ من التاريخية إلى المرحلة الاجتماعية كان من دواعي التطور المديني والاجتماعي، الذي طرأ على الحياة في مصر، وذلك التنوع في الحياة، الذي حاول محفوظ أن يتابعه عبر لوحات وقصص متتابعة تبدو كل واحدة من هذه القصص مستقلة بذاتها. «وكتب عن رواية «بداية ونهاية»، معتمداً على التحليل الجزئي وتشكيل التعميمات الواردة في الرواية .. ومستنتجاً الإسقاطات السياسية على الرواية.
فقال: «الإسقاط السياسي من حزب الفئات الوسطى المصرية على الرواية والشخصية، تعبير عن عجز حيثياتها الفنية من إنتاج تصور ديمقراطي نضالي من داخلها، لكون الشخصيات تابعة للإقطاع سلباً وإيجاباً.» (2).
وحرص عبدالله خليفة على تفكيك شخصيات الرواية متتبعاً مصائرهم، ومحدداً الثغرات الفنية الموجودة في حيواتهم، وذلك من خلال حالات النكوص في بنية الثائر الفردي، الذي يريد تغيير المجتمع وفق إرادته وفهمه الشخصي للدوافع الذاتية للمحيطين به.
وفهمه القاصر لبنية وتحرك المجتمع من حوله، وقد اختار الروائي عبدالله خليفة في رواياته كالينابيع، وساعة ظهور الأرواح، وذهب مع النفط تقنيات لم يستخدمها نجيب محفوظ في سروده الواقعية، فقد حدثنا عبدالله خليفة عن الماء العذب، كما جاء في روايات وقصص الواقعية السحرية، لماركيز وأستورياس وبورخس، فالماء في البحرين قديماً كان يستخرج من قاع البحر المالح، وهذه المفارقة الواقعية نجدها أيضاً في الواقع، كما تشير كتب التاريخ عن البحرين، فقد جاء أن « الكثير من الأشخاص أكدوا للمؤرخ نيبور الذي يروي عنه من سجلوا تاريخ البحرين وجود ينابيع مياه عذبة (كواكب) على عمق قامتين ونصف قامة في البحر(القامة تساوي 6 اقدام لقياس العمق) على بعد مسافة قصيرة من الشاطئ، وان الصيادين دائما يغوصون إلى ذلك العمق لملء جرارهم» (3)
وتناول عبدالله خليفة بالدراسة في احد فصول كتابه، البناء الفلسفي والفني في عمل نجيب محفوظ الملحمي «أولاد حارتنا» الذي كان سبباً في أن ينال نجيب محفوظ في التسعينات طعنة سكين في رقبته من احد المتطرفين الإسلاميين منعته من الكتابة لفترة طويلة، وكان سبب كل الإشكالات التي حدثت مع هذه الرواية هو تجسيد الكاتب الأنبياء على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلوات والسلام في شخصيات روائية، وكذلك كونها «تتحدث عن قصص الأديان السماوية في المنطقة»..(4)
عودة عنترة
روايات عبدالله خليفة التي امتلأت بالكثير مما اعتنقه أبطاله من الفكر الديني المتشدد، وما واجههم به من أبطال لا يؤمنون بالفكر الديني كحل لمشاكل الناس، كما في روايته الأخيرة «عقاب قاتل» وقد تقبل المجتمع البحريني المتسامح الكثير من طروحات الروائي الفكرية للروائي عبدالله خليفة بتفهم عميق، وأريحية قل مثيلها في المجتمعات العربية والإسلامية، والمجتمع البحريني، كما تشير كتب التاريخ مجتمع منفتح على الأفكار، وكل جديد بحكم استقباله للأجانب من كافة بقاع الأرض وصهرهم في عاداته وتقاليده، وقد ثبت تاريخياً عن بدايات تنظيم شؤون الأجانب في البحرين» فخلال عام 1956 أصدرت الحكومة البحرانية إعلانين (أمرين) يتعلقان بالأجانب القاطنين في البحرين الإعلان الأول يدعو جميع اصحاب الفنادق و(الخانات) بتزويد الشرطة، وسلطات الجوازات كل شهر بتفاصيل الأشخاص المقيمين، لديهم وجنسياتهم إما الإعلان الثاني، فكان يمنع أي أجنبي من فتح دكان أو محل تجاري قبل الحصول على ترخيص من الحكومة بذلك.» (5)
وكذلك فإن البحراني له قابلية كبيرة على التسامح والعيش بسلام ومحبة مع جيرانه، لذالك فهو من القديم مجتمع قليل الجرائم ويشير تاريخ البحرين إلى هذه الحقيقة، ففي عام كامل هو عام 1966 لم تقترف فيه سوى ثماني جرائم قتل، واحد عشر محاولة قتل و41 جريمة عقاقير خطرة و298 جريمة مسكرات، في الوقت الذي كانت تسجل في دول العالم في ذلك الوقت نسبة لعدد السكان مئات جرائم القتل، ومثلها في أبواب اقتراف الجرائم الأخرى، ويسجل عن احوال المحاكم البحرينية أنها في عامي 1929 و1930 نظرت خلال سنتي 1929 و1930 في عدد من القضايا التي كشفت عن حالة مزرية جداً للأمور، فالكثير من النساء والأطفال، تمت سرقتهم وخداعهم على يد أشخاص من المفترض إن يكونوا حارسين لمصالحهم، وراعين لأملاكهم، وفي حالات عديدة كان المواطنون على علم بالحقائق، لكن لا احد منهم اعتبر من واجبه إخبار المحكمة بها ولم يكن الأشخاص المسروقين غير قادرين على الشكوىّ»(6)
ويؤشر عبدالله خليفة تقاطعات رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ مع التوراة، والعمل الترميزي الذي تبناه محفوظ في سرده الروائي ص93.
وتناول أيضاً بالدراسة المستفيضة لشخصية المنتمي المأزوم في رواية «السمان والخريف»منتهياً إلى نتيجة مفادها: أن»هذه الرواية هي استمرار لأسلوب نجيب محفوظ الجديد، الرواية-القصيدة»(7) والتي تتناول فترة سقوط حكومة الوفد بسبب إلغائها معاهدة 1936 وتشجيعها للعمل الفدائي ضد المحتل الانجليزي.
وضغط الانجليز على الملك فاروق بعد مؤامرة حريق القاهرة المعروفة، بإسقاط الوزارة الوفدية، وتناول الكاتب البناء الفلسفي في رواية «الطريق» مستنتجاً من دراسته لهذه الرواية «أن اعمال محفوظ الأولى التي تظهر أهمية الأب تتحول إلى التجريد العام في هذه الرواية.
«فلم يعد الأب أباً لعائلة بل لسلطة كلية حانية غائبة.»(8) وتناول بالتحليل البناء الفلسفي في رواية «الشحاذ» فغدا المنللوج الداخلي في هذه الرواية، قصيدة طويلة ظاهرة في المتن، وفي تكامل مع منطق الأحداث. «(9) حسبما وجد عبدالله خليفة، واتبعه فيما بعد فيما كتب من روايات بعد نشره لروايته « عودة عنترة إلى الجزيرة» كرواية «الأقلف»، و«عقاب قاتل» و«اغتصاب كوكب».
رباعية الأسكندرية
وتناول «ملحمة الحرافيش» لمحفوظ واستنتج منها أنه «كلما كبرت رؤية الكاتب ازدهرت اصابعه بالضوء»(10) وهذا اكتشاف كبير سيبني عليه عبدالله خليفة أغلب رواياته، فهو يضع لشخصياته رؤى اجتماعية وفلسفية واخلاقية يمكن تعميمها على الكثيرين، وبالتالي فإن الكثيرين في المجتمع يصلحون كأبطال في روايات عبدالله خليفة، فتوحد نجيب محفوظ مع الألم الشعبي بعد أن تخلى عن ملابسه الأجنبية الفضفاضة، والارستقراطية الضيقة بارتدائه الملابس الشعبية والجلوس مع الناس البسطاء في المقاهي وفي التجمعات السكانية في احياء الثقاهرة القديمة.
واعتبر الكاتب في احد فصول كتابه: «أن نجيب محفوظ في «ميرامار» قد عاد إلى النقد الاجتماعي، الذي بدأه في مرحلة مبكرة من كتاباته الروائية، وشبهها «برباعية الإسكندرية» للورنس داريل، من حيث تعددية الأصوات» (11) واحداثها التي تجري في المدينة نفسها.
وتناول تحول نجيب محفوظ إلى التاريخ عبر كتابه «أمام العرش» الذي صدر عام 1983 والذي حاكم بشكل قصصي حواري حكام مصر (12)
وتناول رواية «حضرة المحترم» لمحفوظ دارساً شخصية البطل المأزوم اجتماعياً، وفي رواية»العائش في الحقيقة» التي اعتبرها «عودة من محفوظ للرواية التاريخية» أنه يعود إلى أصله الفكري الأول « توظيف التاريخ في بنية العمل الروائي بهيئة حدوثة حقيقية»(13)
وعندما تناول رواية «الباقي من الزمن ساعة» لمحفوظ، فأنه وجد أن الرواية هي رواية تسجيل، وكذلك هي عبارة عن رواية تقريرية «مطولة عن عائلة «حامد برهان» منذ سنة 1919» وحتى تاريخ كتابة الرواية. (14).
رحلة عبدالله خليفة مع نجيب محفوظ الفكرية في إبداع الأخير الروائي والقصصي، كانت نقلة ضرورية للكاتب عبدالله خليفة نقلته قريباً من عوالم صاحب النوبل، ورسم ذلك العملاق لعبدالله خليفة خارطة طريق لإعادة رسم اللوحة، التي رسمها الكاتب المصري للواقع المصري، والتي من الممكن أن يرسمها بطريقة مشابهة كاتب عربي آخر ببصماته الخاصة وطريقته وتقنياته ليحكي للأجيال الحالية والقادمة تاريخ بلد كالبحرين .
القارة الكبيرة
رصد الروائي عبدالله خليفة في روايته الينابيع(15) التي صدرت في طبعة كاملة، ومنقحة قبل وفاته بشهور قليلة تاريخ البحرين ابتداء من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر وانتهاء بأيام الهاتف النقال الحالية، وجعل خليفة بطله محمد العوّاد مدخلاً لعصر التنوير، وبداية لتاريخ التدخل الأوربي المباشر في شؤون المنطقة العربية ومنها البحرين .
ومن البديهيات المعروفة أن كل بلد في العالم بحاجة ماسة إلى ملحمة أدبية، فكرية، فلسفية، وحكائية تؤرخ تكوينه السياسي، وتكوين شرائحه الأجتماعية، ونضوجه، وتسجل ماضيه الإنساني خلال قرن أو اكثر.
المادة التاريخية التي صنع منها الروائي عبدالله خليفة روايته الينابيع مادة غزيرة جداً، فقد بذل الكاتب جهداً كبيراً في لملمتها، لإعطائها صيغة قصصية، خبرية، تفيد في رسم صورة كاملة لمشهد البحرين في العقود الستة الماضية، وهي العقود التي يمكن الرجوع إليها من خلال توثيقها السابق بالصورة، والأسماء نقلاً عن جرائد، ومجلات، وسجلات قديمة للحكومة، في وقت كانت هناك قلة في توفر وسائل التسجيل كالصحافة ( ومثلما يرد في كتاب احد مؤرخي البحرين أن الجريدة الوحيدة في البحرين كانت جريدة الأضواء الأسبوعية عام 1965) كما أن التصوير والتسجيل الصوتي كانا قليليين، وكذلك الإذاعي (تحدث المؤرخ ذاته عن إدخال أول آلة كاتبة لمرسلة ــ تلبرنتر- تابعة لوكالة أنباء»رويتر» في البحرين عام 1966 وبذلك اصبح بمقدور إذاعة البحرين تقديم آخر الأنباء، وقد سبقت إذاعات خليجية أخرى في نشراتها الإخبارية، كذلك وسعت فيما بعد مكتبتها السمعية، فصار عدد أشرطتها الغنائية حوالي 500 أغنية جديدة من أغاني البحرين والخليج).»(16)
وإذا لم يكن هناك ما يلبي هذه الحاجة الضرورية لأدب بلد ما، فالبلد سيبحث عمن يؤرخ له، ويبقى ينتظر ولادة المبدع المطلوب ونبوغه لأنجاز هذا العمل الأدبي، فالبلدان الحية بحاجة ماسة لمن يسجل ذاكرتها الإنسانية في كل مراحلها التاريخية.
فنجد في عصرنا الحديث الكثير من هذه النماذج الأدبية الكبيرة إبداعياً، التي آخت بين فن الرواية الحديثة، كما كتبها المحدثون في هذا الصنف الأدبي، والملحمة التي كتبت في اللغات الأخرى شعراً منذ قديم الزمان.
ومن النماذج العربية نقرأ ثلاثية محمد ديب في الجزائر «الدار الكبيرة، الحريق، النول»، وأولاد حارتنا في مصر، لنجيب محفوظ، ومن العراق رباعية النخلة والجيران، وخمسة أصوات، والمخاض، والقربان، لغائب طعمة فرمان.
ومن السودان خماسية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين، مريود، ضو البيت، ودومة ود حامد، وغيرها من التجارب الروائية الرائدة في الوطن العربي والعالم.
اللؤلؤ المزيف
رواية الينابيع للروائي عبدالله خليفة رواية متشعبة الموضوعات، غنية بالفلكلور البحريني والخليجي، وهي أيضاً تنهل من التاريخ السياسي للبحرين، وتقرأ اجتماعياً واقتصادياً التحولات الديموغرافية في البلاد عبر امتلاك الأراضي ووسائل الثروة والسلطة.
ويعود بنا في هذه الرواية إلى تاريخ البحرين في سنة 1856 م ليستفد في روايته مما تُرجم من سجلات الحكومة البريطانية في بومباي في تلك السنة، وما حددته سجلاتها عن الجغرافية السياسية للبحرين، فأوردت أرقاماً لعدد سفن الغوص في البحرين، فذكر صاحب كتاب نكهة الماضي: « يقدر عدد سفن الغوص 1400 سفينة كبيرة الحجم و300 متوسطة الحجم و400 صغيرة» وحددت تلك السجلات دخل البحرين، فأوردت «تبلغ إيرادات الجزيرة 100 ألف تومان سنويا ويصل إيراد اللؤلؤ إلى 100 ألف تومان أيضا» ومعنى هذا أن البحرين كانت تعيش على ما تصدره من اللؤلؤ، ولؤلؤ البحرين كما جاء في الكتاب» رغم انه ليس شديد البياض كلؤلؤ سيلان واليابان إلا إنه أكبر حجماً، وشكله أكثر انتظاماً، ويميل لونه إلى الصفرة، لكنه يمتاز بأنه يحتفظ بلونه الذهبي بينما يفقد اللؤلؤ الأكثر بياضاً الكثير من لمعانه، لدى حفظه في الدول الحارة على وجه الخصوص» (17)
ابتداء من امتلاك سفن البحث عن اللؤلؤ، في زمن ازدهار هذه التجارة في البحرين ودول الخليج العربي، وحتى أفولها بسبب اللؤلؤ المزيف الذي جاء من اليابان، وانتشر في أسواق الزينة، وأفقد اللؤلؤ الحقيقي سوقه وقيمته الأولى.
وكذلك أرخت الرواية لظهور ثروة النفط والغاز في البحرين، مما مهد لتحولات سياسية واجتماعية هامة في المجتمع البحريني.
أدت بدورها إلى تغييرات اجتماعية جذرية في بنيات المجتمع وطرائق معيشته، وصاحبتها تطورات في الشخصية الخليجية غيرت سلوكه، وتطلعاته نحو العالم ونظرته للتقدم العلمي، وطبيعة الحياة وتقدمها في المجتمعات الأكثر تطوراً وغنىً، ويرد في مقطع مؤثر من الرواية فقرات نصية عن اكتشاف أول بئر نفط « الذي نعته الروائي في روايته بالماء الأسود، وأفرد له جزءاً كبيراً من السرد الروائي.
« المهندسون والموظفون يعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلة لغتها العجيبة عبر الفضاء، ويجمع الأوروبيون كرات من المارد الأسود الممزق المتناثر على التربة، ويجرون بها نحو مكاتبهم» ص199 وباكتشاف النفط تمّد أعمدة الكهرباء لأول مرة في شوارع المنامة، ويدهش اهلها من رؤية أضواء المصابيح الكهربائية.
أزمنة وأمكنة
وابتداء من الجزء الأول في الرواية المعنون بـ«الصوت» والجزء الثاني «الماء الأسود» يهيىء الروائي، للجزء الأخير من الرواية «الفيضان»، بسرد التحولات الكبرى في حياة أهل البحرين.
وذلك من خلال شخصية محمد العوّاد، الذي يتمرد على سلطة الأب والعائلة، ويقرر أن يصبح مغنياً في عصر يعتبر أهله الغناء عاراً، ومثلبة، وفي العادة لا تتشرف أية عائلة معروفة في البلاد بأنتماء المغني إليها في ذلك الزمن القبلي.
فيعيش حياته مبعداً عن كنف العائلة منبوذاً من جنتهم، باحثاً في أنغام عوده عن بحرين جديدة تتناغم مع تطلعاته الفنية، وحلمه الدائم بلقاء حبيبته ميّ، التي يحيل بينها وبينه، وضعها الطبقي الجديد بزواجها من متنفذ غني، فتحيل بينها وبينه أسوار وأسوار.
ولكن بالرغم من هذه الأسوار العالية إلا ان صوته من خلال أغنياته، التي يغنيها في الأعراس، والحفلات تصل إلى سمع هذه الحبيبة الحلم.
لقد امتدت احداث الرواية «الملحمة» إلى أمكنة عديدة كالمنامة والمحرق، وبومبى ودلهي ودمشق، وشملت أزمنة عديدة ابتداء من زمن القحط بسبب تغير نمط الأقتصاد على نحو مفاجىء في البحرين بفقدان اللؤلؤ لسوقه، واسعاره الحقيقية.
ومجييء الميجر البريطاني بيلي وتبشيره للناس بإنهم «لن يكونوا عبيداً بعد الآن» ص 31 إلى فترة الرخاء والعمران بأكتشاف النفط .
كائنات حقيقية
وتتضمن الرواية مشاهد أدبية وصفية قل مثيلها في الأدب الروائي العربي، اتسمت بالشعرية الخالصة، وقد بناها الروائي بحذق الفنان وتأني المفكر وحرفية النقاش الماهر، والشاعر الملهم مؤسساً على الصور الشعرية، وليس على الحدث الدرامي المتنامي في السرد مبانيه التخيلية، ولا أدري كم من الوقت والجهد استغرقت كل صفحة من النثر الجيد في هذه الرواية من مبدعها ؟
كما أن تأملات أبطال الراوية العميقة والصادقة تشي بأنهم كائنات حقيقية، أخذ عنهم الكاتب كل ما تفوهوا به أو فكروا به، وما صادفهم من حوادث ومصاعب وكوارث، وقدمهم للقارىء بمشاهد ساخنة، كأنما حدثت قبل وقت قصير لا قبل مائة سنة أو أكثر.
ذلك ما نشعره على توالي الصفحات وعلى امتداد 400 صفحة من القطع الكبير عن عشق محمد العوّاد المستحيل لميّ التي اقترنت بأحد المتنفذين، وعلاقته الموازية بأنثى أخرى، والتي كانت مجرد علاقة حسية «علاقته بفيّ» التي حملت منه سفاحاً.
ورفض الأقتران بها مبرراً ذلك الرفض بقوله الساخر « أنا فنان احلم أن اصعد إلى النجوم لا لأعيش بين بول الصغار!! « ص65 بالرغم من حب فيّ له، لكنها اضطرت للزواج من النواخذة الكهل سعيد المناعي درءاً للفضيحة ص71.
العربي الكادح
أن وراء رواية «الينابيع» هماً وطنياً عميقاً يتلخص بسؤال الهوية، والبحث عن حلول لمعايشة التحولات الكبرى التي تمر بالعالم، وتفرض شروطها الموضوعية على أهل البلاد، وحاكميهم لمواكبة التقدم، وبناء مجتمع العدل والرفاهية والمستقبل الأفضل للأجيال القادمة.
والينابيع تذكر بواقعية مكسيم غوركي الأشتراكية في روايته الأم، وروايات تورجنيف، فهي تنسج نسيجها من الطبقات الكادحة في المجتمع البحريني، فتنقل لنا حياة الصيادين، وأقنان الأرض، وعمال النفط المياومين والمشردين وفناني الهامش.
وتحاول الرواية من خلال ذلك بناء النموذج العربي للكادح، الذي يراوح بين مفاهيمه البرجوازية المتوسطة، والقيم الطبقية، التي استقاها في الكثير من عاداته وتصرفاته بشكل مغلوط عن الفكر الأشتراكي العالمي.
فنرى تذبذب محمد العوّاد الفكري حين يدخل قصر معذبه، وسارق حبيبته ميّ، فيرى القصر متلألئاً بالأنوار وحشود العباءات والثياب البيض والخيول، التي ملأت الساحات وبنادق العرضة حين راح اصحابها يطلقون النار على المساء الهابط بقوة فوق الشطآن المقبوضة الروح» ص 174
فنسمعه يردد في منللوج ما ينم على ندمه على ماضيه، فهو حين تأتيه الفرصة لدخول بيت احد المتنفذين يشعر بالمهانة ويتذكر «كيف كان يُجر إلى القلعة ويوضع في زنزانة مع اللصوص والقتلة، وكيف كان يهان من قبل أي شرطي جلف، لأنه غنى كلمات عن الحرية، التي سرعان ما تخلى عنها اصحابها» ص183
جمعة بن العبد
أن الحكي السردي في الرواية ينفتح على عوالم تخيليية متشعبة، ويحمل في مضامينه المختلفة دعوات للتعايش بين الثقافات والديانات، ونبذ التطرف، والأستغلال الطبقي، والجهل والتخلف.
إذ بالرغم من أن الدعوة للتحديث في المجتمع البحريني الناشئ بدرت من أجانب كالميجر البريطاني بيلي، وسكرتيره جون سميث « الذي ادعى أنه عالم آثار دنماركي جاء ليبحث في آثار ديلمون وتاريخها ..» ص104.
الذي يعجب بأهل البلاد وتقاليدهم، ويعتبر أن حياتهم أفضل بكثير من حياة الغربيين فيقول عنهم» انهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية.
وتسمع أصوات مضاجعاتهم من وراء السعف الرقيق، وكل إنسان يسلم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق، ويدعوه إلى أكله، فيقبل الآخر دون خجل» ص186
وعادات زوجته مارجريت، « المدمنة على قراءة مسرحيات شكسبير ومارلو وقصص ديكنز وبلزاك وتولستوي والمهتمة بأساطير الشرق» ص 185 إلا ان سرعان ما يتلقف بعض أبناء البحرين هذه الدعوة ويدعون إليها.
ومن هؤلاء جمعة بن العبد الذي « يفخر بالحرية في بلاد الميجر الأجنبية» ص38 والذي يتلقف دعوة المستر بيلي للتحرر من ديون المرابين والتجار الذين كانوا يستعبدون الناس بديونهم التي لا تنتهي بسبب الربا، وعدم ايفاء رحلات صيد اللؤلؤ بسداد الديون المتراكمة على الصيادين والفقراء العاملين في صيد اللؤلؤ.
يقول مستر بيلي للناس «ستحصلون على كل شيء . لن تكونوا عبيداً بعد الآن . ألقوا بهذه الأوراق الحقيرة التي سجلوا فيها الزوّر والديون والقيود» ص31 .
حب الكاتب لبلاده
ولا يكتفي الروائي بايراد مبادرة هذا الانجليزي بل يسرد ممارساته الحداثية داخل مجتمع البحرين البدائي قبل اكثر من قرن، فهو يمارس فعلاً حداثياً لم يسبقه إليه احد في البلاد حين يدخل للبلاد السيارة إلى البحرين لأول مرة، فتحدث ردة فعل عنيفة عند أغلب الناس، الذي اعتادوا على الجمل والفرس والعربة، التي تجرها الخيول، والحمير في تنقلاتهم.
فيقول الروائي واصفاً تلك الدهشة وعدم تصديق الناس لما يرونه حين « يدخل الميجر بيلي السيارة أول مرة إلى البلاد فيندهش الناس لرؤيا هذا الكائن المعدني الذي يسير من دون حيوانات تجره، كأنما الجان تحركه من دون أن يراها أحد» ص67، ويسرد مسيرة مستر بيلي، الغرائبية في مجتمع أمي بدأ ينهض ببطء من كبوة التخلف والفقر وحتى نهايته المفجعة» عندما اصيب بطلق ناري من مجهول فيما بعد.
رواية الينابيع لعبدالله خليفة عمل روائي كبير رسم مسارات إنسانية لعشرات الأبطال من الناس العاديين من البحرين عاشوا حياتهم في قاع المجتمع، وآخرين في اعلى قمة المجتمع، والرواية تؤثر كثيراً في القارئ، الذي لم يعرف عن البحرين من قبل كثيراً وتجعله يفكر، ويعيد التفكير في الكثير من مسلماته السابقة عن بلاد صغيرة جغرافياً، بنفوسها القليلة نسبة للبلدان الأخرى، لكنه سيجدها في رواية الينابيع بلاداً كبيرة جداً وأكبر بكثير من قارة بأهلها وتاريخها، وحب كاتب الرواية لها.
الخاتمة
الكتابة عن عالم المبدع البحريني عبدالله خليفة الروائي والقصصي، مهمة عسيرة، لكنها في الوقت ذاته زاخرة بالمعرفة، وهي معرفة ليس محددة بعالم القص وحده بل هي أيضاً إطلالة على المجتمع البحريني في ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته وتسعيناته من خلال النماذج الواقعية التي طرحها الروائي البحريني عبدالله خليفة في خمس مجموعات قصصية، وعشرات الروايات.
واعماله الأدبية في هذين اللونين تُعتبر في النقد الأدبي من أهم الروايات والقصص في السرد البحريني والخليجي عموماً، وبأعماله الأدبية المتعددة استطاع أن يحدد شكل وموضوعات تطور هذا اللون الأدبي في مجمل الحركة الأدبية البحرينية والعربية خلال عقدين من الزمان.
ان الكتابة النقدية التي اتبعها الكاتب عبدالله خليفة في كتابه النقدي» الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي» (18) وضع تجارب غيره في كتابة القصة القصيرة ضمن مفهوم نقدي محدد يتعلق بمهمة الراوي، وهذه المهمة قديمة جداً، ولها أصولها في مفاهيم النقد العربي القديم، لكن الباحث تابعها في قصص محمد عبد الملك بشكل حداثي، ونقل لنا من خلال تسمية «الراوي» ما جاء في النص النقدي الحديث باسم السارد، وما يرويه من حكايات بالمسرود وهي في الوقت ذاته دراسة ميدانية استفاد منها خليفة في تطوير أساليبه في السرد الروائي.
وقد كانت تجربة القاص محمد عبد الملك محط متابعة الروائي عبدالله خليفة منذ نشره أولى قصصه التي كانت بعنوان «رحلة الصقور» التي نشرها في جريدة الأضواء البحرينية في أواخر مارس من عام 1967 ولكن هذه القصة الستينية لم يضمها المؤلف عبد الملك إلى مجموعته الأولى التي صدرت بعنوان « موت صاحب العربة» ولا في مجموعاته الأربع التالية، مما أكد لعبدالله خليفة أنها تجربة أولى في الكتابة القصصية، للقاص، وأنه في قصص مجموعته الأولى تجاوز تلك القصة بقصص أكثر نضجاً منها، واعتبر عبدالله خليفة في كتابه «إن ظهور القصة القصيرة الجديدة في البحرين في نهاية الستينات عبر عن البداية الشاقة لهذا الفن في المنطقة»(19)
ومن جهة أخرى فقد تابع عبدالله خليفة كتابة الرواية لدى روائي مصري متميز هو نجيب محفوظ، ودرس دراسة ميدانية عميقة جميع اعماله في الرواية، ومن خلال تلك الدراسة المعمقة أصدر كتاباً نقدياً مهماً لعبدالله خليفة بعنوان «نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية»(20)
لقد اعتبر عبدالله خليفة أن بعض قصص المجموعة الأولى لمحمد عبد الملك اهتمت كثيراً بالوصف الخارجي والسرد التقريري، وجمعت بين واقعية الحدث والتعبير عن الشخصيات المعذبة، والمطحونة كما جاء في الهامش ص6، واعطى غائية بحثه بقوله « أن اختيارنا لهذا الكاتب ولهذه القضايا الفنية هي عملية حفر مغايرة للمناهج النقدية، التي لا تولي تشكل المدرسة الواقعية أهمية كبيرة»(21)، فالباحث في المجاميع القصصية تناول القص الواقعي بالنقد بأسس نقدية أدبية مستوحاة من النظرية أشتراكية ورؤيتها للأدب والثقافة أو ماسماه النقاد في السبعينات من القرن الماضي ب» الواقعية النقدية « التي تأثرت كثيراً بتبني طروحات اليسار في النقد الأدبي، لما يتطلبه الواقع العربي، الذي لايتطابق مع التقسيمات، التي عرفها المجتمع الرأسمالي من تمايز في الطبقات، بل تداخلت الفئات الاجتماعية.
(يتبع بموقع المجلة على الانترنت)
وهذا المبحث أخذ من عبدالله خليفة صفحات كثيرة في الفصل الأول من الكتاب، وضع فيه أوليات تاريخية لبزوغ هذا الفن الأدبي في الأدب البحريني، الذي يعتبر الأدب في تلك السنوات هو الشعر وروايته ونقده، وقد أشار إلى تجربة « إبراهيم العريض» كشاعر وكاتب مسرحية وملحمة شعرية (22) وذكر أيضاً أن الصحافة البحرينية نشرت عدداً من القصص القصيرة بأسماء رمزية أو نشرت تلك القصص غفلاً من الأسماء، لأن الكثيرين في المجتمع كانوا ينظرون لمن يكتب هذا اللون من الكتابة الأدبية بنظرة الأستخفاف، وعبر عبدالله خليفة عن تلك النظرة بقوله « أن الميراث التقليدي الذكوري السائد نظر إلى فن القصة بصورة متدنية» (23)
وبالرغم من النتيجة الواقعية التي توصل إليها عبدالله خليفة في دراسته لواقع القصة البحرينية إلا أنه ظل مؤمناً بقدرات القاص الموهوب على فرض نفسه على هذه النظرة القاصرة للقاص والروائي في المجتمع البحريني في ستينات القرن الماضي.
وتناول عبدالله خليفة كذلك بدايات ناضجة في تجارب قصاصين أوائل في البحرين في الخمسينات، كأحمد كمال، علي سيار، أحمد سلمان كمال، وأحمد كمال علي، ووصف قصصهم بأن بعضها كان يتضمن «مبالغات ميلودرامية»(24) ولم يكتف بما لديه من مجموعات قصصية للقاص بل كان يستشهد بحوارات أجراها مع القاص محمد عبدالملك وكلما غمضت عليه قضية من قضايا البحث، فكان يضع إجابة القاص، ويشكل منها مادة لإجابات رآها مهمة لأنارة موضوع بحثه ــ فن الرواي ــ لدى هذا القاص للوصول إلى نتائج، حول هوية الراوي، متسائلاً إن كان الراوي في القصص المعروضة للبحث هو القاص نفسه ؟ لكنه كان يستشكل ذلك بقوله أن بعض القصص كتبت بضمير المخاطب، أو بضمير المتحدث « نا « أو بشخص الطفل الذي رأى الواقعة، ليرويها بعد ذلك القاص بلسان الراوي العليم (25).
وتضمن كتابه النقدي ذاك ثمانية فصول وتوطئة وخاتمة، ففي الفصل الثاني تناول ملامح عامة لتطور القصة في البحرين « (26) وابتداء من الفصل الثالث، وحتى الفصل الثامن تناول بالدراسة خمس مجموعات قصصية للقاص محمد عبد الملك هي، «موت صاحب العربة»(27)،«نحن نحب الشمس» (28) «ثقوب في رئة المدينة» (29)
واسنتتج من خلال دراسته لهذه المجموعات، ان أسلوب الراوي يتطور مع التطورات الاجتماعية، التي تحدث في البحرين، منذ التحولات الأقتصادية الكبرى، التي حدثت باكتشاف البترول كمحرك اقتصادي بارز في المملكة، ونمو الطابع الأستهلاكي عند الناس، واحتكاكهم بقوميات أخرى من خلال السفر أو من خلال العمالة الوافدة، مما جعلت القاص يطور أساليب القص، لكنه بقي يجسد الواقعية في قصصه في أغلب مجموعاته القصصية، التي تنتصر للإنسان وقضاياه لتحقيق احلامه.
أن كتابة نقد النقد من أصعب الكتابات في النقد الأدبي العربي، لما يتطلبه هذا الضرب من الكتابة من مقدرة على معرفة بالمنقود معرفة كلية، وبأصول النقد وأساليبه ومدارسه وما آلت إليه آخر مدارسه الحديثة، ولذلك فقد بذل القاص والروائي عبدالله خليفة جهوداً كبيرة في ميدان غير ميدانه الحقيقي، فهو قاص وروائي، وكاتب مقال رأي صحفي، لكنه أنبرى لدراسة نصوص غيره ليصل إلى النموذج الخلاق، أو إلى النموذج الذي يختاره لبناء عالمه الروائي والقصصي الخاص به، الذي ينم عن موقف فكري وابداعي في ذات الوقت، فعبدالله خليفة كان مفكراً وصاحب رأي وقد وضع إبداعه الأدبي في خدمة عبدالله خليفة المفكر والمؤمن بالناس لتغيير الحياة نحو الأحسن وجعل حياة الناس أكثر سعادة وكتب أدباً خالداً تعتز به الأجيال القادمة وتأخذ العبرة مما جاء فيه، وتطور أساليبها في الحياة وتذوق الجمال، وجعل الحياة أكثر غنائية بالثقافة والأدب والفنون.
هوامش ومصادر
(1) عبدالله خليفة.. الروائي المنحاز لمعذبي الأرض/ مقال لعلي الشرقاوي في جريدة الوطن البحرينية في 27 سبتمبر 2014.
** نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية/عبدالله خليفة/الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف/الجزائر العاصمة-الجزائر/ط1 2007 ..216 صفحة قطع متوسط.
(2) المصدر السابق ص71 وص52 وص59.
(3)ص46» نكهة الماضي « المؤلف مهدي عبدالله / الكتاب صادر عن وزارة الإعلام في البحرين/المطبعة الحكومية-2007 عدد الصفحات 159 من القطع الكبير.
(4) ص85 «نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية/عبدالله خليفة/الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف/الجزائر العاصمة-الجزائر/ط1 2007 ..216 صفحة قطع متوسط»
(5) ص33 « نكهة الماضي « المؤلف مهدي عبدالله / الكتاب صادر عن وزارة الإعلام في البحرين/المطبعة الحكومية-2007 عدد الصفحات 159 من القطع الكبير.
(6)ص38 المصدر السابق.
(7)ص106 نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية/عبدالله خليفة/الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف/الجزائر العاصمة-الجزائر/ط1 2007 ..216 صفحة قطع متوسط.
(8) المصدر السابق ص 120
(9) المصدر السابق ص 136
(10) المصدر السابق ص141
(11) المصدر السابق ص151
(12) المصدر السابق ص164
(13) المصدر السابق ص185
(14) المصدر السابق ص195
(15) صدرت رواية الينابيع عن دار الأنتشار العربي / بيروت / لبنان/ ط1 عام 2012 عدد الصفحات من القطع الكبير 400 صفحة.
(16)ص43» نكهة الماضي « المؤلف مهدي عبدالله / الكتاب صادر عن وزارة الإعلام في البحرين/المطبعة الحكومية-2007 عدد الصفحات 159 من القطع الكبير.
(17)ص43 و ص29 المصدر السابق
(18)ص5»الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي/ المؤلف: عبدالله خليفة، صدرعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت ــ لبنان.
(19) ص6 المصدر السابق.
(20) نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية/عبدالله خليفة/الدار العربية للعلوم ناشرون-منشورات الاختلاف/الجزائر العاصمة-الجزائر/ط1 2007 .
(21) ص7»الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي/ المؤلف: عبدالله خليفة، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت ــ لبنان.
(22)ص 11 المصدر السابق.
(23) ص12 المصدر السابق.
(24) ص17 المصدر السابق.
(25) ص 26 المصدر السابق.
(26)ص29 المصدر السابق.
(27) ص45 المصدر السابق.
(28)ص99 المصدر السابق.
(29) ص139، « السياج « ص163 و» رأس العروسة « ص187 المصدر السابق.
—————————–
فيصل عبد الحسن