لأنه أكبر من شاعر مجرِّب، وأوسع من مثقف طليعي، يبقى شعر عبدالمنعم رمضان مولِّدًا لعمليات تأويلية مستمرة، ويظل قصيده كونًا شعريًّا فسيحًا في مآلاته وعميقًا في تاريخ عوالمه، كما تبقى دلالات نصوصه عائمة، في بحر وسيع من الاحتمالات، وتبقى معها عمليات التلقي والقراءة سباحة متواصلة وغوصًا ساعيًا لقنص معان لا تنتهي ولا تسلم نفسها لتحديدات حاسمة أو تأويلات مستقرة بسهولة.
أبجدية الجسد
للجسد في شعر عبد المنعم رمضان حلول فاعل في بناء أنساقه الشعرية، فالجسد مركب جدلي في منظومة قصيدته. وفي مديح الجسد الذي يستحيل رمزًا ميتافزيقيًا يتحرك الشعر ناشدًا السفر في عوالمه لفك شفراته وإعادة تشكيله وفقًا لرؤية جمالية ناضجة وحساسية إبداعية مرهفة:
هل من شاهد
جسدي حدودي
لم يشأ أحد من الأطفال
أن يتقبل الأرض الخراب
ولم تكد أغنية أخرى
تدار على «الجرامافون»
إلا واختفت شفة
وحلت غيرها شفتان
تفتران عن وقت
هو الوقت الذي أبغيه. (ص404)
يبدو الجسد هو العالم، الحدود والأرض، الكينونة والهوية، ولكن لِمَ يكون الجسد هو حدود الذات ومداها؟ هل لأن الصوت الشعري يتبطن بنبرة إليوتية تفر من العالم وأرضه الخراب التي تكون مفنى للأطفال/ الأمل والبراءة والحياة القادمة- فتتحصن الذات بجسدها وتكتفي به حدودًا لها؟ ولكن إذا كانت النزعة الإليوتية أخذت في رثاء الأرض الخراب والبكاء على أطلال العالم الهالك، فإننا إزاء صوت شعري يبدو أنه يقاوم بالفن والموسيقى «الجرامافون» هذا الفناء، وهو ما آل إلى تكاثر الشفة، العضو المرتبط بإظهار الكلام والتعبير عنه حال إخراجه، لتحل شفتان محلها، فالذات تعاين حلولًا سحريًا في عيان مفارق يشف عن وقت مبتغى. إذن، فالذات التي تبدو أنها تملك وعيًا دقيقًا، وحساسًا بالزمن- إذ تعاين منه الوقت الذي هو وحدات دقيقة للزمن- تتربص بلحظات الحلول تلك والتماعات الكائنات فيما يشبه لحظات الإشراق الصوفي البارقة. وكأن الشاعر بين زمانين ومكانين؛ زمن محايث أو وقت آني وزمن مبتغى هو زمن الحلم، كما يتردد الصوت الشعري بين الجسد كمان للذات في مقابل العالم الخراب، كمكان ترفضه الذات كغيرها، وتنشد أن تفارقه أو تتعالى عليه في الوقت المبتغي، هو وقت التكاثر الحلمي.
ثم يستأنف الصوت الشعري خطابه:
من منا سيبتكر الطيور، ويخلط الحنّاء بالأفلاك والنعناع، هل ستقام تحت جفوننا نافورة للذكريات الغفل، أم أن الغواة هم الذين هناك، أرجلهم سيوف الله، واستيقاظهم يبدو كما لو أنها سقطت طيور المن من أحلامهم، وتآكلت في الريح. (ص ص404-405)
يمتلك الخطاب النصي لقصيدة رمضان قدرة هائلة على تغيير إيقاعاته، فثمة انتقال من الخبر إلى الإنشاء، ومن الإبلاغ إلى محاولة التخمين وتدارس الاحتمالات، والتفات في ضمير القول الشعري بالانتقال من المتكلم المفرد إلى المتكلم الجمعي، وكأن صوت الذات الشعري مسكون بأصوات الذوات الجمعية التي تكوِّن بؤرة الوعي المهيمن على هذا الصوت الشعري، كما أن ثمة انتقالًا لافتًا يتكرر في قصيد عبد المنعم رمضان في الخط الكتابي بالتحول من نظام السطر الشعري المكتنز أو التام الذي يترك حيزًا للبياض بتمامه إلى نظام الخط الكتابي المرسل والمتدفق في جمله المكتوبة دون توقف إلا بتمام الفقرة في انهمار قولي يعبِّر عن انسيال خواطر وتدافع تمثلات على الوعي. ويبدو الاستفهام: (من منا سيبتكر الطيور) قابلًا للتعدد في أغراضه بين النفي لعدم الاستطاعة والتمني، كما تبدو الصورة في الاستفهام الذي يليه: (هل ستقام تحت جفوننا نافورة للذكريات الغفل) شديدة المزج بين المجرد النفسي (الذكريات) والمادي (نافورة) لمحاولة تجسيد حالة من تداعيات التذكر وانسيالاته الكثيفة المتتابعة:
ما زالت لدى الأشياء آونة، لتحيا مرة أخرى، وتفرد ظلها للنور، كي يمتص عنها الموت، يغسلها، فقط فيما ينام الليل، سوف تصالح الأشياء أنفسها، وتستلقي على مهل، ولكن ربما يحتاج هذا النور أن يقوى وأن يختاره الشاعر حتى تستدير الريح نحو الأرض أو تمضي
وفي طرفها كتب معلقة
وإزميل
لعلي ذات يوم أشتري الأحلام، أرصفها، وأبني فوقها برجًا عليه خرائط الأجساد، مازالت يدي تحتز من عنقي، صراخًا يشبه الماضي، ويشبه ذلك الوقت الذي أبغيه. (ص405)
دائمًا ما يراهن الشاعر على الوقت وآونته، على النور ليجدد حياة الأشياء، وينتشلها من الموت. غير أن هذا النور مرهون باختيار الشاعر له، فهل يكون هذا النور هو نور الإلهام والحدس الشعري المتوهج؟ ولكن قوة هذا النور يلازمها استدارة الريح نحو الأرض. الريح رمز للثورة، أما الاحتمال الآخر لفعل الريح هو المضي «وفي طرفها كتب معلقة/ وإزميل»، الكتب المعلقة هي أقوال لم تتم أو رؤى موجودة بالقوة لا الفعل، أو هي أقوال ورؤى لم تجد لها أرضًا بعد لتقلي بها بذورها لتثمر، أو هي أقوال معلقة، حائمة وهائمة، مفارقة، أما الإزميل فهو أداة تستخدم في عمليات كسر وهدم، وكأن عمل الشاعر هو أن يحمل رياح الثورة التي تحمل كتبها/ إيدولوجيتها ورؤاها الجمالية وكأن فعل الكتب بحمولاتها الإبداعية والرؤيوية هو تهذيب الواقع أو هدم ما يحتاج منه ذلك لكي يشتري الشاعر أحلامه التي تكون أساسًا لمبانيه. يبدو الشاعر معاديًا لمبدأ «ثبات الأشياء»، رافضًا للاعتقاد بإمكانية القبض على ماهية تلك الأشياء أو التمكن الحاسم من جوهرها، فثمة- بشعر عبد المنعم رمضان- نوع مما يمكن أن نسمِّيه «الكينونة المرجأة» للأشياء والموجودات، بما يستدعي نوعًا من الاختلاف المرجأ أو التأويل المرجأ من قِبل التلقي لقنص ماهية الموجودات وتعيين هويتها وهو ما يبقي على الوجود بموجوداته أثرًا مفتوحًا قابلًا لكل صورة وكل احتمال، فصارت الموجودات تحتمل مبدأ التعدد في الوحدة، فللأشياء جوهرها المتعدد الأقانيم.
وفي تعاطي قصيد عبد المنعم رمضان رمضان مع «الجسد» نجده يتجاوز بكثير المفهوم البسيط للجسد في حضوره المفرد المادي الأولي:
النيل بيت الرب
والتمساح
باسط رجليه بالوصيدْ
وأنت تفردين جسمك الأبيض
عند الشط
هل أجسر على الإفلات
من عينيك
هل أخون رغبة الجلوس جانبك
الماء- مرةً واحدة- يصير كالأفراسْ
أعبر هادئًا
ويلبس التمساح- مرة واحدة-
خواتم النعاسْ
أعبر هادئًا
حتى إذا أسندت رجليّ
على التراب
وجدت شعرك الناعم والغريب
علامة
لا تشبه الوحشة والإيناس
وتشبه الإخدودْ. (ص ص340-341)
يستلهم الشاعر حادثة أهل الكهف في «والتمساح/ باسط رجليه بالوصيدْ» متناصًا مع الآية القرآنية (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) في رسم صورة تتعالى على مفرداتها المباشرة لتصير لوحة فنية نابضة باللفتات والإيماءات، ولكن إذا كانت الصورة المحال إليها لأهل الكهف تضع الكلب على باب الكهف ومخرجه في فضاء منغلق، فالصياغة التصويرية هنا تسبدل التمساح بالكلب والنيل بالكهف ما يجعل الفضاء هنا مفتوحًا وهو ما يشكٍّل خلفية لجسد المرأة الذي يمثل شكلًا مبرَزًا في اللوحة والنيل خلفية له، ثم ما نلبث أن نكتشف أن هذا «النيل» ما هو إلا كناية مجازية، فحركة القراءة لقصيدة عبد المنعم رمضان تقتضي عملية إعادة قراءة النص والاتداد لنقاط أولى مع سيرورة حركة القراءة للأمام، فيبقى القارئ في حركة متوترة بندولية لاستكشاف الأغوار المجازية لما يطفو على سطح النصوص من مفردات مخاتلة لا نبلغ مقاصدها الكنائية ومراميها المجازية إلا بمعاينة البناء الكلي والتركيب الجامع للمفردات المكونة للنص الشعري، فالمعنى الكلي أكبر من مجموع أجزائه، بل هو حاصل التفاعلات التي تقوم بين هذه الأجزاء.
ويمتاز قصيد رمضان بثراء فائض لموسيقاه التي يلعب فيها الصوت المفرد والحرف دورًا في تشييد بناياته الدلالية والمجازية، فيبرز في المقطع السابق حرف «السين» الذي يأتي كحرف روي في عديد من الأسطر الشعرية (كالأفراسْ- النعاسْ- الإيناسْ) وهو من حروف الهمس الصفيري الذي تسكِّنه الصياغة الشعرية إمعانًا في تجسيد حالة العبور الهادئ لهذا الجسد، وهو ما يمثِّل نوعًا من المفارقة تتجلى في هذا العبور «الهادئ» للجسد الفاتن رغم شدة الانفعال به.
شعرية الفقد
تتكرر في خطابات عبد المنعم رمضان الشعرية مقولات كالفقد والتسرب والتبخر والتبدد والضياع وكأن الذات في شعره تقف بأعلى ربوة حتى ينسحب العالم من تحت قدميها كما في قصيدته «كتاب الفقد والحكمة»:
أنا ملك
كان لي العرش والصولجان
وصار لي الفقدْ
هذا الشتاء الوحيد
وها أنذا واقف
صوب كل الجهات
دمي صوب كل الجهات
انفتاحي على الموت تفاحتي الأبدية
هذا الهلاك الجميل
الهلاك المفضض
يستلُّ الشاعر لغته من نسيج توراتي، فيلبس الصوت الشعري قناع سليمان الملك ولكن بعد فقد ملكه. الفقد يولد الحكمة، والحكمة موهبة النبوة، والنبوة كالشعر، مفارقة لما قائم، وسعي لعالم يوتوبي ومثالي. ولكن- هنا- الفقد امتلاك، والوقوف انتشار وتمدد صوب كل الجهات، هو وقوف العارف والرائي، والزمن الشتاء لا غير. الشتاء زمن جدب ونهاية دورة حياة يعقبها حياة جديدة، لذا يرحب الصوت الشعري- في نزوع رومانسي- بالموت ويستحسن الهلاك، أهو الهلاك والفناء الصوفي الذي يمدد كينونة الذات ويوسعها لتشمل كل الجهات؟
لا ساريات الفجيعة تكفي اعتيادي عليك
ولا شَبَه الحلم يكفي اعتيادي عليك
الظلام ظلامان
أدخل في واحد وأضيع
وأدخل بينهما وأضيع
وأنسل كالحرس الملكي أضيع
أخاطب كل الجموع التي في خلاياي
تهرب
ثمة وشيجة بين الفجيعة والحلم أو شَبَه الحلم واعتياد الذات على من تحب وتألف. الاعتياد أحيانًا ما يؤدي إلى الفتور لكنه هنا يبدو ممتدًا ومتناميًا. النفي يلعب دروًا في تأدية معنى الإثبات والمبالغة. تعمل بلاغة السلب على تأكيد مبدأ تأبي الأشياء والمعطيات على التحديد وعصيانها للتعيين المستقر أو التعريف الضيق، تبدو كمعطيات جديدة أشباه لما خبرته الذات من قبلُ. كما تؤسس الصياغة الشعرية لإيقاع موسيقي يقوم على التماثل التركيبي كما في السطرين الأولين تعبيرًا عن تمادي الحاجة في مقابل شدة التعلق والاعتياد. أما تكرار فعل الضياع لثلاثة أسطر متتالية فهو يعبر عن معنى التعمق في الباطن والانسحاب من الخارج، ولكن هذا الارتداد نحو الداخل لا يعني قطيعة تقيمها الذات مع الخارج، العالم، بقدر ما يعني إعلاءً لذات الداخل، فعبر الداخل يتمرأى العالم، ولكنه يتمرأى في حالات مراوغة كشبه الحلم، فالذات تعاين الفجيعة والفقد، والفقد يذهب بها إلى الحلم، والحلم يمدد العالم والذات معًا.
تجليات الحلم
يبدو أن رؤية العالم عند عبد المنعم رمضان تعتمد على فاعلية الحدس الشعري، ذلك الحدس اللايقيني الذي يحيل العالم إلى تهويمات سوريالية تطل على الإدراك من ثنايا الحلم الذي يمسي «ظلا للمسافة والوقت»:
يبدأ من الوردة
وينتهي إلى القصيدة
يحمل في أذياله
خد المعول،
ولا يكشف عنه
يداه مغسولتان بماء النهر
ومغموستان في الأوحال
ويضعهما كعلامتين على دمي. (ص157).
الحلم إذن، برزخ بين العالم (الوردة) وفعل الإبداع (القصيدة)، جسر واصل بين الخارج الموضوعي وعالم الذات/ الداخل. يبدأ بالموضوع، ينبوع الوجود وينتهي بالذات، بالقصيدة، المصب، غير أن القصيدة/ النهاية ما هي إلا ابتداء وخلق أو إعادة خلق لعالم جديد. الحلم فعل تجاوز، تمامًا كالشعر، تمرد على الثبات وتأكيد على ديمومية الوجود وصيرورية الموجودات. والحلم الذي (يحمل في أذياله خد المعول، ولا يكشف عنه) هو أداة هدم إذن من خلال القصيدة، فالحلم يكسر منطق الحياة الطبيعية العلِّي، كما يخرج عن مألوفية البناء التركيبي للغة التي تعبِّر عنه، تمامًا كالشعر، الذي ينسف الروابط التقليدية بين الدال والمدلول لتصير عمليات التأويل ومحاولة قنص مدلولات الدوال مفتوحة ولا نهائية، بعد أن تصبح المدلولات دوالًا لمعان باطنية.
لقد صار الحلم في شعر عبد المنعم رمضان «ترمومترًا» حساسًا يقيس به حالة الذات والعالم وحدودهما:
كنتُ وحيدًا
يبدو أن الحلم انتشر بجسمي
فاحتقنت شفتايَ
وبحتُ بسري
صار العالم محدودًا بقضاء الحلمِ
فبان الحلم فسيحًا لا ينحدُّ
وبنتُ فسيحًا لا أنحدُّ. (ص84).
الحلم يعمِّر حياة الذات حال وحدتها وينتشر بالجسد ليسري بالجسم كالنشوة الصوفية لحظات التجلي والإشراق ما يدفع الذات للبوح بسرها، فالحلم يفجر طاقات البوح والاعتراف، هو نوع من التسامي النفساني. كما يبدو أن ثمة علاقة طردية بين مدى الحلم ومدى الذات فكلما اتقد الحلم واتسع كلما اتسعت الذات الحالمة وصار العالم مقيدًا بالحلم، فالحلم يجعل الذات مركزًا والعالم تابعًا لها، وعالقًا بها، فالذات تعلو على العالم بحلمها وتتخلص من علائقه، فالحلم فعل حرية واستقلال للذات. ودخول الذات في الحلم يقتصي استعدادًا خاصًا:
ليس وراء هواجسه/ غير أن تنحني/ لتمر على رأسك الكلمات/ ترى سيلها المترجرج/ يحشد ألوية/ عرفت كيف تسطو على الحلم/كيف تعلِّق رُقْيَتَه/ وتصف له/ بركا للنبيذ/ وأوعية للرفاق/ وكيف إذا انسل/ عاجلها السيل/ بالكلمات الجديدة/ لا تنتفض إلا من الريش/ تصبح بيضاء/ يصلح أن يتمشى بها الحلم/ في ردهة/ ويساورها/ خفية. (ص ص288-289).
للحلم طقوسه وشروطه، يبدو الحلم مرتبطًا بالكلمات، والكلمات يعوزها تنحية هواجس العالم كي تمر بالرأس. إذن فهي طاقة الإلهام وحالاته التي تحتاج تخلية الذات من هواجس العالم. لقاء الذات بالحلم يكون من خلال الكلمات، هي حالة احتشاد واستعداد، ترقب وانتظار، انسيال وترجرج. غير أن تلك الكلمات لا توصف إلا بالجديدة، فهي كلمات ضد «التقليدية»، تليق بحالة «الحلم» وبنشوته وتهويماته المحلِّقة. الحلم تجديد للعالم، عالم جديد يتخلَّق من فيوضات الصور ومسعى الكلمات لقنصها، غير أن الكلمات التي تلازم الحلم، هي كلمات بيضاء نفضت ريشها، وتخلصت من عوالقها الدلالية حتى يلقحها الحلم بدلالات جديدة ويثورها برؤى متجاوزة.
الحلم حالة انفتاح على كون فسيح، عالم آخر، ليبقى الحلم وحيًا مفارقًا يزور الذات في تجليات منسابة كما في قصيدة «الحالم»:
في أول ظلٍّ، كان على طاولتي، ورق أبيض، وسموات تحشد كل عساكرها، ليصروا عسسًا يختلسون من الناس الأحلامَ، وفي صهريج من نارٍ ونحاس، كان ملائكة يلقون بأجولة الأحلامِ، ويشتاقون لأن تسكرهم رائحة الأبخرة، وما إن تصبح زيتًا حتى ينزف في أنبوبٍ دخاني يصل إلى خزان الضوءِ، هنالك كان الملك الأول، يعطي النجمة ما تحتاجُ، ويوصيها أن تمشي متباطئةً، حتى تعلق في أهدابِ الليل، ويوصيها أن توحي للبشر الفانين. (ص469).
الشعر ظل الحلم، بل هو أول ظل، وعطية من السماء التي تلهم الشاعر ليسطر ورقه الأبيض بما يطالعه في تلك السماء من أحلام الناس، تلك الأحلام التي تلقفها ناسها من الملائكة، إذن الشعر حركة من الأرض نحو السماء أما الحلم فهو حركة (مُنزَّل) من السماء، من الملائكة للأرض وناسها. الحلم مُسْكِر كالخمر، انسلاخ عن العالم والوعي، هذيان وفقدان وعي، ودخول في وعي غيبي، انطلاق مارق كالشطح الصوفي، وارتباط الشعر بالحلم ليس مجرد انسلاخ عن الواقع أو نفيه بقدر ما هو إعادة تشكيل له وفقًا لرؤيا حلمية تناسب روح الشعر وطبيعة حدسه، وهو ما يتبدى أثره في اللغة التي تبدو شفراتها متعددة الطبقات الدلالية.
وهذه القصيدة- ككثير من قصائد رمضان- تنتمي موسيقيًا للبناء التفعيلي (الموزون) أما كتابيًا وخطيًّا فتأخذ شكلًا مسترسلًا في خطها الكتابي كخط الكتابة النثرية، أي شكل مجافٍ للشكل التقليدي لكتابة الشعر. وتفعيليًّا، لا تقف الكتابة عند انتهاء حزمة واحدة من تفاعيل البحر على السطر الكتابي، وإنما تتوالى التفاعيل في انسيابية وتدوير، ليستبدل الشاعر الدائرة الكتابية والتفعلية بالسطر الكتابي الشعري، وكأن الشاعر يريد بهذا الانهمار الوزني لتفاعيله المنسابة أن يعبِّر- بالتوازي- عن انهمار تمثلاته وتهويماته الحلمية المتدافعة على وقع إيقاعات الوزن الذي يأخذ شكلًا دائريًّا يوحي بالامتداد واللاتناهي. فتبدو الفرادة الصياغية في شعر رمضان متجلية في تمكنه البارع واقتداره الحر على أن تمسك صوره المتراكبة التي تتشكَّل من كلماته المتمردة على سابق إيحاءاتها الدلالية بزمام تفاعيله وتطوِّعها في انسيال دافق للأفكار ومآلاتها المتكاثرة.
رضا عطية