حاورهُ – عِذاب الركابي
كاتب عراقي
الدكتور عبدالله إبراهيم ليسَ ناقدًا وحسب، إنما ناقد من طرازٍ رفيعٍ، لم ينشغل بالمعنى الشائع للنقد، بل تخطّاه إلى “فلسفة النقد”. ذلك ضرب من النقد يجبٌّ ما قبله، ولا ينازعهُ أحدٌ بوقوفهِ على أعماق النصّوص السرديّة، كما هو شائع في الفضاء الثقافي العربي. رفع عبدالله إبراهيم رهان الكتابة النقدية إلى رتبة الكتابة الفكرية، وقطعها عن النقد الأكاديمي والأدبي يابس الأوصال، وذلك هو مصدرُ الجذبِ، والدهشةِ، وكأني به يقولُ للمجتمع الثقافي: لا نقد من دون فكر. النقد ممارسة عقلية وخيالية بهويتين، كالوجه والقفا؛ ذلك إنّ الكتابة حوارٌ مع الذات، وحوار مع الآخر. الكتابة لحظة إنصاتٍ للذاتِ، وإصغاء للآخر.
* أبدا معك هذا الحوار بالحقل الذي كرّست له جهدك، واقترن بك، قصدتُ به السرد والسردية، هلا حدثتنا عنه، وإلى أين انتهى بك الأمر في موضوع شغل الباحثين والقرّاء؟
– بداية طيّبة أن نبدأ الحديث عن أهم شواغلي النقدية والفكرية، فأنا من القائلين بوجوب التفريق بين السردِ بوصفهِ وسيلة لتركيب المرويات والمدوّنات، شفوية كانت أم كتابية، والسردية التي هي استخلاص الأعراف العامة لها، ثم الوعي العام بها، أي الإدراك الإجمالي بهويتها السردية في إطار ثقافةٍ قوميةٍ كبرى. وقد لاحظت أن ذلك الوعي لم يتخذ صيغة معرفة نظرية ثابتة بأحوال السرد كون السرد نفسه في حال تغيير في معانيه ومبانيه ووظائفه، ولذلك، فالسردية لا تقيّده بقيود الثبات، بل تتفاعل معه، وتواكب تحولّاته، وتستوعب أنواعه وأشكاله.
* هل أفهم أنك انتهيت إلى رسم حدود للسرديةِ؟ أطرحُ السؤال لتضارب وجهات النظر حولها، وعدم الاتفاق بشأنها..؟
– في كلّ ما له صلة بمباحث “العلوم الإنسانية” يلزم الحذر مع الجزم، فتلك نزعة علموية تسرّبت إليها من حقل “العلوم الخالصة”، والتغليب بناء على الاستقراء الشامل أوفى من القطع. وقد أردت بـالسردية الإطار التوصيفي والتحليلي والتأويلي الذي يستعين الباحث به لاستخلاص الطبيعة السردية للنصوص الأدبية، وفيه تتولّى الممارسة النقدية استخلاص مجملِ صفاتِ السرد كما تتجلّى في تلك النصوص بشتّى أنواعها، ثم يعرّف بهويته الثقافية السردية المنسبكة في سياق ثقافة عامة، في آن واحد، والغاية من ذلك سبك مفهوم لا ينفصل عن المادة السردية فيخضعها لقواعد تجريدية، إنما يصدر عنها، ويتكيّف معها، فلا يجوز تجريد نموذج افتراضي عابر للزمان والمكان، واللغات والثقافات، والأجناس والأنواع، وإرغام المادة السردية على الامتثال له، فذلك لاهوت سردي تأبى المادة السردية قبوله. واختصّت السردية ببنية الخطاب الناتجة عن العلاقات بين الراوي مرسلا، والمرويّ مادة حكائية، والمرويّ له متلقّيا.
* متى تبلور مفهوم السردية لديك، وهل اختلفت به عن سواك من السرديين؟
– تبلور تصوري عن السردية إبان سيطرة ما أمسى يُعرَفُ بـ”السرديات الكلاسيكية” على المشهد النقدي في العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين، بتحفيز من الدراسات البنيوية واللسانية التي طويت صفحتها بالدراسات الثقافيّة، ونتج عن ذاك الإبدال المعرفي أن انتقلت دراسة السرد من الحقبةِ الشكليّة إلى الحقبة التداوليّة. ولمّا كان الثباتُ قرينَ الأولى، فالتحوّل أضحى ركيزة الثانية. ولا إجحاف في القول بأنّ هيكل السرديات الكلاسيكية أفرغ من محتواه الأدبيّ، لأنّ النصوص أبت قبول شروطه المعياريّة، فنضب معينها لأنّها استنكفت النظر إلى السرد بوصفه سلسلة من الأفعال الرمزيّة، ورأته جملة من نماذج تجريديّة عابرة للثقافات والأزمان، فشيّعت إلى مثواها الأخير بأفول البنيويّة، وبانحسار هيبة النموذج اللغوي الذي خلع عليها الشرعية.
وأحسب أن النظر إلى السرديات بدعوى أنها علم أدبي يتعامى عن الهويات المجازية المتحولة للآداب السردية، فيختزلها، ويروم حبسها في قوانين ثابتة كأنها من جنس العلوم الخالصة، وأرى ذلك من المحال، فقيمة المعرفة بالآداب تكمن في اطرادها، وليس في ركودها، وعلى أية حال، فالآداب ذاتها، بحكم هويتها، تمتنع عن الانصياع لقوانين جامدة، فأعرافها البنيوية متحولة، ووظائفها التمثيلية متغيّرة.
*أذهب بك إلى أمر شديد الأهمية، أمر مسؤولية الكتابة وحريتها. ماذا تقولُ في الكتابة التي هوسُها الحرية. ما جدوى الكتابة الإبداعية بحسب معاييرك قارئا، وأعرافك ناقدا؟
– الكتابة حوار مع الذات، وحوار مع الآخر، وابتكار هوية مفعمة بالحيوية، وهي، بالقطع، ليست سلسلة من تفوّهات لفظية مرذولة. ذلك هو قوام الكتابة في تقديري، ومن أسف أنني لأجد لذلك حضورا وافيا في الكتابة العربية إلا في حالات قليلة جدا، فكأن تلك الكتابة قد تنكبت لأعرافها ومنابعها، ومن ذلك التخبّط الذي يغزو الكتابة، ويكاد الكاتب العربي ينفخ ببوق كأنه خطيب، ولا يستبطن أحوال العالم الذي يعيش فيه، ولا يجيد البوح، فيتكتّم على تجاربه الحقيقية، وكأنّ الكتابة الاستقصائية دليل اتهام. يحجب الكاتب العربي أفكاره وراء طبقة ثخينة إما من الصراخ، وإما من الصّمت، وفي الحالتين فوسيلته الإنشاء الرّكيك الذي لا ينتظم في سرد محكم، فلا نكاد نعثر له على هوية تكشف أخطاءه، وهفواته، ومخاوفه، ونزواته، ولا عن رفضه، أو نزوعه إلى التهكّم من أحوال تزداد انحطاطا وتدهورا. كل ذلك أعدم من الكبريت الأحمر في الكتابة العربية الحديثة.
المفهوم الجوهري للحرية، وهو ابتكار الهوية، والغوص في العالم، واستكشاف أحواله، وفي مقدمة ذلك استقصاء مصائر الناس. فكيف ينجذب القارئ لكاتب شديد التكتّم، دائم التحفّظ، وقد تمرّس على الإنكار، كأنّه نادم على تجربة حياته، أو كأنّ حياته إثم اقتُرف خلسة، أو كاتب يجهل أعراف الكتابة، ويحشوها بالإنشاء، فيغلب شحمها على لحمها؟ إنّ أقلّ حكم يصدر بحقّه هو عجزه عن استكناه عالم شخصيّاته. لست من دعاة تضخيم الذات، إنما أطلب حضورها، وتفاعلها مع العالم الذي تعيش فيه، ولست من أنصار البخل اللفظي، بل أرجو سخاء نافعا وخيالا ممتعا فيه. في واقع الحال الحرية الحقيقية تنأى بنفسها عن الكتابة العربية يوما بعد يوم.
* أتطلب من الكتابة شيئا غير الذي درج عليه القارئ في الكتابة العربية الحديثة؟
– أجل، ينتظر القارئ كتابة تهزّه، وتزعزع تصوراته، وتقوّض مسلّماته، فيخرج من الكتاب بغير ما دخل إليه، أو في الأقل، يقترح عليه نظرة مغايرة للحياة. كلّ ذلك من النّادر الّذي لا يكاد يرى. فمعظم ما مرّ بي من روايات عربية هو ما أتوقّع، وأعرف، ومع طول تجربتي في قراءة السّرد، والكتابة عنه، فقد انتظرت شيئا مغايرا عن ذلك، ففي ظني يربض الأدب في منطقة لا أتوقّعها، وأترقّب العثور عليها، ولكنّني ما وجدتها. هل يجوز الارتياب في القدرة الفرديّة للكاتب أو الشكّ في الأحوال الاجتماعيّة الّتي تكبح ذلك، فلا تفسح له بقول ما ينبغي أن يقال؟ لا أجد فيضا خصبا من الخيال بل اقتراضا مفتعَلًا بطيء الإيقاع، كأنّ دلو الكاتب يخرج من بِئر ناشفة لا يوجد فيها غير قليل من خابط الماء، أو أنه ينهمر خابطا لا صفاء فيه. غالبا ما خالجني السّأم من شخصية جاهزة يُرمى بها في العالم المتخيْل، فتبقى على حالها إلى النّهاية، والأرجح أن تموت على ما ظهرت به من أفكار وأفعال وملامح. الشّخصيّة الجاهزة مقيتة، رتيبة، ومملّة، لا تجتذب القارئ، والقارئ بدوره يتعذّر عليه أن يغذّيها بأفكاره ومواقفه، هي قالب مصمت تُلقى فيه أفكار المؤلّف كالجدار العازل بين القارئ والعالم المتخيّل، فإن كان السّرد نهرًا متدفّق الأمواج، فالشّخصيّة النّمطيّة هي السدّ الّذي يحجز تدفّق مياه السّرد.
أقول ذلك لأن وظيفة الكتابة السّردية هزّ اليقين بالعالم لا الثّقة به، فعالم السّرد لا مثاقيل فيه. وجدت الشّخصيّة المصمتة حاضرة في معظم الرّوايات العربية تبعث على اليأس، وتُشيع الإحباط، وهي في تقديري محلّ ازدراء، لأنّ القارئ لا يتفاعل معها، ويصاب بخيبة أمل من رتابتها، وإلى ذلك أعزو انهيار قيمة الأدب، وانحطاط مكانته. كلّما تلقّيْتُ عملا سرديًّا أُقبل عليه بانتظار العثور على الخبرات العميقة غير المتوقّعة، والنّعوت المبتكرة، والانعطافات الحاسمة، والمآلات المفاجئة، ولكن أين الخيالات غير المألوفة؟ أين الأفعال الّتي تخالف ما عهدناه، والأفكار التي تنقض ما عرفناه؟ كثير من ذلك لا وجود له، كأنّ العالم سطح راكد لا رائحة له، مسار حياة الشّخصيّات مسبق الصنع، وأفعالها محسوبة بالميزان، وأفكارها مألوفة للعامة والخاصة، كأنّها نسخ ممّا نعرف في الحياة الرتيبة، حتّى الخداع، والكذب، والغدر، والإساءة، والإثم، والغرور، وهي أفعال غير مألوفة، تظهر في الرّواية العربيّة باعثة على الملل، ومثيرة للسأم. وللتّعمية على شحّ الابتكار يغمر الكاتب نصّه بالإنشاء الرّكيك، الّذي تأباه الكتابة، ولا يتوافق مع أيّ سياق للأفعال المسندة للشّخصيات المتنامية.
لست من أنصار استعارة نظريات جاهزة من ثقافات أخرى
* شاعت نظريات كثيرة في الفضاء النقدي العربي ابتداء بالبنيوية، مرورا بالسيمائية، وليس انتهاء بالتأويلية. هل يُمكن تقييم الأدب العربي، ولهُ بيئتهُ وسياقه، بتلك النظريات الغريبة عنه؟
– راهن الكتابة العربية يستدعي ابتكار مدخل نقدي يستجيب لأحوال تلك الكتابة سردية كانت أم شعرية. لست من أنصار استعارة النظريات الجاهزة من ثقافات أخرى لها خصوصياتها مع أهميتها البالغة، فاقتلاعها من سياقها وإقحامها في سياق مختلف، يفقدها فاعليتها، ولست أبدا من دعاة بعث رمم من الأحكام شبه النقدية انقرض عهدها، وأودعت في سجل التاريخ، فمعاينة واقع حال الأدب العربي، وتحفيزه إلى ما ينبغي له، وتنقيته من شوائب الإنشاء، ومن لوثة التفاصح، ومن أحمال الركة، ومن قصور الرؤية، تلك المعاينة لن تسعفها نظريات النقد الحديثة ولا السجالات القديمة، فتلك النظريات والآراء مهمة في سياقاتها وفي أزمانها، ولا تكاد تفعل فعلها خارج ما انفرزت عنه، والأدب العربي الحديث ليس من نتاج هذه النظريات ولا تلك الآراء، فهو وليد زمانه ومكانه، ولذلك، فلا أحسب أن الاتكاء على نظرية جاهزة يشفيه من علّته المزمنة، ولا حقنه بمصلٍ عتيق ينعشه من خموله، إنما دعوت إلى تعميق وعي النقاد العرب بالظاهرة الأدبية، والتمرّس في معاينتها، والتجاسر على تحليلها برؤى جديدة، ومناهج جديدة، فذلك هو ما تحتاج إليه، وليس استيراد المنشطات من خارج سياق تلك الظاهرة.
ركَد تيار الأدب العربي الحديث في ما نشطت تيارات الآداب الأخرى
* أتعتقد أن الأدب العربي الحديث، سردًا وشعرًا، عليل فعلا، أو هو في حالة سريرية شبه ميتة كما لمست من كلامك؟ إن كان تشخصيك سليمًا، فما علّة احتضاره؟
– لست من المشيّعين للأدب العربي إلى مثواه الأخير، فقد سلخت سنوات عمري في ملازمته ومعالجته، وقلت قولتي فيه وصفا وتحليلا وتأويلا بعدد وافر من الكتب، منها “موسوعة السرد العربي”، ويلزم السياق إيضاح قصدي: تحمل اللّغات ثقافة أهلها غير متثاقلة، ذلك هو حال معظم اللغات الحيّة في العالم؛ فتتعرّف بها، وتحجز لها مكانا في سجلّ التّاريخ العالمي للثّقافات الإنسانية، فلماذا لا تحمل العربيّة ثقافة أهلها إلى العالم الآن كما تفعل اللغات الأخرى؟ لماذا ثقلت عليها ثقافة أهلها؟ فعجزت عن زجّها في مجرّة الثّقافات الحديثة حتّى ليكاد العالم يجهلها، ولا يعرف أحوالها. لا يعلم، غير حفنة من الدّارسين، ما يفكّر به المثقّفون العرب، وما يتخيّلونه، وما يكتبونه، والجهل بالشّيء يؤدّي إلى إنكاره، أو في أقلّه إلى عدم الاكتراث به.
هل من عيوب في العربيّة وآدابها تجعل الآخرين يعزفون عنها، ولا يفتنهم شيء فيها؟ نعم، تتوفّر أحمال منها: عيوب عامّة لها صلة بحواملها الثّقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، وعيوب خاصّة لها علاقة بمحمولاتها الأسلوبيّة والدّلاليّة. في أوّل قائمة العامّة: انتهاء أمر أهل العربيّة إلى تابعين بعد أن كانوا متبوعين، فحينما تتحوّل مراتب الأمم من متبوعة إلى تابعة، سوف يترتب على ذلك تخلّيها عن دورها وحقوقها، ولن يلتفت إليها أحد، فتنسج، بسبب الحجب والنّسيان، أسطورة المجد والخلود السالفين؛ فعظمة الماضي المتخيّل لا تحتاج إلى برهان. وفي مقدّمة العيوب الخاصّة: سلامة طرق التّعبير عن مشاعر أهل العربية، وتمثيل أحوالهم، فمعاينة الأساليب الشّائعة فيها تثبت أنّها تقارب موضوعاتها إمّا بإنشاء مسطّح عائم، وإمّا بألفاظ مهجورة لا تحيط بالمطلوب إيحاء ولا تقريرا، وهذان الأمران تخطّتهما حاجة الأدب للتّعبير عن حياة تسير على منوال دائم من التّغيير.
المؤلّف كائن بشري فانٍ، أما الكتابة الرفيعة فخالدة
* كأنك تعزو السبب إلى المؤلّف، معلوم بأن “بارت” اقترح قتل المؤلف، وتبعهُ “ماكدولاند” باقتراح موت الناقد. ما رأيك بمحاولة التنكيل بالمؤلّفين، وإرسالهم إلى المقصلة للتخلّص منهم؟ هل لك رأي بتلك المحنة التي توقد محرقة للمؤلفين؟
– لا يقصد بالموت قتل المؤلف فعلا، فما أبعد المؤلف عن منصة الإعدام! إنما إبعاد سلطته عمّا يؤلّف بعد نشره، أي منعه من السيطرة على مؤلفاته، واحتكار تأويله. فما دامت قد انفصلت عنه، فما عادت نسبتها التأويلية إليه إلا باعتبارها من تأليفه، أما وجوه تأويلها فلا حق له بالسيطرة عليها. حدث ذلك إبان انتعاش المداخل الشكلانية والبنيوية في تحليل الأدب، وهي مرحلة ظهرت إثر أخرى سبقتها ذهبت إلى أن النص الأدبي وثيقة شخصية لتجارب مؤلفه في سياق تاريخي مخصوص، فهو شاهد على أحوال مؤلفه، وذلك ليس بصحيح لأنه ينزع عن الأدب أدبيته، ويجعله سجلا بأحوال مؤلّفه وعصره، ويعرض عن جمالياته ومجازاته، حاولت المرحلة الشكلية قطع صلة الأدب بمرجعياته، والنظر إليه باعتباره أشكالا لغوية دالة على نفسها، فالدرس النقدي غير معنّى بما قبل الأدب، بل بالأدب نفسه، ولما كان المؤلّف كائنًا حقيقيًا موجودًا قبل أدبه، فيلزم تجاهل حضوره في ذلك الأدب، وإبعاد شبح حضوره فيه، واختير لذلك مصطلح موت أو قتل المؤلف، والمقصود الاستغناء عنه عند تحليل ما يكتب.
ذلك هو السياق الذي دفع بفكرة الاستغناء عن المؤلف، وأعقبت ذلك فكرة موت الناقد، والحال، فتلك أقوال نافرة تثير انتباه الغافلين بأجراسها الرنانة، ولكنها لا تزعزع خبرات العارفين، فالظاهرة الأدبية ظاهرة دنيوية تتكون من مؤلّف، وكتاب، وقارئ، ولا تتحقق فعليا إلا باجتماع ذلك الثلاثي المتلازم، ومنح الشرعية لركن من الأركان ونزعها عن آخر سوف يخرب هوية الرسالة الأدبية التي هي مناقلة بين مؤلّف وقارئ في سياق ثقافي ما. ولا يمكن الاستغناء القطعي عن أيّ من تلك الأركان، وإلا تنهار الظاهرة الأدبية، ولكن لا يصح إشاعة وهم أنها رهينة أحد الأركان.
نحنُ نتحدّثُ عن أدباء أكثر ممّا نتحدث أدب
* هل لك رسم صورة واضحة للناقد يُمكنُ أن توضع في برواز ذهبي فتجتذب إليها اهتمام عامة الناس؟
– يتعرض الأدب للطعن إذ بولغ في الاحتفاء بصاحبه، وأهمل أمر النظر فيه، وكأنه نسي منسيّ، وذلك يُشبع غرور المؤلفين، فيختالون كالطواويس لبرهة من الزمن في خداع صريح للذات، ولكن يحجب الماء عن مؤلفاتهم، فتنطوي صفحتهم. ومن أسف أن الناس يريدون تجسيدا للأدب بالأديب، ويتحاشون مغامرة اكتشاف الأدب إلا من خلال الناقد. فحينما نتحدث عن تاريخ الأدب، فإنما نتحدث عن أدباء أكثر ما نتحدث عن أدب، ولا يكاد يتجاسر أحد أن يطرق باب الأدب نفسه، ويستكشف هويته، ويغوص في عوالمه، إنما يكتفى باختزاله بالمؤلفين، فلا عجب أن يكون تاريخ الأدب تاريخ أنساب للأدباء، وليس تاريخ أشكال أدبية. إن بلاغة الأدب طيّ النسيان بوجه من الوجوه، فالإعلاء من شأن الأديب على حساب مقام الأدب آفة قديمة ألحقت ضررا بالغا بالآداب الإنسانية، يتغنّى عموم الناس بأسماء المؤلفين، ويعرضون عن الخوض في مؤلفاتهم. ذلك مفهوم وسارت به الركبان، على أن الإنكار يتضاعف حينما يدخل الناقد وسيطا بين النصوص الأدبية والقرّاء. تبرز مشاكل كلها إن فركت مفتعلة: ينزعج المؤلّف إذا خالفه الناقد بتأويل نصوصه، ويُعرض عنه القارئ إن لم يأت له بتأويل يستجيب لتوقعاته، فكلّ يصدر عمّا يريد، ولا يقبل بوساطة نشطة لا توافق رغباته، وذلك يحدّ من وظيفة الناقد، ولكن الطامة الكبرى، في تقديري، تكمن في الناقد نفسه، أيضا، وهو، بالاتفاق “القارئ المثالي” للأدب لأنه عارف به، ومتمرّس في مزاياه، ويتوقع الجميع منه وساطة محمودة يقترب فيها إلى الأدب بيسر، ويتعامل معه برعاية، ويعدّ نفسه للغوص فيه من دون تعكير صفائه، وتحليله من دون تدميره، وتأويله من دون تحميله ما لا يحتمل.
معظم النقاد يفتقرون لتلك العدّة التشريحية المهذّبة الدقيقة غير الجارحة، فيتقحمون نصوص الأدب بالفؤوس، ويفتكون بها من دون مراعاة انسجامها وجمالياتها، والحال، فالأدب ظاهرة رفيعة الشأن، وينبغي الاقتراب إليها بكثير من التقدير والدراية، وتحاشي تخريبها بدعوى تحليلها، فكلّ ذلك يضرب الأدب الرفيع في الصميم، ويصرف القراء عنه، ولا يجوز أن تكون الممارسة النقدية مناسبة للتنكيل بالأدب، إنما ملامسته بما يحفظ معانيه ومبانيه. النقد ممارسة تحليلية تقارب الأدب من حيث كونه عالما مجازيا موازيا للعالم الحقيقي، وليس مطلوبا من الناقد أن يسترضي لا المؤلّف ولا القارئ، ولكن ليس من حقه الاعتداء عليهما، فإن توفّر على رؤية ومنهج كفؤين في مقاربته للأدب، فلا أحسب أن الآخرين سيعرضون عنه.
إنَ للكتابةِ أعماقًا خصبة لا سبيل لإنكار قيمتها
* في كتابه “الكتابة في درجة الصفر” قال “بارت”: إنَّ الكتابات الممكنة لكاتبٍ ما، لا تتأسس إلا تحت التاريخ والأعراف”؟ ما رأيك أنت بذلك القول؟ وهل ذلك كافٍ لعودة كتّاب السرد العربي، على وجه الخصوص، إلى التاريخ ومحاولة إسقاطه على الحاضر، وأنت كتبت كتابا اشتهر أمره، وهو “التخيّل التاريخي” وقد طرق باب تلك المسألة بجسارة منذ عقد من الزمان؟
– في كتاب لي عنوانه “أعراف الكتابة السردية” دافعت عن أهمية مراعاة أعراف الكتابة، فإن لم تأخذ في حسبانها أعراف النوع الذي تنتمي إليه، تفقد هويتها وقيمتها ووظيفتها، والحال، فالتنكّر للأعراف، عن جهل أم عن قصد، ينتهي بالكتابة إلى الفوضى التي تثقل كاهل الأمم بدل أن تتولى تمثيلها، وقد اصطلحت على من يجهل أعراف الكتابة أو ينكرها بأنهم “غشماء السرد” وحذّرت من خطرهم، وقبل ذلك عالجت صلة الكتابة السردية بمرجعياتها التاريخية في كتاب “التخيّل التاريخي”، وشدّدت على استكناه المرجعيات التاريخية في الكتابة السردية، وليس توثيقها، فالتوثيق ليس من مهام السرد، ولا من غاياته، فكتابة من دون مرجعية اجتماعية أو تاريخية تدبيج أقوال لا جذور لها، وإنشاء عواطف مائعة، أو خواطر ناشفة، فلا فائدة ترتجي منها. أريد بذلك أن أوكد بأن للكتابة أعماقا لا سبيل لإنكارها، أي لا سبيل إلى تصفير الكتابة، ونزعها عن العالم، وإن اختلف عالمها المتخيل عن العالم الواقعي. عالمان متوازيان يتبادلان المنافع والمتع، وكلّ يغذّي الآخر بالمعاني والغايات.
وقد مرّ زمن طويل مذ اطلعت على رأي “بارت” حول درجة الصفر في الكتابة، أي تلك الكتابة التي لا يتأدّى عن سطحها مرجع ولا سياق ثقافي، فكأنها تحيل على ذاتها، أي إنها لا تتولى تمثيل عالم من خارجها. حدث ذلك في الرواية الفرنسية الجديدة في حوالي منتصف القرن العشرين وبعده بقليل، وتصفير الكتابة لوثة إبداعية غايتها نزع الكتابة عن أعظم وظيفة تقوم بها وهي تمثيل أحوال الإنسان، فالرواية ظاهرة دنيوية تستلهم موضوعاتها من الدنيا، وتعيد تخليقه بأعراف السرد، فهي ابنة الدنيا، وما دامت كذلك، فليس يجوز أن تعرض عن الدنيا، وتنكرها، لأنها، وإن قامت على التخييل، فهي ظاهرة اجتماعية، وقع تداولها في وسط اجتماعي، فالكاتب إنسان، والقارئ إنسان، والكتابة تتوسطهما. إن هويات الأمم تتشكل بالتآليف، وبخاصة السردية والدينية والتاريخية، وتعطيل وظيفة الآداب الإنسانية بتصفيرها، وقطعها عن مرجعياتها، يلحق بالآداب وبالأمم أبلغ ضرر يتصوره الإنسان.
لا تقوم الكتابة على التكلّف، ولا تُحملُ على التصنّع
* وفي كتابهِ “أحادية لغة الآخر” يقول “دريدا” ما معناه: إنني أسلّم نفسي دائما إلى اللغة”. ويقول “كوليو” في رواية “الخيميائي”: “هناك لغة تتعدّى الكلمات”. ما رأيك في فحوى العبارتين؟ وبخاصة أنني لاحظت في أسلوبك أناقة في التعبير، وما دام أسلوبك جميلا لماذا لم تخاطر وتكتب رواية بعد أن كتبتَ سيرتك الذاتية «أمواج»؟
– ها أنت تثير مجددا سؤالا طُرح عليّ مرارا، وحرتُ في الإجابة عنه، فقد سألني كثيرون أن أكتب رواية من واقع كتابة سيرتي الذّاتيّة “أمواج”، ويفحمونني بالقول إنك سلخت عمرك في وصف طرائق السّرد، وبنياته، وقلّبته على معظم وجوهه بتحليل مئات الرّوايات، وقراءة الآلاف منها، فينبغي عليك خوض كتابة الرّواية بعد اختمار التّجربة النّظريّة. وكنت أوارب في الجواب لاستعصائه عليّ، فمرّة أقول إنّني حاولت ذلك، وكتبت فصولا عدّة من روايات متفرّقة، ثمّ توقّفْت مقرّا بعجزي عن المضيّ فيها -وحدث ذلك فعلا- ومرّة أزعم أنّ أسلوبي ما عاد يناسب كتابة الرّواية، وذلك صحيح، فقوامه، في تقديري، لغة وصفيّة لا تستجيب لمقتضيات الكتابة السّرديّة من إيحاء بالعوالم المتخيّلة، وأكثر من ذلك كنت أوارب في التّعليق على ما أسمع، أو أحجم عنه، وأفكّر بجواب لا أعثر عليه، فالرّغبة قائمة، ولكنّ القدرة غائبة.
لا ادّعاء في كل ما ذكرتُ إنما نأى بي فعلا عما كنت أريد، ولازمني مدّة طويلة من الزّمن، ولم أتمكّن من البتّ فيه، فلا تقوم الكتابة على التكلّف، ولا تُحمل على التصنّع. ولكن حينما مخضت الأسئلة، وقلّبت الأجوبة على وجوهها، وصارحت نفسي بما لديّ، وجدت أنّ السّبب لا يعود إلى الأسلوب وحده، إنما إلى ما يفوقه أهمية، وهو عدم وجود مكان أرمي فيه بشخصيّات روايتي لتشقّ طريقها في مسار حيواتها، وليس لتلك الشخصيات بيت تعيش فيه، فلم أتآلف مع أيّ مكان سكنته لأجعل منه موطنا لشخصيّات تلك الرواية المحتملة، فكيف لي أن أكتب رواية لا مكان لأحداثها، ولا بيت لشخصياتها؟ أين سوف تعيش وتموت؟ أين ستختلف وتأتلف؟ أين تعشق وتتعذّب؟ وأين تتبجّح وتكذب؟ وفي أيّ مطرح سوف تزهو بذاتها؟ وفي لهجة أيّة مدينة سوف ترطن؟ وفي مقبرة أي بلد سوف تدفن؟ وإلى أيّ مكان تنتسب حينما يطوى غلاف الرواية؟ فكيف لي اختلاق شخصيّات لا منازل لها، وما دام قد تعذّر أن تكون لها بيوت، إذًا، فليس لها أوطان؟
المكان شرط لازم من شروط الكتابة السّرديّة، كالحدث والشّخصيّة، من حيث إنّ الوقائع تجري فيه، والشّخصيّات تتحرّك في إطاره، وبالاستغناء عنه تستغني الكتابة عن كونها سردا، فتصبح إنشاء مرسلا لا أرجل له، وقولًا هائمًا في برّيّة الأدب. والاستغناء عن المكان لا يسوء السّرد فحسب بل ينزع عنه هويته أيضا، ويقوّض فعله، ويجعل منه شذرات غير محبوكة، فلا حاضن لأفعاله، ولا داعم لأشخاصه. وقد يجادل في ذلك مَنْ لا يحسب أهمّيّة للمكان، وربّما يجانبه الصّواب؛ إذا تمحّل في القول، وتزيّد بالحجج، ولم يراعِ أعراف الكتابة السّرديّة التي انتهيت إليها.
* ولكن الاطلاع على سيرتك الذاتية “أمواج”، يرجح أن أسلوبك مناسب للكتابة الإبداعية، وجدير بأن تخوض به تجربة السرد نفسه بدل الكتابة عنه. لماذا لا تكون من أهل الكار بدل أن تكون ضيفا عليهم؟
– ها هو الأسلوب قد اقتحم سياق الحديث بيننا، ولا سبيل إلى ردّه، فنفرغ منه، وهو أحد الأسباب إعراضي عن الكتابة السردية، أو عجزي عنها؛ لأن به يجري الروائي تمثيلا للعالم الذي يعيش فيه، أو يقوم بتخييل ما لم يحدث فيه، فإن لم يخلص إلى أسلوب في التعبير عمّا يخطر له، فلن يرتقي سلالم الكتابة الرفيعة، وهو ليس جملة من الألفاظ المتتابعة، ولا سيلا من الكلمات المتعاقبة، إنما سياق دال على طريقة مخصوصة في التعبير تنتج عن انتظام الكلمات على نحو يتمكّن به الكاتب من جعل الوقائع المتخيّلة مدركة بالحواس، فالأسلوب يحملها إلى المتلقّي بما يستوفيها بأعلى معايير الجودة، فإن أخفق في الانتهاء إلى أسلوب خاص به، فسوف ينهار العالم المتخيّل، ويعزف المتلقّي عن استضافته، إذ لم يرتق الحامل إلى رتبة الوفاء بمحموله، وتنفضّ الشراكة بين الكاتب والقارئ، لانتقاض عقدها العُرفي. ولم أتمكّن من حلّ تلك المعضلة بما يوافق الأعراف التي أريدها في الكتابة السردية، فشردَ الأسلوب، ونفَرَ، باتجاه مختلف، وخرج على ما تمنيّت، ورغبت، حينما كانت كتابة القصة والرواية من أول شواغلي في النصف الأول من عمري، وبقي يتقلّب، ويتعنّت، ونأى بي عن عالم التخييل، فما تمكّنت من شدّ لجامه للاتجاه به إلى ما أريد، ولا إلى ترويضه ليقودني إلى العالم الذي شُغفت به.
عملي النقدي مزيج من التحليل،
والتأويل، والاستنطاق
* يروى عن “بيكيت” قوله: إنَّ أي تقييم لأعماله كان يثير سخطه. هل صادفت أحدا من الكتّاب أعاد لك شخصية بيكيت؟
– يعود ذلك إلى نزوع بعض الكتّاب إلى السيطرة على تأويل مؤلفاتهم، أي عدم قبول تعويم دلالات لم يقصدوها أو لم تخطر لهم، فيريدون أن يكونوا أوصياء على الدلالات التي يمكن أن تتمخض من مؤلفاتهم، وهي دلالات تتكاثر طبقا للقراءات، وتفاوت الأزمنة، ويتعذر على المؤلف السيطرة عليها، لو فهم “بيكيت” ذلك بالوجه الصحيح لأحجم عن موقفه ذاك، وأنا ما رأيته في يوم كاتبا جديرا بالاهتمام، فمذهب الاعتصام بالذات، والانغلاق الحائر على النفس، يقطع امتداد الأدب إلى الفضاء المناسب له، وهو حالة مرضية أكثر من كونها صحية، ولست أجدني كثير التقدير للانطواء النرجسي للكتّاب على أنفسهم وعوالمهم، ولكن تلك الظاهرة شائعة بينهم، وليكن معلوما لأمثاله، وليفهموا الرسالة الآتية: ينبغي عليهم أن يكتبوا أدبا رفيعا مستوفيا لشروط الأدب، ويكفّوا عن أي شيء غيره، فذلك بذاته مجد لا يدانيه مجد آخر تقريبا، ويتركوا القرّاء يتلقّون مؤلفاتهم طبقا لخبراتهم القرائية، ومن بين ذلك نقاد الأدب، الذين يتولون تحليل وتأويل تلك المؤلفات بحسب رؤاهم ومناهجهم، وأن يتخلصوا من قصر النظر الذي أعمى أبصار بعضهم، فهم زائلون، وأعمالهم خالدة.
ولست أتذكّر أحدا من الكتاب نازعني على وجهة نظري في الذي كتبته من نقد حول أعماله، لما يشاع عن خطأ أو صواب من موضوعية في المعالجة النقدية، ولكن يبلغني أحيانا عن فلان أو علان من الروائيين قولهم إنني لم أهتم بأعماله مع أنه على كل عين ومسمع، وله الحق في ذلك، ولكن لي الحق ألا أصرف جهدي إلا لما أجده متوفرا على أعراف الكتابة المميزة من أعمال أدبية، مع أنّ مجمل عملي النقدي لم يقم على حكم قيمة إنما هو مزيج من التحليل والتأويل والاستنطاق. لو اقتدى الأدباء بمحفوظ في ذلك خير لهم من الاقتداء ببيكيت.
بعض أعمال كبار الكتّاب نسخ
مكرّرة من نصوص سابقة
* قال “بورخيس”: طوال عمري وأنا أجرّب، وصرخ “ كونديرا”:أنا تجريبي« ما رأيك في التجريب؟ ما تقييم عبدالله إبراهيم للأعمال العربية السردية التجريبية؟
– لا تنشأ كتابة مجيدة في أرض قاحلة، ولا تستمد قيمتها من ركود، وعلى ذلك، فالتجريب مغامرة كاتب يعرف معنى التغيير بالخروج على رتابة الكتابة، فهو يدرك أبعاد المغامرة، فعمله ليس خبط عشواء، ولا سيلا من إنشاء، كما هو حال معظم الروائيين العرب، إنما هضم الرصيد السردي السابق، والعمل على تجاوزه، بتطويره، وابتكار ما يثريه، وشغف الكاتب بالتجريب يدفع به دائما للإتيان بما هو أفضل وأجمل وأعمق، وبحسب هذا الفهم للتجريب أجد أن الأعمال التي خاضت غمار التجريب الفعلي قليلة، إنني أعدّ على أصابع اليدين أعمالًا لنجيب محفوظ، والطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، وفؤاد التكرلي، وإيميل حبيبي، وكاتب ياسين، وصبري موسى، ومحمود المسعدي، ولكن، حتى بعض هؤلاء الكتاب الكبار ما تلبث أن تركد الحيوية في كثير من أعمالهم المتأخرة، وبعضها يصبح نسخا مكررة، تتغير الأسماء والأفعال فيها لكنها تدور في الأفق نفسه، إن إجادة الكتابة لا تقتصر على الكاتب المبتدئ إنما تلازم يقظة التجريب الكاتب مادام يكتب.
يتعاظمُ شأن الظاهرة السردية
يوما بعدَ يوم في العالم
* ولكن يقولُ “هارولد بلوم” انتهى الأدبَ عندَ تجريب كافكا، وجويس، وبورخيس. ما مدى دقة تلك العبارة؟ وما الذي تضيفه لذلك القول الشجاع؟
– مع تقديري الكبير لبلوم، وأنا من قرائه، فالقول تنقصه الدقة والشمول إن صدر عنه فعلا، لأنه قارئ مميز، وكتب كثيرا عن القراءة، وأبدى شغفا بكثير من الأعمال، وأخشى أن يكون مجتزأ عن سياق، فلا أوافق على الحكم، مع أنني أضع الثلاثة الكتاب المذكورين في قائمة عظام الكتاب فعلا. والحال، فكلّ منهم يمثل نهجا مميزا في السرد، ولكن خارطة التجريب لا تقتصر عليهم، وإنما الأمثال تضرب ولا يقاس عليها، ولا يراد بها غلق الأبواب. احتجاجي على العبارة ينصب على فكرة انتهاء الأدب بأولئك الكتّاب. ذلك حكم غير محمود، وهو بالقطع غير صائب، فبمغامرة التجريب أو من دونها فالأدب في سيرورة لا تنثني، وهو يعيد صوغ هويته باطراد لا يعرف الكلل، وتيار السرد يتعاظم شأنه يوما بعد يوم، ولن يقتصر على هذا الكاتب أو ذاك.
تُعّد الذات منهلًا مهمًا من
مناهلِ الكتابة السردية
* الكاتبُ هو نصُّ يواصلُ كتابة ذاته! ترى هلْ يُمكنُ قتل “المؤلف” ومحاولة لتسيّد القارئ؟ ألم يقل “فلوبير”: أنا “مدام بوفاري”. وقال “سارتر”: أنا “أنطوان روكنتان”، وقال “محفوظ”: “إنَّ كمال عبد الجواد يحملُ كل تفاصيل ووقائع من حياتي”. هلْ تصعب الكتابة خارج الذات؟
– تعدّ الذات منهلا مهما من مناهل الكتابة، على ألا ينحبس الكاتب في الاستغراق أبدا الدهر في ذاته، ويحسبها مركز الكون، ويعود ذلك إلى أن الكاتب على دراية بتجاربه أكثر من درايته بتجارب غيره شرط ألا يجعل مؤلفاته مرايا لنزواته وأمجاده ومفاخره وإخفاقاته، فهو لا يكتب سيرة ذاتية، وحتى السيرة الذاتية لا ينبغي أن تكون وظيفتها تأكيد نرجسية الكاتب، ومع ذلك، فلطالما دعوت إلى ضرورة أن تنهل الكتابة من معين المؤلف بالحدود التي تجعل تجربته تستجيب لتجارب القراء، ولاحظت في العقود الأخيرة ميلا نحو ما صار يطلق عليه رواية السيرة الذاتية، أو الرواية السيرية، أو حتى التخييل الذاتي الذي يتخذ صيغة روائية، ولا أرجو أن تغري تلك النزعة الكتًاب للانطواء على ذواتهم في هوس نرجسي يعمي أبصارهم عن رؤية العالم، فإنْ حقّ للكاتب النهل من تجربته، فإنما ليجعل منها أنه كناية عن تجارب الآخرين لا لإبطال تجاربهم، والاستهانة بها. صحيح أن الكتّاب المذكورين قد جعلوا من تلك الشخصيات تنوب عنهم في التعبير المجازي عن أفكارهم ومواقفهم، لكنها ليست هم، لقد أودعوا فيها ما حسبوه قريبا إلى نفوسهم، وربما يستجيب لتجاربهم، ولكن تلك الشخصيات على وجه الخصوص شخصيات إشكالية. وفي جميع الأحوال، فذلك من القول المجازي، ولا يقصد به المطابقة بين تجارب الكاتب وتجارب الشخصية، فلم يكن السيد “غوستاف فلوبير” هو السيدة “إيما بوفاري”، ولم يتزوج صيدليا دميما، ولا داعبت خياله الذكوري نزوات الصبايا بفرسان وعشاق، وبالقطع لم ينه حياته منتحرا، فالمماثلة بينه وبين مدام بوفاري مماثلة مجازية لا حقيقية، وذلك مفيد في الأدب.
في سيرتي الذاتية “أمواج” نصيب
وافر للحياة السريّة
* هل استطعت أن تمنح قلبك للقارئ في سيرتك الذاتية “أمواج”؟ هل قلت فعلا كلّ شيء من دون مواربة، وتجاوزت الخطوط الحمر التي ترتسم أمام كتّاب السير الذاتية في مجتمعنا الذي يمارس رقابة مفرطة على أبنائه؟
– أحسب السيرة الذاتية من الآداب الأصيلة، وفيها من الحقائق المؤكدة بمقدار ما فيها من التخيلاتِ الجامحة، وقِوامُها الأحداثُ، والتجاربُ، والأفكارُ، والآراءُ، وشيءُ من التخيّلات الضرورية التي تخلعُ عليها سمَتَها الأدبية. ومن اللازم أن تطرق بابَ المنطقة السريّة في حياة صاحبها، وإلا فسوف تفقدُ جزءا كبيرا من وظيفتها التمثيلية، وهو الجزء الجوهري في كل كتابة ذاتية. غير أنّه لولوجِ المنطقة السرية محاذيرَ شتّى تترتّب على صاحب السيرة، إذ يفزع المؤلّفون من الغوص في حيواتهم السرية للاعتقاد الشائع أنها نوع من العار، فيطمسون ما أراه دعامة أساسية من دعائم السيرة الذاتية، فليس ينبغي التكتّم على ذلك؛ لأن البطانةَ الذاتية للمرء هي المكوّنُ الأول لهويته الشخصية، بل أراها، أي تلك البطانةُ الخفية، المانحَ الشرعيَ لكتابة السيرة الذاتية. ولا يصحُ إغفالُ الحياةِ الخاصة للكاتب لأنها تتصل بمسار نشأته وتطوره، وإدراكه للعالم المحيط به، وأخيرا ينبغي أن يقدّمَ كاتبُ السيرة شهادتَه الكاملةَ على عصره وعالمه، ويكشف تطوّرَ وعيهِ بأحداث زمانه، وإلا جاءت السيرةُ خلوًا من الأهمية التاريخية.
وأوافق ما شاع من لزوم أن يدمجَ كاتبُ السيرة الذاتية بين السريّ والخاص والعام، وليس يحقُ له أن يبالغ في الاهتمام بمستوى من دون آخر، ويُفضَّل ألا ينظرَ بتحيّز مسبق إلى تجربة حياته بأنها منزّهةٌ عن الأخطاء، فحياةُ الإنسان لها ثلاثةُ مستويات أساسية: حياةٌ سرية، وحياةٌ خاصة، وحياةٌ عامة، وليس يحقّ له، بذرائع أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، أن يحجبَ مستوى، ويطمرَه، أو يبالغَ في التهويل من مستوى آخر، ويُعلي من شأنه.
وبقدر تعلّق الأمر بسيرتي الذاتية أمواج، فقد حاولت التوفيقَ بين تلك الحصص من الأحداث؛ فللحياة السرية نصيبٌ واضح في الكتاب، وللحياة الخاصة نصيبٌ مهم، ولكن ربما يكون النصيب الأكبر فيه للحياة العامة؛ لأن الكتابُ يتّصل اتصالا قويا بالأحداث الاجتماعية والسياسية في العراق خلال حقبتي الاستبداد والاحتلال. غطّى كتاب أمواج تجربةَ حياةٍ حافلة بالأحداث، والحروب، والترحال، والمنفى، لكن مصير بلادي خيّم عليه، فهو “سيرة عراقية” لما طواه في صفحاته من تجاربَ كنت شاهدَ عيان عليها، فقد شَهِدتُ العراقَ متماسكا، وشَهِدتُه تحت الاستبداد، وشهدتُه مغزوّا، ثم شهدته محتلا، وشهِدتُه ممزقا بحروب أهلية ومذهبية، وشهدته فاسد الحكم. وظني أن القارئَ الحصيف سيدْركُ نبرةَ عدم التحيّز العرقي والديني والمذهبي والثقافي طوال صفحات السيرة، وأعوّل على قرّاء سيرتي، في مراعاة اعترافي الصريح بالأخطاء، والجهرِ بها، والرغبةِ في تخطّيها. فلا ينبغي على المرء أن يخجلَ من أخطائه، إنما يفتخر بالخروج عليها، وهذا ما قمتُ به فيما أزعمُ، وأدّعي.
في سيرتي الذاتية اعترافات تعذّر عليَّ كتمها لأنها جزء من تاريخي الشخصي
* كيف تقحّمت صعاب الاعتراف في مجتمع ينكر قيمة الاعتراف، ويدعي أنّه طاهر الذيل؟
– عن جرعة الاعتراف في “أمواج” أقول بأن التجاربَ الذاتية سجلٌ للإخفاقات والنجاحات، وتخطّي العثرات، وفيها كلُ ما يُسرُّ القارئَ ويغيظُه. ومن النادر أن يجرؤ امرؤٌ على تحقيق درجة كافية من المطابقة بين ما وقع وما روي، وبين ما حدث وما كُتب، ولا يعود ذلك إلى تجنّبِ البوحِ الصادق أو التكتّمِ فقط، إنما لأن تمثيلَ التجارب بالسرد يعيدُ إنتاجِها في سياق مختلف عمّا وقعت فيه. وقد سعيتُ، أقول سعيتُ من غير جزم، إلى تخطّي شيء كثير من ذلك، ففي سيرتي الذاتية اعترافاتٌ صريحة تعذّر عليّ كتمُها، وهي ليست تجاربَ خاصة، فحسب، بل تجارب جهرتُ بها بعد حجب طويل، ومع ما سوف يترتبُ على ذلك من سوء فهم، وتقويل، وافتراء، فقد أخلصتُ فيما رغبت في قوله ووصفه، فلا يُعاب على المرء التصريحُ بأمر، إنما يُعاب عليه الإخفاءُ، والهربُ من قول الحقيقة. وبهذا المعنى، فالكتابُ ضمّ الأمواجَ الأساسية التي رأيتها مراحلَ فاصلة في حياتي السرية والخاصة والعامة.