إعداد وتقديم وحوار – عبد الرزاق الربيعي / محمد محمد إبراهيم
رغم زمن العزلة التي فرضتها الحرب وجائحة كورونا، والنكسات الصحية التي تعرّض لها في العامين الأخيرين، يواصل حياته على حضور من السكينة والوقار المشرقين على محياه الذابل، الذي يقف على عتبة العقد التاسع من عمره المديد، دون أن ينقطع عن متابعة الأحداث العربية والعالمية، متمسّكا ببرنامج القراءة اليومية، ومتابعته مسار الأحداث التي تعصف بالأمة العربية والإسلامية، غير أنّه يظلّ أكثر تمسكا بأمل الانفراج ونيل الأجيال لتطلعات الرخاء والبناء.
إنّه شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، الذي يعدّ آخر القلاع الثقافية والفكرية المعاصرة، ليس باستمراره في الحياة، بعد أن ودّع السواد الأعظم من أقرانه ومعاصريه، بل بتفرّده الصادر عن ذاكرة الرفض الدائم لتوصيف المشكلات السياسية والثقافية، والفكرية، والصراعات ومآلاتها في كلّ بلدٍ عربيٍّ.
عبد العزيز المقالح الوجه اليماني الأصيل، والوجهة الأولى في اليمن السعيد، وتحديدا في صنعاء العاصمة التاريخية، والحضارية لكلّ زائر ينتمي إلى النخب الفكرية، والأدبية، والأكاديمية، والعلمية العربية، والعالمية، والإنسان المسؤول الأقرب من الناس فرغم أن زواره في مقيله الأسبوعي الدائم- حتى زمن ما قبل الجائحة- وأعماله الوظيفية السابقة، وعمله كرئيس لمركز الدراسات والبحوث اليمني، إلا أن بإمكان أي انسان أو طالب علم مقابلته في أي وقت وبدون روتينيات المواعيد الرسمية، فالعمل اليومي الدؤوب هو الموعد الدائم عند المقالح لكلّ ذي حاجة بحثية أو علمية أو إنسانية، وليس لتواضعه الفطري فحسب، بل لكونه الأب الروحي والمرجعية الثقافية والإبداعية لكلّ أجيال البلد المعاصرة منذ خمسينيات، وستينيات القرن المنصرم..
ولو عدنا إلى سنوات النشأة، والتكوين، فوسط مجتمع قروي حافل بالزراعة والرعي والحياة البسيطة في تفاصيلها اليومية، والعظيمة في تماسك عناصر بناء ذلك المجتمع الفردي والأسري ولد عبد العزيز المقالح في عام 1937م في قرية المقالح محافظة إب، ليعيش طفولته حالما مفتونا بزهو الصباحات الجميلة، وألوانها الآسرة المتساوقة مع خيوط الشمس الذهبية على بساط السندس في أهم مسارح اليمن الخضراء، متأملا الطبيعة وراسما ملامحَ تشكلت في نفسه مُؤسِّسَة أولى ينابيع الإبداع في وجدانه الصافي، بما رسمته بإحكام في ذاكرته من صور مطبوعة، كانت مصدر ارتباطه الروحي بالمكان كمؤثر بالغ القوة، وفي سياق تلك الصباحات وتفاصيلها كانت بداية اتّصاله بالتعليم عبر فصل دراسي واحد تمتلكه القرية يسمى «المعلامة» أو الكتاتيب، التي تعلّمَ فيها الحروف، وفتح مداركه على حركاتها، ومتوالياتها وحفظ السور القرآنية الصغيرة، وبعض مبادئ الحساب البسيطة للأعداد.
وبالرغم من أن عبد العزيز المقالح فارق تلك البيئة مبكرًا إلا أن أثر ظلالها وشمسها وذكريات طفولته فيها تعمّقت في روحه، وصارت جزءًا من المكونات الأساسية لذاكرته، وغدت هي المصدر الأول لمخياله الشعري الواسع وقصائده السيروية آسرة البيان والصورة الشعرية الصادرة عن الطبيعة، لكن انتقاله إلى صنعاء أتاح له فرصة الدراسة على أيدي كوكبة من رموز المعرفة والعلم والفقه واللغة، ليتخرج من دار المعلمين في صنعاء عام 1960م، خلال دراسته في دار المعلمين كان المقالح يدرّس الأدب العربي كل من هم أدنى منه في مراحل التعليم، وفي عقد الستينيات، سافر إلى مصر لمواصلة تحصيله العلمي، فنال الشهادة الجامعية عام 1970، وفي عام 1973 حصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم ترقّى إلى الأستاذية عام 1987م.
هذه السنوات من تحصيل العلم والمعرفة كانت رغم انشغالاته حافلة بموسوعية الاهتمامات والإبداع الإنساني شعرا، وأدبا، ونقدا وفكرا وكانت كتاباته أكثر وضوحا إزاء القضايا العربية والقومية والإنسانية، كما كان نازعا إلى العقلانية والتعايش وتكريس قيم الرسالة الإسلامية السمحاء، كما كانت تلك السنوات مليئة بتفاصيل العمل اليومي في مختلف المجالات، إذ عمل أستاذًا للأدب والنقد الحديث في كلية الآداب جامعة صنعاء، بعد عودته من القاهرة ترقى في العمل الأكاديمي حتى أصبح رئيسا لجامعة صنعاء في العام 1982م واستمر حتى عام 2001م، وأثناء عمله الإداري والأكاديمي كان يعمل على تكريس البحث العلمي،ّ فأسس مركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي صار رئيسا له، حتى اليوم، وهو مؤسس ورئيس المجمع اللغوي اليمني حتى اللحظة، وغيرها من الأعمال التي شغلها على الصعيد اليمني، أما على الصعيد العربي، فقد كانت عضويته دائمة في: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، كما يعدّ عضوا مؤسسا للأكاديمية الدولية للشعر في إيطاليا..
وعلى كثرة مشاغله واهتماماته التعليمية والأكاديمية والإبداعية، يعدّ عبد العزيز المقالح ضمن قائمة أهم رموز الأدب والإبداع والفكر في الوطن العربي، بما أنجزه للمكتبة العربية والعالمية، فله رصيد في العطاء الإبداعي والمعرفي والبحث العلمي والنقدي، فإبداعيا شعريا صدر للمقالح الدواوين الشعرية: «لا بد من صنعاء»، «مأرب يتكلّم» (بالاشتراك مع السفير عبده عثمان)، «رسالة إلى سيف بن ذي يزن»، «هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي»، «عودة وضاح اليمن»، «الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل»، «الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة»، «وراق الجسد العائد من الموت»، «أبجدية الروح»، «كتاب صنعاء»، «كتاب القرية» «كتاب الأصدقاء» «كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان»، «كتاب المدن»، «الشمس تشرب القهوة في صنعاء القديمة»، «يوتوبيا وقصائد للشمس والمطر».
وفي مضمار الدراسات الأدبية والفكرية صدر للدكتور عبد العزيز المقالح: «قراءة في أدب اليمن المعاصر»، «شعر العامية في اليمن»، «الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن»، «أصوات من الزمن الجديد»، «قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة»، «الحورش الشهيد المربي»، «أزمة القصيدة العربية»، «علي أحمد باكثير رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر»، «أوليّات النقد الأدبي في اليمن»، «عمالقة عند مطلع القرن»، «شعراء من اليمن»، «الزبيري ضمير اليمن الثائر»، وغيرها من الأعمال البحثية.
وقد أكّد الكاتب والباحث اليمني الدكتور همدان دماج، في إحصائية نشرها عن إنجازات صاحب هذه السيرة الفريدة، أن المقالح رفد المكتبة العربية والعالمية، بأكثر من 23 ديوانًا شعريًا منشورًا، صدر أولها في عام 1971م تحت عنوان «لا بد من صنعاء»، وصدر آخرها في العام 2020م تحت عنوان «يوتوبيا وقصائد للشمس والمطر»، وأكثر من 32 كتابًا فكريًّا ونقديًّا منشورًا، وهناك ما لا يقل عن مئة دراسة بحثية في الفكر والنقد الأدبي والتاريخ منشورة في مجلة «دراسات يمنية» لوحدها، وما لا يقل عن 1000 مقالة منشورة ضمن عموده الأسبوعي «يوميات الثورة» في صحيفة الثورة الرسمية اليمنية، ومثلها في «صحيفة 26 سبتمبر» الأسبوعية ضمن صفحته الأدبية الأسبوعية التي كان يشرف على تحريرها، بالإضافة إلى عدد من المقالات والدراسات الأخرى التي نشرت ضمن الكتب التوثيقية للندوات والمؤتمرات الثقافية والعلمية، يضاف إلى ذلك كم هائل من مقدماته التي كتبها للآخرين في إصداراتهم من دواوين شعرية ومجاميع قصصية وروايات ومسرحيات وكُتب في علوم الاجتماع والفكر والنقد والموروث الشعبي، أو مساهماته في كُتب السير الذاتية لعدد كبير من الشخصيات الأدبية والاجتماعية والسياسية في اليمن والوطن العربي، أو رسائله التي تبادلها مع مئات الشخصيات المختلفة من يمنيين وعرب وأجانب، ومعظمها موثقة لديه.
وعلى صعيد الحضور الشعبي يؤكد الدكتور همدان دماج أن المقالح يستمد حضوره الشعبي من عوامل عدة موصولة معظمها بمشاركاته شبه اليومية في الصحافة والإذاعة وعبر التلفزيون في برامج كثيرة كان يظهر فيها، خاصة تلك التي كانت في شهر رمضان، ومنها مثلًا برنامج «خواطر رمضانية» الذي داوم اليمنيون على سماعه عبر إذاعة صنعاء لأعوام كثيرة، وفي التلفزيون عبر برامج متعددة مثل «أعلام من الفكر الإسلامي»، و»هموم عربية»، وغيرها من البرامج التي كان من خلالها يمارس دوره التنويري المجتمعي بشكل هادئ وبأسلوب مؤثر قريب من الناس، إضافة إلى ذلك مقيله الأدبي اليومي الذي كان يجتمع فيه مع عدد كبير من أصدقائه وتلامذته وضيوفه من أدباء وشخصيات اجتماعية وسياسية من اليمن وخارجه، وهو المقيل الذي يُعدُّ ظاهرة مميزة كتبَ عنها الكثيرون، وما زالت بحاجة إلى المزيد من الكتابات عنها.
ولم تكن هذه الأعمال من النسق العادي أو الكم المجرد من النوعية، بل كانت بنزعة التمرد السياقي والشكلي النازع إلى الحداثة كفيلة بأن تجعل من المقالح رائد الحداثة الحقيقية في اليمن، كما كانت جديرة بالقراءة الفاحصة والناقدة، وتبعا لذلك فقد شغلت أعماله الباحثين والنقاد والدارسين اليمنيين والعرب والأجانب، كما ترجمت أعماله الشعرية إلى الفرنسية والإنجليزية، ولعل من أهم الدراسات التي طرقت عطاء المقالح الإبداعي الشعري تتمثل في: «إضاءات نقدية: د. عز الدين إسماعيل و د. أحمد عبد المعطي حجازي وآخرون»، «النص المفتوح دراسات في شعر د. عبد العزيز المقالح- مجموعة من النقاد»، «بنية الخطاب الشعري: د. عبد الملك مرتاض»، «شعرية القصيدة: د. عبد الملك مرتاض»، «الحداثة المتوازنة (عبد العزيز المقالح: الحرف، الذات، والحياة): د. إبراهيم الجرادي»، «المضامين السيكولوجية في شعر د. عبد العزيز المقالح: جاسم كريم حبيب»، «ثلاثة شعراء معاصرين من اليمن (باللغة الإنجليزية)-بهجت رياض صليب»، «الدكتور عبد العزيز المقالح ناقدًا : د. ثابت بداري. للتواصل»، «راهب القصيدة ..عبدالعزيز المقالح» لعبدالرزّاق الربيعي، ودراسات وأبحاث عربية أخرى لا يتسع المقام لسردها.
وما ظل غائبا عن الدارسين هو إنتاج الدكتور عبد العزيز المقالح الغنائي، وهذا الغياب لا يعني القلة في إنتاج المقالح للنص الغنائي الفريد، بل نتاج لعدم اهتمام المقالح نفسه بقصائده الغنائية الرصينة والمدوزنة، إيقاعا ومعنىً ولحنًا، والتي تعد من عيون الغناء اليمني الأصيل.
هذا العطاء منح الشاعر والمفكر الموسوعي عبد العزيز المقالح جواز العالمية، للإبداع الإنساني العابر للجغرافيا، لتتشرف بحمل اسمه عدد من الجوائز والأوسمة اليمنية والعربية والعالمية، فحصل على وسام الفنون والآداب – عدن 1980م، ووسام الفنون والآداب – صنعاء 1982م، وتشرفت بحمل اسمه عدد من الجوائز الدولية والإقليمية، كجائزة اللوتس 1982م التي عرفت بـ«لوتس الدولية للأدب» و«لوتس للأدبين الأفريقي والأسيوي» وكان يمنحها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا سنويًا للكُتاب البارعين والمتميزين بطرحهم الناقد والمنتصر لحقوق الشعوب. جائزة الشارقة للثقافة العربية، بالتعاون مع اليونسكو، باريس 2002م، جائزة (الفارس) من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية 2003م، جائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 2004م، وفي العام 2010م حصل على جائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها الـ(11). أخيرا جائزة أحمد شوقي للإبداع الشعري – مشاركة مع الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي – 2019م.
كرّست مجلة هذا الملف الحافل بالجديد والأجد حول حياة وعطاء وإبداع شاعر اليمن الكبير عبد العزيز المقالح، مسلطة الضوء على مسارات موضوعية موصولة بإيجاز من سيرة الإنجاز المفتوحة على تنوع العطاء الموسوعي شعرا ونقدا وفكرا، بالإضافة إلى المراسلات الأدبية والرؤى والمقالات الصحفية ذات البعد السجالي الفكري والسياسي مع رموز عالمية، وعبر أعمدة الصحافة العربية والعالمية، حول قضايا الأمة وتطلعات شعوب الإنسانية، إضافة إلى شهادات عابرة لأهم رموز الأدب العربي من معاصري ومجايلي وأصدقاء المقالح. أمثال: (حاتم الصكر، علوي الهاشمي، محمد علي شمس الدين، علي جعفر العلاق، ليلى العثمان، جودت فخر الدين، أحمد فتحي، محمد عبد السلام منصور).