1- توطئة منهجية:
تهدف هذه الورقة إلى دراسة اللغة في رواية (تبكي الأرض يضحك زحل) للكاتب عبد العزيز الفارسي في ضوء معادلة بوزيمان، سعيًا إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة أبرزها:
1- هل تعكس لغة الرواية تمايزا واضحا فيما يتعلق بمستوييها الأساسيين من حوار وسرد؟
2- كيف تبدو علاقة الكاتب بشخصياته؟ ألديه القدرة على بث الحياة فيها وتركها تتكلم وفقًا لسماتها الخاصة وظروفها المحيطة بها، أم أن شخصيته تطل برأسها من بين السطور وتفرض على شخصيات الرواية أن تتكلم بما لا يناسب أدوارها؟
3- هل تنعكس درامية الرواية وخط سير الأحداث فيها على لغتها؟ بعبارة أخرى هل لغة الرواية في لحظات التأزم والتعقد مختلفة عنها في مراحل الرواية الأخرى؟
4- هل فروض بوزيمان ومن تلاه من باحثين صحيحة ودقيقة؟
5- هل معادلة بوزيمان قادرة على تزويدنا بالمنهج العلمي الدقيق في فحص وتقييم الأعمال الروائية؟
تقوم معادلة بوزيمان على حساب نسبة الأفعال إلى الصفات في العمل المدروس. ويكون ذلك بإحصاء عدد الكلمات في الفئة الأولى (الأفعال) وعدد الكلمات في الفئة الثانية (الصفات)، وقسمة العدد الأول على الثاني، واعتبار الناتج مؤشرا إحصائيا صالحا لقياس الفروق بين مستويات اللغة المختلفة، كالفرق بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، والفرق بين اللغة العلمية واللغة الأدبية، والفرق بين لغة الرجال ولغة النساء، وغيرها من الفروق التي تفرضها مقامات الحياة الواقعية من جهة، وسياقات العمل الأدبي ومستوياته المتعددة من جهة أخرى.
وقد نشأت معادلة بوزيمان بدءًا في إطار اللسانيات النفسانية لقياس درجة الانفعال والتوازن العاطفي(2)، ثم أخذت طريقها إلى الأدب لقياس مدى أدبية العمل المدروس. وشهدت تطبيقاتٍ في بعض لغات العالم، ومن بينها اللغة العربية. وقد طبقها في النقد العربي سعد مصلوح في كتابه (الأسلوب: دراسة لغوية إحصائية)، وهي المحاولة العربية الوحيدة -في حدود علمنا- لاستثمار هذا المقياس، ودراستنا هذه تُعَدُّ الثانية، وتطمح إلى إنجاز دراسة علمية تتوخى أن تبتعد قدر الإمكان عن الأحكام الذاتية والانطباعات الشخصية.
2- معادلة بوزيمان:
2-1: نشأة المعادلة:
يذكر فريدريك أنتوش Friederike Antosh في بحثه المعنون بـ«تشخيص الأسلوب الأدبي باستخدام نسبة الأفعال إلى الصفات»(3) أن العالم الألماني أ. بوزيمان A. Busemann كشف، في 1925م، عن منهج جديد يسبر العلاقة الدقيقة بين مظاهر «الفعل» و«الوصف» في النصوص الأدبية. ويقوم هذا المنهج على معادلة رياضية هي:
عبارات الفعل هي العبارات التي تصور أنشطة، وتتجلى في كلمات تدل على نشاط أو حركة. أما عبارات الوصف فهي التي تعبر عن خصائص إما كمية أو نوعية. ولمَّا كان التعرف على هذين النوعين من العبارات يعتمد إلى حد بعيد على الحدس، ومن ثم يصعب التمييز بينهما تمييزا دقيقا، عمل كل من ف. نويباور V. Neubauer وأ. شيلتسمان A. schlismann على تبسيط المعادلة عن طريق تقييد مجاليْ عبارات الفعل وعبارات الوصف، وحَصْر الأولى في الأفعال، والثانية في الصفات، من زاوية نحوية صرفة، لتصبح المعادلة هكذا:
2-2: تطبيق المعادلة في النقد الأدبي، وفروضها الأساسية:
إن هذه المعادلة، كما يوضح سعد مصلوح، تستخدم مؤشرا لقياس مدى انفعالية أو عقلانية لغة النصوص، ويصلح استخدامها- من ثَمَّ- مقياساً لتشخيص الأسلوب الأدبي. وهي تتأثر بعدد من العوامل التي تنزع بقيمتها إما إلى الارتفاع أو الانخفاض. ويمكن رد هذه العوامل أو المؤثرات إلى نوعين أساسيين هما: مؤثرات ترجع إلى الصياغة، ومؤثرات ترجع إلى المضمون. أما مؤثرات الصياغة فتتحدد بالمقولات الأساسية الآتية:
– الكلام المنطوق يمتاز بارتفاع ن ف ص(4) في مقابل انخفاضها في الكلام المكتوب.
– نصوص اللهجات تمتاز بارتفاع ن ف ص في مقابل انخفاضها في النصوص الفصحى.
– النصوص الشعرية تمتاز بارتفاع ن ف ص في مقابل انخفاضها في النثر.
– تختلف ن ف ص ارتفاعا وانخفاضا أيضا باختلاف فنون القول في الشعر والنثر على النحو الآتي:
– تمتاز الأعمال الأدبية (القصة والقصيدة والرواية والمسرحية) بارتفاع ن ف ص في مقابل انخفاضها في الأعمال العلمية.
– يمتاز النثر الأدبي بارتفاع ن ف ص في مقابل انخفاضها في النثر الصحفي (في الخبر والمقال والتعليق).
– يصل أقصى ارتفاع ن ف ص في قصص الجنيات، وتتناقص تدريجيا في الحكايات الشعبية، ثم في القصص والروايات المؤلفة.
– يمتاز الشعر الغنائي بارتفاع ن ف ص في مقابل الشعر الموضوعي (المسرحي مثلا).
– ومن أهم مؤثرات الصياغة طريقة العرض التي يلجأ إليها المنشئون في الأعمال القصصية والروائية خاصة، وتتأثر بها قيمة ن ف ص وفقا للآتي:
– قيمة ن ف ص في الفقرات السردية والوصفية تكون أقل منها في حديث النفس (المونولوج)، وفي هذا أقل منها في الحوار.
– الأحاديث المتناثرة في الأجزاء السردية تحتل مكانا وسطا من حيث قيمة ن ف ص بين الحوار والمونولوج.
– قيمة ن ف ص في المونولوج تكون أقل منها في الحوار.
– قيمة ن ف ص مع السرد تكون أعلى إذا كان السرد من وجهة نظر شخصية (أي على لسان شخص ما) منها إذا كان السرد مجرد وصف مباشر على لسان المؤلف نفسه.
النوع الثاني من المؤثرات هو مؤثرات المضمون، ومن أهمها:
– العمر: إذ يرتبط منحنى ن ف ص عادة بمراحل العمر، فيميل إلى تسجيل قيم عالية في الطفولة والشباب، ثم يتجه إلى الانخفاض في الكهولة.
– الجنس: تميل قيمة ن ف ص إلى الارتفاع عند النساء في مقابل ميل واضح إلى الانخفاض عند الرجال5.
2-3: كيفية تطبيق المعادلة:
في ضوء التعديلات التي اقترحها نويباور وشيلتسمان سعياً إلى تبسيط معادلة بوزيمان، قرر أنتوش أن جميع أشكال الفعل تُحْتَسبُ في إطار (الفعل)، باستثناء الأفعال المساعدة. وفي إطار (الصفة) تُحْسَبُ جميع الصفات المسندة إلى اسم، والمؤكدات مثل sehr وausgesprochen (6).
هذا في اللغة الألمانية، أما في اللغة العربية فقد ذهب سعد مصلوح إلى تطبيق المعادلة على النحو الآتي:
يشمل الإحصاء، بالنسبة للأفعال، جميع الأفعال التي تتضمن التعبير عن الحدث والزمن معا، أما الأفعال التي تخصصت دلالتها في الزمن كالأفعال الناقصة أو التي جمدت دلالتها على الحدث فينبغي أن تكون خارج الإحصاء. وعلى ذلك فيخرج من الإحصاء الأنواع الآتية من الأفعال:
1- الأفعال الناقصة: (كان وأخواتها إلا إذا استعملت تامة).
2- الأفعال الجامدة: مثل نعم وبئس.
3- أفعال الشروع والمقاربة: مثل كاد وأخواتها.
ويدخل في الإحصاء جميع ما سوى ذلك من أفعال.
أما بالنسبة للصفات فيخرج من الإحصاء الجملة التي تقع في النحو التقليدي صفة سواء كات جملة فعلية أو اسمية أو شبه جملة متعلق بمحذوف. وذلك لأسباب منها أولا: أن إعراب هذه الجملة صفة هو تصور نحوي (أي مقولة منهجية) وليس حقيقة من حقائق اللغة، وثانيا: لأن الجملة تتركب من عناصر قابلة هي في ذاتها للتصنيف مما يعقد عملية الإحصاء. وفيما عدا ذلك فقد شمل الإحصاء جميع الأنواع الأخرى من الصفات بما في ذلك الجامد المؤول بالمشتق كالمصدر الواقع صفة، والاسم الموصول بعد المعرفة، والمنسوب، واسم الإشارة الواقع بعد معرفة(7).
وفي موضع لاحق أضاف مصلوح أن الصفات المعطوفة على صفة تدخل أيضا في الإحصاء(8).
وقد ناقش المختار كريم في كتابه «الأسلوب والإحصاء» معادلة بوزيمان وآلية مصلوح في تطبيقها على الأدب العربي، وأورد عليهما عدة ملاحظات. وأول ملاحظاته وأبرزها أن النعت في اللغات الهندوأوروبية قسم من أقسام الكلام وقد يُستعمل للوظيفة، وكل من نيوبار أو شليسمان أو أنتوش وهم الذين حاولوا توضيح مصلطحات بوزيمان، لم يحددوا ما إذا كانوا يقصدون بالنعت القسم أو الوظيفة أو كليهما، وكان يحسن بهم لو تبسطوا في توضيح المصطلح وحدوده، إذ المسألة محتملة الغموض. أما في العربية فالوضع يثير مشكلات أكبر، ففي العربية مصطلح النعت، ومصطلح الصفة، والأول نوع من الثاني في مجال التركيب، فإذا عممنا أطلقنا مصطلح الصفة، وإذا خصصنا ذكرنا ما إذا كانت الصفة نعتا أو بدلا أو توكيدا. أما في مجال الصرف فمصطلح صفة استعمل لتسمية قائمة من المشتقات هي أسماء الفاعل والمفعول والصفة المشبهة والمبالغة والتفضيل والمرة والهيئة. وعليه فالنعت وظيفة فقط، والصفة وظائف (النعت والتوكيد والبدل) وليس أي منهما قسما. وهنا يشرع التساؤل عن العناصر المقصودة بالعد أهي أقسام الكلام أم الوظائف؟ فإن كانت الأقسام وهو الأقرب من اختيار فريدريك أنتوش فالصفة ليست عندنا قسما، وعليه فالقياس على بحوثهم غير مناسب. وإن كانت الوظائف فالمكونات الإسنادية الفعلية (الجمل الفعلية) تلعب دور الصفات ويجب اعتبارها في الحساب، وهو ما لم يعمل به مصلوح(9).
كذلك يرى كريِّم أن فريدريك أنتوش وسعد مصلوح أناطا بهذا المقياس ما يزيد على 16 وظيفة، وكثرة الوظائف مبددة للثقة في المؤشر، فكيف يكون دالا على المؤلف وعلى الموضوع وعلى العمر وعلى الانفعال .. . ؟ وكل ذلك في نفس الوقت(10).
وختم كريِّم ملاحظاته بسوْقِ بعض الانتقادات على بحث أنتوش، ونسبها إلى روبرت واشال، ومفادها أن بحث أنتوش يعاني نقائص واضحة في اختبارات الدلالة الإحصائية، وعدم اعتباره كثيرا من العمل المناسب حول نسبة الأفعال للصفات المنجز منذ عقد سابق، والنقص المحتمل للعينة (ذاك الحجم الذي يظهر قيما ثابتة للنسبة)»(11).
وملاحظات كريِّم مهمة جدا، وجديرة بالنظر، إلا أنها لا تحول بيننا وبين محاولة تطبيق المقياس بالطريقة نفسها التي اختارها سعد مصلوح، لاعتبارات عدة:
1- يذهب كريِّم إلى أن عبارة أنتوش المقتضبة جدا توحي بعدِّ الصفة عندما تكون قسما لا عندما تكون وظيفة، وبما أن الصفة في اللغة العربية لا تكون إلا وظيفة، فقياس سعد مصلوح على بحوث الغربيين في هذا الجانب غير مناسب. ونحن نرجِّح أن عبارة أنتوش تفيد عدِّ الصفات/الوظائف لا الصفات/الأقسام. يذكر أنتوش أنه «في إطار (الصفة) تُحْسَبُ جميع الصفات المسندة إلى اسم، والمؤكدات مثل sehr و ausgesprochen»(12). وحساب المؤكدات يرجح كفة الوظائف لا الأقسام، لأن تركيب التأكيد (مؤكِّد + مؤكَّد) يناسب تركيب الوصف (صفة+ موصوف). كذلك حساب «الصفات المسندة إلى اسم» يقوِّي هذا التأويل، إذ لو كان المقصود بالعدِّ هو الأقسام، لشُمِلتْ بالحساب كلُّ كلمة تعتبر صفة من حيث نوعها في أقسام الكلام، بغضِّ عن النظر عن الموقع الذي ترد فيه.
2- أورد مصلوح «أن الصفات، في الدراسات التي أجريت على الإنجليزية والألمانية، شملت الكلمات الواقعة صفة في التعبير (صفة + موصوف) بما في ذلك الأسماء الجامدة إذا استخدمت صفات»(13). وبهذه الطريقة يكون المقصود بالعدِّ هو الوظائف لا الأقسام. وعلى الرغم من ذلك، فالموضوعية تقتضي الإشارة إلى أن سعد مصلوح لم يُحِلْ، في هذه النقطة، على مرجع بعينه يمكن الاحتكام إليه، فلا ندري إن كان هذا هو تأويله لعبارة أنتوش المقتضبة جدا، أم أنه يستند إلى مرجع آخر تتضح فيه بشكل أكبر آلية تطبيق المقياس في اللغات الهندوأوروبية. وأياًّ يكن فالمسألة تحتمل الوجهين، ومن الإجحاف اعتبار أن محاولة مصلوح القياسَ على بحوث الغربيين غير مناسبة.
3- ما ذهب إليه كريمِّ من أن النعت والصفة في العربية شيئان متمايزان، وأن الصفة تشمل النعت والتوكيد والبدل، غريب جدا. فالمشهور لدى النحاة أن الصفة والنعت شيء واحد(14). أما التوكيد والبدل وكذلك العطف فيجمعهما مع النعت أو الصفة مصطلح أشمل هو مصطلح التابع.
4- بغض النظر عن التأصيل الغربي لمعادلة بوزيمان، تبدو تطبيقاتها التي أجراها سعد مصلوح على الأدب العربي مشجعة على المضي بها قدما، فقد طبَّقَها على عيناتٍ معتبرة من «الأيام» بأجزائه الثلاثة، و«مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، و»حياة قلم» للعقاد، ولمادة متنوعة من الصحف العربية، ثم على استقصاء شامل لأربع من مسرحيات شوقي هي «مجنون ليلى»، و«مصرع كليوباترا»، و«الست هدى»، و«أميرة الأندلس»، ولروايتين كاملتين هما: «بعد الغروب» لمحمد عبد الحليم عبدالله، و«ميرامار» لنجيب محفوظ. وقد انتهى بهذه التطبيقات المتعددة إلى تصديق فرضيات بوزيمان، وهي الفرضيات التي سردناها إليها في الفقرة (2-2).
استنادا إلى الاعتبارات التي سقناها، قررنا تطبيق معادلة بوزيمان في دراسة اللغة في رواية (تبكي الأرض، يضحك زحل) لعبد العزيز الفارسي، مع أخذنا بعين الاعتبار جميع الملاحظات المأخوذة عليها.
ومراعاتنا لمجمل المآخذ المذكورة ستكون بالنظر إلى المقياس باعتباره مؤشرا مفيدا في سبر أغوار العمل المدروس، وليس باعتباره حَكَمًا نهائيًّا ذا قولٍ فصْلٍ غير قابل للاستئناف.
2-4: كيفية تطبيقنا للمعادلة:
لقد اخترنا أن نطبق المعادلة بالطريقة نفسها التي ارتآها سعد مصلوح، لكون اختياراته مقنعة بالنسبة لنا، ولكونه خَلُصَ إلى نتائج هامة تُصَدِّق فرضيات بوزيمان في مجملها، والأهم من ذلك كله هو تيسير مقارنة نتائجنا بنتائجه.
إلا أننا، وعلى الرغم مما سبق، نرغب في توضيح تفصيلات إضافية أخذناها بعين الاعتبار في التطبيق، وهي تفصيلات لم يشر إليها مصلوح، وإن كانت لا تتعارض مع الخطوط العريضة التي اقترحها، وهذه التفصيلات الإضافية هي الآتية:
– حَسَبنا في الأفعال أسماء الأفعال مثل (هيَّا، تعال، هلمَّ .. . إلخ)، لأن دلالتها تتضمن الحدث والزمن معا، وهما الجانبان اللذان اشترطهما مصلوح في الكلمة لتحتسب فعلا.
– أخرجنا من حساب الصفات جميع الصفات الداخلة في تكوين أسماء الأعلام، مثل: سهيل الجمرة الخبيثة، سعيد الضبعة، عبيد الديك، الشاعر الزحلي… إلخ، وهذه أسماء بعض شخصيات الرواية المدروسة.
– أخرجنا من حساب الصفات جميع الأسماء المعارف الواقعة منادى، والمعربة صفة بحسب القواعد النحوية، مثل: أيها المجنون، أيها المنفيُّ، أيها الشاعر .. . إلخ، لأنَّ هذه الكلمات، باتفاق النحاة، هي المقصودة بالنداء، وليست (أيُّها) سوى وصلةٍ ووسيلةٍ لنداء ما فيه «أل»(15).
– أدخلنا في حساب الصفات جميع الصفات التي فصل بينها وبين موصوفها بواو زائدة مثل العبارة الآتية الواردة في ص172 من الرواية: «ثم سأحزن لأن الوقت لم يكن كافيا للعودة إلى وضع الانفصال بيننا، والذي لا يعكره الكره أو البغض». فالاسم الموصول «الذي» صفة لكلمة «وضع» المضافة إلى «الانفصال»، وقد فُصِلَ بين الصفة والموصوف بواو زائدة.
بالإضافة إلى هذه التفصيلات، التزمنا بجميع اختيارات سعد مصلوح، التي أشرنا إليها في الفقرة (2-3).
ونسوق مثالا نوضح فيه كيفية احتساب الصفات والأفعال.
في الفقرة الآتية، وهي مستقاة من الرواية المدروسة، وضعنا خطا تحت الصفة، وكتبنا الفعل بخط عريض مائل:
تغيرت ملامح وجهها. رمقتني بنظرة عتاب قاسية. «لا داعي لذلك. لو كان بخيت زاهر في قلبك لما احتجت لأن تتوقف ثانية واحدة لإجراء عملية حسابية»، قالت ثم أخذت الصحون إلى المطبخ وتوارت عن عيني. ظللت ساهما أحدق في الحصيرة التي جلسنا عليها. تختلط الألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء. ثمة جمل ودلة وفناجين نقشت على الحصيرة. فتشت في العقل عن سبب يربط الجمل والدلة والفناجين بالألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء. لم أجد أي سبب. لم تعد أمي من المطبخ، وخمنت أنها تبكي هناك، وتغسل الصحون بعصبية لتخفي دموعها(16).
يتضح لنا من هذا المثال الآتي:
– أخرجنا من حساب الأفعال الأفعال الناسخة، وهي في هذه الفقرة الفعلان كان، وظللت.
– أخرجنا من حساب الصفات الجمل الواقعة صفة، وهي هنا جملتا «نقشت على الحصيرة»، و«يربط الجمل والدلة والفناجين بالألوان الحمراء والزرقاء والبيضاء».
– الصفات المعطوفة على صفة دخلت في الإحصاء، وهي في هذا المثال: الزرقاء والبيضاء.
– الجامد المؤول بالمشتق مثل الذي والتي عد من الصفات حين وقع بعد معرفة.
– بالنظر إلى ما سبق، عدد الأفعال في الفقرة هو 19، وعدد الصفات هو 10، وقيمة ن ف ص هي 1,9.
وقد قمنا بحساب قيمة ن ف ص في الجوانب الآتية من رواية (تبكي الأرض، يضحك زحل):
1- الرواية كاملة.
2- كل فصل من فصول الرواية.
3- الشخصيات الرئيسة.
4- جانبيْ السرد والحوار في الرواية كاملة.
5- جانبيْ السرد والحوار في كل فصل من فصول الرواية.
6- الأجزاء السردية المجراة على ألسنة الشخصيات الرئيسية: خالد بخيت، المحيان، عايدة، سهيل الجمرة الخبيثة، ولد السليمي، خديم ولد السيل، الشاعر الزحلي.
7- الأجزاء الحوارية الخاصة بالشخصيات الرئيسية المذكورة في البند 6.
وقبل أن نشرع في إيراد نتائج إحصاءاتنا يحسن بنا توضيح كيفية تحديدنا للأجزاء السردية والحوارية في الرواية.
ذهب أنتوش إلى أن طريقة العرض Mode of presentation، في الأعمال القصصية والروائية خاصة، من أهم مؤثرات الصياغة. وقد أشار إلى أربعة أنواع من طرق العرض هي:
– الحوار الطبيعي (من النوع الذي تتضمنه المسرحيات).
– حديث النفس (المونولوج).
– الكتابة السردية والوصفية الخالصة.
– الأحاديث المتناثرة في الأجزاء السردية من النص(17).
ومما لاشك فيه أن التفصيل مفيد في كثير من حالات الدرس العلمي، إلا أننا في دراستنا هذه واجهنا صعوبة في فصل المونولوج عن الكتابة السردية الوصفية، لأن الأحداث تروى بضمير المتكلم في جميع فصول الرواية، على نحو تختلط فيه الذكريات وأحاديث النفس بعمليات السرد والوصف، ويصعب فصل بعضها عن بعض فصلا تطمئن إليه منهجية الباحث، لذلك آثرنا أن نجمع المونولوج والكتابة السردية والوصفية تحت عنوان أكبر هو «السرد». في الوقت نفسه، عددنا ضمن الحوار الأحاديث المتناثرة في الأجزاء السردية من النص.
وما يسوغ إقدامنا على اتخاذ إجراء من هذا النوع هو أن نتائج أنتوش أظهرت أن المونولوج، في ضوء قيم ن ف ص، يقع في منطقة وسط بين السرد والحوار، وأن الأحاديث المتناثرة تقع في مرتبة وسط بين المونولوج والحوار، على النحو الذي يمكن تمثيله بالشكل الآتي:
الشكل 1: قيمة (ن ف ص) متدرجة من الأقل الى الأعلى بحسب طريقة العرض
في ضوء هذا التدرج يبدو مقبولا من الناحية المنهجية إضافة المونولوج إلى السرد والوصف، وإضافة الأحاديث المتناثرة إلى الحوار. وإذا كنا مبدئيا أغفلنا هذه التدرجات في إحصاءاتنا، فإننا لم نغفلها في مرحلة التحليل، وذلك حيث توقعنا أن يكون للمونولوج أثر في رفع قيمة ن ف ص في الأجزاء السردية. أما الأحاديث المتناثرة فهي قليلة جدا في الرواية ولا تكاد تؤثر على مجمل قيم ن ف ص في الأجزاء الحوارية.
3- ملخص الرواية:
إن إلمام القارئ بنبذة عامة عن الرواية يضعه في جو الدراسة الحالية، ويفيده في متابعة التحليلات القادمة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن قراءة الرواية كاملة في حال رَغِبَ في التحقق من دقة تحليلاتنا ومدى عمقها.
تُصَوِّر الرواية قرية تتصادم مصالح أفرادها ومواقفهم الفكرية والاجتماعية فيتصارعون فيما بينهم. وتكاد تكون رمزا لمطلق التجمعات البشرية: قرية، مدينة، دولة، بما يؤلفها من شخصيات متنوعة الأمزجة، متباينة الأفكار، متضاربة المصالح.
تبدأ الأحداث عند عودة خالد بخيت من المدينة إثر تجربة حب فاشلة، ومصادمته أهالي القرية بأفكاره الحديثة، الأمر الذي يتخذه سهيل الجمرة الخبيثة ذريعة للعمل على سحب بساط السيادة من تحت قدمي المحيان (سيد القرية)، فيشرع في تحريض رجال القرية عليه بسبب سكوته على توجهات خالد بخيت ونزعاته التحررية، السكوت الذي يعزوه إلى ضعفه في مواجهة زاهر بخيت جدّ خالد الرجل الكهل القوي. وبالتعاون مع بعض رجال القرية الذين تربطهم به مصالح معينة، يؤسس سهيلٌ مجلساً يستهدف استقطاب أفراد القرية ويعمل بالتدريج على إفراغ مجلس المحيان من مرتاديه، على نحو يؤسس لسيادة جديدة يطمع أن يكون هو على رأسها. يقف ولد السليمي وزاهر بخيت في وجه المخطط ويأخذان في توعية المحيان بمخاطره. في هذه الأثناء، وفجأة، يُحرَق المجلس بيد فاعل مجهول يتضح في نهاية الرواية أنه خديم (الشاب الأسود اليتيم الذي يعيش في كنف المحيان). يصر سهيل وجماعته على المضي قدما في مخططهم وعدم التراجع، إلا أن الأحداث عند هذه النقطة تأخذ مجرى آخر يتمثل في قرار عايدة، الفتاة الجامعية التي طالما أحبت خالد بخيت واكتشفت أخيرا أنها أخته غير الشرعية، قرارها الهرب مع خديم الشاب الأسود. يكتشف أهالي القرية محاولتهما، فيقدم سهيل وأنصاره على مطاردتهما في الوادي، ويتمكنون من إصابتهما بطلقات نارية ترديهما صريعين. في هذه اللحظة يهبط السيل فيباغت المطاردين ويجرفهم جميعا إلى حيث لا يعثر لهم على أثر. هنا ينتصر المحيان لأن جميع خصومه قضوا في الحادثة، ولأن السيل عوضه عن خديم بطفل أسود وجده الأهالي في طشت نحاسي عندما كانوا يبحثون عن ناجين بعد انحسار السيل.
هذا هو الخط الدرامي الناظم لأحداث الرواية، إلا أن الرواية تتضمن قصصا أخرى تُروى عن طريق التذكر، مثل مصرع زوجة المحيان وابنه في السيل، ووفاة بخيت زاهر والد خالد، وقصة علاقته بأم عايدة التي تثمر فتاة غير شرعية هي عايدة، وقصص أخرى.
تضم الرواية أربعين فصلا لا تحمل أرقاما متسلسلة، وإنما لكل منها عنوان، ويقوم برواية الأحداث في كل فصل أو مجموعة فصول أحد أبطال الرواية، والفصول التي يرويها ذلك البطل تُجْمَعُ تحت عنوان أشمل هو اسمه، فالفصول الأول والثاني والثالث تندرج تحت عنوان «خالد بخيت»، لأنه هو الذي يرويها، وعلى هذا النحو تتوزع بقية الفصول، وقد يتكرر اسم البطل عنوانا على فصول أخرى، فـ»خالد بخيت» مثلا عنوان أيضا على الفصول الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، وعلى الفصلين الخامس والعشرين والسادس والعشرين، وعلى غيرهما.
4- نتائج الإحصاءات وتفسيرها:
4-1: قيم ن ف ص في الرواية وفصولها:
نسعى في هذه الفقرة إلى قياس مدى حيوية ودرامية الرواية وفصولها باستخدام قيمة ن ف ص. ونراجع، في الوقت نفسه، بعض فروض أنتوش وسعد مصلوح، ونتحقق من مدى صدقها. أي أننا نسعى إلى الإجابة عن السؤالين الثالث والخامس من أسئلة الدراسة (المحررة في الفقرة الأولى «توطئة منهجية»).
انتهى سعد مصلوح، في دراسته لمسرحيات شوقي، إلى أن قيمة ن ف ص تصلح أن تكون مؤشرا إحصائيا لقياس درامية المسرحية وحيوية الموقف والحوار فيها، بحيث يكون ارتفاعها دليلا على قوة الجانب الدرامي، وانخفاضها دليلا على ضعف هذا الجانب18.
وعوضا عن المسرحية، نختبر هذا الفرض في الرواية، مستحضرين أن طرق العرض في المسرحية تقتصر على الحوار والمونولوج، وهما ينزعان نسبيا بقيمة ن ف ص إلى الارتفاع، بينما تضيف الرواية إليهما السرد والوصف، وهما ينزعان بقيمتها إلى الانخفاض.
يكشف لنا الجدول (1) أن قيمة ن ف ص في الرواية كاملة بلغت (5. 24). وتأويل هذه القيمة واستخلاص معنىً منها يستوجب مقارنتها على الأقل بقيمة ن ف ص في مجمل رواية واحدة أخرى، وهو ما لا يتوفر لنا الآن لأن سعد مصلوح في تحليله لروايتيْ «بعد الغروب» و»ميرامار» لم يُعْنَ بحساب النسبة العامة للأفعال إلى الصفات في كليهما.
ولكننا، وإن كنا نفتقر إلى قيمة ن ف ص في أي رواية غير روايتنا، فإننا نمتلك قيمة ن ف ص في مسرحية نثرية من مسرحيات شوقي هي «أميرة الأندلس»، وهو ما يتيح لنا نسبيا فرصة المقارنة بينهما. بلغت قيمة ن ف ص في مجمل هذه المسرحية (5)19. وهي أقل بقليل من القيمة التي حققتها رواية (تبكي الأرض يضحك زحل) وهي (5. 24). وفي ضوء الحقيقة التي ذكرناها قبل قليل وهي أن المسرحية تقتصر على الحوار والمونولوج، وهما ينزعان بقيمة ن ف ص إلى الارتفاع، بينما تضم الرواية إليهما السرد والوصف، وهما ينزعان بقيمتها إلى الانخفاض، يجوز لنا أن نستنتج أن روايتنا تتمتع بقدر من الحيوية والدرامية خَوَّلَها أن تتفوَّقَ في قيمة ن ف ص على عمل مسرحي، متجاوزةً الأصل الذي تقتضيه طريقة كتابة كليهما.
وهذه النتيجة المؤسسة على منهج إحصائي خالص تدعم حكماً ذوقيًّا خرج به كاتب هذه الأسطر بعد قراءته للرواية، مفاده أنها واحدة من أجمل الروايات العمانية، ليس فقط على مستوى اللغة الشعرية التي كُتِبَ بها العديدُ من فصولها، بل على مستوى بناء الشخصيات، وتسلسل الأحداث، وميل كل منهما إلى التركيب والتعقيد اللذين يناسبان بنية المجتمعات البشرية، بعيداً عن التسطيح الذي تتورط فيه روايات عدة، ولا سيما ما يمثل منها بواكير أعمال مبدعيها.
الفصل
ن ف ص
الترتيب
الفصل
ن ف ص
الترتيب
الفصل العشرون
4.05
9
الرواية كاملة
5.24
–
الفصل الحادي والعشرون
3.46
2
الفصل الأول
3.53
4
الفصل الثاني والعشرون
4.96
16
الفصل الثاني
3.97
7
الفصل الثالث والعشرون
7.00
33
الفصل الثالث
4.94
15
الفصل الرابع والعشرون
6.21
26
الفصل الرابع
4.65
12
الفصل الخامس والعشرون
3.27
1
الفصل الخامس
7.45
35
الفصل السادس والعشرون
10.17
40
الفصل السادس
4.30
10
الفصل السابع والعشرون
6.58
29
الفصل السابع
7.05
34
الفصل الثامن والعشرون
7.97
36
الفصل الثامن
4.03
8
الفصل التاسع والعشرون
5.15
17
الفصل التاسع
8.39
38
الفصل الثلاثون
6.52
28
الفصل العاشر
5.19
18
الفصل الحادي والثلاثون
6.93
32
الفصل الحادي عشر
6.82
30
الفصل الثاني والثلاثون
6.88
31
الفصل الثاني عشر
5.21
19
الفصل الثالث والثلاثون
8.80
39
الفصل الثالث عشر
4.42
11
الفصل الرابع والثلاثون
8.33
37
الفصل الرابع عشر
5.34
20
الفصل الخامس والثلاثون
4.83
14
الفصل الخامس عشر
3.61
5
الفصل السادس والثلاثون
5.39
21
الفصل السادس عشر
4.81
13
الفصل السابع والثلاثون
6.39
27
الفصل السابع عشر
6.04
23
الفصل الثامن والثلاثون
6.06
24
الفصل الثامن عشر
3.61
6
الفصل التاسع والثلاثون
6.16
25
الفصل التاسع عشر
6.02
22
الفصل الأربعون
3.5
3
الجدول (1): قيمة ن ف ص في الرواية وفصولها مرتبة من الأصغر إلى الأكبر
الجدول (1): قيمة ن ف ص في الرواية وفصولها مرتبة من الأصغر إلى الأكبر
هذا فيما يتعلق بقيمة ن ف ص العامة، أما القيم الخاصة بكل فصل من فصول الرواية، فإننا نناقشها فيما يلي.
سجلت الفصول: الخامس والعشرون، والحادي والعشرون، والأربعون أقل قيم ن ف ص، وهي على الترتيب (3. 27 – 3. 26 – 3. 5). ويتراءى لنا سبب رئيسي يقف وراء انخفاض قيمة ن ف ص في هذه الفصول، يتمثل في خلوها شبه الكامل من الحوار، واقتصارها على السرد والمونولوج، وفي انعدام الأحداث في الفصلين 25، 21، دون الفصل40. ولنوضح كلامنا بشيء من التفصيل.
الفصل 25، وعنوانه «لي وحدي الرسائل»، ليس سوى مونولوج طويل يستعيد فيه خالد بخيت تفاصيل لقائه بعايدة، ويستحضر عددا من الذكريات التي أثارها في نفسه صوت عبيد الديك وهو يرفع الأذان، وليس في هذا الفصل أي أحداث، ويخلو تماما من الحوار.
كذلك الفصل 21، وعنوانه «انتظار»، ليس هو الآخر سوى مونولوج طويل على لسان عايدة، تُصوِّر فيه بلغة شعرية حالمة تلهفها لزيارة خالد الليلية. ويكاد يخلو من الحوار، باستثناء ما تضمنه موقف من مواقف الجامعة تستعيده ذاكرتها في تلك اللحظة، وهو أقرب إلى مقال حجاجي يطرح وجهتيْ نظر متباينتين حول قضية الغياب وانتظار الغائب، بطريقة تبعده عن شكل الحوار الطبيعي المألوف في مواقف الحياة اليومية. أضف إلى ما سبق أن عايدة تروي تحضيراتها لاستقبال خالد، فتصف مداخل بيتهم ومخارجه، وترتيباتها لتأمين دخوله وخروجه، وصفاً غير منسجم مع الحالة النفسية التي تعيشها، وهي مشاعر التلهف والترقب، وإنما ينسجم مع رغبة المؤلف في إطلاع القارئ على تفاصيل يراها ضرورية في استكمال بناء الحدث. إن القارئ، في الحقيقة، يستشعر فجوة بين عايدة من جهة والسرد الذي يساق على لسانها من جهة أخرى، فجوة يطل منها المؤلف ليضيف بعض الرتوش. وهذا المأخذ الفني الذي يظهر هنا حَيِيًّا يقوى في فصول أخرى من الرواية، وهو ما سنوضحه لاحقا.
إن كون الراوي فتاة تعاني لحظة ترقب وتوتر، ينزع بقيمة ن ف ص إلى الارتفاع، لسببين: أولاهما أن قيمة ن ف ص تميل إلى الارتفاع عند النساء، وثانيهما أن الكلام الصادر عن الإنسان الشديد الانفعال يتميز أيضا بارتفاع قيمة ن ف ص، إلا أن خلوَّ الفصل من أي حدث مهم، وغلبةَ المونولوج المصوغ بلغة شعرية، ودخولَ الوصف المنسجم مع رغبة المؤلف لا حالة عايدة النفسية، كل ذلك أسهم بشكل مباشر في مقاومة العاملين السابقين وأدَّى إلى خفض قيمة ن ف ص.
أما الفصل 40، وعنوانه «عند الفجر تولد الحكايات»، فيختلف عن الفصلين السابقين بأنه يتضمن حيوية ودرامية عالية نسبيا، فالأحداث فيه متنامية ومتلاحقة بشكل سريع، وغير متوقعة أحيانا، إذ يصوِّر مطاردة رجال القرية لعايدة وخديم في محاولتهما الفرار، وما أسفرت عنه المطاردة من مقتل الهاربيْن، ومداهمة السيل المطاردين وإغراقهم جميعا. يفترض في ضوء هذه الأحداث المتلاحقة أن ترتفع قيمة ن ف ص، لكن السبب الرئيسي في انخفاضها هو أنَّ الفصل يعتمد بشكل كلي على السرد والوصف، ويخلو تماما من الحوار، باستثناء أحاديث قصيرة متناثرة هنا وهناك، ولما كان السرد والوصف ينزعان إلى خفض قيمة ن ف ص، كانت النتيجة هي تلك القيمة المنخفضة التي أشرنا إليها.
ننتقل الآن إلى مناقشة الفصول التي حققت أعلى قيم ن ف ص، وهي التاسع، والثالث والثلاثون، والسادس والعشرون. لقد حققت هذه الفصول على التوالي قيم (8. 39 – 8. 8- 10. 17).
الفصل9، وعنوانه «للحلم قماش يختصر الأودية»، يحكي محاولة سهيل الجمرة الخبيثة ورفاقه إقناع ولد السليمي بتحركهم في إسقاط المحيان، ورفضه مسعاهم. والفصل يغلب عليه الحوار، وهو حوار فيه الكثير من الخلاف وتباين وجهات النظر، مما يرفع حدة التوتر، وكلا العاملين (الحوار والتوتر) يسهم في رفع قيمة ن ف ص. أضف إلى ذلك أن السرد، يركز على تصوير الحدث، وإذا لجأ إلى وصف المشاركين فيه أو وصف البيئة المحيطة به، فإنه يستخدم الجمل الاسمية، أو يستخدم الوصف بالجمل أو أشباه الجمل، مما يسهم بشكل واضح في خفض الصفات، ومن ثم رفع قيمة ن ف ص.
الفصل33، وعنوانه «مجلس الصمت»، يصوِّر مجلس المحيان بعد خلوِّه من مرتاديه إثر تأسيس سهيل الجمرة الخبيثة وأعوانه مجلسهم الخاص بهم، ويدور فيه الحوار عن المشكلات التي أثارها سهيل وجماعته احتجاجاً على إمامة علم الدين، وليس في الفصل أي حدث ذي شأن، إلا أن ارتفاع ن ف ص ناشئٌ عن غلبة الحوار عليه، واقتضاب السرد، واقتصاره على رصد الحدث بعيدا عن وصف المشاركين فيه أو البيئة المحيطة به، وهذا النوع من السرد بحسب ملاحظاتنا يرفع قيمة ن ف ص.
الفصل26، وعنوانه «الإنذار»، يحكي حوارا حادا بين خالد بخيت وجده، يوبخ فيه الأخير الأول على زيارته عايدة ليلا، وينذره بلهجة صارمة جدا إذا عاود الكرة. وهذا الحوار الحاد المتوتر الطابع هو السبب المباشر في رفع قيمة ن ف ص. كذلك السرد يميل إلى رصد الحدث مباشرة بعيدا عن الوصف.
بعد تسليطنا الضوء على الفصول الثلاثة التي سجلت أدنى قيم ن ف ص، والفصول الثلاثة التي سجلت أعلى قيمها، نعود إلى التساؤل الذي بدأنا به هذه الجزئية (4-1)، والمتعلق بقدرة ن ف ص على قياس حيوية الموقف ودراميته في الرواية مقارنة بالمسرحية.
لقد ذهب سعد مصلوح إلى أن ن ف ص مؤشر صالح لقياس درامية الموقف في المسرحية، أما في الرواية فإننا نتحفظ على إصدار حكم مماثل. فوفقا لتحليلاتنا، طريقة العرض هي السبب المباشر في ارتفاع قيمة ن ف ص أو انخفاضها. فالفصول التي غلب عليها السرد المقترن بالوصف، والمونولوج، واللغة الشعرية، هي التي حققت أدنى قيم ن ف ص. أما الفصول التي غلب عليها الحوار، وكان السرد فيها من النوع الذي يرصد الحدث بعيدا عن وصف المشاركين فيه أو البيئة التي تحتويه، فهي التي حققت أعلى قيم ن ف ص.
لن ننكر أن ضعف الجانب الدرامي قد يسهم في خفض قيمة ن ف ص، إلا أن العامل الرئيسي بحسب ملاحظاتنا هو طريقة العرض التي يستخدمها القاص أو الروائي.
وإذا حاولنا تعليل قدرة ن ف ص على قياس درامية الموقف في المسرحية دون الرواية قلنا إن المسرحية بشكل عام تقوم على الحوار، والحوار يتجه إلى رفع قيمة ن ف ص، فإذا انضاف إليه أن الموقف حيوي متطور، أسهما معا في رفع قيمة ن ف ص، وعملا في اتجاه واحد، أما الرواية فتعتمد على السرد والحوار معا، وأحدهما ينزع بها إلى الارتفاع والآخر إلى الانخفاض، فإذا اقتصر الفصل على السرد فقط، ولاسيما المقترن منه بالوصف، أفضى ذلك إلى انخفاض قيمة ن ف ص حتى وإن كانت حيوية الموقف ودراميته عالية.
بالإضافة إلى ما سبق، وقبل أن نغادر هذه الجزئية، نرغب في طرح فروض خاصة بنا استنتجناها من تحليلاتنا وملاحظاتنا، ونرى فيها تعديلاً لبعض فروض أنتوش وسعد مصلوح:
1- السرد الذي يقتصر على تصوير الحدث بعيدا عن وصف المشاركين فيه أو وصف البيئة التي يقع فيها يميل إلى رفع قيمة ن ف ص.
2- أثناء السرد، قد يلجأ الكاتب إلى استخدام الجمل الاسمية في تصوير المشاركين في الحدث وتصوير البيئة التي تحتضنه، أو استخدام الصفات/الجمل وهي غير محتسبة ضمن الصفات وفقا لآلية سعد مصلوح. وفي ضوء هذا الخيار تميل قيمة ن ف ص إلى الارتفاع، بخلاف المتوقع، مما يدعو إلى مراجعة خيارات سعد مصلوح التي ذهب فيها إلى عدم احتساب الصفات/الجمل أو الصفات/أشباه الجمل في عدد الصفات.
3- هذا السرد يتقدم في قيمة ن ف ص على المونولوج بخلاف ما ذهب إليه أنتوش.
4- اللغة الشعرية في النثر تنزع إلى خفض قيمة ن ف ص وليس إلى رفعها. فمثلا الفصول (1 و15 و18 و2) بلغت قيمة ن ف ص فيها أقل من 4، وهي مكتوبة بلغة شعرية حالمة، وينتشر فيها الوصف.
5- الوصف الخالص، كوصف المشاركين في الأحداث ووصف البيئة التي تقع فيها الأحداث، ينزع إلى خفض قيمة ن ف ص بشكل كبير.
4-2: قيم ن ف ص في الأجزاء السردية والحوارية في الرواية وفصولها:
نسعى في هذه الفقرة إلى تقويم مدى تمايز السرد والحوار في لغة الرواية وفصولها. أي أننا نجيب عن السؤال الأول من أسئلة الدراسة. (انظر الفقرة1).
يكشف لنا الجدول (2) أن قيمة ن ف ص في الأجزاء السردية في مجمل الرواية بلغت 4. 7، بينما بلغت في الأجزاء الحوارية 6. 23، والتمايز بين المستويين جلي، فالفارق بين القيمتين يبلغ 1. 53، وهو قريب من الفارق الذي حققته رواية ميرامار لنجيب محفوظ حيث بلغ الفرق بين مستويي السرد والحوار 1. 6، مع إقرارنا أن إجراء المقارنة بين هاتين القيمتين غير دقيق، لأن طريقة الحصول عليهما مختلفة بيننا وبين سعد مصلوح. فنحن حصلنا على قيمة ن ف ص في مجمل الأجزاء السردية عن طريقة إحصاء جميع الأفعال وجميع الصفات في الأجزاء السردية في الرواية كاملة، ثم قسمنا العدد الأول على الثاني، وكذلك فعلنا في حساب ن ف ص في الأجزاء الحوارية، ثم أخذنا الفارق بينهما وهو (1. 5). أما سعد مصلوح فقد حصل على قيمة ن ف ص في مجمل الأجزاء السردية عن طريق أخذ متوسط القيم التي حققتها ن ف ص في الأجزاء السردية في كل قسم. وهذا الإجراء من وجهة نظرنا غير دقيق. لأنه يغفل تفاوت أحجام الأقسام، وتباين نسبة الأفعال إلى الصفات في كل قسم. وقد جربنا في عدة حالات افتراضية حساب قيمة ن ف ص الإجمالية بالطريقتين: أي طريقتنا وطريقة سعد مصلوح، واتضح لنا أنه لا يمكن للقيمتين أن تتطابقا أبدا. ولما كان التطابق بين القيمتين متعذرا كان الأحوط بل الأصح الاعتماد على الأرقام الخام مباشرة بعيدا عن النِّسَب.
الفصل
ن ف ص في السرد
ن ف ص في الحوار
الفصل
ن ف ص
في السرد
ن ف ص
في الحوار
الفصل 20
5.20
3.60
الرواية كاملة
4.71
6.23
الفصل 21
4.00
2.53
الفصل 1
2.97
7.00
الفصل 22
4.74
5.05
الفصل 2
3.71
5.82
الفصل 23
6.33
8.75
الفصل 3
2.62
7.11
الفصل 24
5.62
8.00
الفصل 4
4.10
6.57
الفصل 25
3.27
0.00
الفصل 5
6.61
8.20
الفصل 26
12.00
8.86
الفصل 6
3.40
9.45
الفصل 27
11.83
5.53
الفصل 7
10.20
6.12
الفصل 28
9.40
6.43
الفصل 8
4.47
4.67
الفصل 29
4.10
6.94
الفصل 9
9.64
7.25
الفصل 30
5.18
10.71
الفصل 10
5.02
6.67
الفصل 31
5.80
22.00
الفصل 11
6.92
6.00
الفصل 31
4.14
7.73
الفصل 12
4.89
5.64
الفصل 33
7.60
11.20
الفصل 13
5.15
3.79
الفصل 34
6.78
17.67
الفصل 14
3.32
12.20
الفصل 35
8.11
4.00
الفصل 15
3.17
6.58
الفصل 36
5.13
14.00
الفصل 16
4.33
7.08
الفصل 37
6.17
10.50
الفصل 17
9.10
4.24
الفصل 38
5.74
6.67
الفصل 18
3.47
4.19
الفصل 39
7.38
5.73
الفصل 19
5.95
6.06
الفصل 40
3.37
4.38
جدول (2): قيم ن ف ص على مستويَيْ السرد والحوار في الرواية وفصولها
جدول (2): قيم ن ف ص على مستويَيْ السرد والحوار في الرواية وفصولها
وإذا أخذنا بطريقة سعد مصلوح في حساب الفارق، ونقوم بذلك فقط لتسويغ المقارنة، فإننا نحصل على القيم الآتية:
– متوسط ن ف ص في الأجزاء السردية = 5. 77
– متوسط ن ف ص في الأجزاء الحوارية = 7. 37
– الفارق بين القيمتين = 1. 6
بأخذ قيمة الفارق بالطريقتين، يتضح لنا أن رواية (تبكي الأرض يضحك زحل) قريبة من رواية (ميرامار) من حيث الفارق العام بين لغة السرد ولغة الحوار، بخلاف رواية (بعد الغروب) لعبد الحليم عبد الله التي تأتي دونهما في التمايز بين السرد والحوار حيث يبلغ الفارق قيمة (1) فقط. وفي اقتراب الفارق في رواية الفارسي من قيمته في رواية عَلَمٍ روائيٍّ كبير كمحفوظ مؤشرٌ يعكس نضجاً فنياًّ لدى الأول، على الرغم من أن روايته هذه هي الأولى، والوحيدة إلى الآن. إن قارئ رواية الفارسي يشعر فعلا بالتمايز بين السرد والحوار، فالأخير في كثير من مواضعه حيوي، وطبيعي، وقريب من الحوار الذي ينتشر في مواقف الحياة اليومية، كما أنه يتسم بالنكتة والطرافة في بعض الأحيان، إلا أن هذه الحيوية والطرافة لا تحافظ على مستواها نفسه في جميع مراحل الرواية، ففي بعض الفصول، تختل العلاقة بين مستويَيْ السرد والحوار، ويبدو الأخير شبيها بالأول، وهو ما سنوضحه في الفقرات القادمة.
وقبل أن نترك هذه النقطة نورد مثالاً تتضح فيه حيوية الحوار وطبيعيته. والمثال يحكي جانبا من خطة جمعان (السكير الذي تاب مؤخرا) للاستحواذ على رفع الأذان في مسجد القرية، وتجريد عبيد الديك (المؤذن الأقدم للقرية) منه، والراوي هو ولد السليمي:
قبل ثمانية أشهر أتى جمعان إلى الديك وقال له: «سمعت أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد قال –فيما معنى الحديث-: المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة. أليس كذلك يا عبيد؟». تنحنح عبيد وقال: «بلى». بكى جمعان وذرف دموعا سخينة، وألقى برأسه على كتف رفيقه. توقف جمعان ثم قال ناظرا إليه:
– تتوق نفسي إلى ذلك. أريد أن يعوضني الله عن قصر قامتي وعنقي في الدنيا بطولهما يوم القيامة.
– أسأل الله ذلك.
– أفهم من هذا موافقتك على طلبي ..
– أي طلب؟
– أن أرفع الأذان في القرية.
صمت عبيد. لم يشأ كسر صديقه، حديث العهد بالتوبة. وافق أن يؤذن جمعان ظهر ذلك اليوم. وما أدراك ما تلك الظهيرة. رفع جمعان الأذان وحين وصل إلى موضع (حي على الفلاح) قال: (حي على الفلاه .. حي على الفلاه)، فضحك من ضحك، وحوقل من حوقل. ظلت هذه الحادثة موضوع تندر في المجلس أسبوعا بأكمله. قال ولد شمشوم ساخرا: «كان يريد قول حي على الفلاح، وحين وصل إلى كلمة الفلاح تذكر أيامه الماضية في الفلاه، فقال ما قال».
مرت أيام أخرى وأتى جمعان يقول: «مرة واحدة لا تكفي لإطالة عنقي يوم القيامة. ما رأيك لو أذنت كل ظهيرة؟». صمت عبيد متوجسا من الأمر. قال محاولا صرف جمعان عن الأمر: «أنت فهمت الحديث الشريف بصورة خاطئة .. فليس معناه أن رقاب المؤذنين تكون طويلة جدا، ولكن .. « قاطعه جمعان:
– ليكن فهمي للحديث خاطئا كما تقول الآن – رغم أنك لم تقل ذلك أول الأمر- أنا أريد عمل الخير، والتكفير عن السنين الماضية.
– لكنك تخطئ في نص الأذان.
– لقد عرفت خطئي. اسمع: حي على الفلاح.. . حي على الفلاح.
صمت عبيد في حيرة، ثم وافق على مضض. أذن جمعان تلك الظهيرة بصورة صحيحة وصار يؤذن كل ظهيرة. 20
نكتفي بهذا القدر، وننتقل الآن إلى مناقشة قيم ن ف ص في الأجزاء السردية والحوارية في فصول الرواية.
يتضح لنا من خلال الجدول (2)، أنه من بين أربعين فصلا تكوِّن الرواية، تفوقت قيمة ن ف ص في الأجزاء الحوارية على قيمتها في الأجزاء السردية في سبعة وعشرين فصلا. أي أن العلاقة بينهما طبيعية وتؤيد الفرض العام الذي سقناه من قبل وهو أن قيمة ن ف ص تعلو في الحوار وتنخفض في السرد.
وإذا علمنا أن الفصل الخامس والعشرين لم يتضمن حوارا أصلا، والفصل الخامس والثلاثين يخلو تقريبا من الحوار، إذ لم يتضمن سوى جملة حوارية واحدة، جاز لنا تقرير أن الفصول التي اختلت فيها العلاقة بين السرد والحوار هي أحد عشر فصلا، وتمثل من الأربعين فصلا ما نسبته 27. 5%.
إذن، بشكل عام، تصدِّقُ قيم ن ف ص في فصول الرواية الفرض الأساسي الذي ذهب إليه أنتوش وأكده مصلوح ومفاده أن قيم ن ف ص تميل إلى الارتفاع في الفقرات الحوارية مقابل انخفاضها في الفقرات السردية.
إلا أن اختلال النسبة في أحد عشر فصلا، وهي ليست قليلة، يدعونا إلى تأمل تلك الفصول، ومحاولة تقديم التفسيرات الملائمة.
أول الأسباب، وهو من وجهة نظرنا هام جدا، صِغَرُ فصول الرواية. فالرواية تضم أربعين فصلا، وهذا العدد كبير، ويَنْجَرُّ عنه صِغَرُ كل منها. والعينة الصغيرة في علم الإحصاء عرضة لتذبذبات كبيرة بالنسبة للقيم المدروسة فيها، وعليه فإن العلاقات المطردة نسبيا في العينات الكبيرة الحجم تختل وتضطرب كثيرا في العينات الصغيرة، وهذا ما نرجِّح أنه لعب دورا هاما في اختلال نسبة الأفعال إلى الصفات في فصول الرواية. بالإضافة إلى هذا السبب العام، هناك أسباب أخرى نحاول تقصيها فيما يلي.
الفصل 7، وعنوانه «بعض الانقلابات ضرورة وجودية»، هو أول الفصول التي تختل فيها العلاقة بين السرد والحوار. والسبب الرئيسي في اختلال العلاقة، من وجهة نظرنا، ينشأ عن طول الفقرات الحوارية في مقابل قصر الفقرات السردية، فهذه الأخيرة تكاد تقتصر على تصوير الحدث، أي ذكر الأفعال التي يقوم بها الشخوص، ولا تتعدى ذلك إلى وصفهم أو وصف البيئة المحيطة بهم، ولا شك أن ذلك يسفر عن ازدياد الأفعال في مقابل انحسار الصفات. أما الفقرات الحوارية فطويلة، وفيها جانب كبير من الحجاج ومحاولة الإقناع وسوق الحجج والبراهين، مما يؤدي إلى زيادة عدد الصفات، ومن ثم انخفاض قيمة ن ف ص.
وعلى الرغم من ذلك، لا تبدو قيمة ن ف ص المستخلصة من الفقرات الحوارية في هذا الفصل منخفضة كثيرا مقارنة بقيمتها في الفصول الأخرى، ففي حواليْ أحد عشر فصلا، تراوحت ن ف ص في الفقرات الحوارية بين 2. 5 و5. 6، أي أقل من قيمتها في هذا الفصل. فضلا عن ذلك قيمة هذه الأخيرة قريبة جدا من قيمة ن ف ص في الفقرات الحوارية في مجمل الرواية، وهي 6. 23.
من أين ينشأ الخلل إذن؟ الخلل ينشأ من ارتفاع قيمة ن ف ص في الفقرات السردية إذ بلغت (10. 20)، وهي ثالث أعلى قيمة في الفقرات السردية في الرواية كاملة. وليس معنى ذلك أن هذه الفقرات السردية مصوغة بشكل سيء من الناحية الفنية، وإنما الأمر متعلق بالفرض الذي سقناه سابقا، وقررنا أنه تعديل لفروض أنتوش ومصلوح، ومفاده أن السرد المقتصر على وصف الحدث، دون وصف المشاركين أو البيئة، يميل إلى رفع قيمة ن ف ص. وإذن فهذا الفصل دليل على صحة التعديل الذي اقترحناه.
وعلى الرغم مما سبق، فإننا نسجل على هذا الفصل ملاحظة فنية، نرى ضرورة ذكرها هنا، وإن لم تَهْدِنَا إليها قيم ن ف ص.
مشكلة هذا الفصل هو أن شخصياته في أقوالهم وحركاتهم يعبرون عن نزعة تآمرية واضحة، ويبدون كأنما يرتضون لأنفسهم هذا الدور، على نحو يجافي طبائع البشر. فالإنسان عادة ينزع إلى تسويغ مطالبه غير الشرعية، بطريقة واعيةٍ أو غيرِ واعيةٍ، بغطاء من الحجج المقنعة نسبيا. وسهيل الجمرة الخبيثة وأصدقاؤه في مسعاهم إلى تنحية المحيان من سيادة القرية يستندون إلى حجة سخيفة وهي سكوته على تصرفات خالد غير المألوفة، علماً بأن هذا الأخير لم يتسبب في ضرر مباشر أو غير مباشر لأيٍّ منهم، ولم يصادم أياًّ من عقائد القرية أو أعرافها ذات الشأن. كذلك توزيع الأدوار بين المتحدثين واضح التصنع، وكأنما اتفق الحاضرون على توزيع معين، وحفظوه جيدا. والأحاديث التي أدلوا بها تكاد تتطابق من حيث النزعة، ولا تبرز بينها فواصل ناشئة عن تمايز شخصياتهم، كأنما المتحدث هو شخص واحد، ولكنه كل مرة يلبس قناع شخصية من شخصيات الرواية. إن هذا الفصل من وجهة نظري واحد من أضعف فصول الرواية.
تبدو الأسباب في بقية الفصول التي اختلت فيها العلاقة بين السرد والحوار في قيمة ن ف ص ناشئة عن أسباب مماثلة لتلك التي فسرنا بها اختلالها في الفصل السابع. وهي أسباب تتعلق بطرائق صياغة السرد والحوار، وليست بالضرورة ناشئة عن ضعفٍ فنيٍّ في إدراك التمايز بينهما، وأبرز هذه الأسباب:
– يقوم السرد بحكاية الأحداث، وكثيرا ما يميل إلى الوصف والتصوير، مما يؤدي إلى شيوع الصفات، ومن ثم انخفاض قيمة ن ف ص. ولكنه في بعض الأحيان قد يستخدم الجمل الفعلية، والجمل الاسمية، وأشباه الجمل، في عمليتيْ الوصف والتصوير، وهذه لا تحتسب في الصفات بحسب آلية سعد مصلوح، مما يؤدي إلى نقص عدد الصفات، ومن ثم رفع قيمة ن ف ص. ولنسق مثالا على ذلك من الفصل التاسع «للحلم قماش يختصر الأودية»:
«انتظر»
ميزت في النداء صوت سهيل الجمرة الخبيثة. صوت لا تخطئ الأذن خبثه. الخطوات كانت كثيرة وهي تقترب نحوي. فجأة ظهرت لي الحقيقة: سهيل وولد شمشوم وسعيد الضبعة وحمدان تجريب وأبو عايدة. يوم القيامة – كما أظن- سيعبر هؤلاء الخمسة إلى النار دون حساب. الملائكة الموكلون بهم تعبوا من التسجيل. في الأمر سوء دون شك. قلت لهم: «بطني ممتلئ بالأرز .. لا مكان فيه للشر الذي جئتم به» .. . 21
يكشف هذا الشاهد كيف أن السرد استخدم أفعالا كثيرة في تصوير الحدث ووصف المشاركين فيه، دون أن يستخدم صفة مفردة واحدة مما تحتسبه آلية سعد مصلوح. والنتيجة المباشرة هي ارتفاع قيمة ن ف ص في الفقرات السردية.
– قد يقتضي الموضوع شيوع الصفات في الحوار شيوعا يسهم في خفض قيمة ن ف ص دون أن يكون السبب ضعفا فنيا في صياغته. والدليل الواضح على ذلك الفصل الثالث عشر، حيث انتشرت العديد من الصفات التي اقتضاها الموضوع، مثل «الأسبوع الأول»، «الأسبوع الثاني»، «الأسبوع الثالث»، «الشهر الثاني»، فقد كان المجتمعون يناقشون توزيع طعام الإمام البنجالي الجديد «علم الدين» على بيوت القرية.
– قد يختلط السرد بالحوار في بعض المواضع، كما في الفَصْلِ السابع والعشرين، وعُنوانه «غيرة الريح على الطين»، فالمحيان في حواره مع علم الدين يتحول إلى السرد ليحكي قصة الإمام راشد ودِيكه ما يستغرق ثلاث صفحات ونصف، وهو ما أدَّى بشكل مباشر إلى انخفاض قيمة ن ف ص في الفقرات الحوارية. وهذا التحول إلى السرد ضمن الحوار لا يمثل مشكلة فنية أبدا.
– في بعض المواضع يكون طول الفقرات الحوارية هو السبب في اختلال العلاقة بين السرد والحوار في قيم ن ف ص. في الفصل العشرين، وعنوانه «ليكن قلبك غيمة»، ينشأ الخلل بشكل واضح من فقرة حوارية طويلة لخالد بخيت بلغت قرابة ثلاث صفحات، وهي لغة حالمة أقرب إلى المونولوج يستحيل أن تكون حوارا، ولكن ما يسوغها فنيا أن الشاعر الزحلي ليس سوى فكرة في رأس خالد بخيت، وحواره معه أقرب إلى حوار النفس (المونولوج الداخلي). كذلك في الفصل السابع عشر، وعنوانه «لا للاستيراد»، تسهم فقرة حوارية طويلة على لسان سهيل الجمرة الخبيثة يقنع فيها سعيد الضبعة بفاعلية خطوات الانشقاق على سيد القرية، تسهم هذه الفقرة في خفض قيمة ن ف ص في الأجزاء الحوارية. وفي مواضع أخرى يقترن طول الفقرات الحوارية بنزعة فلسفية لا تناسب المقام الذي تساق فيه كما في الفصل التاسع والثلاثين «لقاء قبيل الفجر»، حيث يدور حوار طويل بين عايدة وخديم «الشاب الأسود اليتيم»، ويتبادلان أحيانا حوارا فلسفيا قد يكون مستساغا على لسان عايدة (الفتاة الجامعية)، ولكنه غير مستساغ على لسان خديم (الشاب الذي لا تذكر الرواية أبدا أنه تعلم وعني بالثقافة). وهذا الفصل عموما تغلب عليه رومانسية غير حقيقية.
– يبدو في بعض مواضع الحوار، وهذه ملاحظة غير بارزة بوضوح، أن هناك استخداما للصفات بدرجة أكبر من الواقع لو أننا تخيلنا الحوار طبيعيا، كقول المحيان في الفصل الثالث عشر متسائلا عن الإمام البنغالي (أيزعجه المقام في بيت طيني؟) على الأرجح عادة أن يقول (أيزعجه المقام في بيت من الطين) أو (بيت طين). ومثله قول زاهر بخيت في الفصل السادس والعشرين مخاطبا خالدا (لأنك سهرت حتى وقت متأخر)، وقوله كذلك (أنا لا أكذب سهرك حتى وقت متأخر)، ويبدو لي أن الأقرب إلى الواقع أن يقول (لأنك تأخرت في السهر)، أو (نمت متأخرا). ومثله قول ولد السليمي في الفصل الثامن والعشرين محذرا المحيان (هؤلاء الخمسة يخططون لسحب البساط من تحت قدميك).
هذه الأسباب هي التي تقف وراء اضطراب العلاقة بين السرد والحوار في قيم ن ف ص، ويبدو جليا أنه ليس لها علاقة واضحة بضعف أدوات الروائي الفنية، وأنها ترجع في الأغلب إلى اختيارات خاصة بالروائي في صياغة السرد والحوار، الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر الجدي في فروض أنتوش وسعد مصلوح، وفي الآلية التي اقترحها الأخير في تطبيق معادلة بوزيمان على الأدب العربي.
4-3: قيم ن ف ص الخاصة بالشخصيات الرئيسية، وقيمها فيما أجري على لسانها من سرد وحوار:
يتوخى هذا الفصل تقويم قدرة الكاتب على بث الحياة في شخصياته، وتركها تتكلم وفقا لسماتها الخاصة وظروفها المحيطة بها. أي أننا نجيب عن السؤال الثاني من أسئلة الدراسة (المحررة في الفقرة 1).
إن أول ملاحظة يكشفها لنا الجدول (3)، هي أن قيم ن ف ص في الفقرات السردية لدى جميع الشخصيات أقل منها في الفقرات الحوارية، باستثناء المحيان، وهو ما يؤكد الفرض الأساسي لدى أنتوش وهو أن قيم ن ف ص في السرد أقل منها في الحوار. وعلى الرغم من ذلك فالتعديلات التي اقترحناها على هذا الفرض مهمة، ولا بد من أخذها بعين الاعتبار.
الشخصية
ن ف ص/ المجمل
ن ف ص/ السرد
ن ف ص / الحوار
خالد بخيت
4.19
3.97
5.19
المحيان بن خلف
4.86
4.96
4.50
ولد السليمي
6.54
6.52
6.59
خديم ولد السيل
6.98
6.40
12.00
سهيل الجمرة الخبيثة
6.32
6.09
7.12
عايدة
4.06
3.81
4.39
الشاعر الزحلي
4.51
4.24
6.31
جدول رقم (3): قيم ن ف ص لدى شخصيات الرواية الأساسية
جدول رقم (3): قيم ن ف ص لدى شخصيات الرواية الأساسية
باستثناء الملاحظة السابقة، لا يبدو شيء من معطيات الجدول يتناسب مع فروض بوزيمان أو من تلاه، فبحسبهم قيمة ن ف ص تميل إلى الانخفاض مع التقدم في السن، وتميل إلى الارتفاع مع النساء، وكلاهما لا يتحقق في الجدول، فأدنى قيمتين عامتين نجدهما لدى خالد بخيت وعايدة، وهما الأصغر في السن، فضلا عن أن عايدة فتاة.
قد يذهب البعض إلى أن عدم تصديق نتائج الجدول لفروض بوزيمان يشي بضعف محتمل لدى القاص، وهذا وارد، إلا أن لدينا تفسيرا أقوى لهذه النتائج، وينسجم مع بعض الفروض التي سقناها سابقا.
بحسب تفسيرنا، الشخصيات التي انخفضت لديها قيم ن ف ص، وهي: خالد بخيت، والمحيان، وعايدة، والشاعر الزحلي، تميل إلى استخدام اللغة الشعرية، ولاسيما في السرد، بينما الشخصيات التي ارتفعت معها قيم ن ف ص، وهي: ولد السليمي، وخديم ولد السيل، وسهيل الجمرة الخبيثة، تميل إلى استخدام لغة واقعية مباشرة، بعيدا عن حلمية الشعر وتهويماته.
وفي ضوء التعديلات التي اقترحناها سلفا (في الفقرة 4-1) فإن اللغة الشعرية تميل إلى خفض قيمة ن ف ص، وهو ما ينسجم مع معطيات هذا الجدول.
ولنسق مثالا على كل شخصية توضح طريقة سردها للأحداث:
– خالد بخيت:
«وحيدا كنت يا وطني.. وأنت معي، تسافر فيَّ .. تسكنني»
هكذا أدندن بأغنيتي الوحيدة، أقصر أغنية عرفها تاريخ الهزائم، وأطول حزن يدمنه الغياب. لا أزعم أني كتبتها ولكن دون شك أهديتها لحنا من دمي، وبعضا من صوتي!. وسألوني يوما: «من كتبها بالضبط؟» فأجبت مغمضا عيني بكل ثقة: «شاعر من زحل». وامتنعت بعدها عن أي تعليق. أبناء قريتي يمشطون أحاديثهم بأسئلة كثيرة، وتهزمهم الإجابات المقتضبة كالقشرة. ولأنهم يخشون قول: «لا نفهم» أو «لا نعرف»، تجاهلوا الشاعر الزحلي وتركوني أدندن22.
– المحيان بن خلف:
لا وجود لأي حقيقة على تراب هذه القرية. كل شيء هنا جزء من حلم مجنون، سنفيق قريبا منه ونعود إلى حيواتنا قبيل النوم. لا أذكر متى نمت لأعيش هذا الحلم، لكني بالتأكيد أعيش أقصر حلم .. . عشت زمني أتخيل أنه بعد دقائق، سأفيق لأجد أبي يقول لي: «قم لصلاة الفجر. رف جفناك بسرعة قبل قليل. بم حلمت؟» .. . وسأحكي له عن هذه القرية، عن هذا العمر، عن الذين ماتوا على جانبي الطريق الطويل، أولئك الرجال بهممهم العالية ومطامحهم النبيلة، عن أبناء الأرض البكر. سأضع رأسي على كتف أبي وربما بكيت رعبا من ذاك الكابوس الطويل الممتد على أرض الواقع أقل من دقيقة!23
– عايدة:
اعبر أيها العاشق المجنون واحتفظ بأنفاسي معك. امزجني بنكهة الضوء واغمسني في شرايينك. خذني إليك فأنا لم أعد أرغب في الحياة دونك. قلبي المتلهف كان خائفا عليك قبل ذهابك إلى المجلس. سمعت أمي تقول إنهم سيطردونك من القرية إلى الأبد. امتلأت عيناي بالدموع أمامها رغما عني. شهقت والقلق واضح عليها: «ما يبكيك؟ ويحك. ماذا تخفين عني؟». لم أستطع الرد. أخفيت وجهي وجلست24.
– الشاعر الزحلي:
رويدك يا قرية العجائب، يا بنت جهنم.
الصامتون الذاهبون في الحلم كم تعبوا. لا الدرب حن، ولا الأفراح تدنيهم. كم يحزنون، ويتعبون. كم يرحلون وجرح في أقاصيهم. قلت للقصيدة: «اقتربي لأرشف ثغرك». ضحكت وأشارت: «تعال أنت». سبحت في الفضاء ولحقت بها. زارت الأقمار والكواكب وقلبي يلهث وراءها. وفجأة اختفت عن ناظري.
مذ ألقت بي القصيدة في براثن البحث، فصادفت هذه القرية، غدوت ذلك التائه الذي تغويه اللعبة الجديدة. يقف يتأمل حركة اللاعبين، ثم تأخذه النشوة فيدخل ليساعد الطرف المغلوب قليلا كي تحلو اللعبة. يخرج من الملعب ليتأمل اللعبة بعد تعديلاته. يندم فجأة على تدخله الذي لم يكن عادلا. يقرر تصحيح الخطأ، فيدخل ليساعد الطرف الآخر. يخرج فيكتشف أنه ورط الفريق الأول. يدخل مرة ثالثة ورابعة .. 25
– ولد السليمي:
لا بد أن جمعان مريض اليوم، فقد جاء صوت أذان الفجر بصوت الديك وحده. كل فجر حين أستيقظ على صوت طرقة الميكروفون قبل الأذان، أفتح عيني وأسبح في ملكوت الله مع صوت الديك، وقبيل منتصف الأذان، أضع يدي أسفل طرفي الوسادة، ومع اللحظة التي يبدأ فيها جمعان دوره أضغط بالطرفين تجاه أذني، لا لأتجنب سماع بقية الأذان –أستغفر الله- لكن لأن صوت جمعان قادر على اختراق جدار، وأحب تخفيف شدة صوته بالوسادة كي لا أتعب أذنيَّ في بداية اليوم. 26
– خديم ولد السيل:
في صغري اكتشفت اختلافي عن كل الأطفال من حولي. في البداية حسبت نفسي أحسن الأطفال. لأنني كنت أظن سيدي المحيان والدي الحقيقي، كما كنت أحسب كل نساء القرية أمهاتي. كل يوم كانت ترعاني أم مختلفة عن اليوم السابق. أحيانا كنت ألعب مع أطفال أظنهم إخوتي، ثم في الغد أجدني ألعب مع إخوة آخرين. هل ناديت المحيان «بابا» أو «أبي» يوما؟ لا أذكر ذلك. كل ما أذكره أنهم علموني منذ صغري مناداته «سيدي». في الرابعة من عمري بدأت أفهم أن أبي الحقيقي غير موجود في القرية، وأن أمي غير موجودة فيها أيضا. بدأت أشعر حينها أني أقل شأنا من باقي الأطفال27.
– سهيل الجمرة الخبيثة:
-مساء الخير يا أبا عايدة. جئنا نعودك!
لم نمهله حتى يجيب، بل تقدمنا ودخلنا نحن الأربعة دفعة واحدة. تقدمناه إلى الصالة وجلسنا: سعيد الضبعة بقربي، وجلس ولد شمشوم بالقرب من حمدان تجريب. لحق بنا أبو عايدة وهو يقول: «ويحكم .. أي دين هذا الذي يوصيكم بزيارة المريض بعد منتصف الليل؟» ضحكنا جميعا إذ عرفنا أنه أدرك أن سرا ما يكمن وراء زيارتنا. قال سعيد الضبعة: «نراك تستطيع الحراك.. لماذا تخلفت عن حضور مجلس الليلة؟. فاتك نصف عمرك. سنحكي لك بعد أن تحضر لنا العصير!». قطَّب حاجبيه امتعاضا وأردف ولد شمشوم: «أخبر أم عايدة بأننا قد تناولنا العشاء، واشكرها على كرمها. العصير أكثر من اللازم.. هيا ننتظرك!!»28.
إن النماذج التي سقناها كفيلة بتوضيح اللغة المجراة على لسان كل شخصية من الشخصيات الرئيسية، فلغة خالد بخيت، والمحيان، وعايدة، والشاعر الزحلي، لغة شعرية، فيها الكثير من الخيال، وتسبر أغوار النفس الداخلية، فأسهمت بذلك في خفض قيمة ن ف ص. أما لغة ولد السليمي، وخديم ولد السيل، وسهيل الجمرة الخبيثة، فأقرب إلى الموضوعية، وتركز على حكاية الحدث، دون الانغماس في وصف بيئته أو المشاركين فيه، مما يسهم في رفع قيمة ن ف ص.
إن هذا التأويل يكشف لنا أن تَأَثُّر قيمة ن ف ص بعوامل الصياغة، أكبر بكثير من تأثرها بعوامل المضمون. وهذه نقطة مهمة ينبغي التنويه بها، فبحسب فرضية بوزيمان ومن عمل على تطويرها لاحقا، لا تمييز بين عوامل الصياغة وعوامل المضمون من حيث قوة التأثير، وإنما التمييز يقوم على اتجاه التأثير، فبعض هذه العوامل يميل بقيمة ن ف ص نحو الارتفاع، وبعضها يميل بها نحو الانخفاض، وإذا تضارب عاملان مختلفا الاتجاه حَيَّدا أثريهما. والإضافة التي نقترحها نحن هي أن عوامل الصياغة هي العامل الحاسم في رفع أو خفض قيمة ن ف ص.
قبل أن أختم هذه الدراسة، من الضروري أن أسوق مجموعة من الملاحظات الفنية على الرواية لم أهتدِ إليها بدليل من ن ف ص، وإنما بمجمل الخبرة في التعامل مع الأعمال القصصية والروائية، على نحو يؤكد أن المناهج القائمة على الملاحظة المباشرة والحدس والتذوق لا تزال ذات أهمية قصوى في التعاطي مع الأعمال الأدبية، ولا يمكن التضحية بها تضحية كلية لصالح المناهج الإحصائية.
يعتمد الكاتب الشخصيات الرئيسية رواة للأحداث، مستخدماً ضمير المتكلم، مبتعدا بشكل كليٍّ عن أسلوب الراوي العليم. فنجده يروي الأحداث على لسان خالد بخيت تارة، وعلى لسان المحيان، وسهيل الجمرة الخبيثة، وولد السليمي وغيرهم تارة أخرى. وفي ضوء هذا الخيار، يُفتَرَضُ بلغة الراوي أن تكون مناسبة لخصائصه النفسية والثقافية، ومنسجمة مع المرحلة العمرية التي يمثلها. وعلى الرغم من أن الكاتب ينجح في تحقيق بعض التمايز بين الشخصيات في طريقة روايتها للأحداث، على نحو ما وضحنا أعلاه من أن بعضها يستخدم لغة شعرية والبعض الآخر يستخدم لغة مباشرة موضوعية، إلا أنه في مواضع كثيرة يخفق في مراعاة الخصائص النفسية والثقافية لكل شخصية في طريقة روايتها للأحداث. الأمر الذي يزيح الستار عن حقيقة أن الراوي الحقيقي هو الكاتب نفسه، وأنه يرتدي في كل مرة قناع شخصية من الشخصيات. المحيان بن خلف على سبيل المثال شيخ القرية، وهو كهل إن لم يكن شيخاً من ناحية العمر، ولم تذكر الرواية أنه مثقف أو كاتب أو شاعر، وعلى الرغم من ذلك فالسردُ المسوقُ على لسانه ذو لغةٍ شعريةٍ مرهفة، ويحمل قيماً فلسفيةً عميقة. والنموذج الذي أوردناه قبل قليل للتدليل على طريقة المحيان في رواية الأحداث واضح الدلالة على الفجوة بين الراوي من جهة واللغة المجراة على لسانه من جهة أخرى، ففكرة الحلم، وتشبيه الحياة بالحلم، وانتظار الإفاقة من هذا الحلم، كل هذه الأفكار أبعد من متناول إدراك شيخ كبير نسبيا في السن، ويعيش في قرية، فهي في الحقيقة عَرَضٌ على هاجس وجودي عميق جدا، وحادٍّ جدا، يندر أن تجده إلا مع بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء. والمثال الآتي وفيه يحكي المحيان خلاف أهل القرية على تسمية الطفل الأسود الذي جرفه السيل دليل آخر على ذلك:
نشب خلافٌ آخر. ما الاسم الذي نختاره له؟ وإلى من ينسب؟. قبل كل شيء، لم يكن أحد من السود قد ظل يعيش في القرية. كلهم انتقلوا إلى قرى بعيدة جدا في مناسبات مختلفة ولا نعرف عنهم شيئا. ورغم ذلك لم تتخل القرية عن التمييز بين الأبيض والأسود. عند أهل القرية الأسود مجرد عبد يتبع قبيلة بعينها. ولا يجوز له حمل اسم القبيلة. يجوز له أن ينسب على أنه من مواليها29.
ومن الجليِّ أن اللغة المستخدمة في هذا الشاهد هي لغة شخص منفصل عن القرية من الناحية الفكرية، شخص قادر على نقدها والتعبير عن رفضه الضمني لبعض معتقداتها، شخص أقرب إلى كونه القاص نفسه، وليس شيخ القرية المحيان.
وهناك نماذج أخرى عديدة تصب في القناة نفسها، فولد السليمي تاجر أقمشة، ولا شيء في الرواية يشير إلى أنه محب للشعر أو الرواية أو غيرها من فنون الأدب، ومع ذلك نجده في سرده يصف الوادي بهذه اللغة المفعمة بالشعرية:
وصلت إلى حافة الوادي. إنه قطعة قماش كبيرة جدا. أحبه لأنه يذكرني بالقماش الذي أحلم به. ناعم وخشن. هادئ ومروع. يخلط كل الألوان معا. يتبدل باستمرار. أليس ذلك ساحرا؟!30
وفي مواضع أخرى نجد الرواة المختلفين يتفقون على صورة واحدة، ما يدل على أن الراوي الحقيقي هو القاص نفسه، مثل اتفاق المحيان، وولد السليمي، وخالد بخيت، على تصوير صوت جمعان بقدرته على إيقاظ سكان القرى المجاورة، بل حتى الموتى في قبورهم31.
وعلى الرغم مما ذُكِرَ من ملاحظات، لا يمكن إنكار أن الرواية في المجمل جميلة، وعميقة، وتثير قضايا وجودية عديدة. إنها تجعل من القرية نموذجا إنسانيا مصغرا لمطلق التجمعات البشرية التي تضجُّ باصطراع المصالح، وتضارب التوجهات. ووفقاً لهذه الرؤية، لا تبقى القرية تلك الجنة التي يهرب إليها المبدعون من جحيم المدينة، بل هي على العكس، أسوأ من المدينة في جوانب كثيرة، ربما بسبب ضعف التعليم، وقلة الوعي. لذلك نجد خالد بخيت أحد أبطال الرواية يقرر في نهاية المطاف أن يهجرها ويفضل المدينة عليها.
يُحْسَب للرواية أيضاً بناؤها على عدة أبطال، ومحاولة القاص الغوص في أعماق كل بطل من أبطاله، فهناك: خالد بخيت، وجده زاهر، وولد السليمي، والمحيان، هؤلاء الأبطال الأساسيون، وهناك أبطال في مرتبة ثانية، لكنهم مهمون وفاعلون، مثل سهيل الجمرة الخبيثة، وعايدة، وخديم ولد السيل، وجميعهم اجتهد القاص أن يتعمق نفسياتهم ويسلط الضوء على العوامل المؤثرة في تاريخ كل منهم.
في الرواية كذلك أفكار جميلة لم ألحظها شخصيًّا في أعمال أخرى، وظيفتها الفنية إظهار فرادة القرية وشخصيتها العجيبة، مثل أن يرفع أذان الفجر مؤذنان ويقيما لصلاتها معاً، ومثل أن يصلي سعيد الضبعة كل يوم صلاةً جماعيةً واحدة، وفي اليوم التالي يصلي الصلاة التي تليها (مثلا اليوم الفجر، غدا الظهر، بعد غد العصر)، ومثل ذلك في الغرابة الألقاب التي خلعها الكاتب على شخصيات الرواية، وما يقف وراءها من قصص طريفة، كالقصص التي أدت إلى تلقيبب حمدان بتجريب، وسهيل بالجمرة الخبيثة، وخديم بولد السيل. إلى ما سبق، بثَّ الكاتب في روايته عددا من القصص المؤثرة التي أضفت عليها بعدا إنسانيا، وعمقتها وجوديا، مثل قصة مصرع زوجة المحيان وولده في السيل الذي هبط مباغتا، وقصة زاهر عندما سخر من شخص أسود البشرة ودفع ثمن ذلك لعنة تطارده، وكذلك إقدامه على قتل رضيع حفاظا على سمعته وسمعة ولده وإنقاذا له من السجن، وكيفية اكتشاف خالد أن عايدة التي أحبها هي أخته غير الشرعية.
بشكل عام، للقاص قدرة كبيرة على التصوير، وعلى نقل الواقع حياًّ على الورق، وعلى الدخول في نفسيات أبطاله، وروايته هذه رواية حقيقية، صنعت عالمها الخاص، وحققت قوانينها الداخلية، فأسرت كاتب هذه الأسطر، وحملته بجدية على أن يعيش أحداثها، ويستمتع بما فيها من تصوير، وفلسفة، ونثر شعري. وبحسب تقديري، فالقارئ ذو الميول الأدبية، والشعرية خصوصا، هو الذي يستمتع بهذه الرواية، إذ تلفت نظره اللغة الشعرية فيتذوقها، وتستوقفه التحليلات النفسية فيتأملها، وتروقه الأفكار الفلسفية فيتعمقها، أما القارئ الذي ينشد قوة في الحكاية، وترابطا في الأحداث، وإحكاما للحبكة، على نحو يثير فضوله، ويدفعه دفعا لمواصلة القراءة، فإنه ربما لا يميل إلى هذا النوع من الروايات، ولربما لا يصبر على مواصلة قراءتها إلى النهاية، لأن حكايتها الأساسية ضعيفة نسبيا.
وعلى الرغم من ذلك، توجد في الرواية بعض الحكايات التي كان بالإمكان تأسيس الرواية عليها، وتعميقها بشكل أفضل، وإحكام حلقاتها على نحو يمسك بزمام متابعة القارئ، مثل قصة عشق بخيت زاهر لفريدة أم عايدة، وقصة سخرية زاهر بخيت من الخادم، ولكن الروائي آثر أن يسردها سردا كجزء من ذاكرة أبطال الرواية، وكأحداث وقعت في الماضي وتؤثر في الحاضر.
5- الخاتمة:
يمكننا أن نوجز النتائج التي خلصنا إليها في محورين، يتعلق الأول بفرضية بوزيمان وفرضيات من تلاه من باحثين، ويتعلق الثاني برواية (تبكي الأرض يضحك زحل).
5-1: فرضية بوزيمان:
1- فكرة بوزيمان القائمة على حساب نسبة الأفعال إلى الصفات في دراسة الآثار الأدبية واعدة، ولكنها لا تزال بعيدة عن أن تكون أداة موضوعية محايدة بيد الناقد الأدبي. لا يمكن بحال الاكتفاء بقيمها من حيث الارتفاع والانخفاض لقياس مدى أدبية العمل المدروس، ولا يمكن اعتبار عدم تطابق قيمها مع فروض بوزيمان ومريديه ضعفا في أداة الأديب. إذ هذه الفروض لا تزال بحاجة إلى مزيد درس وتمحيص وتعميق.
2- قيم ن ف ص تتأثر بعوامل الصياغة أكثر بكثير من تأثرها بعوامل المضمون.
3- خلصنا إلى بعض الفروض الخاصة بنا نراها تعديلا لفروض أنتوش ومصلوح، وهي:
أ- السرد الذي يقتصر على تصوير الحدث بعيدا عن وصف المشاركين فيه أو وصف البيئة التي يقع فيها يميل إلى رفع قيمة ن ف ص.
ب- قد يلجأ الكاتب إلى استخدام الجمل الاسمية في تصوير المشاركين في الحدث وتصوير البيئة التي تحتضنه، أو استخدام الصفات/الجمل وهي غير محتسبة ضمن الصفات وفقا لآلية سعد مصلوح. وفي ضوء هذا الخيار تميل قيمة ن ف ص إلى الارتفاع، مما يدعو إلى مراجعة خيارات سعد مصلوح التي ذهب فيها إلى عدم احتساب الصفات/الجمل أو الصفات/أشباه الجمل في عدد الصفات.
ت- هذا السرد يتقدم في قيمة ن ف ص على المونولوج بخلاف ما ذهب إليه أنتوش.
ث- اللغة الشعرية في النثر تنزع إلى خفض قيمة ن ف ص وليس إلى رفعها.
ج- الوصف الخالص، كوصف المشاركين في الأحداث ووصف البيئة التي تقع فيها الأحداث، ينزع إلى خفض قيمة ن ف ص بشكل كبير.
5-2: رواية «تبكي الأرض، يضحك زحل»:
نورد فيما يلي أبرز النتائج التي خلصنا إليها وتتعلق بالرواية المدروسة، بعضها اهتدينا إليه بوحي من قيم ن ف ص، وبعضها بلغناه بحكم الملاحظة المباشرة مسترشدين بذوقنا وخبرتنا الفنية:
1- هذه الرواية من أجمل الروايات العمانية المعاصرة، وتتمتع بقدر كبير من إحكام الصنعة الفنية.
2- للرواية هويتها الخاصة بها، فهي إحدى الأعمال القلائل التي تترك بصمتها الواضحة في ذاكرة القارئ، بما توفر لها من عوامل الخصوصية على مستوى الشخصيات، والأحداث.
3- بناء الشخصيات يتسم بالعمق والتركيب.
4- للغة الشعرية حضور في سرد الأحداث، وعلى الرغم من عدم انسجامها مع بعض الأشخاص المسوقة على ألسنتهم، إلا أنها في حد ذاتها جميلة، ومعبرة، وتشف عن حس مرهف وخيال منطلق.
5- تناقش الرواية قضايا وجودية فلسفية عميقة، وتطرح رؤى متباينة حولها، ما يعكس مرونة في التفكير، وسعة في الأفق، وقدرة على النظر للموضوعات المطروحة من زوايا عدة.
6- تُسْرَدُ الأحداث على ألسنة أبطال الرواية بمنأى عن أسلوب الراوي العليم. إلا أن فجوة تبرز بين السرد والسارد، فجوة يطل منها القاص ليضع لمسات تنم عنه (أي السارد الحقيقي) أكثر مما تنم عن البطل (السارد المفترض).
7- الحكاية المؤطرة للرواية، الناظمة لأحداثها، ضعيفة نسبيا، إلا أن حكايات أخرى تروى عن طريق التذكر تثري الرواية، وتعمقها، وتحفظ عليها بهاءها وسحرها.
1- قدمت هذه الورقة في المؤتمر العربي الأول للنقد الأدبي «الخطاب النقدي في الرواية العمانية» الذي نظمه النادي الثقافي في سلطنة عمان، ممثلا في لجنة الأدب والإبداع، في يومي 4-5 من يونيو لعام 2011م.
2- سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002، ص76.
3- Friederike Antosh, The diagnosis of literary style with the verb-adjective ratio, in Statistics and Style, ed L. Dolezel and R. W. Baily, New York, American Elsevier Publishing Company, INC, p57.
4- «ن ف ص» هو الاختصار الذي وضعه مصلوح لعبارة «نسبة الأفعال إلى الصفات». وسوف نلتزم باستخدامه في هذه الورقة.
5- سعد مصلوح، مرجع سابق، صص79-83.
6- F. Antosch, op. cit, p57.
كلمتا sehr وausgesprochen ألمانيتان، وتعني أولاهما بالإنجليزية very (adverb)، أما الثانية فتعني definite (adjective)، وextremely(adverb).
7- سعد مصلوح، مرجع سابق، ص78.
8- نفسه، ص79.
9- المختار كريم، الأسلوب والإحصاء، منشورات كلية دار العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 2006، صص 196-198.
10- نفسه، ص199.
11- نفسه، صص199-200.
12- F. Antosch, op. cit, p57.
ونص عبارة أنتوش هو:
“all adjectives attributed to a noun and such intensifiers as sehr, ausgesprochen,etc. , are counted as adjectives. ”.
13- سعد مصلوح، مرجع سابق، ص77.
14- انظر على سبيل المثال لا الحصر:
– ابن هشام، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1995، ج3، صص267-291. وابن هشام يعنون الباب بـ»النعت»، لكنه في تضاعيف الحديث يستخدم أحيانا مصطلح الوصف، كما في ص267، وهو ما لا يفعله مع التوكيد والبدل، فإن كان التوكيد والبدل والنعت وظائف يجمعها مصطلح أشمل هو الوصف كما يذكر المختار كريم، لاستخدم ابن هشام أحيانا مصطلح الوصف عوضا عن التوكيد أو البدل، على غرار ما يفعل مع النعت، إلا أنه لم يقم بشيء من هذا القبيل أبدا.
– عباس حسن، النحو الوافي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، ج3، ص 434. وقد نص المؤلف صراحة على أن النعت يسمى أيضا الوصف والصفة.
15- عباس حسن، مرجع سابق، ج4، ص45.
16- عبد العزيز الفارسي، تبكي الأرض .. يضحك زحل، دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2007م، ص121.
17- F. Antosch, op. cit, p59.
واعتمدنا ترجمة سعد مصلوح للمصطلحات التي استخدمها أنتوش
18- سعد مصلوح، مرجع سابق، صص101-102.
19- نفسه، ص95.
20- عبد العزيز الفارسي، مرجع سابق، صص29-30.
21- تبكي الأرض يضحك زحل، ص79.
22- تبكي الأرض يضحك زحل، ص13.
23- نفسه، صص37-38.
24- نفسه، ص53.
25- نفسه، ص153.
26- نفسه، ص195.
27- نفسه، ص97.
28- نفسه، ص63.
29- نفسه، ص92.
30- نفسه، ص80.
31- انظر مثلا الرواية ص39.
—————
حميد الحجري