سؤالان اخترع لهما إجابات مختلفة كلما واجهتهما: لماذا تكتب؟ لماذا اخترت أن تكون طبيباً متخصصاً في طب السرطان؟ ومن المؤكد أني سأقدم باستمرار إجابات مختلفة للسؤال الثالث؛ ما الذي يربط الكتابة بطب السرطان؟ لقد تغيرت إجابتي عن هذا السؤال مراراً، وكلما مر وقت وأعدت التفكير أراني أخرج بإجابة جديدة. لعل من السهل أن تربط طب السرطان بالكتابة مستغلا المعاناة الانسانية كمدخل، لكن الحقيقة أن هذا شيء مجحف في حق الاثنين، وتبسيط لمفاهيم عظيمة لم يــزل إدراكنا لها في طور التشكل. لا يمكن اختزال الكتابة أو حصرها أو الوقوف على هذا الكم الهائل من نتاجها وتأثيره على الانسان والعالم، ولا يمكن لعالم واحد أن يجازف ويختزل السرطان في مفهوم المرض المجرد. كلاهما – الكتابة والسرطان- تحد متجدد؛ صعود على جبال تطهير الروح؛ صعود شاق له متطلباته التي لا يعرف الإنسان أنه يمتلكها حتى يبدأ الرحلة ويواصل الارتقاء. كلاهما يستلزمان نفس الجرعة من القدرة على التخلص مما يثقلنا ونحن نرتقي آملين الوصول لنكتشف الحقيقة الأسمى. كلاهما يمنحانا الفرصة للنظر خلفنا بتجرد، بلا ندم على ما مضى، بابتسامة واثقة أن ثمن الصعود الباهظ لا يمكن دفعه دون تضحيات، وتصالح مع المعنى الأعمق لوجودنا الذي كان وسيكـون. أهكـذا إذن؟ بهذه البساطة المختصرة؟ هل يأبه الصاعدان ببعضهما؟ أينظر أحدهما للآخر ويقول: تعال نتجاذب أطراف أحاديث علقت في القلوب كي نتخلص أكثر؟ ويرد الآخر: بل دعنا ننقش على هذا الصخر ما نفكر به الآن ثم نمضي. إن الأمر شائك ولا يمكن الإحاطة به بشكل كلي في أي لحظة. هذا ما أفكر به دائماً حين يجابهني سؤال الربط بين الكتابة وطب السرطان، ولذا تتغير الإجابة. كنت أظن أن الإجابة على سؤال ” لم اخترت أن تكون طبيباً متخصصاً في طب السرطان؟” أسهل من الإجابة على سؤال ” لماذا تكتب؟”. الحق ليس هناك من سؤال سهل. كلاهما صعب. ظننتُ –فيما مضى- أن أول دافع لاختياري طب السرطان كان قراراً اتخذته وقت المراهقة بأن أحترف هذا التخصص لأني خسرت جدي بسبب سرطان الرئة. كنت قد غيرت رأيي حول التخصص بعدها مرات كثيرة أثناء سني الدراسة الأولى، ووجدتني في النهاية أمضي نحو مجابهة السرطان لأسباب مختلفة؛ ليس أجمل من أن تمد يدك في العتمة ليد أخرى لتقودها إلى ممر مضيء، ما أروع أن تبذر الأمل وتسترجع ابتسامة انسان، ما أقوى أن تتحدى الألم وتلغيه، ما أعمق أنك تمشي كل يوم دروباً متوازية كثيرة تقاتل مع أخيك وألا تستسلم. تستطيع أن تغيّر وجه العالم لمريض واحد أو مئات المرضى، وقد لا تستطيع فعل شيء وتواسي نفسك بأنك حاولت بصدق قلبك. والآن: أليس كل هذا ينطبق على الكتابة أيضاً؟
يمر كل إنسان يجابه السرطان أول مرة بأربع مراحل كبرى؛ عدم التصديق، ثم الغضب، ثم الإحباط، ثم أخيراً التصديق والبدء بالمعركة لاسترداد نفسه والنجاة.كل مرحلة تأخذ وقتها كيفما تشاء، لكن الثابت أن الإنسان يتجاوز المراحل الثلاث الأولى مهما كان انتماؤه الإيديولوجي ليصل إلى المرحلة الأهم؛ الكفاح. طبيب السرطان يواجه المراحل الأربع كل يوم مع مختلف مرضاه. يفتح روحه على مصراعيها ليرى كيف يتشكل الإنسان في مواجهة خطر الفناء، ودون أن يشعر الطبيب، أو ربما يتجاهل ملاحظة ذلك عن عمد، يكون في ذات اليوم الشاك غير المصدق، والغاضب، والمحبط، والمارد الذي يقوم من تحت الرماد ليقاتل حتى آخر رمق. يحمل الوجوه كلها داخله. يأخذ نفساً عميقاً كل صباح، يجمع كل شتاته، ويأخذ أدواته ليواصل المواجهة. إن مهمة كهذه تستلزم قدراً كبيراً من الشعر، والفلسفة، والسرد، والقص، والتصوير، والرسم وغيرها من الفنون التي تتجلى عظمتها في مواجهة الفناء المحتوم، والسعي للخلاص. ينبغي ألا تكون الكائن الجامد الذي يكرر الأفعال بآلية مقيتة، ألا ترى البيولوجيا فقط وتهمل الروح العظيمة التي تتجلى باختلاف عند كل مريض. إن سمحت لنفسك بذلك، أذنت لنفسك بالفشل، ولمريضك بالاستسلام والموت. مهما تكررت السيناريوهات التي تستلزمها الطبيعة الجسدية أمامك، سترى أنت الروح الخصبة وهي تواجه مالم تألفه. إن آمن غيري بتكرار الأشياء والاعتياد على الحالات في الطب، فأنا لم أزل أرى أني أواجه كل حالة لأول مرة، لأن الأرواح لا تتشابه أبداً. هناك بصمة يتركها كل مريض، تهبني شيئاً لا يضيفه غيره؛ شيئا غير مسبوق وغير قابل للزوال. حتى الموت ذاته لم يقنعني يوماً بأنه حادث مكرر. أنا لم أتعود على مشهد الموت أبداً. كل مرة أتعرف على وجه جديد له. أطارده ولا يكف عن مخادعتي، ويعلمني درساً جديداً، ولقد تعلمت حتى الآن آلاف الدروس منه.
لقد تعرفت على الكفاح البشري في هذا التخصص، وعرفت الأمل الجريح كيف يفعل بالإنسان. وكيف يفعل الإنسان بالأمل. لا أظن أن من السهل وصف العلاقة الشائكة بين مرض السرطان والانسان، هناك التجرد من كل شيء، المرارة، الخوف، اكتشاف هشاشة الكثير من الأشياء، اكتشاف المعنى الأصدق للحياة، وفي أحيان كثيرة السخرية من كل شيء. تتساقط الوريقات عنك، وتشع روحك لتطل عليك دون إضافات أو تورية. لا حاجة لك بعد تلك اللحظة لأي إضافة. إنه الألم الأعمق الذي ستكون مهمتك بعدها مواجهته والتغلب عليه. لحظتها يطل عليك السؤال الساخر: لماذا كنا نبحث عن الألم فيما مضى باستمرار؟ أكان من الضروري البحث عنه؟ تهطل الأسئلة دون هوادة وستفتش عن إجابات كثيرة، وقد لا تملك الوقت للحصول عليها كلها. تفعل هذا في صمت. تتعلم أن تنصت وأنت تحدق في كل الكون من جديد؛ الأرض والأشجار، والماء، والسماء، والمخلوقات حولك. تبحث عن تقاطعاتك معها. تختار الكلمات بعناية، لأنك لا تحب أن تقول أكثر مما ينبغي أو أقل. هكذا تستعيد توازنك وتتصالح مع كل ما حولك. تعود كائناً حراً آخر. والآن: أليست الكتابة محاولة استنطاق إجابات لأسئلة لم تصنع ليجاب عليها؟ الكتابة إعادة توازن، وبحث عن تحرر للأرواح التي تسكننا.
هل يغذي الطب مخزون الحكاية؟ ينبغي القول إن الخصوصية لكل مريض أولوية ولا يمكن حتى محاكاة شخصية المريض أو التلميح عن بعد لها. إن كان من شيء يغذي الحكاية داخلي في هذه المهنة التي لا أستطيع تخيل نفسي في غيرها، فهو هذا التراكم للمشاعر الإنسانية التي أجابهها كل يوم. إنني أتعلم منهم دون توقف، من لغة الجسد والايماءات، من نظرات العيون، من الدمع، من دقة ملاحظاتهم حول الأشياء الصغيرة التي لم أكن أنتبه لها قبلاً، ومن الابتسامات الصادقة حين يستعيدون أنفسهم، ومن إجاباتهم عن الأسئلة التي تخطر على بالي فجأة وأطرحها عليهم دون تردد. كل مريض معلم، وأنا تلميذه في الحياة. لقد تغير مفهومي للحياة مراراً، كما تغيرت مفاهيمي للألم، والحب، والفقد، والموت والكتابة. ليس هناك من معنى واحد ثابت لأي شيء، وأدين لمرضاي الذين شاركوني هذا كله بتشكيل الإنسان داخلي، وإعادة توجيهه باستمرار.
إن داخلي ممتلئ بالبشر الأبطال في أبهى تجلياتهم، بوجوههم الجميلة، وقلوبهم الصافية، هؤلاء الذين نحتوا درب صعودهم نحو المعنى الخاص بهم، المعنى الأعمق والأكبر. أراني حين أكتب الآن، أصعد دربهم، وأحاول النحت وأبحث مثلهم عن المعنى الذي ينتظرني. كانت قصصي الأولى سوداوية، وغارقة في ذاتيتها، ومعجونة بالكثير من زوائد اللغة. هؤلاء الأبطال هم من لفت نظري للجهة الأخرى من العالم، للسماء والشمس، ورؤية الحياة بمنظور متجدد. لقد منحوني لغة جديدة وألهمتني ملاحظاتهم، وتعلمت من نبراتهم الساخرة الكثير، وسأظل أدين لهم ما حييت.