تحيل عنونة مجموعة (خذ الحكمة من سيدوري ) للشاعر عبد الرزاق الربيعي الى فهومية المتن الحكائي الحضاري المتوج في الملحمة البابلية الاشورية (ملحمة كلكامش)وتشظى السرود الباثة لمحمولاتها التاريخانية العريقة الى بنى للأشتغال عليها في تأسيس هيكلية النصوص الشعرية التي احتضنتها المجموعة ،وتتصل الاستهلالات النصية الشعرية مع باطنية المتن الشعري في سرود مكثفة او مصورات ترتبط بالمتن بخيط مشيمي يتشظى عبر تفكرات الذاكرة الشعرية وتوحي انساقها اللفظية بالحكمة العالية التي ترشح عنها الوحشة والتوجع والتلوع والسهر والالم والعذاب العراقي حتما حيث تقف الذات الشاعرة في مواجهة العالم في اعمق مسارات تقفه الالم ،وتنصص الانا آلامها واحلامها في هذه المنظومة الاستهلالية الشعرية التي تستمد امصالها من الذاكرة الشعرية العالمية والعربية ،حيث تتراكم بنى التكثيف والاختزال في نسيج دائري ولولبي من الظلال الكلامية التي تؤسطر الحادثة الشعرية ويجترح لها الشاعر دلالات ومعاني تتسع للقول الشعري بكل منحنياته :(لم نعد نبكي على/من مات /بل –من سيموت….)، ان لغة النص هنا تكشف جسامة الحادثة التاريخية وفجائعيتها في الاعلان التي يتسبق الشاعر اعلانه والتصريح به في المدونة التفكرية تلك….
يتشاكل الشعري والرؤيوي في نصوص الشاعر في بناه المحورية مع الآخر والتي يحضر فيها الشاعر مع الآخر مشكلا بنية تضادية تتجد في مناورتها مع مع الازمنة حين يثبت الشاعر وجوده عبر منضومة النفي في ترسيخ العلاقة الثنائية فالمتعين الممتد الى دلالة النفي تشكل علامات القهر والمفارقة والوحدة الرؤيوية هذه التي تتمظهر في التشكل الصوري المتخم في نصة (اسنان)(في اقصى الاخرة او وجع سن العقل/ فتعرق قلبي / وارتجف سريري / في اقصى الليل / ففي العالم الاخر / لا يوجد اطباء / كما تناها لهواجس / ولا صيدليات خافرة/ولا كالسيوم/ مثلما هو بلا غرف انعاش…..) ان التامل العميق لهذا البرزخ الصوري تنفرد به المخيلة بتوحدها وتماهيها مع حفريات المشهد اليومي وارتكازه على طبيعة الروح البشرية وماورائيات انبجاس معالمه ، ان الشاعر يسعى بقوة الى خلق واجتراح مستويات متعددة للرؤية والرؤى واكتشافها في تحسسه وهو يشير الى عرفانية التأمل الحياتي واستباق تخيله للاخرة حيث تدوين هذه المعاني التي التمعت لتحتضن لحظات المتخيل، ان الشاعر يشاكل الحيز الاختزالي للصورة بايحاءات تجاذب وتنافر.. العادي ليحوله الى صورة جمالية تحملها المخيلة الى فضاء شعري لا يلبث ان يختلط بالواقعي بتراكيب مختلفة ومتنوعة ،بعضها سوريالي والاخر يومي ، ومدار ثالثها صوفي وبعضها سري)
من كلام الناقدة غالية خوجة لقرائها قصيدة (حالة حصار)للشاعر العربي الكبير محمود درويش…. حيث تتطابق الرؤية مع مشهدية نص الشاعر عبد الرزاق الربيعي حين يقول(احفر في قلب الوجود/ كلمة لها رنة /واخترع /لمكان اذنين )ويقول (يا للاسى الذي ينتظرني/بعد ان استقيظ !!/من يعيد الي الوردة/التي اشمها الان/ في منامي ؟(نشوة) ويقول :في نصه (جحيم) (انا اتجهت/ لن اسامح كلامك /يا لسان النهار )
تكتمل بنية عنونة المجموعة حين يتقدم الجوهر الشعري من الغياب الى الحضور في مدونة تتمرد وتتجاوز نظامها المعرفي الى نظام الوجود ،ان الحلم الشعري يتحقق في الحلم والوجود واليوتوبيا التي تتعين مزاجا ً لتسجل رؤيات تتمشهد في فيض من الاحاسيس والخضور الطاغي للصيرورة الحلم وحكمية الملفوظات الساردة وهي تزيح المتاهة ، ويقترن الجمال الميتافيزيقي بماهية الكلمة حيث يحلق الشاعر في آفاق التشكيل الشعري في استعادة الحدث من صدمة الذاكرة الى الوعي الكامل بالوجود..(لا تعد لاوروك يا كلكامش /ها هو الضوء يجف /في عروقك /وها هو السعال /يعصر صدر حروفك /وها هو الهواء/يمحو اثرك /ها هو قبر انكيتو /لم يعد /فلا تعد….)
تتشاكل العناصر الفنية والفكرية فتولد تمشهدات صورية تختزل بنية العلاقة المتحاورة والمتحركة في نص الشاعر ،فهو يفلسف رؤياته لينجز مشهدا ً يتبع دلالة الغائب ليقترب من مشهد الحضور أو ليفلت من المألوف الى الغرائبي ،وتؤسس مفردة (رأيت) في نصه (عبادة الغزالي ) لوجود يتحول من رؤية حلمية الى اشتباك رؤيا ورؤية تتجول بينهما الذات الشاعرة في احالة نصية ممتدة في الذاكرة ،وتتبين مكونات الإحالة في دراما علائقية تجمع الانا بفضاء الذاتي والمكاني وقوة حضور الاخر ويوتوبياه في الاشارة الى (عبادة الغزالي ) (رأيت اليقين /بصفرة قرطاس /شك الغزالي/وزرقة هذا المدى /المستحم بلوعة ما بيننا /اذ يدون /فوق رسوم أخضرار الدوالي /فصول الافول /وحين رأيت /العثور عليك يقينا ً/تخليت عن نهر بغداد…..) ان الشاعر يناظر محايثة الرؤى بالرؤية الشخصية وهذا ما نراه في جمالية الصورة وشفافيتها النابضة بشعرية المغايرة باقترانها بتشفير اللون وحمى تجسيده في تشاكلية صورية تحملها مخيلته المطلقة ليرتفع الشعري بقوته الدرامية والصورية والتصوفية من الحواس الى الرموزات المتشكلة شعريا ًفي نسيج النص ،ان دينامية خفية بين مكونات النص تكادا تتحول الى عناصر شعرية النص في نداء الشاعر واغنيته يعكسان تماوجات اللحظة التاريخية المحايثة للحظة الفنية المتشكلة, ويحتشد فضاء اللحظة بدلالته التي تشف عن تشخيص النبرة الذاتية وازدواج الإحالة التاريخية الى الحضور في صيغة شعرية تكاد تتراكب كبؤرة نصية ومفارقة لفظية شروعا من العنونة الى خاتمة النص وتتمظهر هذه القراءة في اشكاليتها نصه الموسوم ( تحت لحية حرب الشوارع في وادي السلام) «عندما تسمع دوي الموت ياابي/ وتشاهد الفناء الاحمر يدنو منك/ اغلق نافذة قبرك جيدا/ اغلق الهواء عليك/ لانريد الدخان ان يلون بالسواد رئتيك/ اللتين تنفستا عبوهما/ شذى العالم..» وتظل الصورة تمتد في بنية الفضاء التركيبي بين مستويات الرؤيا وتموجات التخارج والتداخل اذ تشف الايحاءات المحالة الى نتيجة تاريخية من الانكتاب الفراغ وفراغ وخواء العالم ولصوصية الحياة حتى على الاموات 🙁 عظامك العظيمة مهمة لنا ياأبي/ انها كل ماتبقى لنا/ من نخيل العراق/ وخصوبة هوائه/ وآثاره التي سرقها لصوص حمورابي/ عليك بعظامك العظيمة يا أبي/وانها مهمة/ مثل ختم سرجون الاكدي/ الذي باعوه بثمن بخس/ في سوق الهرج..) ان معظم نصوص المجموعة تكتسب معنى تصوريا مغايرا وتكاد تشترك في منظومة النفي واستطيقيا النداء.. ان الحساسية الشعرية الجديدة ادركت انه لابد من الاشتغال على المسكوت عنه, فالشاعر عبد الرزاق الربيعي يدخل في شبكة التقاطعات بين سياق الاسترسال وبين تشكيل الحكاية المغمورة , فهو الذي يتحدث ويقول (انا) وهي انا المتكلم كما قدمه(بينفذيست) في حين عرف (شترواس)الحكاية بالحكاية بطريقة تجعلها تتشكل بنفسها كسياق مسترسل: لتوليد خصائص حياة معنية, ربما هي الحياة الشعرية في تفرعاتها وتشابكات الحياة الانسانية فيها او ضدها حيث تكمن العلاقات الساخرة وبنى المفارقة في معطى من النص ورسالته حسب الناقد العراقي الكبير محمد الجزائري
ان نص الشاعر يحمل وحداته في بناء من العلاقات التفصيلية داخل منظومة من الوصف او الحكي النابض بالشعرية في تأنيث مفارقات تستفز الآخر في تمثلها للواقع (تمام الخميس /انتحرت لحية مفخخة / فأضفنا(ساحة النصر ) لسجل خساراتنا هكذا يكمن الاحتدام في خزانة الشاعر اللفظية في عالم مليء بالألم والفجائع حيث تتساوى حدة الرغبة في الحياة مع نشيد الألم ،وهو يستنبت لحظات الدفق البصري على التجلي بالمحسوس عبر فضاء يمتص نسغ الشعري ساعيا الى التغلغل في مفردات تجترح الوقائعي المدمر في تناصات جمالية على تمشهدات الواقع الصورية:(رجل عائد يبحث عن نفسه /التى خسرها /عندما ارتفعت ساحة النصر /ظهيرة انتحار /لحية الخميس المفخخة….)
يشتغل الشاعر على طاقة الشحن الشعري للمفردة لتغذية الحلم الشعري الذي يتجلى في منحنيات ايماضية تستعير كينونتها وموؤلات دلالتها في ميكانزيمات المتشكل البصري والمسكوت عنه وهارمونية صورية تنبثق من فرادة اللحظة المحلوم بها هذه التي تمتص نسغها من حيثات الحلم الشعري والتخيل المفتوح على فضاء الشعرية ،وبمخيلة طافحة بالميتافزيقيا واجتراح الشهوي الشعري يحرث الشاعر في خزانة الشعر وطقوسه في تراص مع الالم الانساني الي يتشرب انساغ الروح الشعري :(للسواد في ثوب أمي /ذاكرة لا تشيخ…) و(الامهات محنة /الم يضع الله الجنة/تحت أقدامهن /فهجرننا /ولحقن بنا /ليقاسمننا جحيمنا الارضي…؟)
ويشع نصه الشعري (يا عراق )على خارطة النصوص ليقول كل ما يراه في موسوعة العذاب والالم والدمار ،ذلك المتحف التاريخي الذي يتسع لاختصار محتويات الوجود المرئي واللامرئي ،يخاطب الشاعر شمس العراق في صيغ لفظية تتشكل عبر منظومة من النداءات العالية وأسئلته الكبيرة ،فهو يبسط ازميله ليحفر في الشعائر والشعر ليشكل الفضاء الشعري ،ان الشعر انبثاق من اللغة ،والمهم في هذا العالم ان يؤسس الشاعر يوتوبياه من رماده الذي يتقد في جدلية ابستمولوجية شعرية تتظاهر في تأسيس التلازم الحميمي بين اللغة والشعر
(ما الذي يبكيك يا شمس العراق.. مسحت دمعتها الحرةى/وقالت لي :_العراق )
ويشترك نصه الآخر (تجاعيد على وجه الوطن )في فكرته البؤرية مع النص السابق في أستدعاء المحمول التاريخي لفكرة تاريخ الوطن ومولده الحقيقي ويتعين في سؤال الشاعر لمعلمه :(سألت المعلم :متى ولد وطني ؟/قال :لست أذكر بالضبط /ربما قبل أكثر من ثمانية الاف عام لست أفهم /انظر الى خرائب بابل /انها ليست سوى تجاعيد /على وجه الوطن…)
ان نصوص الشاعر عبد الرزاق الروبيعي في هذه المجموعة تكاد كلها تقتسم الهم العراقي الكبير وتتشرب الالم بكل لوعة وحسرة وهذه من ميزات الشعر العراقي الذي يكتب في الداخل والخارج على حد سواء…………
شاكر مجيد سيفو شاعر وكاتب من العراق