(مرثاة أخرى لأور) هو العنوان الذي اختاره الشاعر والكاتب العراقي علاء اللامي لأولى قصائد مجموعته الشعرية الجديدة, وهي الثانية, والتي تحمل عنوان (سيرة اليمامة البابلية) الصادرة قبل بضعة أشهر عن دار (الكنوز الأدبية) في بيروت. واللامي ليس الشاعر الاول الذي اختار هذا العنوان فقد سبقه إليه آخرون, قدماء ومحدثون, إذ يبدو ان مدينة <<أور>> تصر على أن تكون قرينة للرثاء العراقي منذ تدميرها وابادة أهلها على أيدي العيلاميين (يقع اقليم عيلام في ايران الحالية) في السنة السادسة من الألف الثالث ق.م وسوف نتوقف عند هذه القصيدة بالتحليل والدراسة نظرا لكونها, تعبر عن درس التاريخ وحكمة العودة اليه, من ناحية, ومن ناحية ثانية لأن هناك فنية عالية في النظم والابداع تمثل موقفا من الوجود, وتبرز حالة راهنة بتوظيف الأدب لخدمة قضايا الانسان, بعيدا عن المباشرة الفجة, والسقوط في أسر <<الايديولوجية>> الخانقة للابداع.
فـ<<علاء اللامي>> رغم جديته في مقالاته السياسية, الا انه في هذه المجموعة الشعرية يظهر بشكل آخر, فيه من الوداعة والسلاسة الشيء الكثير, لكنه يغور عميقا, ويكشف ما خفي عن العقول, التي لا تقرأ <<زيف العبارات>>(*) في منطق السياسة العالمي بشكل خاص. انه, بهذه القصيدة الأولى <<مرثاة أخرى لأور>> يعيدنا الى الرثاء الاول, عندما هوجم العراق عام 1991, , بمعنى انه ينتبه ثانية في هذه المرثاة الى وجود الفعل الشرير للغزاة, لان تستمر بمعاداة حضارة <<أور>> وبالتالي ان هذا العداء سيبقى قائما ضد هذه الحضارة, وهو ما يتجلى في عبارته التي اهدى بها القصيدة الى <<طفل عراقي سيموت بعد قليل>> وهنا تكون الحقيقة مؤكدة, وليست توقعا , لأن السلوك البربري لأعداء الحضارة يثبت ذلك, من خلال ديمومة/ قصف العراق المتوالي منذ اكثر من عشرة أعوام, مع ملاحظة ان اليونيسكو, احتجت ذات مرة او مرات بأن الطائرات الامريكية استهدفت بغاراتها مواقع أثرية, ومن هنا نفهم انحياز الشاعر للأثر التاريخي, بالتسمية أولا, وبالدلالة ثانيا, وبالابداع ثالثا. ومن ناحية أخرى, أراد- بهذا العنوان- أن يكشف زيف مواقف السلطة العراقية وغيرها بالنسبة لما يتعرض له العراق شعبا وحضارة الى التدمير المبرمج جيلا بعد جيل دون تحريك ساكن لذلك يقول:
أسفا ودمعتين لأور
للطفلة الخضراء المسجاة بين خيطين من الدم
للفتى الصادح بالـ.. لا
يرضع بلاغة الفرات
ويذوي بين المصباح الكابي
وهدير الطائرات المغيرة.
جروح نازفة تسربل بخيوطها مشهد تلك اللوحة, لوحة <<أور>>, لتلك الطفلة البريئة, وذلك الفتى الرافض للذل, بلسانه العربي, المروى من أصالة مياه الفرات. لهؤلاء كانت دمعات اللامي تنساب وهي تشاهد وتشهد شل القدرة من ذلك الجيل الواعد والذي (حطمته الطائرات).
مفردة الأسف عندما تصدر من قلب مكلوم, تكون ذات وقع شديد على النفس, فما بالك بتلال الحزن على العراقيين, وهم قد تلبسوه قرونا طويلة, وبدت مفردات هذا الحزن تنعكس في صور الأشياء المحيطة بهم, بالطبيعة بكافة عناصرها, بمعنى أن <<فيض الحزن>> ينتقل منهم الى محيطهم, وهم أصلب من الفولاذ.. لنتأمل الأسف منظورا إليه بصيغة <<المعادل الموضوعي>> للرؤية الفنية والمنعكسة بظلالها على اللاوعي بعد ادراكه بالوعي المسبق, فصورة الشبوط, وهو واحد من أشهر الأنواع السمكية النهرية وأقواها قد صورته حالة الحزن للشاعر وهو /يلبط/ بمعنى يتلوى من السم الذي تناوله من مادة <<الزهر>> التي يستخدمها صيادو الاسماك وحركة <<الشبوط>> يستدل عليها بعنف حركاته عندما يكون على الساحل الرملي والذي لا يسلم نفسه لصياد الى أن يموت, وهذه حالة المنعكس الابداعي في /المائيات/ أما ما يقابلها في فضاءات الطبيعة الأخرى فقد عكسها ابداعيا في <<عين الصقر>> والتي ترى من بعيد وعلى مدى مسافات شاسعة, بمعنى أن هذا <<الأسف>> يعادل هذه الرؤية لذلك الطير الجارح وهو لا يقوى على الحركة حيث استباح الأعداء فضاءه وهو حزين مروض, يشابهه في تجلي الحزن الحالة النفسية لصاحبه وهو يشعر به فيتلوى مثله وعليه كمن بات وبين الجوانح خناجر الجمر فلا يستطيع النوم ولا الركود.
* ظلال هذا الأسف أو الحزن العميق تداعب الأشياء الروحية من خلال مسارات الوجود والتعايش, واللحظات الصغيرة المورقة بالفرح المؤقت, والتي تتجلى برؤية مستقبلية تخترق ذاك الأسى والحزن:
<<أسفا وسلاما يا أور
للأعراس المشتعلة بالهلاهيل والأقمار
لمواكب النخيل الصاعدة صوب السلام>>.(ص10)
هذا <<الفرح>> الموشى بالحزن لأور المجد والتاريخ والسبق الحضاري والوجود المقارع لكل عاديات الزمن ونوائبه, ومن هنا جاء <<الأسف والسلام>>, على التوالي ليسحب على الواقع الاجتماعي بظلال <<الفرح>> عند الأهازيج الشعبية في <<ليلة العرس>> ذات المذاق الشرقي الخاص, والمزدان بـ<<هوسات الجنوب>> وزغاريد الأمهات, ذلك الموكب الذي يخترق بساتين النخيل لتصعد الى عنان السماء متواشجة مع ذاك الطول الباسق لكل نخلة والتي تعني <<السلام>> في رؤية الشاعر.
وهذا السلام هو سلام فطري خالص ومتسرمد مع الوجود بين الناس البسطاء والذي ينبعث من أبسط حالات التعايش الانساني:
<<لضحكة المغناج البطرة
تسكب في قلب العاشق
سواقي السكر والهيل
لقرصة درداء على الفخذ البضة
تحت دثار الرغبة والقطن الهش
لقبلة هوجاء على الجبين المتسع أبدا
كحلم المجنون..>>
هكذا يفهم الناس حلاوة <<السلام>> والدعة في الضحكة والغزل البريء من دناءات النفس, بل يصوره الشاعر- كتعبير عن حالة اولئك الناس- بمشروبهم المفضل بعد الاستحمام <<الدار صيني/ القرفة>> او في رغوة الصابون المعطر بالشهوة او في البرتقال او غيره من أمور الحمام ص11.
هذا الأسى والسلام المكسور والذي يستحضره الشاعر بمخيلة الطفولة العابثة أيام الشتاءات, وحكايات الموقد وحلقة الصغار حول الجدة في طقس فولكلوري خالد كخلود العراق في النفوس:
<<للشهد المتماطر من حكايات الجدة
لعمامتها اللامية تغطس وتطفو
في عطر بنت السودان,
لذكريات السمك الأعمى تشربها الشمس..>>..ص12
هنا, في هذا النص الشعري, نلمس حياة الجنوب العراقي بكل تفاصيلها وسحرها بل بأحلامها البسيطة المتواضعة, والتي ترى <<سلامها>> في عطر نفاث اسمه <<بنت السودان>> كصناعة محلية ولكنه يرمز الى شيء دفين في مخابئ العشق, رغم انه يباع بأرخص الأثمان.. هذا <<السلام>> يتجلى أيضا في مخيلة الناس, وهم ينظرون الى <<القطار الصاعد الى العاصمة>> حيث يتمنون الصعود فيه والوصول الى هناك- الى المدينة- بل الشاعر يصور أحلام الناس <<العاشقين>> برؤية اهتزاز الثدي الناهد من خلف <<الشيلة>> أو <<الخمار الاسود, عند حركة القطار بل يسحب ظلال هذا <<السلام>> الى الموروث الديني في اسقاطاته, وخلفياته الشيعية ليكمل رسم لوحته الفولكلورية الجنوبية:
للثدي الناهض رغم رماد الجوع
لديك العباس تهادى مزدهيا
بالذهب الأشقر وبحار الألوان
لوهج التنور الطيني اللافح
لأرغفة فاحت بأريج الحنطة والنار..>>.(ص12)
هذا التشكيل الفولكلوري الجميل, يتسامى بمخيلة الشاعر كموروث شعبي لا يمكن الفكاك منه لأنه توأم المخيلة وخزينها الاول وهو المستشاط الأقوى في الذاكرة عند الابتعاد عن الوطن.
* في المقطع الخامس من هذا النص الشعري, يستحضر الشاعر متناقضات الحالة الاجتماعية وهي تتواشج بين الدين والعلم والتكنولوجيا والمعتقدات, منصهرة في بوتقة الوعي الفطري لأبناء الجنوب العراقي, والتي تحاول بعنف الخروج من شرنقة الجهل الى شجرة العلم الوارفة, إلا أن تكنولوجيا الغرب ووهم المعتقدات تحدان من ذلك الخروج, يقول:
<<أسفا يا أورنا
للعلق الأخضر في رسغ صبي مقطوع
لشظية صاروخ ليست عمياء
البكلوريا ترقد تحت المصحف
للمصحف ملفوف بالاخضر والمجد
لمزيج دخان وهسيس وشذا
يتصاعد فوق شجيرات الفلفل>> (ص14)
* بين شباك الفولكلور الجنوبي الأصيل وفلسفة التصوف السياسي في رؤيا الحلاج وشطحاته, وبين ترنيمات مظفر النواب الشعبية, وصورة الجنود القتلى في حرب الخليج يسربلهم النفط الاسود, بين هذا وذاك, ينطلق المقطع السادس من القصيدة و ليوشم الشاعر علاء اللامي به اللحظة الراهنة من التاريخ المعاصر, ليدين بها الزمن, وسقطات الزمن وحكام الزمن, بأحاسيس شفافة مشفوعة بألم دفين يحاكي إرثا نضاليا محفوظا في ذاكرة الاجيال, ومسطرا بأنفس المخطوطات المتسرمدة بوعي الذاكرة التاريخية والانسانية, يقول:
<<لأبوذيات تطوي بعض مسافات
بين الحكمة والدمع
لعلامات مساواة يبذرها الحلاج
بين ثلوم الحب والاستشهاد
لجنود يلتحفون الماء الاسود في الماء
كل يحضن قمرا أصهب
فيتحلب ريق الحالم.. بمذاق الزهدي والثلج.(ص16)
حين يبدأ الشاعر هذا المقطع بكلمة <<أبو ذيات>> فهو يصر على محاكاة الوجدان الشعبي – المحلي- على اعتبار أن <<الأبو ذية>> واحد من الألحان السبعة الملحونة والتي يتعاطى بها العراقيون في أفراحهم واتراحهم نظرا لما تحتويه من حكمة, وتضمين أمثال على بحر <<الوافر>> , بل هي واحدة من معرفة قياس قدرة المغني على الأداء(1) ومن ثم مناجاة للقلوب بين المتحابين والعشاق, لذلك كان استخدامها في أول المقطع الشعري ليس اعتباطا من قبل الشاعر بل توظيفا مقصودا يخدم دلالات الشاعر ورؤيته وقد أخذت مكان الصدارة في الاستخدام للأسباب الآنفة, ثم تعريجة الشاعر علاء اللامي على ديوان الشاعر مظفر النواب <<للريل وحمد>> وتوظيف <<القطاة>> من ذلك الديوان ما هو إلا توكيد لاستحضار ذلك الوجدان الشعبي. حيث ان مظفر النواب في هذا الديوان كان يخاطب أيضا المخيلة الشعبية ممجدا أبطالا شعبيين, والاشارة الى كلمة <<قطاة>> هو لاستحضار المقطع الأول من قصيدة للريل وحمد والتي يقول فيها مظفر:
هودر هواهم ولك.. حدر السنابل كطه.
بمعنى أن توظيف مفردة <<قطاة>> والملفوظة والمكتوبة <<كطه>> هو للتذكير ثانية بتلك البيئة واصالتها وذكرياتها وأحزانها ومواقفها الثورية وبنفس الوقت تعني هذه الدلالة التحريض على الثورة ضد الطغاة الذين طمسوا هذا الإرث النير منذ عهود الخلافة ومنذ تحريض الحلاج عليها وحتى استشهاد الجنود في حرب الخليج.
* في المقطع السابع من النص تظهر حالة من المباشرة السياسية يريدها الشاعر لكي يفضح من خلالها الانحطاط السياسي العراقي والعربي والامريكي بتناول مادة المدرسة كصرح تعليمي ليس له علاقة بالحرب لأن المدرسة هنا ابتدائية وليست أكاديميات او كليات حربية, يقول:
<<للمدرسة المائلة كحرف الجر
لنوافذها المخلوعات
تطل على العار الأمريكي..>> (ص81)
النصف الثاني من هذا المقطع الشعري هو نص نثري فني مشبع بالاسقاطات السياسية, استخدمه علاء اللامي ليروي غليل فؤاده خارجا عن دائرة الشعر داخلا في المقامة ليفضح اطراف المعارضة السياسية.
في المقطع الثامن من تلك القصيدة يتفرع اللامي بموضوعاته ضمن اسقاطات الحالة الشعرية ورؤية الواقع السياسي في محصلة الابداع وشروطه الفنية مخاطبا- أور- الحضارة والتاريخ مستفزا ذاكرة الشعراء العراقيين المعاصرين لنكبة العراق ضمنا. يدين صمتهم لما يجري في العراق وخارجه يذكرهم بمجد العراق الذي وشاهم به وألبسهم حلة الفخر الفني بابداعهم هناك لا بالمنافي.
في المقطع التاسع من تلك القصيدة فان ظلال المقطع الثامن تنسحب عليه من حيث تشعبات الموضوع في محمولاتها السياسية فقد يلمس القارئ هذه التشعبات على أكثر من محور أولها: المحور العربي حيث يسلط الشاعر الضوء على الممارسات ضد الدلالات العراقيات اللاتي خرجن من العراق يطلبن العيش بسلام في ظل نظام عربي شقيق:
<<عارا لا أسفا سنقول
لضابط شرطة عربي
يغتصب الدلالات المسكينات
في حضرة مملوك>>. (ص24)
ثم العار الثاني للمتاجرين بالأعضاء البشرية العراقية:
<<عارا سنقول
لأبي الهول وقرنيه الذهبيين
يقتحم المشفى كالبلدوزر
ليبتاع بمائة دولار كلية أنكيدو
ويهمس في أذن القادم من بنغازي:
– كليته زي الفل!!
ثم يميل الشاعر نحو معارضة تدعي تمثيل قوى الشعب العراقي المعارض ليدين سلوكهم وعمالتهم لأسيادهم:
<<لمعارضة مفرطة السمنة والأوهام
تمشي والرأس الى الأسفل
في عاصمة الأسياد
للملكيين يوزعون البيرة مجانا
ويحشونك يا قلب الجمهورية
بمسامير طوائف مشحوذات>>. (ص25)
بعد هذا الكشف والتعرية يعود الشاعر الى الأحياء الشعبية في بغداد, كمن أودع سره هناك, ليخاطبها بمضامين مسمياتها مستعيدا حلما نرجسيا ذا طبيعية ثورية علها تسمع نداءه فيستجير بها صارخا:
<<أسف يتساءل
لحي جميلة يغرق في ذهب الصيف
لجميلة لا تسأل عن حي أو ميت في بغداد
أسفا .. أسفا
لباب الورد وصمت الشيخ
لشيخ والورد وصمت الباب
أسفا يا أصوات الورد بباب الشيخ>>. (ص25)
إن إصرار الشاعر على استحضار هذه الأماكن الشعبية, يخضع الى تاريخها النضالي الطويل لمقاومة العسف والاضطهاد بعد أن غادرتها <<القيادات السياسية>> الى <<عاصمة الأسياد>> وهذا الحضور لهذه المناطق الشعبية في النص هو الملاذ الأخير في رؤيا الشاعر, لذلك وجه النداء إليه بعد إدانة <<قوى المعارضة>> ومن هذا النداء يواصل اطلاق الأسى والأسف لأور وتاريخها الحافل بالأمجاد وبعد أن يكون قد صب اللعنات على من يستحقها يوقن الشاعر أن لا فائدة من هؤلاء فيميل الى التاريخ على اعتباره الشاهد الحي على مآثر المجد عند أبناء أور من خلال ما شيدوه من أوابد حضارية ما زالت قائمة تستنطق التاريخ بوجودها أبد الدهر فيقدم أسفه لها باالقول:
<<أسفا .. لأور الباسقة تودع الجميع
وتلوح لنا من قمرة القيادة
بذيل كفنها الأبيض
لأورنا السمراء
تغمز بعينيها
شباب المقاومات الأرضية>>. (ص26)
ثم ينحني بتلويحة وداع الى ما تبقى من رجولة في تلك البقاع فيقول:
<<لرجال مقاومة في الأهوار سلاما .. سلاما .. سلاما
لأور الصهيل المقترب سلاما .. سلاما .. سلاما
إذ تضرب لنا موعدا قرب أنقاضها,
صباح عراق قادم .. عراق آخر.. سلاما أور>>. (ص26)
تلك هي <<مرثاة أخرى لأور>> والتي كانت بمثابة افتتاحية لقصائد المجموعة الشعرية, آثرنا تحليلها وحدها, لأنها تمثل خزين التجربة الشخصية للشاعر علاء مسبوكة بهذا الأداء الشعري, ساحبة ظلال رؤاها على بقية القصائد.
————————————
الهامش
1 – لمزيد الاطلاع على <<الابوذية العراقية>> يراجع بحثتنا <<الأبوذية- لون خاص من الغناء العراقي>> والمنشورة في مجلة <<النافذة الشهرية عدد 4 صيف 1992 دمشق.