لا تسألوا، فلن يجيبكم أحد. هذه الريح السوداء المعلقة فوق رؤوسنا، لاتتقدم ولا تتأخر، لكأنها تفكر في السقوط علينا، وصبْغ هذا الفضاء كلّه بالسواد. هل نغادر إذن؟ بحثًا عن كهف آمن، أو أنبوب ضخم نتوارى فيه، قبل أن تسّاقط هذي الريح شظايا أو شررًا متطايرًا أو كِسفًا صغيرة من الليل! تحطّ فوق صدورنا، وتجعلنا لا نتنفّسُ إلا بصعوبة. نتنفس هذه المادة الزيتية اللزجة، معجونة بالسمّ الناقع، كأنها شواظ بركاني يشوي بلهيبه كلَّ ما يصل إليه، ويحرق كلَّ ما هو أخضر في مسيل جمره!
يا أيتها السموات البعيدة، العتيدة، أَمطري علينا، أسقطي من مائك ما يبعثر هذه الريح السوداء، اجعليه يغسل جباهنا، وقد ينجح في غسْل حنايانا من رطوبة قاسية وغبار متجمع. ملاذنا الآن أنتِ. لا بحر ولا نهر ولا ينبوع. ليس إلا سرابٌ قاسٍ لامعٌ، وهوادجُ تهتزُّ – أمام عيوننا – فوق نُوقٍ مكدودة، أجهدها الإبحار في قلب الصحراء، وأدماها حشفٌ جافّ توغل فيه، وذوائب طلع شوكي، تمدّ أعناقها إليه، سعيًا إلى مأكل أو مشرب، فترتدُّ حسيرة معتلّة، يقتلها الظمأ، ويفتك بها السغب، ويتأكّلها القتاد!
يا ظعائن هذه الهوادج غنّين، تمايلن في أعطاف هوادجكن يمْنة ويسرة، وأمامًا ووراء. لعلَّ اهتزازكن يُنسي رواحلنا أوجاع السُّرى وعذابات الوخْد الدامي، ويجعلها تهتزُّ بدورها على إيقاع حركاتكنْ. الغناء حتى لو كان حزينًا وتعيسًا يردّد صوت الحادي الأكثر حزنًا وتعاسة، كفيل بأن يجعلكن تسْتروحن هدهدة الإيقاع، ورواحلكم تحلم كما صورها المعري -فيلسوف الشعر العربي- بأنها تمارس جِذابها لــ«ذوائب طلْحٍ بالعقيق وضالِ… فأنشدن من شعر المطايا قصيدة* وأودعنها في الصبر كلَّ مقالِ». هلمي يا ظعائن ويا رواحل، إياكن أن تتطلّعن إلى الصحراء اللافحة الممتدة، والفيافي التي يغيب فيها الصوت دون صدى، لا تحاولن اختلاس نظرة من داخل هوادجكنّ إلى الفضاء الذي لم يعد يُشاهد سواه، فضاء أصفر، داكن، شاحب، عابس، يفضي إلى فضاء، ونهار يُسْلم إلى ليل، وليل يودي بكنّ إلى نهار، ووطءٌ في هذه الصحراء اللاهبة القاسية، ولا عين ماء!
يا ظعائن وادي الغضى، لي بينكن ظعينة مسافرة، ظعينة واحدة تعلّقها قلبي منذ الصبا واليفاعة، فغادرني، واستقرّ في هودجها، إلى جوارها، يكاد يلامسُ موطئَ قدميْها ، رفيقًا وحارسًا ومؤنسا، يلمسها لي، ويضمُّ أملَدها لي، ويكلّم جمالها باسْمي، وينطقُ بكلِّ ما عجزتُ، عن توصيله إليها.
ارفقن بها يا سرب الظعينات، ولا تكنّ ثقيلات الوطأة عليها، فهي خفيفة كالنسيم، شفافة كالضوء، ناعمة مصقولة كالعاج، ملفوفة كنخلة عراقية سامقة مباهية، هفهافة كموجة عطر فاغم محمّلٍ بالياسمين، صافية كزرقة سماء ليلة قمرية ساجية، عذبة كقصيدة شعرٍ أبدعها عاشق بدويّ.
اربِتْن عليها، وهدهدْنها لأجلي، أنا المتيم بها، الضارب في الفيافي وراءها ألتمسُها عند منابع الماء، وفي ثنيّات الوادي ومنعطفاته، وأُحمِّل الريح صوتي لعله يصل إلى سمعها حيث تكون، أنا المقتول ظمأً يفوق ظمأها للماء والطعام، وهيامًا أشدَّ من ذكَر الإبل حين تُقْصَى عنه ناقته ووليفته فيصبح لتحنانه صوت يرجُّ الفضاء، وهديرٌ يُدوّى في الخلاء، وشوقًا أقسى من الشوك الذي تتعاطاه نُوق القافلة، وحريقًا يشوي كبدي ويفْريه، لا تعرفه قلوبكن الحرّى وأكبادكن المحترقة!
هل يُشبه ليلُ قاهرتكَ المكفهرّ الغاضب، ليْلَ هذه الصحراء الجرداء القاسية؟ وهل يضيق صدرك بلفح هوائها الثقيلِ المشبع بالرطوبة وأنت تُخوّض فيه وتجفّف جبينك الـمُبْتلّ بين حين وحين، وتهرول في إثر قافلة تصبّاك واحد من هوادجها بما يحمله من لؤلوة يتيمة وجوهرة مكنونة؟ لعلك تحاول الآن إزاحة هذا الزحام الضاغط عن يمينك ويسارك، وتسارع في شقّ طريق لك ينجيك من قيظ لا يرحم، وعيون جوعى مقتحمة، ومطبّاتٍ قبيحة مباغتة.
ها، فتش في جيبك عن مفتاحك، فالبيتُ اقترب، وسوف يضمُّك هذا المأوى بعد قليل. أدخل مفتاحك في باب البيت وحاذر أن ينكسر المفتاح. فكَّرْ، سيكون الباب مغلقًا عندئذٍ، ويكون الشارع مأواك، إلى أن تأتيك النجدة ممن يملك مفتاحًا للبيت كمفتاحك. ساعتها لن تحتمل اللوم أو السخرية أو سيل الأسئلة المتلاحقة عن كيفية كسر المفتاح، ولماذا يخطر لك دومًا أن المفتاح سينكسر ذات يوم؟ فكّر كيف تواجه هذا الموقف، وتكون قد اتخذت أُهبتك لحدوثه، حتى لا تباغتك المفاجأة الكريهة بموقف بغيض، لا أظنك تتمناه لغيرك، حتى لو كان من أشدّ الثقلاء!.
ليلٌ ساجِ، وسماء ذات أبراج، وهدوء خادع يغمر ما حولك، وبقايا أنوار خافتة، تنطفئ واحدًا بعد الآخر، على مسافات زمنية متباعدة. لعلَّ المشهد يُفكّكُ من توتّرك، أو يضاعف من شدّة إصغائك، أو ينسيك عناء يوم تبدّد عبر الشوارع والأزقّة والأرصفة والمطبات المتلاحقة، وأنت تُمسك نفسك عن الصراخ أو القذف بشتائم غير معهودة منك، وإن كانت أقلّ سوقيةً بكثير مما ينفجر به سِفْلَةُ هذي الأيام. هذا جوٌّ يغريك الآن بأن تصطاد اللحظة، هل أُعلّمك كيف؟ أمسك قلمك، مثل سلاح قد شهرْته لمن يقطع عليك طريقك. أحضر أوراقك البيضاء الخالية من الأسطر، فضاؤها الأبيض يغريك بأن تنزلق عليها بكلام سوف يواتيك، سوف يوافيك، وكأنه قد راح يناديك، من غير أن يعوقك سطر يتلوى من تحت الكلام. أصْغِ له، وتأمّل، ثم اكتب ما طنَّ بأذنيك، وما زنَّ حواليك، شيء كالهمس، سيرتفع الهمس قليلا، يصبح نبرًا أوضح، يصبح لغةً عالية، وحديثًا يسمعه من لسْتَ حريصًا أن يسمعك وأنت تقول. فتأمل حالك بعض الوقت، يجيء كلام ويغيب كلام. يومض، يبرق، يمضي، ينطفئ سريعًا، لن يرجع مهما حاولت. أنت تلكأتَ فضاع وكان جديرًا أن تلحقه، أن تتشبث به، تمسك بالحرف وراء الحرف، تُسجِّله في اللوح الأبيض من صفحتك المتهيئة لك، حتى تملأها، وتسوّد وجهًا منها، ويسيل المعنى من قلب الألفاظ المنهمرة والمحتدمة. ساعتها، تذكر وجه حبيب غاب، ووجه ظلامٍ حلَّ، وتوشكُ أن تبكي…
هلموا يا رفاق، هلموا يا أحباب، أعينوني على هذا الوقت الصعب، وهذا الزمن المختلّ. هيا، سيروا، حتى نكتشف معًا أولى عتبات طريق تسلكه قافلة ملأى بظعائن من صنع خيالٍ يفترش الأرض، ويُقعي في الظلمات، ويرحل بعض الوقت، ويأتي حين تضيق الحال، ولا يبقى منه – إن جاء – سوى أطياف ذاهلة وفضاء أجرد. أنتم مثلي محتاجون لمثل خيالي، حتى تتوازن أركان الأرض، وتتّسق فضاءات الدنيا، ويصير الحال الطالح أجمل في أعيننا. ساعتها نحتمل الغِلْظة، والعقل المظلم، والكلمات الجوفاء. هيا، سيروا، حتى تكتظ الدنيا بحقائبنا المحشوّة بخرافات عن قوم كانوا، وحضارات قامت، وشعوب بادت، وأكاذيب تناولها سبّاك القوم ليصنع منها تاريخًا وحياة وأناشيد بطولة. ألقوا بحقائبكم – إن شئتم – فهي ثقيلة، قد تخرج منها حيات أكلَتْ من بعض لفائفها، حتى بَشمتْ، فسعت في الأرض فسادًا، ثم انسلّتْ. بيت تسكنه الحيات مخيف حتى الموت، حتى لو أصبح بيتًا للشعر، تعيث به الحيات وتهوي فوق رؤوس الشعراء. هيا يا أصحاب ويا أحباب، الدنيا مازالت أرحب، والأعمار قصيرة. فلنملأ سلاّت العمر ببعض ثمار الدنيا وقطاف الفاكهة، وغرسٍ يُثمر في أيام قادمة، قد لا نلحقه نحن، ولكن يتشهّاه الأبناء أو الأحفاد، فهيّا!
أسمع أقدامًا تتلكأ وهي تنوء وتثّاقل في الأرض. سقط الإيقاع وضاع الحبلُ السُّرِّي، وغابت ملء أزقتها الهمساتُ، وجاء زمان للأصوات الصاخبة، وللأفعال المنكرة، وتحطيم موازين الأشياء. قيل: انتشروا، فتعثر قوم في قوم، وارتبكت ثَمَّ فرائصُ مذعورة. هل يدري الناس بأنّ سبيلا معوجًّا يغريهم بالسيل المعوجِّ، فيُخرس أنفاسًا، ويضاعف من شكوى مقموعين، ومذعورين، ومنتطرين بلا أمل يأتي، أو بعض رجاء؟
*** *** ***
أحكم إغلاق الباب، وبادر بالنوم إن اسطعْتَ، فلن يأتيك النوم وأنت تحدّقُ فيما حولك من أشباح تتراقص، وهواجس وهي تفحُّ وتنفخُ في أركان الغرفة لفْحَ سعيرٍ تتقلّبُ فوقه. لا وقت الآن لشيء آخر أو حتى لهروب من رعب ماثل، لا عزم تبقَّى أو طاقة. يأخذك الإجهاد وتسحبك الموجة للقاع، القاع الباردُ يغريك بأن تتوسّده، وتظلّ تُحدّق نحو الأعلى، والأعلى ظلُماتٌ تعلوها ظلمات، طبقاتٌ تتلوها طبقات، أغمض عينيْك، وحدّق في ليل الرحمة!
فاروق شوشة
شاعر من مصر