باتت الكتابة الشذرية من الفنون الأدبية الرائجة في السنوات الأخيرة، شعراء كثيرون يلجأون إليها باعتبارها أكثر إمتاعاً، ربما من القصيدة، والروائيون يختارونها أيضاً باعتبار أنها تقول أفكاراً كثيرة من خلال مقاطع قليلة وقصيرة. وازداد حضور الشذرات في الثقافة العربية مع تنامي ترجمات الأدباء والفلاسفة الذين اختاروا هذا الجنس الأدبي أسلوباً في الكتابة، من كتب نيتشه(هكذا تكلم زرادشت، نقيض المسيح، أفول الأصنام، وغيرها من المؤلفات) إلى «توقيعات» و«المياه كلها بلون الغرق» و«لو كان آدم سعيداً» للروماني الأصل أميل سيوران و«شذرات من خطاب العشق» للفرنسي رولان بارت و«شذرات» للبلغاري الياس كانيتي و«كتاب اللاطمأنينة» للبرتغالي فرناندو بيسوا و«اعترافات» للفرنسي جان جاك روسو و«الأدب الصغير» للألماني تيودور أدورنو وغيرهم، وثمة من يذكر ضمن اللائحة كاتباً عربياً هو أبو حيان التوحيدي…
والشذرة كما عبّر الناقد الألماني فريدريك شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزين في أغلب الأحيان عن فهمه أو تقبله. ومن هنا، فقد اختار كثير من الفلاسفة والمتصوفة والمفكرين استعمال الشذرات طريقة في التعبير والتفكير والتصريح. ويعني هذا أن هؤلاء قد استعملوا أسلوباً مقطعياً ينم عن حرية في الكتابة، ورغبة في الإفلات من الإكراهات التي يفرضها كل فكر فلسفي نسقي صارم. بمعنى أن الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد، وبالتالي الاقتضاب والتكثيف.
الكتابة الشذرية جنس أدبي ظهر على استحياء وتعثر في فترات تاريخية مختلفة من تاريخ الكتابة الأدبية والنقدية والفلسفية، وإذا ما عرفنا بأن نظام الشذرة ظهر في الفلسفة بسبب نقص التدوين، أو ضياع المكتوب من ذاكرة الكتابة منذ الفلسفة اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، إذا ما اعتبرنا الشذرات التي وصلتنا من فلسفة هيرقليدس، وبرمنيذس، وديمقريطس، هي الشكل الأول لظهور الشذرة أو المقطعية في الكتابة، إلا أن الشذرة لم تكن شائعة بعد في مجال الكتابة والتأليف حتى ظهور «خواطر» باسكال، التي عرفت بهذا الاسم، ثم أعقبتها «اعترافات» جان جاك روسو. ولقي الجنس الأدبي الجديد شهرة كبيرة مع كتاب فرنسيين كبار، مثل موريس بلانشو، جورج بيروس، وباسكال كينيار، إلا أن الكتابة في شكلها الشذري، لم تصبح منهجاً في التعبير وأسلوباً مطلوباً لذاته، إلا مع ظهور أعمال نيتشه، ففي ثمانينات القرن التاسع عشر، تغيرت أحوال الكتابة إثر حيازة الناس آلة كاتبة. فانتقل نيتشه من الكتابة المتصلة التي يحاكي تسلسلها وتقسيمها المحاضرات الجامعية إلى كتابة متقطعة على شاكلة فقرات ومقطعيات وشذرات قصيرة، يستطيع المرء من خلالها أن يقرأ في أي صفحة يشاء. كان نيتشه يقول: «إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب… ما لا يقوله في كتاب بأكمله»، ويعتبر الشذرة «فن الخلود». والحال إن الشكل الشذري المفكك هو ما يجعل النص النيتشوي يدشّن أسلوباً جديداً في الكتابة، لا يني نيتشه يلقّبه بالسياسة الكبرى في الفلسفة. وينعته بنعوت مختلفة، كالمحاولة أو التجريب أو الاختبار. ويعني هذا أن أسلوبه يركّز على الملاحظة والحدس والتساؤل أكثر مما يسعى إلى بناء نسق مغلق.
ثمة ناقد يقول أن نيتشه يستعمل الشذرة بمعنى يناقض أصلها الاشتقاقي، إذ هي لا تتوخى التحديد المنطقي لما تتحدّث عنه، بقدر ما تسعى إلى اتخاذ المسافة الضرورية من المعاني والقيم التي تم تكريسها كحقائق، وإذا اقتضى الأمر فهي تخضعها إلى فحص نقدي جديد. فالشذرة تروم تحريك الفكر، وخلخلة يقينياته وعاداته، وتكسير المجرى العادي للأشياء. ولها قرابة مع التراجيديا إذ تشترك معها في هتك حرمة الخطاب. كما تتسم الشذرة بطابع الذاتية والفردية لأنها موجهة أساساً ضد الإجماع القائم. والشذرة تستمدّ فعاليتها من البلاغة والشعر أكثر مما هو منطقي وبرهاني. وهي تراكم الأسئلة وتثير الإشكاليات أكثر مما تقدّم الأجوبة وتبحث عن الحلول.
لا حاجة إلى التذكير بأن هذه الخصائص المميزة لأسلوب نيتشه في الكتابة، هي ذاتها خصائص الكتابة المعاصرة. فما يميّز هذه الأخيرة هو فقدانها لعنصر الوحدة والاتصال، وسيادة التعدد والتنوع والتفكك. بحيث ليس النص الفلسفي المعاصر نسيجاً موحّد البناء، وإنما هو مفكك أقرب إلى الشذرة والقولة القصيرة منه إلى الوحدة والبناء والنسق. إنه بتعبير المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي عبارة عن «نص بلّوري».
وتتسم الشذرة بالتفكك والانفصال على مستوى الظاهر، ولكن تتميز على مستوى العمق البنيوي بالوحدة العضوية والموضوعية. والحق أن الكتابة الشذرية مارست سحراً على الفلاسفة والشعراء، هناك الكثير من الشعراء العرب يكتبون الزوايا بطريقة الشذرات باعتبار أنها وسيلة ناجحة لايصال الكثير من الأفكار والمواضيع في زاوية واحدة، في المقابل ثمة من استسهل هذا النسق الكتابي(على نحو ما استسهل بعض الشعراء قصيدة النثر) لتدوين «فلسفات» ومأثورات «فلسفية» لا تحمل أي جديد في الثقافة. لا نريد الدخول في تفاصيل في تفاصيل الشذرات العربية، بقدر ما نود التأمل في مفهوم الشذرة ككل. فكارل كراوس فضَّل الشذرة على كل فنون القول الأخرى، ذلك أنها وحدها من تستحقّ اسم فنّ الهجاء بامتياز. تعارض الشذرة كل فكر نسقيّ، وتُستعمَل غالباً كسلاح هجائي ضدّ الزمن الراهن. وكتب آدورنو الشذرات في كتابه «الأدب الصغير» (ترجمة ناجي العونلّي عن دار «شرق غرب» للنشر)، وهو كان يعتبر الكتابة أسلوب حياة، يقول مترجم الكتاب ليس هم آدورنو الأول أن يخرج على النثر المنظوم المألوف في الفلسفة وأن يناهض بأي ثمن سطوة النسق على الفكر. بل الهم الرئيس لآدرنو هو أن تعبّر كتابة الشذرات باعتبارها لغة متحيّرة ومتمزّقة، عن الأولية الفلسفية للزائل والسلبي واللاجوهري.
لحظة محمومة
وهناك نوع آخر من الكتابة الشذرية ظهرت على يد كل من سيوران، وفرناندو بيسوا، ولسيوران بالذات التزام حرفي بمفهوم الشذرة، وهو يعتبرها الشكل الوحيد الملائم لمزاج الشاعر، وهي تمثّل لحظة محمومة مع جميع التناقضات التي تحتويها. ويعتبر سيوران أن عملاً ذا نفس طويل يخضع لمتطلبات البناء وهاجس التتابع، هو عمل من الإفراط في التماسك لا يمكن أن يكون حقيقياً.
يقال إن سيوران أفضل كاتب أقوال شذرات بعد نيتشه، لكن الشاعر أيمن حسن في تقديمه لكتاب «تاريخ ويوتوبيا» لسيوران (ترجمة آدم فتحى منشورات الجمل)، يقول أنه لئن اعتبره (سيوران) قُراءه من أهم الكتاب الناطقين بالفرنسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فإن لسيوران رأيا آخر. إذ يعتبر أن لغته هزمته، وهي التي فرضت عليه هذا النمط غير النمطي في الكتاب، أي المقطعي الشذري، حتى وصلت به إلى الصمت.
وإذا كان نيتشه كتب شذراته في بداية جنونه وفقدانه التوازن، فسيوران كتبها لأنه نفر من كل شيء آخر. عند اللجوء إلى الشذرات يبتعد سيوران عن كل أسلوب في إقناع القارئ قائم على الأدلّة والبراهين، وغير ذلك من المعدّات المعروفة. وقد أخذ بنهج الشذرة كطرح مكثّف لتأمّلاته ومواقفه الفلسفية. وإذا كانت أقواله قائمة على المفارقة فالأمر يرجع إلى موقفه المشبع باليأس الوجودي إزاء الإشكاليات الأساسية كالوجود والأنا والآخر. وربما سبب أخذه بنهج القول المأثور شكّه العميق بالكلمة ذاتها. يعتبر سيوران أن سبب الميل إلى الشذرات هو الكسل: «كي يكتب شيئاً متماسكاً ينبغي على الإنسان أن يكون نشيطاً. بالطبع ليس مسموحاً أبداً قراءة كتب الحكم والأقوال المأثورة من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، فهذا يولد الانطباع بفوضى شاملة وانعدام الجدّ. ينبغي مطالعتها في المساء قبل الذهاب إلى الفراش. أو في حالة الحصر النفسي والنفور (…) فهذه الأقوال المأثورة تدمّر نفسها بنفسها».
اللاطمأنينة
إن كانت الشذرة السيورانية لا تهدف إلى أي استنتاج أو إقناع، فإنها تُطلق من حين إلى آخر وميضاً من الصفاء يبدو فيه العالم فاقداً لكل معنى. بينما تأتي شذرات فرناندو بيسوا المشبعة بالأفكار الوجودية، والشاذة عن السياق المعهود في الكتابة، فهو يمزج الشعر بالفكر، وله محاولات في الكتابة الذاتية على غرار اعترافات القديس أوغسطنويس، فهو وضع كميّة كثيرة من المقطعيات السيرية والتأملية في كتابه «كتاب اللاطمأنينة» الذي يتألف من شذرات مقطعية، كما يقدمه مترجمه إلى العربية المهدي أخريف قائلاً: إن عبقرية بيسوا هي أظهر وأعمق وأغنى في هذا الكتاب وأكثر شمولاً، إذ لا يتعلق الأمر هنا بمجرد يوميات منسوبة إلى ند أو شبه ند له هو «برنار سوار» كما حاول المؤلف أن يوهمنا، فـ «اللاطمأنينة» هو كتاب يوميات باطنية، حفريات في الذات أو بالأحرى الذوات، في لا واقعية الواقع وواقعية الأحلام والأوهام، وهو كتاب نثر ولكنه مهول بالشعر. يقول بيسوا في تقديمه لكتابه: واحدة من مآسي الروح الكبرى أن تنفذ عملاً ثم تدرك، فور انتهائك منه، أنه ليس من الجودة في شيء، تكبر المأساة خصوصاً عندما يدرك المرء أن هذا العمل هو قصارى ما يستطيع بذله، ولكن، أن تكتب عملاً، وأنت تعرف مسبقاً أنه مختل وناقص، وأنت تكتبه، مختلاً وناقصاً فهذه ذروة العذاب والذل الروحيين، لست راضياً عن القصائد التي أكتبها الآن فحسب؛ بل أعرف إني لن أرضى أيضاً عن القصائد التي سأكتبها في المستقبل، أعرف هذا فلسفياً وبلحم جسدي، من استشراف ضبابي لا أدرى من أين استقيته، فإذن، لماذا أستمر بالكتابة؟ لأني لم أتعلم بعد المزاولة التامة للتخلي الذي أعظ به، لم أتمكن بعد من التخلي عن ميلي إلى الشعر والنثر، عليّ بالكتابة، وكأنني أنفذ عقوبة ما، والعقوبة القصوى هي أن أعرف أن كل ما أكتبه عديم الجدوى، ناقص ويفتقد إلى اليقين».
الياس كانيتي
كتب الفيلسوف البلغاري الياس كانيتي النص الفلسفي والسيرة والرواية والتأمل والسوسيولوجيا، ودوّن أيضاً الكتابة المقطعية هذا ما نلاحظه في كتابه «الشذرات» ترجمة المغربي رشيد بو طيب عن مشروع «كلمة» في أبوظبي. يقول بو طيب في مقدمته «الشذرات»: في كتابه النقدي «فهود في المعبد»، يتعرّض الناقد الألماني ميشائيل مار في الفصل الذي خصصه كانيتي إلى شذرات هذا الكاتب الكبير، ويرى أنه باستثناء البعض منها، فإن التقدير الذي تلقته كان مبالغاً فيه. وينتقد مقارنة تلك الشذرات بما كتبه ليشتنبرغ، معتبراً أنه لدى الأخير «لا يمكن أن تقلب عبارة إلى ضدها من دون أن تفقد الجملة معناها. أما لدى كانيتي فيمكننا أن نقلب ثلث شذراته عشوائياً من دون أن نلحظ إطلاقاً أن الجملة فقدت معناها». لكن هل هذا فعلاً ما يحدد الشذرة وما يكسبها أهمية أو يجردها منها؟ الإجابة طبعاً بالنفي، فلا يمكنني أن أقول عن شذرة مثل «المياه كلها بلون الغرق» لسيوران إنها عديمة الأهمية لأنها لا تفقد معناها إذا قرأناها بالمقلوب «الغرق كله بلون المياه»، طبعاً ليس هذا ما يكسب الشذرة شراستها وقلقها وما يجعلها تتردد داخلنا وتسكننا وقتاً طويلاً، إضافة إلى أن ميشائيل مار ينسى أن هذه الشذرات ظهرت بعد وفاة الكاتب، وأن كانيتي لا ريب كان سيسقط من كتابه الكثير منها، لا سيما أنها لا تتمتع فعلاً بقوة الشذرة كما عهدناها لديه، ولدى ليشتنبرغ ونيتشه وجون بول وكارل كراوس، حتى لا نذكر سوى كتاب الشذرة داخل الثقافة الألمانية. ومع ذلك فإن مار يشير إلى خاصية مهمة ميزت كانيتي عن غيره، وجعلته قريباً في رأيي من نيتشه، رغم تمرده عليه، وهي ما يسميها «بالنظرة الشرسة» والتي نصادفها لا ريب في الكثير من شذراته. الأرجح أن الكتابة النقدية بخصوص «شذرات» كانيتي و«لاطمأنينة» بيسوا تأتي في غير محلها، وربما حضورها الثقافي تجاوز النقد، فـ«كتاب اللاطمأنينة» الذي لم يرض صاحبه، هو الأكثر حضوراً وتأثيراً من بين كتبه، هو النموذج الذي يحتذى به. أما كانيتي فتبدو سطوته في كتابه «الحشد والسلطان» وفي مواقفه الإنسانية سواء من خلال روايته أو مسرحيته «المرقمون» التي ترجمت أخيراً عن سلسلة «المسرح العالمي» في الكويت.
لا ندري إن كان الفلاسفة والشعراء يفكرون بالقارئ أثناء كتاب «الشذرات»، ربما هم كتبوها كقراء قبل أن يكونوا فلاسفة، وعلى هذا كانت خارقة وعصرية وتحمل في براثنها الكثير من الإيماءات والإشارات حول الثقافة والفلسفة والكتابة والقراءة. من خلال ما تقدم، نلاحظ أن نيتشه هو المعيار الأول لكتابة الشذارت في العصر الحديث، سواء بالنسبة للذين قلدوه أو الذين تمردوا عليه. وهو الفيلسوف الذي يمكن أن يتابعه المثقف والمراهق، ولم يكن غريباً أن يكتب على غلاف «هكذا تكلم زرادشت» – كتاب للجميع ولغير أحد، ومع رواج «ثقافة الفايسبوك» التي هي في الأساس «ثقافة اللاثقافة» بات هناك موضة يتبعها الكثير من رواد الانترنت في نشر شذرات سيوران ونيتشه وبيسوا وغيرهم، دون أن ننسى أن الكتابة الفايسبوكية هي كتابة شذرية لكن بمضامين مختلفة، تتراوح بين السخافة والسوقية والادعاء والشعبوية والمباشرة، وقليلة هي الشذرات الفايسبوكية التي تتسم بالجدية والرصانة والعمق الفلسفي، لكن مهما يكن ستؤثر الكتابة الفايسبوكية على النسق الكتابي كما أثرن من قبلها آلة الطباعة.