كيف يمكن للموروث الإسلامي أن يساعدنا على النظر
إلى تجربة اللجوء والغربة نظرة جديدة(1)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.»(2)
هذا نص حديث مشهور من أحاديث النبي محمد. ورسالة هذا الحديث مذهلة وملغزة في آن. وتبقى محاولات الفقهاء التقليديين سلب هذا الحديث طاقته الحيوية والخلوص بالتالي إلى تأكيد انتصار الإسلام محاولات غير مقنعة.(3)
إذا ما نحن حاولنا انطلاقا من المنظور الإسلامي إلى الغربة أن نتلمس مقترحات وحوافز وأفكاراً لمجابهة التحديات التي يطرحها موضوع الغربة بالنسبة إلينا، فإن أول ما يثير الانتباه هو أن الرسول كان ينظر إلى الغرباء نظرة إيجابية وإلى أن الغربة امتياز، وليست أبدا حالة من النقص كما ينظر إليها عادة. ونحن نستطيع أن نحدس مصدر نظرة الرسول الإيجابية إلى الغربة: حيث مثلت الغربة حال المسلمين الأوائل، الذين تعرضوا للأذية في مكة بسبب معتقدهم.
وحيث إن حال الغربة حسب قول النبي هي مآل الإسلام فإنها قد تمثل بذلك في نفس الوقت ألف الإسلام ويائه، أو حال بدئه وختامه. وأنا أسعى في هذا المقال أن أنظر إلى ظاهرة الغربة تلك النظرة التي ينظر بها إليها المؤمنون، بما هي حال ابتعاد واغتراب عن الله.
في حديث آخر مشهور يقول النبي: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»(4).
خلفية هذا الحديث هو افتراض أن الموطن الحقيقي للإنسان – على الأقل منذ الخروج من الجنة – ليس على هذه الأرض، وإنما في الحياة الآخرة عند ربه.
يتعلق الأمر هنا بتصور قديم جدا نعثر عليه أيضا في ديانات أخرى. لكن من بين كل الديانات التي أعرفها لا أعثر على ديانة صورت وجود الإنسان باعتباره غربة ومنفى عن وطن السماء مثل ديانة الإسلام.
وإذا نحن أردنا أن نفكر في كيفية مجابهة سيرورة التحولات الحالية، والاقتلاع والتشريد وما ينشأ عنهما من تجارب الاغتراب مجابهة فكرية وشعورية، فإن النظر إلى الموروث الإسلامي وتأويله تأويلا جديدا، أمر يناسب عصرنا وينطوي على فائدة كبيرة بغض النظر عن قضية ما إذا كنا مؤمنين أم لا.
إن من شأن غربة الإنسان في العالم بحسب الموروث الإسلامي أن تمهد الطريق إلى أن ينصرف الإنسان بتوجهه عن الحياة الدنيا نحو الله، كما يتوجه الغريب أو المنفي بأشواقه نحو وطنه وعائلته. فمسألة شعوره بالغربة -أو على الأقل إمكان شعوره بها – تذكره بأنه ينتمي حقيقة إلى مكان آخر ،إلى الله، إلى الآخرة، هذا حتى ولو كان وضعه في الدنيا مريحا: حتى ولو لم تكن غريبا، يقول النبي، عش وكأنك غريب.
ينطوي مفهوم الغربة في الإسلام على ازدواجية في المعنى عجيبة. فمن الأكيد أن الغربة أمر سلبي، لكنها ليست سلبية، وليست سلبية لا غير، بل هي أكثر من ذلك ذات أهمية ولها دور، تذكر المؤمن بالله وتجعل جذوة الشوق إليه دائما متقدة مثل جذوة الشوق إلى وطن. فللغربة في الإسلام تلك المكانة التي يحتلها الألم في الديانة المسيحية. وهي، بلا ريب سلبية، ولكنها أيضا ذكرى الإله والطريق إليه.
من منظور متسام ليست الغربة شرا، لذا يأمرنا الرسول بها. فهي مثل الألم الذي بحث عنه المسيحيون المؤمنون واجتهدوا في استثارته عن طريق التقشف والزهد مثلا أو عن طريق الشهادة.
الغربة مثل الألم تماما، خبرة كونية – ليس فقط من وجهة النظر الدينية وإنما أيضا من وجهة النظر الوجودية-. إذ كل إنسان يعرف ما معنى الغربة. وكل إنسان سبق له أن أحس في زمان ومكان ما بأنه غريب، خلال السفر أو ربما حتى بين أهله. ليس ضروريا أن يكون المرء لاجئا حتى يدرك معنى الغربة. بل حتى عندما يكون المرء في دياره يمكن أن يشعر أنه غريب، وغالبا ما يلي هذا الشعور بالغربة في الوطن رحيل فعلي إلى الغربة، فتتحول بذلك تلك الهجرة الداخلية إلى هجرة خارجية حقيقية، كما هو حال كثير من الناس في العالم الإسلامي، عندما يحسون أنهم مستلبين، غرباء عن محيطهم، وذلك نظرا للضغط الاجتماعي الذي يتعرضون له بسبب موقفهم من الدين، أو بسبب آرائهم السياسية المخالفة أو ميولهم الجنسية المغايرة أو ما إلى ذلك.
ويعتبر التصوف الإسلامي أهم تيار في الإسلام تناول فكرة غربة الإنسان في العالم وطورها(5). حيث إننا نستطيع بكل أريحية أن نفسر شوق المتصوفة إلى الله بفكرة أن الوطن الحقيقي بالنسبة لهم يوجد في الآخرة.
ومن الأمثلة الباهرة للتأويل الصوفي للدنيا باعتبارها غربة ومنفى، قصة للسهروردي المقتول، لقب بالمقتول لأنه أعدم بأمر من السلطان صلاح الدين سنة 1191 عن عمر يناهز 36 سنة، حيث اعتبرت أفكاره الصوفية ضربا من الهرطقة. يحمل نص السهروردي عنوان « قصة الغربة الغربية»(6). المثير هنا هو أن كلمة الغرب تشتق من نفس جذر كلمة الغربة. عنوان القصة يتكون إذن من لعب بالألفاظ يربط كلمات الغرب بالغربة وبالتالي بالمنفى.
يسرد راوي الحكاية كيف أنه وأخوه توغلا يوما أثناء الصيد ناحية الغرب حتى وصلا مدينة القيروان التونسية. هناك ألقى السكان القبض عليهما ورموهما في بئر. فوق البئر ينتصب قصر مشيد، كان مسموحا للمسجونين ارتقاء أبراجه ليلا. إلى هناك سيحمل الهدهد إليهما رسالة من أبيهما يدعوهما فيها أن يذكراه ويرجعا إليه في الشرق. لكن من أجل الهروب، عليهما أن يتركا كل شيء خلفهما يشدهما إلى الحياة الدنيا. « أهلك أهلك» هكذا جاء في رسالة الأب. مرة أخرى تصادفنا واحدة من الألعاب اللفظية الكثيرة في هذا النص، وتعني « أترك أهلك يهلكون…»(7). المقصود من هاته العبارة الشديدة العنيفة هو أن ينصرف الراوي عن كل ما يربطه بالدنيا.
بعد تجاوز عقبات عديدة تذكر بمشاهد من يوم القيامة يصل الراوي إلى والده في مملكة النور. هنالك يتلقى خبرا مفرحا وآخر حزينا. أما الخبر الحزين فهو ضرورة أن يعود إلى سجنه في الجب لأنه لما يتخلص بعد من الشؤون الدنيوية خلاصا تاما. لكن في الآن نفسه يبشره بأنه سيتاح له يوما ما أن يتخلص من مشاغل الدنيا، وسيكون بمقدوره حينها الرجوع متى شاء(8).
تتجلى في هذه الحكاية أيضا الغربة كطبيعة بشرية، وكحالة وجودية للإنسان. الجديد في الأمرعند السهروردي هو أن الهروب من هذه الغربة الوجودية يبدو متيسرا ولو لفترة وجيزة، في النوم، في الحلم مثلا أو في حال الوجد الصوفي. لنتذكر أن الراوي يستطيع أن يرتقي ليلا من سجنه في الجب إلى أبراج القصر، حيث يتلقى رسائل والده. وبذلك يتاح له على الأقل أن يحصل على انطباع أولي عن حال اللا-غربة (= الألفة). هذان العالمان: الوطن والمنفى، الشرق والغرب كلاهما منفصلان، لكنهما يدركان بعضهما البعض، لأن بينهما تواصل.
هذه إلى حد ما هي الخلاصة المنطقية التي نستخلصها من ازدواجية المعنى العجيبة التي سبق وأشرت إليها، والمتضمَنة في مفهوم الغربة الإسلامي.
إن الغربة إثراء للحياة الداخلية وامتياز إضافي. وهي شكل من أشكال الاصطفاء. من هي إذن في الحياة الواقعية تلك الطيور الزواجل، من هي تلك الهداهد؟
إنها في اعتقادي كلَ أولئك الناس الذين يشعرون في قرارة أنفسهم بالغربة، الذين تلقوا الرسالة من غرباء آخرين ويعملون كما فعل سابقوهم على تبليغ الرسالة. فبحسب طريقة تبليغهم نسميهم أنبياء، كهنة، شعراء، مفكرين، أو فقط مجانين، فصاميين، مرضى.
من خلال إشارتهم إلى الغربة، نصطدم نحن بغربتنا الوجودية، يساعدوننا على تجاوزها، أو على الأقل يتيحون لنا أن نأمل في ذلك.
في أحد أبيات الديوان الشعري «ترجمان الأشواق» (صدر بداية ق 13) يقول الشاعر المتصوف محيي الدين بن عربي الذي تتقاطع مرحلة حياته وحياة السهروردي:
ما ضرني تعجيره إنما
أضرني من كونه أعرضا(9)
ظاهريا تتعلق هذه المقولة بالحبيب، لكن المقصود بالنسبة للصوفي بكل تأكيد هو الله. فأن يكون الله محجوبا، غير مرئي ولا مدرك مباشرة، أمر مفهوم. ما يضير الباحثين عنه، المشتاقين له، هو الإعراض، وهو ألا يكون هناك اتصال. فذلكم هو الضرر. ومن أجل دفع هذا الشر الذي هو إحساس بالاغتراب عن الله والسعي إلى تجاوزه ما أمكن، لا بد من أن تتصل العوالم المنفصلة، لا بد من تجديد التواصل مع الله.
والروح الغريبة في الدنيا لا تزال تشتاق إلى مدينة اللا-مكان
والنفس البهيمية تنتقل بين المراعي، فلماذا يا ربنا؟(10)
هكذا نقرأ في بيت من أبيات جلال الدين الرومي الذي عاش بدوره في القرن الثالث عشر. بالنسبة للصوفية كانت هذه بصفة عامة حال الجذبة المنشودة والتي يمكن بلوغها بصفة فردية أو من خلال ممارسات وطقوس جماعية. ولا ينبغي تجاوز حال الانفصال بين الوجود الدنيوي والمتعالي، المادي والروحي ذهنيا فقط، وإنما أيضا جسديا. لأجل هذا لعب الحب دورا أساسيا، لكن بطريقة مختلفة عن محبة القريب في المسيحية، من حيث هو عبارة عن حب شهواني، جسدي مداره الاجتذاب. لأن مثل هذا الحب هو التعبير الأكثر وضوحا ومحسوسية عن نشوة الذوبان في المحبوب وتجاوز حال الانفصال والغربة. مما يفسر كيف أن شعراء الإسلام المتصوفين هم في نفس الوقت أعظم شعراء الغزل.
وتعتبر النشوة الجنسية في الإسلام بمثابة انطباع أولي عن لذات الجنة، والتي هي أيضا -وهذا ليس عبثا – لذات جنسية . ولقد جرَ هذا التصور الجنساني للآخرة على الإسلام الكثير من الاستهزاء. وفي رأيي أن في هذا حيف كبير، لأن ما يتم إغفاله في هذا الصدد، هو أن العلاقة الجنسية في الجنة هي مبدئيا نفسها في الدنيا –فقط بصفة أكثر دواما. بعبارات أخرى: تصورُ مثل هذا للجنة يعلي من شأن الدنيا. حيث ينقل مكونا أساسيا من مباهج الجنة وبالتالي القرب من الله إلى الحياة الدنيوية، وذلك عن طريق تخطي حال الغربة من خلال النشوة الجنسية المعايشة. يتمثل الفرق الوحيد في أن هذا التخطي في الحياة الدنيا لا يمكن أن يحدث إلا بصفة لحظية ومؤقتة، بينما هو في الجنة مستمر، تماما كما يمكننا أن نتخيل الجماع في الحياة الآخرة. إن الإيمان بالحياة الآخرة يؤدي – يا للمفارقة -إلى الإعلاء من شأن الحياة الدنيا.
حتى الكتاب العرب المعاصرون نجدهم يتطرقون إلى فكرة العالم باعتباره منفى، وإلى مسألة الغربة في هذه الحياة. الكثيرون منهم غير متدينين، ولكنهم يعيشون أو عاشوا هم أنفسهم بسبب الظروف السياسية في أوطانهم في المنفى. وبما أن الغربة بحسب قصة السهروردي لا توجد إلا في الغرب، فإن أولئك الكتاب المسلمين الذين يعيشون فعلا منفاهم في الغرب يعثرون بناء على هذا الوضع على نقاط اتصال عديدة مع تراثهم. فهم يصفون حالتهم الوجودية في صور مثيرة للإعجاب مثل أجدادهم في العصر الوسيط:
فمحمود درويش مثلا يقول في إحدى قصائده متحدثا عن نفي الفلسطينيين وتشردهم:
نسافر كالناس، لكننا لا نعود إلى أي شيء…(11)
ويختم قصيدته:
لنا بلاد من كلام، تكلم، تكلم لنعرف حدا لهذا السفر!(12)
هكذا يتضح لنا كيف ينظر الشعراء العرب المعاصرون إلى منفاهم الواقعي كمجاز ورمز لوجودهم كما هو. ونلاحظ كيف أنهم يحظون بالمواساة من خلال هذا التعميم لحالة المنفى، لكن بالطبع دون استناد إلى حياة آخرة. تتمثل هذه المواساة في كون أن الناس جميعهم – بحسب هذه النظرة -يعيشون في منفى، وليس فقط فئات محددة منهم. وبهذا لا يبدو المنفى أمراً سلبيا، وصمة عار وباعثاً للتمييز. في قصيدة بعنوان معبَر: ‹› الهدهد››، يتابع محمود درويش هذه الفكرة، قائلا:
أسرى ما نحب وما نريد وما نكون… لكن فينا هدهدا.(13)
‹› ما نحب وما نريد» عند محمود درويش قد يقابل عند السهروردي المشاغل الدنيوية. ويمكنها أن تقابل بالنسبة إلينا اليوم تصوراتنا عن الهوية والوطن. عندما يكتب درويش: « لكن فينا هدهدا ‹› فإن هذا الهدهد يذكرنا أننا برغم الوطن والهوية غرباء عن هذا العالم، وبأن لنا أيضا انتماءات وطموحات وأشواق أخرى. يذكرنا الهدهد بأن البحث عن وطن، سواء أكان ميتافيزيقيا أو ملموسا، هو قدرنا. وبأننا نحمل غربتنا معنا حيثما حللنا وارتحلنا، وبأننا ربما أسرى ما نحب وما نريد. كما يذكرنا بأن في داخلنا، ما يقذفنا إلى خارج – سواء أكان هذا الخارج الأرض الغريبة الشاسعة أو كان عوالم غيبية عليا: ‹› لكن فينا هدهدا».
وهكذا ينفتح أمامنا منظور جديد، تبدو من خلاله الغربة أمراً مغريا. الهدهد والنبي، الهدهد والشاعر هم بمثابة ملقنين، مبشَرين بالغربة يطالبوننا مثلما فعل النبي محمد: « كن غريبا»(14)، « صر غريبا»، « اغترب».
ها نحن ذا عدنا إلى الحديث النبوي الذي انطلقنا منه وقد أقفلنا فعلا رحلة طويلة. حيث لم يعد من الضروري أن نؤمن بالآخرة، لكي نقدر الغربة والاغتراب حق قدرهما. لأن الهدهد لا يأتي من الآخرة، وإنما هو موجود في داخلنا. حيث بمقدورنا لوحدنا، وبصفة مستقلة، أن نتحرر من التصورات الضيَقة عن الهوية والوطن. قد يساعد الدين على ذلك، لكنه يبقى غير ضروري.
قدم أدونيس صيغة راديكالية للحياة الدنيوية باعتبارها منفى دون التعلق بحياة آخرة. فبالنسبة إليه أيضا صارت مفاهيم مثل الوطن والهوية لا معنى لها. وبما أن كل شيء غربة، ومنفى، وحيث أنه لا وجود للآخرة وأن الإله قد مات، فإنه من الأفيد، الاعتراف بهذا والتخلي نهائيا عن مفهوم الوطن. يقول في قصيدته « أرض بلا معاد»:
حتى لو رجعت يا أوديس
حتى لو ضاقت بك الأبعاد (…)
تظل في أرض بلا ميعاد،
تظل في أرض بلا معاد،
حتى لو رجعت يا أوديس.(15)
وهنا أيضا تبطل فكرة أن الوطن قائم بالفعل في مكان ملموس. فالوطن الحقيقي هو بالأحرى مثل البرق، الذي يرمز إلى لحظة النشوة والجذبة، إلى التبصرة والهداية. وبصفته هاته، يكون الوطن مقيما في العابر، وبالتالي في الحياة الدنيا، لكن بريق الأبدية يومض أيضا في هذه الحياة الدنيا، ويحمل من نسائم الجنة.
ونجد التصور نفسه عند الشاعر الفرنسي رونيه شارRené Char والذي كانت تجمعه صداقة وطيدة بألبير كامو Albert Camus. وشار من الشعراء والمفكرين الغربيين القلائل، الذين جعلوا من قضية الغربة محور أعمالهم. يكتب رينيه :
Si nous habitons un éclair,
Il est le cœur de l’éternel.
لو سكنا البرق فهو قلب الأبدية. (16)
من خلال فكرة العالم باعتباره غربة ومنفى، يتبين لنا أن هناك أيضا وجهات نظر عقائدية ملهمة، حتى ولو لم نؤمن بإله، ولو لم نرد أن نؤمن بالآخرة، فهذه المسألة لا تغيَر شيئاً من أن العالم يبقى غريبا، ومن أن الغربة ليست سلبية قط، بل هي بالعكس ترشدنا إلى كيفية التعاطي معها، وربما إمكان تجاوزها لحظيا. علاوة على ذلك يغدو من المتاح تجاوز الفجوة المستعصية بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين الذين لهم توجه ديني والذين لا توجهات دينية لهم، لأن الجميع يستطيع أن يتقاسم فكرة الغربة عن العالم.
وفي الأخير، تتيح لنا فكرة الغربة كطبيعة بشرية، أن ننظر إلى الغرباء الحقيقيين – الذين نسميهم في لغتنا اليومية بالمهاجرين واللاجئين والأجانب -كجزء منا، نتقاسم معهم قدر أننا جميعا بشكل أو بآخر غرباء. وبما أننا كلنا غرباء، فإنه من المتعين أن نكون متضامنين وأن نفهم الغربة ونعيشها كأساس لأخوة جديدة. لا سيما وأننا اليوم – وهذا ما يزيد الطين بلة -نفتقد إلى مفهوم إيجابي للغربة، وننظر إليها كوصمة عار، ونسعى في الغالب جاهدين لكبت إحساسنا الذاتي بالغربة.(17)
فكلما شعرنا بالغربة بوضوح واستطعنا أن نقر لأنفسنا بها، كلما كنا قادرين على أن نتجاوزها – ولو للحظات – وأن نشعر بقوة بهذا التجاوز ونقدَره حق قدره. كما يستطيع عابدو اللذات Hedonist أن يتعرفوا إلى أي حد تضاعف الغربة من الإحساس بالمتعة. ألم يكن التغريب لأجل هذا واحدا من أهم وسائل الفن المعاصر، كما الفن الصوفي؟ كل هذا يعلمنا إياه التراث الإسلامي، ويعلمنا إياه شعراء الإسلام المتصوفون، ويعلمنا إياه الشعراء المعاصرون من العالم الإسلامي.
إن إدراك غربة الإنسان المبدئية هو أفضل سبيل لإلغائها وتجاوزها، وتخطيها نحو التواصل مع كل ما هو مختلف عنا. وهذا ما من شأنه أن يحررنا، ويسمو بنا وينقذنا آخر الأمر حتى من أنفسنا.
فطوبى للغرباء!
الهوامش
1 – أصل هذا المقال خطبة ألقاها الكاتب يوم 20 نوفمبر 2016 بكاتدرائية برلين بمناسبة قداس ديني مسائي.
2 – صحيح مسلم (الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين) المجلد الأول ص. 128 سنة الإصدار 1918
3 – كثيرا ما يستدل بهذا الحديث للإشارة إلى نزعة الإصلاح في الإسلام، انظرمحمد أبو بكرالمصلح، 2012 ص 13
4 – البخاري 1999،ص 114 (كتاب الرقاق، باب قول النبي كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
5 – الظاهر أن مسألة «غربة أصل الروح الإنسانية عن هذا العالم» تم أخذها من الغنوصية (انظرL,ber 2006، ص 17).
6 – السهروردي2008 ، ص 206.
7 – السهروردي2008 ، ص 207.
العبارة كاملة :» وأهلك أهلك، واقتل امرأتك، إنها كانت من الغابرين»(…). وهي تلميح إلى الآية 33 من سورة العنكبوت : ( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ).
8 – انظر السهروردي 2008، ص 212.
9 – ابن عربي 1911، ص 40 (القصيدة 47)، ترجمه إلى الألمانية شتيفان فايدنر (2016 ص 125)
10 – جلال الدين الرومي: مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي (ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا)، الجزء الأول ، ص 31 الطبعة الثانية 2009، المركز القومي للترجمة.
بالفارسية: جان غر.ب اندر جهان مشتاق شهر لامكان *** نفس به.م. در چرا چند.ن چرا باشد چرا
11 – انظر الهامش 28
12 – محمود درويش 2002 (ترجمه إلى الألمانية شتيفان فايدنر ص 21)
13 – محمود درويش 1994، الجزء الثاني، ص 451
14 – أبو بكر محمد الآجري 1983م./ 1408هج. ، كتاب الغرباء ص 34 هذه المقولة اقتباس من حديث النبي « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، انظر الهامش رقم 8.
15 – أدونيس 1998 ص 39 (ترجمه إلى الألمانية شتيفان فايدنر).
16 – Char 1995، ص 44. ( الترجمة العربية : من ديوان مشاطرة شكلية ترجمة شاكر لعيبي،قصيدة في نخب الأفعى، ص. 56)
17 – انظر Kristeva 1988.
شتيفان فايدنر
ترجمة: عبداللطيف بوستة *