رحمة المغيزوي
كاتبة عمانية
– 1 –
آخر ما كان يُذكر عن ذلك الرجل بين الناس أنه قُتل.
ولم يُقتل في شيء كبير وهام.
هكذا قيّم الرجال الذين سمعوا حكايته كل مرة بإضافاتها الجديدة.
فقد كان موته من أجل فتاة خطفها من بيت أهلها وأقسم على عدم ردها إلا إذا وافقتْ ثم وافق أهلها على الزواج به.
على جدار بيت الرجل العتيق بان اللون الأحمر باهتا وجاورته آثار رصاصات قريبة من بعضها البعض. ثم صمت عميق لم تكشف منه الأيام إلا عن نتف صغيرة من تلك الواقعة.
«ولد مبارك» كان هنالك عندما ذُكرت سيرة ذلك الرجل مما دعاه إلى تحريك عضلات وجهه في امتعاض شديد كمن عصر في فمه حبة ليمونة كاملة فشعر بطعم حموضة كبيرة ممزوجة في آخرها بمرارة خفية، ثم بصق عن شماله واستعاذ من وسوسة الشيطان الرجيم وقال في تهكم واضح:
– أيقتل رجل من أجل امرأة ؟، والنساء يملأن الكون ويفضن عن الحاجة.
غادر «ولد مبارك» ذلك المجلس ولم يذكر….
أن من قتلوا ذلك الرجل لم يحسنوا القتلة أبدا، إذ ركزوا تصويب بنادقهم على موضع القلب فقط، حتى أقسموا أنهم شاهدوا ذلك الفؤاد يسيل على هيئة دم كثيف غطى الصدر. ومن ثم تركوا جثته تتلاعب بها الأيام حتى اختفت دون أن يعلموا مكانها. ولكنها ظلت ماثلة لكل من مس شيئا من حناياه أو استوطن فيها.
وزاد ذلك الأمر رسوخا في نفوس النسوة خاصة أن من جاء بعدهم لم يحسنوا ذبح قلوب العذارى أيضا بسرد القصة بالشكل الصحيح والذي يجعلهن ينفرن من تصرف ذلك الرجل، ومن ثم يُدنّ فعله الشائن، بل دسوا في كلماتهم -دون قصد منهم- مذاقا خفيا جعل تلك القلوب الغضة معلقة في سيرة ذلك الرجل كبطل دون جواد، يحلمن به كلما جادت المجالس بحكايات الحب أو راودتهن أحد أعراضه.
كما لم يذكر «ولد مبارك»….
أنهم كانوا عشرة أخوة، وأن الخاطف كان منفردا دون سند يحميه، ومتدثرا فقط بحب أختهم الوحيدة، وأن جسارته ثم نار الحب التي تلهب داخله لا يمكنهما أن يطغيا على غيرة رجال متحدين في الذود عن شرفهم الذي غسلوه بإطلاق عشر رصاصات على صدر غريمهم فتفرق دمه بينهم حتى ظنوا أنه لم يبق من سيرته سوى ذلك البيت الذي بدأ في التآكل.
كما أنه لم يسمع كلام النسوة بأن ذلك الرجل الذي أصبح يدعى العاشق أو البطل لم يقرب تلك الفتاة التي احتجزها أسبوعا، وإنما لثم يدها فقط، ورجاها خلال الأيام التي جمعتهما أن توافق على أن يكون زوجها، فرفعت إليه أنفها المستقيم في كبرياء وأنفة ثم أشاحت بوجهها عنه دون أن ترد عليه بكلمة واحدة، تاركة الأفكار المتناقضة تركض في رأسه وتهاجم قلبه.
ولكن «ولد مبارك» أقر بينه وبين نفسه بأمور منها…
غلبت تلكم المرأة ذلك الرجل دون أسلحة تذكر إلا من سلاحي الصمت والفتنة التي شعر أنها كانت تناديه بها كلما راقبها وهي تدخل أو تخرج من دار والدها أو تتحدث حديثا مقتضبا مع إحدى رفيقاتها إذا ضمتهما صدفة عابرة في إحدى السكك، وكسرها هو بالتضحية العظمى لحبه لها عندما فتح باب بيته بقناعة تامة واستقبل رصاصات إخوتها بصدر عريض وعارٍ إلا من شعر كثيف جدا وصفوه به من حملوا على عاتقهم رواية واقعته.
لذا بقيت حكايتهما تسكر عقول الرجال، وتلهب قلوب النساء حتى الآن.
«ولد مبارك» أخبر أولئك الذين لم يشبعوا من تكرار سيرة بطل العذارى –كما سماه- قبل أن يغادرهم:
خُلقت المرأة من ضلع الرجل، فبقيت هي الجزء وكان هو الكل، والجزء يطيع ويحن إلى الكل. ولا يراه أحد غيره، لذا تكتفي المرأة برجل واحد في حياتها غالبًا، والكل يخفض جناح الذل من الرحمة للجزء، يعاشره بالمودة ويسكن إليه، ويغلب عليه أن يفكر في أجزاء أخرى، وأن النواميس والأنظمة عبر الأزمان المختلفة تؤكد دائما… أنه لن تغلب امرأة رجلا إلا إذا كان في طبع الرجل خلة لا تغتفر أو في جسد المرأة روح رجل مستترة. وفي كلتا الحالتين تنتفي صفة الأنوثة والذكورة من كليهما وتفقد أفعالهما أي معنى للحياة.
ولكنه أيضا لم يخفِ خوفه من كيد النساء وخبث النفوس التي يكبر في داخلهن، وهو يدوس على تراب طريق تعرفه قدماه جيدا.
– 2 –
أما هي «بنت سالم»، فظلت معلقة الفكر منذ أيام، فقد شغلها أمران لم تجد للراحة فيهما سبيلا، ففي نهار تلك الأيام سمعت هديل حمامة ذكر ثم تبعه هديل حمامة أنثى وشاهدتهما وهما يحومان حول بيتها ففركت يديها ببعضهما البعض ونفخت فيهما وهي تبعث إليهما الدفء الذي شعرت أنه يغادرهما في عز صباح شتاء قارص، خالجها شعور غريب بأن العشق بدأ يتسرب من شقوق دارها دون أن تعلم.
وعندما رأت تلك الحمامة الأنثى تتزين لذكرها كما تفعل النساء لأزواجهن كلما أرادوهن ثم تنقر طوقها الزاهي بألوان مختلفة نقرات خفيفة ويساعدها فيها الذكر أيقنت أن ذلك الطوق سيكون قدرا لا يمكنها التنصل منه، وأن أفكارها حول الحمام صحيحة تماما -فمنذ أن أحضر والدها من السوق إلى بيتهم فرخي حمام بدلا من صيصان الدجاج التي أوصت بها أمها لتربيها، ومات صغيرا الحمام بعد أيام قليلة– أصبحت تعرف أن الحمام لا يعيش إلا في البيوت التي تكون فيها قلوب في أطوار الحب المختلفة.
رفعت رأسها بغتة إلى حيث ما يزال زوج الحمام يحومان في فضاء دارها فشاهدتْ الذكر يبتدع صنوفا من الغزل والأصوات المختلفة فترتفع حتى تصبح كالنواح كلما ابتعدت أنثاه وتخفت كلما أقبلت ناحيته. ثم يحلق في اتجاهات مختلفة مستعرضا قدرته على الطيران وجمال انسياب جسده وتداخل ألوان ريشه التي توهجت تحت أشعة الشمس، فيحط قريبا منها وهو يجمع فتات الحبوب والخبز ويضعها أمامها مكررا نغمة صوت واحدة وهو يشاهدها تطرق رأسها في خفر وحياء.
الذكور هم الذكور سواء أكان حمامة أو رجلا لا يمكنه أن يخطو خطوة في حب المرأة إلا إذا أعطته هي إشارة منها، أي إشارة كانت، ومن أي عضو منها سواء أكانت من عينها أو صوتها أو رائحة جسدها أو حتى مشيتها. تحسرت في نفسها أنها لم ترسل أي إشارة واضحة إلى زوجها «ولد حسن» حتى في أكثر الأوقات التي تاقت فيها إليه.
قتلها خجلها عن تحقيق شهوة مباحة.
وغطى احترام مبالغ فيه على رغبات زوجها المشروعة.
فكانت حياتهما هادئة ورتيبة.
وكان فراشهما خاليا من لحظات جنون ملتهبة.
لم يفهم إشارتها العابرة -ذات يوم- إلا رجل في خبث وخبرة «ولد المبارك» في التعامل مع النساء.
من جديد راقبت زوج الحمام فخافت على ابنتيها من هذا الفأل الذي لم يعنّ لها على بال سابقا، فالمرأة التي تكبر دون وجود رعاية رجل لها في البيت غالبا ما تطير أفكارها للبحث عنه خارجه.
وعتبة دار «بنت سالم» لا تدوسها إلا أقدام نسوة مسرعات وقلقات ينشدن منها ارتداء عباءتها وحمل عدتها على عجل ومن ثم الهمة والنشاط في تكفين ميتة أو مساعدة حبلى فاجأها الطلق وآلامه.
وهي تدرك أن بيتها خال من رائحة الرجال، ليس فيه إلا هي والبنتان، وأن من طرق بابها من الرجال لم يكن محل ثقة بأن يكون أمينا على أرملة ويتيمتين.
وفي ليل تلك الأيام سألت نفسها عن الأمر الثاني الذي أقلقها، من تشبه تلك الحمامة المطوقة من ابنتيها:
– سلمى أم سعاد؟
بحذر فتحت غرفة البنتين، كان خيال الأثاث القليل كبر مع الظلام المنتشر في الغرفة، فقط نور قمر صغير كان يتسلل بخفر على سرير «سلمى» الأقرب إلى النافذة ليكشف حبة خال صغيرة غاصت في غمازة في ابتسامة مستريحة على خدها اليمين، عندها كانت «سعاد» قد ضمت ساقيها كمن يشعر ببرد مستمر.
مع كل توغل لليل في ظلمته شعرت أنها تخاف من صمت النساء الزائد في بيتها أكثر من خوفها من ثرثرتهن.
لذا لم يغمض لها جفن وبقيت تتقلب على فراشها وتتماهى مع العتمة التي غشيت المكان.
– 3 –
كانت عينا «ولد مبارك» تبحث عن شيء أو شخص ما عندما تلقت أذنا الفتى الواقف قريبا منه كلمات ذلك النغم من فمه المتباهي بقوة جسده:
(يا نبعة الريحان حني على الولهان
جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان1)
كانا وحدهما، عندما ثبّت التيس الكبير على الأرض ومن ثم ذبحه بتمريرة السكين لمرة واحدة لا غير.
سكن الثغاء الذي كان قد ملأ المكان.
وانتشرت رائحة الدم الحار في الهواء.
رأى الفتى «ولد مبارك» يلحس شيئا من الدم الذي غمر يده، ثم رآه وقد عمد إلى القلب وانتزعه من جسد الذبيحة المعلقة على غصن متين من السدرة، صوبه نحو صدره وقال له:
– يا وليد.. سويّ لك فؤاد عود.
لطخ الدم «الدشداشة» البيضاء، وظهرت صفرة عارضة والقليل من الخوف على وجه الفتى، انحنى على القلب المعفر بالتراب، كانت في القلب رفة حياة لم تغادره بعد.
بوجل أعاده الفتى إلى الأحشاء التي أخرجها «ولد مبارك» من بطن الذبيحة المعلقة رأسا على عقب، وركز على نصل السكين الحاد الذي كان يعرف مساره في جسد الذبيحة ويفصلها إلى أجزاء، وهواء حار يلفح وجوههم.
أما تلك السدرة فقد تم شراؤها في مساومة غريبة منذ سنوات تم إحصاء عددها بسنوات عمر «ولد مبارك»، إذ قالوا لهم بأن السحرة ذات ظهيرة باعوا «ولد مبارك» تحت تلك السدرة تحديدا، ولكنه عاد بعد أن افتدته أمه بأموالها حيث قامت بصهر ذهبها كله في إناء وأضافت إليه خاتم «بنت عوشة» التي جاءت إليها باكية لتكسر الخاتم العالق في إصبعها بعدما زادت سمنة ولم تفلح كل الطرق في إخراج ذلك الخاتم من إصبعها مما زاد تورمه وانتفاخه، بعد لأي تفتت الخاتم على إصبع «بنت عوشة» مع بقايا جلد وقطعة لحم بقيت عالقة على الخاتم الذي تم أضافته إلى مصهور الذهب الذي صنعت منه قلادة ثم دفعتها إلى رجل معروف في التعامل مع السحرة والجن، والذي بدوره علقها على أعلى غصن على السدرة بعد أن أضاف إليها ألف ريال من حر مال أسرة «ولد مبارك»، وقد أسر بأن ذلك آخر ما توصل إليه في المساومة مع الجن، فزال السحر وسميت السدرة باسم ولدها «ولد مبارك» وأصبحت الذبائح تعلق عليها في كل مناسبة.
غير «ولد مبارك» اللحن إلى كلمات جديدة.
(حسين وكاعب مياس
وعيوني ما رأت حسنه
عيون الخلق لها حراس
غزال ومشيته فتنة2)
عندما وصل إلى مرحلة السلخ النهائية، كان بعض من اللحم يرتعش معانقا النسيم الذي حرك أغصان السدرة.
في ذلك اليوم اجتمع الناس تحت السدرة وكل واحد منهم يحمل بين يديه وعاء ليضع فيه نصيبه من لحم «التيس» المذبوح.
جز «ولد المبارك» رأس التيس كاملا ووضعه في إناء دارهم، ثم تحرك بقطع اللحم ووضع في الأوعية التي صفت تحت السدرة، كانت بقع الدم متناثرة على إزاره الأبيض.
كان نصيب الفتى قطعة لحم وقلبا، وخصيتي التيس اللتين أسر له «ولد المبارك» بكيفية طبخهما وتناولهما بعيدا عن أمه. لأنه لا يجوز للنساء الأكل من هذا العضو تحديدا ثم قال له بصوت ضاحك لفت انتباه من حضر من الناس.
– بكرة تصير في فحولة هذا التيس وقوته.
كانت النساء قد ذكرن خصلة حميدة في هذا التيس، فهو كان سببا في زيادة المواليد في حظائر مربي المواشي في ذلك العام، وقد قيل أنه حاول امتطاء ظهور بعض النساء أحيانا.
أما المرأة المستغيثة بصوت باكٍ في ذلك الصباح فقد كانت أم الفتى والطفل الذي نطحه التيس، وكان الباب الذي كسره التيس بقرنيه الكبيرين هو الباب الصالح الوحيد في بيتهم والذي لجأت إليه أمه وأخوه للاحتماء من هجوم التيس عليهم.
أما التيس فقد كان لجارتهم التي نذرت لمن يمسك به ويذبحه أن تزوجه إحدى بناتها، ومع أن «ولد مبارك» لم يتزوج من بنات ذلك البيت إلا أنه شوهد يدخل أكثر من مرة إلى بيت تلك المرأة وكانت أولها وهو يحمل فحذ التيس معلقا على كتفه.
علق في ذهن الفتى أن الذبيحة المعلقة كانت في امتداد طول «ولد المبارك» الذي عرف به وأنه لم يبق منها إلا عينان في الرأس المذبوح تراقبان تفرق الحشد الذي تقاسم اللحم.
– 4 –
بعد مرور عام على وفاة زوجها كانت تدرك أن خطواتها تتعثر كثيرا بـخطوات «ولد مبارك». ومسالك سيره اليومي.
ولكن «بنت سالم» تعلمت أن تسير دائما خلف وقع قلبها وهمساته، فهو دليلها في حكمها على الناس وقلبها لا يرتاح لـ»ولد مبارك» حتى يحبه، فمنذ أن صرخ في الناس وقد حمل لهم الخبر الذي جعل ثلاثا من النساء –وهي منهن- يدخلن في حساب عدة وفاة أزواجهن قائلا لهن:
– الزمان يأخذ ويعطي، اليوم أخذهم وغدا يعطيكن خيرا منهم.
ولم يمنحها الزمان خيرا من زوجها «ولد حسن» ولم يعطها إلا ابنتيها «سعاد» التي لم تعرف عن والدها إلا صورة بالأبيض والأسود معلقة في صدر مجلس بيتهم، و«سلمى» التي عرفت يتمًا مضاعفا وهي تراها تكبر في زمان قاس بين عطف أب غيّبه الموت، وحنان أم فقدت سندها الذي كان يتكئ عليه البيت بكامله.
مرت عليها أربعة أشهر عسيرة وعشرا.
ولم تسمع بعدها من «ولد مبارك» إلا عبارة:
– الله يرحمه «ولد حسن» كان من خيرة الرجال.
قالها عندما التقته في بيت أخته وقد وضع رأسه على فخذها، هنالك رأته ممددا في استرخاء تام، أغمض عينيه ولم يزد على عبارته كلمات أخرى، فقط طلب من أخته أن تنظم له شاربه بالخيط الذي تستخدمه في تسوية حواجب النساء عادة ووجوهن.
قضت حاجتها من بيت أخته وأقفلت عائدة إلى بيتها.
كانت سمرته تشبه الفلق الجميل الذي رأته يشق عتمة الليل ذات صباح فغرس مع جماله شيئا من الرهبة والتوجس في داخلها. وكان جسده منحوتا بطول فارع لا يحمل أي فائض من اللحم أو شحم،
إن حسن الرجال أكثر صدقا وأثبت أصلا وأعتق جودة من حسن النساء وأدوم.
لذا ابتعدت عنه واستذكرت ما تداولته النساء كثيرا كلما حضرن حفل زفاف إحداهن:
– الرجل مثل جراب التمر المحكم الإغلاق، لا تعرف المرأة جودة ما فيه حتى تفتحه وتأكل من تمره .
خافت أن تجرب جراب رجل آخر غير جراب «ولد حسن» وأن يكون التمر الذي فيه قد حال عليه الحول ولم يعد صالحا إلا لعلف البهائم مثلما كان حظ أمها مع أبيها.
كما كانت تخاف من حروق الحب أكثر من خوفها من الحب ذاته.
مات زوجها في حادث عارض كما يروى «ولد مبارك» للناس بعد أن مرت أيام العزاء الثلاثة ثقيلة عليهم حيث عرضت لهم حفرة كبيرة وعميقة لم تكشفها مصابيح سيارة «ولد مبارك» التي كانوا قد اكتروها –كعادتهم كل شهر- لتوصلهم إلى أعمالهم الواقعة في مدينة بعيدة عنهم..
سقطت السيارة في الحفرة العميقة وسقط ركابها معها، وكان بين الثلاثة الموتى رجل سليم.
ولم يذكر «ولد مبارك» شيئا عن سرعته أو تهوره الكبير في قيادة تلك السيارة، كما تناسى أن يخبرهم كيف عاد سائرا على قدميه وجثث صحبه لم يخرجها من الحفرة إلا رجال ذوو بأس عظيم!
وضعت هي على جرحها ملحا وكثيرا من الصبر والجلد وصمتت ولم يساورها الشك في نوايا «ولد مبارك» واعتبرت الحادث قدرا مكتوبا إلى أن مس خاطر مريب داخلها الساكن بحزن وهزها.
ففي البداية تعمد «ولد المبارك» أن لا يعطيها صدقة العيد في مجلسه كما يفعل المقتدرون أمثاله مع الأرامل أمثالها. فقط أرسل أخته بقطعة قماش حريرية معطرة لف بها نقود وقطع قماش مزركشة كهدية عيد لها ولابنتيها مع سلام حار منه كما نقلت لها.
بحزم أسكتت الجدال بين قلبها وعقلها، قبلت الصرة وتجاهلت الإشارة ونسيت رائحة العود النفاذة.
وفي إشارته الثانية دخل بيتها بعد أن بدأت أقدام الناس تنساب خارجة من المسجد بعد صلاة المغرب.
كانت الشمس لم تلملم كل خيوطها بعد. في يوم صيفي طويل، شاهدت انعكاس ظله قريبا من سجادة صلاتها، رفعت صوتها:
– الله أكبر.
خرج من دارها كما دخل، ففهمت هي الإشارة التي أرسلها من أنه لا يخاف الناس وأنه قادر على الزواج بها علانية دون أن يهاب من زوجته، كما علمت أنه أحدث شقا كبيرا في نفسها كانت قد سترته برداء الصبر والأخلاق العالية التي تميزت بها، كما أخبرها بسكوت دخوله ذلك بأنه قادر أن يهدم سد الحماية الذي توهمت أنه بنيان متين دون أن يحتاج إلى عناء كبير، فقط يكفيه أن يبث في النفوس المريضة أن الأرملة أعطته إشارة وأنه فهم منها أنها تراوده عن نفسه وهو رجل وللرجال نزوات لا يستطيعون كبحها في وجه امرأة لم ترتوي من وجود رجل في فراشها منذ عام ونيف، أو يخبر النفوس الطيبة أنه بهيبته كرجل أراد أن يستر عورة بيت ظاهرة، فدخل البيوت من أبوابها المشرعة بالحلال دون مواربة أو تدليس وطلب من امرأة أمرها بيدها الزواج منه، وقد يرفع إصبعيه السبابة والوسطى ويقارب بينهما ليعلم الجميع أنه كافل ليتيمتين لتصبحا في مقام بناته. ويضمن له مكانا في الجنة.
زفرت كل الهواء الذي في صدرها.
وأخذت تبحث عن زوج الحمام الذي غاب منذ يوم عن فضاء بيتها.
الهوامش
مقطع من أغنية من الموروث العراقي.
مقطع من أغنية حسين جاسم. «شمعة الجلاس».