دفع الباب بقدمه وتقدم إلى الغرفة شبه المفرغة إلا من شخير رتيب يتصاعد من الرجل النائم على الطرّاحة قرب النافذة الوحيدة المشرعة، علقت عليها ستارة سوداء . قرفص قرب الطرّاحة وبدأ يهز النائم بعنف،
: خالد، يا خالد إصح.
تنحنح خالد، فتح عينه، كانت الغرفة تسبح في شمس الشفق، لم يمض على إغفاءته سوى بضع دقائق، متعب من مشواره، متعب من عمله. تدريجياً بدأ الوعي يدركه، تدافعت على قوقعته أصوات الناس عائدين إلى بيوتهم، صوت الباعة يغلقون بسطاتهم، وصوت الباصات تحمل آخر الركاب لبيوتهم.
بصوت ثقيل من النوم تساءل : كم الساعة؟.
ودون أن ينتظر جواباً بدأ بالبحث عن هاتفه النقّال، تثاءب، كانت السادسة، بحث بنظره عن أحمد الذي انهمك يحرك الطاولة الوحيدة إلى منتصف الغرفة الفارغة والكراسي المجلوبة من الحواري والأزقة المركونة والملقية بعدما استهلكت حاجتها.
خالد: خير شوا في؟
قفز تجاهه أحمد وقرفص جانبه: هل نسيت؟ اليوم الليلة الكبرى
نظر إلى أحمد، مرتدياً دشداشة بيضاء منشاة جديدة، سأله بتشكك: عرسك اليوم؟!!.
ضحك أحمد قائلاً: دخيلك، ما بك نسيت؟
حكّ خالد رأسه بصعوبة يحاول أن يتذكر بأي مصيبة وقع فيها: خير!!
وقف أحمد مستهجناً: اليوم ليلة الانتقام.. عندنا حفلة طرنيب.
تنفس خالد الصعداء، لقد تحولت الغرفة التي يستأجرها إلى مقرا لأصحابه، يفعلون كل ما يخشون عمله أمام ذويهم هنا، والطرنيب من المحرمات التي اعتادو ممارستها عنده بانتظام، ليلة أخرى دون نوم.
أحمد: بشارة سيحضر الورق، وطارق سيأتي بعد قليل ويحضر الدخان.
وقف أحمد ينظر حوله، بدأ يرتب الجلسة، أحضر الطاولة البلاستيكية الوحيدة المركونة بالزاوية ووضعها في منتصف الغرفة، نظر إلى سطحها المتسخ ببقع القهوة وأعقاب السجائر وبقع ملونة لم يعد بالمقدور معرفة كنها، عبثا حاول أن يجد شريطة ينظفها ولم يحاول كثيراً فالترتيب والنظافة لم تكن من صفاته القوية، وفي جميع الأحوال لم يكن هذا منزله فلم يأبه، نظر حوله، في الزاوية حيث تراكمت كراكيب كثيرة أطلت من بينها ورقة طويلة ملفوفة كاسطوانة، ودون أن يعيرها التفافاً تناولها وافترش بها الطاولة.
***
تمثلت مهمة بشارة الوحيدة والدائمة إحضار ورق اللعب، لسبب ما حرص زملاؤه التملص من هذه المهمة، الورق يجلب الشبهة، عذرهم الدائم إن أهلهم سيسببوا مشكلة كبيرة إن ضبطوا يحملونها، في دخيلة نفسه أدرك ان ثمنها دينار وخمسة وستون قرشاً هو السبب. أصبح خبيراً بأنواعها بل وتمكن من إيجاد محل يبيعها بثمن زهيد وإن كلفه ذلك السير مسافة أطول. السير لم يخفه فهو جزء من تخصصه، مهندس زراعي، ضحك بمرارة، مهندس زراعي والشجرة الوحيدة التي رآها في حياته شجرة الميلاد البلاستيكية التي تحرص أمه كل عام على وضعها. الابن الوحيد بعد خمس بنات، سمته أمه بشارة تيمناً ببشارة العذراء، ونذرته لدير صيدنايا، مما جعله أسير ثوب وشعر طويل طوال سنوات عمره الأولى ليبدو كالابنة السادسة. عاملته أمه دوماً كمزهرية توشك على الكسر وعندما تخصص بالجامعة دأبت تدعوه باش مهندس، تدور حوله في تلهف لتلبية ما عدته بتقديرها احتياجاته، وتستجوبه عن كل لحظة وكل خطوة يخطوها. في دخيلته ضاق ذرعاً بها وبحرصها ومتابعتها التي تخنقه، إنه يكره تخصصه، مختص برابيش كما يدعوه دوما مستهزئا، أمضى فيه خمس سنين ولربما سيحتاج فصلين آخرين لينهيه.
توقف الباص في المجمع أخيراً، تفقد بشارة الشدّة المغلفة في جيب الجاكيت، وخرج يقطع الساحة إلى الشارع الخلفي. ولج العمارة الكئيبة وقفز درجاتها الإسمنتية إلى الطابق الثالث حيث غرفة خالد المستأجرةـ، سيلعب طول الليل وسينسى لو لليلة واحدة مرارة واقعه الغبي.
***
صبي المقهى، الولد الذي لا أحد يلتفت إليه ولا أحد يستغني عنه، مهمته الرئيسية دقة الملاحظة وسرعة الحركة، بفضل ذلك إستطاع أن يقدم خدمة مقابل بقشيش جيد، وعمولة عن خدمات خارجية يلبيها بفضل الحركة السريعة وقدرته على التوازن والحفظ.
هكذا ترتبت أموره مع معلّم الجغرافيا خالد، باللحظة التي يضيء الضّوء في الغرفة يحضر ثلاث كاسات قهوة سادة وواحدة وسط ويحملها على الصينية عبر الشارع المزدحم إلى الطابق الثالث، يوزعها بين الجالسين صامتاً. بعد ساعة يذهب إلى المعلّم سيّد ليوصي على أربع وجبات شاورما سوبر، واحد بطاطا زيادة، واحد مع بندورة، واحد مع شطة وواحد عادي بدون مخلل، ليحملها بعد عشرين دقيقة إلى الطابق الثالث مع شاي بالنعناع وسكر زيادة، وقبل نهاية دوامه يذهب بآخر جولة من القهوة.
اعتاد على جلسات المعلّم خالد وزوّاره الدائمين، حفظ طبائعهم وأذواقهم. كم مرة أراد البقاء ومتابعة الورق كيف يبدّل أصحابه وذلك التركيز والعبوس على الوجوه، لو أن المتابعة تجلب له الخبز لبقي وتعلّم ولربما حتى سمحوا له يوماً بالجلوس واللعب مع الكبار، هل كان لهم شيء أكثر من مجرد طيف يؤدي خدمة؟، أكان تركيزهم يمنعهم الإلتفات إليه أم ترفعهم عن طفل بسيط هو السبب؟، لم يعنه الأمر كثيراً، كما لم يعنه من يربح في النهاية فمهمته قبل الأخيرة كانت تتم قبل نهاية اللعبة، في حين تسلمه أثمان المشروبات والمأكولات في صبيحة اليوم التالي يتأتى بعد انتهاء كلّ شيء، يأتي ليطفئ الضّوء، وليجمع الكاسات والفناجين في الصباح الباكر ليضمها إلى مجموعة الكاسات المتراكمة علىمجلى المقهى في الصباح. المهم الحصول على الحساب والبقشيش، والأهم الآن إن الضّوء في الغرفة يشع بكل وضوح في غرفة المعلّم خالد، فصاح بأعلى صوته
: يا معلّم ثلاثة سادة واحد وسط بسرعة.
***
تجمعوا حول الطاولة المستطيلة، فوقهم اللمبة الوحيدة ترسل أربعة ظلال على الطاولة، الدخان يتصاعد ويضفي ضبابا على الغرفة، يغلف الجوّ توتر قائم، توزعت الخلويات على الطاولة صامتة وكأنها ثقالات وضعت لتمنع الورقة المفروشة فوق الطاولة عن الحركة. فرك أحمد كفيه بسرعة وصاح بوجه بشارة
: يلا يلا يا زلمة وزع الورق.
بدا متلهفاً أكثر من العادة، جالساً مقابل طارق الذي بادره بشك: اليوم تبدو واثقاً من نفسك يا حميدي.
خبط أحمد على الطاولة بتوتر واضح حاول أن يخفيه بنبرة صوته الحادة: اليوم راح نغلب.
نفث طارق دخانه بتشكك، اعتاد على وعود حميدي الفارغة، ثقته الزائدة بالنفس واعتداده بنفسه وأصوله، كما اعتاد الآخرون قصصه الخرافية عن ثرائه الذي لم يحظوا بثماره وغرامياته الوهمية التي لم تغادر خياله لأرض الواقع.
بدأ بشارة بتوزيع الورق، سأل وهو يوزع: على كم بنلعب اليوم؟
تناول خالد الورق قائلاً: على واحد وثلاثين.. الليل طويل والشباب ليسوا بعجلة..
هزّ أحمد رأسه موافقاً: كأنك حاسس فينا.. الليلة اللعبة الكبرى يا قاتل يا مقتول
التفت خالد نحو بشارة: إنت العلمي الوحيد بيننا، تابع اليوم الحسبة.
هزّ بشارة رأسه موافقاً، شريكه اليوم خالد، بدا واجلا إذ لم يرغب أن يكون مع حميدي، فالخسارة معه أكيدة، أما طارق فلم يرتح أبداً لترفعه غير المبرر، فواقعه الإجتماعي متقارب لهم جميعاً، ودراسته للتاريخ متوسطة إن لم تكن أدنى من ذلك، وثقافته عادية، مشكلته الوحيدة حبه للفلسفة على حدّ تعبيره وبرأيه الشخصي التفلسف والجدل الصفصطائي. بدا خالد الوحيد من بينهم الواعي، والمستقل مادياً، احس تجاهه بغيرة شديدة، يحسده لعيشه مستقلاً عن أهله، لأنه تخرج من الجامعة بأربع سنوات، لأنه يعمل، كم ودّ أن يكون مكانه. أفاق من تأملاته على صوت حميدي: ها كيف يا طارق كيف كيف؟
سأله طارق: شو شكلك ناوي تشتري؟
وضع حميدي ساقاً فوق الأخرى وقال: ليش ما أشتري؟ أنا دايماً بشتري.
سأله طارق بقلق واضح: بكم ناوي تشتري؟
أحمد وكأنما يعلن عن مفاجأة: بسبعة.
رفع خالد حاجبيه قائلاً: بسبعة؟ كلنا راح نشتري بسبعة.
إبتسم خالد في دخيلته متأكداً من نجاعة استفزازه لحميدي، الذي صاح: بشتري بتسعة.
سأله خالد: اللي بيسمعك بقول رايح تشتري بالكبوت.
أحمد: طيب خليهم ثلاثـ…..
قاطعه طارق مستعجلاً: يا زلمة خليها تسعة استفتاحية.. حمي اللعب شوي شوي.
هزّ خالد برأسه : شكل الشاورما علينا اليوم يا بشارة.
أحس بهم كتلاميذه بالصّف، يرددون كلامه آلياً النيل ينبع من ويصب الفرات في، يلعب بهم كما يريد وهم يتلقفون كلامه دون نقاش، يرددونه ويحفظونه، القوة المستمدة من القدرة على تحريك الجموع بذكاء تشعره بالنشوة.
سأل طارق: شو الطرنيب يا شيخ؟
ضحك أحمد قائلاً: طرنيبنا دم يا حبيبي دم.. بالديناري.
زادت حدّة التوتر فجأة، خففه وصول كاسات القهوة، تناول طارق الكأس بسرعة، لسعته حرارة الكأس، تجاهل اللسعة، جفّ ريقه فجأة، أفرغ القهوة بجوفه دفعة واحدة، أدرك بغريزته حدّة المعركة التي ستدور رحاها على الطاولة، أعادت القهوة تركيزه، سرح بتفكيره.. كيف سيحرك جنوده، فالورق مرتزقة الذين سيقودونه للنصر، بدأ يسترجع المعارك الكبرى، إهتمامه بالتاريخ انصب على التاريخ العسكري، فقد حلم دوماً بالبذلة العسكرية، بالدراسة في الكلية العسكرية، لم يتوقف على الأحلام، فقد تقدم إلى الكليةواجتاز امتحان اللياقة لكنه تبلم في المقابلة الشخصية لتنهار احلامه مرة واحدة. اليوم سيضع كل حنكته العسكرية ليحصد الفوز. اشعلت السجائر، غلف الغرفة ضبابها وبدأ اللعب.القى أحمد اثنين ديناري، كصياد يلقي بالطعم ليصطاد سمكة كبيرة، ضحك بشارة في داخله، رفع رأسه ونظر إلى خالد، هزّ خالد رأسه بمعنى إنهم لن يأكلوا هذه الجولة، أدرك إنهم يلعبون بحرص، كأنما هم في عتمة ما يتحسسون طريقهم بحذر، غريب كيف تحوّل لعبة سخيفة لتمضية الوقت الأصدقاء لغرماء.
أحمد: يلا الدور عليك يا بشارة
رمى أول ورقة بين يديه دون تفكير وغمز خالد سريعاً، بدوره رمى إثنين بستوني، إنتشى أحمد أحس إنه لم يأكل الجولة فحسب بل واللعبة كلّها.
أدرك بشارة إن اللعبة هي لعبة أعصاب، يعرف أسلوب خالد، يلعب بالعادة بالورق الأقل ليحس غريمه بالنشوة ويعطيه شعور خاطىء بالنصر، فينتشي ويلقي كل طرنيبه وعندها يلعب بشراسة للربح الأكيد. حميدي غريم سهل، أكبرهم عمراً وأقلهم وعياً، لا أحد يعرف ماذا يدرس الآن فقد جرب كافة تخصصات الجامعة ولا ريب إنه سيبقى بعد تخرجهم فيها، فهي بالنسبة له مدينة ملاه، عالم سحري يحقق فيه أحلامه التي تتمثل بالمصاحبة وسيارة جديدة والمقاهي.
رمى أحمد الرمية التالية، عشرة كبة، قرر أن يتمسك بالديناري، ودون أن يستوعب رأى خالد يلقي أس الكبة ويأكل الجولة، صاح بشارة منتشياً: أحلى فرعون.
فتح فمه، شعر حميدي بالنزق، المفروض إن هذه لعبته، هو إشترى، هو إختارالطرنيب، كيف يجرؤ أحد أن يخطف الفوز منه، نظر في الأوراق التسع الباقية بين يديه، أحس بالشب السباتي يضحك في وجهة، وإن بنت الكبة تعيّره بلسانها، تراقصت الأوراق أمام عينية، لقد حسبها بداية، لقد ضمن سبع أكلات، في أسوء الحالات عرف إنّه سيربح خمس أو أربع، ماذا حصل؟ أغلق وفتح عينيه وتصبب عرق بارد من وجهه، رفع رأسه ولأول مرة تذكر إنه يلعب مع طارق. ابتسم، فرك أنفه، فرمى طارق أربع ديناري، تنفس أحمد، الليل ما زال في أوله، الأكله لهم، ضحك قائلا: إفتح يا طارق..
أحس طارق بالراحة أيضاً فهذه أكلتهم الثانية من التسعة المشتراة، لا ريب إن الحظ سيلتفت إليهم. رفع طارق حاجبيه وألقى أربعة بستوني قائلاً : ليس مهما فاتحة الأشياء بل ختامها؛ انظر إلى الفتح العربي للأندلس بماذا انتهى؟ فإذا نظرنا إلى جذور المشكلة..
صاح فيه فجأة أحمد: جذر المشكلة إنك رميت الورقة الخطأ.
صاح فيه طارق : مين قرر يشتري بالديناري.
ضحك خالد وهو يرمي ثماني ديناري: اعتاد أن يشتري بالدنانير فاختلط الأمر عليه.
ضحك بشارة منتشياً: شامم ريحة مشاوي
صاح حميدي: مشاوي شو.. أنا بحب أتصدق عليكم شوي.
لف طارق جسمه جانبياً واضعاً ساقاً على ساق: يا ريت لو يقتصر كرمك علينا.
رمى أحمد ورق سباتي، مدّ بشارة يده ممسكاً يد أحمد: اللعبة مش إلك رجع الورقة أتظن إنك ربحت الجولة؟ ثم من يريد سباتيك الفاشل؟ أتظن إنك إذا اشتريت الطرنيب سترمي متى شئت؟.
أزاح أحمد يد بشارة بعنف: إبعد عني لا تلمسني.
هزّ بشارة كتفيه قائلا: أتظن نفسك قديساً يشرفني لمسك، أنا لم ألوث نفسي بدنانيرك تشتري بها ما تريد، أتظن إنّ كل شيء يشترى؟.
صاح طارق وهو يحاول تدارك الموقف: دعونا نركز على اللعبة، خالد.. بشارة.
القى الورق وعاد تركيز اللاعبين على الطاولة. دخل الصبي يحمل معه وجبات الشاورما، يوزعها على اللاعبين، معها أربع كاسات شاي تصاعد منها البخار ورائحة النعناع. هجم أحمد ينهش الشطيرة، أخرج بتوتر عبوة الكاتشاب ومزقها ضاغطاً عليها بعنف فإندفع سائلها متطايراً في كل مكان.
صاح بشارة فيه: هدئ أعصابك يا رجل.. عبأتنا بمزيجك الأحمر.
علّق خالد: تمرين بالذخيرة الحيّة.. تذكر هذا ليس بيتك لتعيث به خراباً.
صاح أحمد: لأنكم لم تحصلوا على كاتشاب الأجنبي حسدتموني عليه.
ضحك بشارة قائلاً: أنا أفضل الطبيعي على الكيماوي. مشيرا لأقراص البندورة التي في صحنه.
طارق: اللعب لم ينتهِ يا جماعة، تفضل يا صاحب الدعم الأجنبي إرم.
بقيت ثلاث أوراق بين أيديهم، الحذر سيطر على الموقف، فالتعادل الذي ساد بين الفريقين زاد من توتر الموقف. لم يحتج أي منهما أن يكون عبقرياً ليعرف تماماً إن فريقاً واحداً منهما أو اثنين لا يزال يحمل زمام المبادرة : أس الديناري، شب الديناري والعشرة، لم تلعب بعد وهذه وحدها ستجلب للفريق الفوز. كاسات القهوة الأخيرة وضعت بينهم ومرارتها في الفم تتساوى مع مرارة الخسارة. جميعهم في نفس الموقف لكن لكل واحد منهم طريقته في الخروج منه، مفهومه الخاص للربح والخسارة، هل تخسر اللعبة أم الصداقة؟ ما الأهم الوحدة أو الصداقة، ما هي قيم الربح الحقيقية؟ ما هو الرابط الحقيقي الذي يجمعهم المكاسب المادية أم القيم؟ . تلاقت الورقات الأربع، وضرب بشارة كف خالد، لقد تقدما خطوة نحو الفوز، بدأت معدة طارق تشعر بالغثيان، وضع سيجارة بين شفتيه وبدأ يبحث عن ولاعة، دفع خالد الولاعة نحوه وضغط عليها فاندفع لهب قوي أمام عيني طارق وانتشرت رائحة مطاط يحترق، تراجع للخلف بردة فعل قوية فاشتعلت السيجارة وارتفع دخانها ينفثه، أحس بمعدته تستقر، عاد بتركيزه الى الورق، ينظر إلى اثنين البستوني وست سباتي بين يدية، أسوّد كل شيء أمام عينيه، أدرك إن الورق يتساقط من بين يديه كأوراق الخريف، لن يصبح ربيعاً بل شتاء موحشاً قارساً، أدرك إن الخسارة ليست في خسارة اللعبة بل في خسارة الوحدة، الصداقة التي تجمعهم، أدرك إنّه سيخرج اليوم من هذا المكان شخص آخر، بل حتى هذا المكان سيكون مختلفاً، انكسر شيء ما، ذلك الإيمان بأن الناس الذين عاش معهم وعرفهم في الجامعة ليسوا نفس الأشخاص الذين تعامل معهم اليوم، لقد خانه حميدي، ولعب به خالد، وتجاهله بشارة، مع إن كل واحد منهم غداً سيكون في مكانه، إن كل تكتيكه العسكري فشل، خانه الورق، هذا الورق الذي حضنه بين يديه، ودفأه بأنفاسه خانه، أراد أن يصيح، ألقى الورقتين من بين يديه، أمسك رأسه بين كفيه صائحاً كالمجروح: اللعنة
دفع الكرسي وقام بغضب، رمى السيجارة أرضاً، صاح به أحمد قائلاً: لماذا قمت؟ ما زالت الفرصة أمامنا.
صاح به طارق: أي فرصة؟ ألا ترى.. لقد خسرنا.
فتح خالد وبشارة أوراقهما الرابحة ونظرا إلى احمد، تشبث أحمد بأوراقه رافضاً الكشف عنهما.
بدأت كفا أحمد بالارتعاش والتعرق: لا.. لا.. أنت لا تعرف.. نحن سنربح.. لا تتركني يا طارق.
بصق طارق قائلاً: أنت خلقت هذه المعمعة والآن تريدني أن أبقى، أنت الذي تركتني، لماذا صدقتك؟
أمسك خالد يده بقبضته العسكرية ونزع من بين يديه الورق قائلاً: يبدو إنك لا تعرف الفرق ما بين الديناري والبستوني.
صاح أحمد: ضحكتم عليّ.
قال بشارة بتهكم: فكر إنه يلعب تركس.
أجاب خالد: أظننت إنك قادر على شراء كل شيء والتحكم بمصائر الجميع، أسس اللعبة اختلفت هذه ليست لعبة حظ وتمني، بل ذكاء، ولي كامل الحرية اللعب بغير ورق الطرنيب يا أحمد، أنظر ( تناول الورق) الورق مختلف وهنالك أكثر من طريقة للعب بها، الذكي الذي يعرف كيف يلعبها بحذاقة ومهارة، يلعب ضمن قدراته ليظهر مواهبه.
ضحك بشارة قائلاً: ألم تدرك ان قواعد اللعبة تغيرت.. لست أنت من يملي الشروط.
قال أحمد: كنت تعرف الورق الذي بين أيدينا!.
رفع الخلوي من بين يديه مترجياً طارق: كاميرة الخلوي عندهم رصدت أوراقنا.. لذلك فازوا انظر الكاميرا تعمل.
أجابه خالد: أنت تحمل خلويك.. الكاميرا في خلويك مضاءة على وضع التشغيل.
أجابه بشارة: أكنت تنتظر دعماً خارجياً.
صاح أحمد: أنتم سحرة.. شياطين.
قال بشارة: لا تحتاج لأن تكون ساحراً لتعرف الورق، ما تحتاجه هو المراقبة.. المشكلة إنك لا تملك عقلاً.
ضرب طارق الطاولة بحنق فامتلأت كفه بصلصة الكاتشاب: من ضحك على من؟ من دفعك لشراء ما هو فوق طاقتك؟ لقد خدعتني.. خدعت شراكتنا.. اوحيت لي بالنصر بأننا فريق نلعب معاً، لكنك لعبت منفرداً.. الآن بسببك خسرنا.
وقف طارق وحرك سبابته متهماً الجميع موشكاً على البكاء: أنتم كلكم أيحتم بالآمان واللعب بالقواعد وفي النهاية أنظروا.. لقد خنتموني.. خدعتموني جميعاً.
لم يصدق إن كل معرفتة بالتكتيك والإستراتيجات العسكرية فشلت هنا، فشلت لأنهم خانوه، عاد يضحك بمرارة ضحكة عالية قائلاً: خدعتم أنفسكم…
هزّ بشارة كتفيه متناولاً كأس القهوة: إنها مجرد لعبة.
دفعه طارق بشراسة، كان يصيح كالمقتول: تعودت النظر على الألعاب في النت وعلى الحاسوب فما عدتم تدركون الحقيقة، لا تثقوا بهذا الشخص (مشيراً بسبابته إلى أحمد الجالس على الكرسي).. ها ها ها.. أتعرفون لا تثقو بأحد ولا حتى بأنفسكم.
تدخل خالد مشعلاً سيجارة وملقياً علبة السجائر بحدّة على الطاولة: ثمن الشاورما والقهوة عليكما الآن.. إدفعا. وأكمل في دخيلة نفسه وانصرفا. لم تعجبه المونودراما التي بدأ بهستيريا يلعبها طارق.
قال طارق باشمئزاز: أنا لن ادفع، سئمت الدفع عنك، كل مرة أخسر بسببك وكل مرّة أنا أتحمل.. إدفع أنت يا حميدي اليوم ثمن أخطائك.
صاح أحمد محمر العينين: ألم تفهم لماذا ربح هذان المهرجان، ألم تفهم يا طارق
تناول الورق الملقى على الطاولة في قبضته يلويهم : الورق مغشوش يا طارق .
وبدأ يمزق ورق الشدّة بعنف، أمسكه بشارة بيده قائلاً: ماذا تفعل يا رجل؟ من المهرج هنا؟
أمسك أحمد بخناق بشارة صائحاً: يا حرامي.. يا غشاش
تقدم طارق بعيونه محمرة، يمشي بخطوات مهتزة نحو أحمد كالمنوّم وسدد نحو وجهه لكمة قوية تفاداها أحمد بحركة رشيقة من جسمه، فقد طارق توازنه وهوى على الأرض.وقف فوقه أحمد يصيح: أتجرؤ على ضربي يا كلب، وركله بقدمه. تقدم نحوه خالد وأخذ يشده من كتفه، التفت خالد الزبد يخرج من فمه : من من.. كيف تجرؤ؟!!!،
خالد: أنا.. كيف أجرؤ!!! . وهوى على وجه أحمد مسدداً صفعة قوية، تحسس أحمد وجهه، تحوّل لوحش واندفع برأسه يلكم الواقف أمامه تفاداه خالد ليتلقى بشارة الضربة في بطنه، إنحنى بشارة لحظة قبل أن يشتبك مع أحمد في صراع عنيف، فما كان من خالد إلا أن يندفع نحوهم يحاول فضّ المعركة التي نشبت.
***
دخل الصبي، مدّ يده ليطفئ الضّوء، وليأخذ أجرة الوجبات وبقشيشه الذي إعتاد دوماً أن يجده على طرف الطاولة. بدأ بجمع الكاسات الفارغة إلا من رواسب القهوة المرّة، الفضول دفعه للنظر إلى الطاولة علّه يكتشف أسرار اللعبة ونتائجها. افترشت أمامه فوق الطاولة خارطة الوطن العربيمبقعة ببقايا الأكل والكاتشب والقهوة السوداء وقد تناثرت عليها، وسط بقايا لحمة الشاورما، رؤؤس بنت الكبة والشب البستوني ممزقة ملقاة فوق الطاولة كأنما قصت بالمقصلة. تراجع بهلع للخلف يده تبحث عن لأجر، عندها فقط رأى المشهد كاملاً، الهلع فتح عينيه على اتساعهما، بدأ يستوعب المشهد أمامه، فقد رأى حينها اللاعبين الأربعة مفترشين الأرض أشبه بالجثث الهامدة.