بتذكر جزيرة " النبي صالح" لما وهي محاطة بغلالة من الضوء الأخضر، كأن غابة النخيل الكثيفة، المندغمة بالسماء الزرقاء والرمل الأبيض ، شريط من السحر ورؤيا الجنة الأزلية . كان أبوه يجدف في عمق الماء المتصاعد الأزرق ، ذي القمم المضيئة المزبدة المترنحة على الخشب الصلد السائر بقوة في هذا الخضم . وهو يجثم شاعرا بألم ما، ورأسه الحليق مخبأ بكوفية رقيقة.
حين أقترب القارب من الشاطىء، وترجرج قي الماء الضحل ، نزل أبوه وقد شمر ثوبه ، وجر الكتلة الخشبية بقوة، ثم ساعد. في النزول . وشعر هو ببرودة الماء اللذيذة ونظافته ، وتلؤلؤ الرمل الأبيض تحته.
جاء حفيف النخل وتغريد الطيور وعبق ألأشجار ليبدد الألم اللائب قي جسده النحيف المضنى، وترامت حولهما البساتين دائرة من العناقيد والنسمات ، وتناهت أصوات الفلاحين وزوجاتهم وأطفالهم وكأنهم في رحلة، أو لحظة عرس.
بيوت قليلة ملونة جميلة متناثرة، وثمة قطعان من الماعز تلهو، ومسجد صغير يوزع الشرائط الخضراء والأدعية والاحلا م .
الشمس صعدت فجأة إلى قبة السماء. أحس باعياء شديد وغثيان ، ولم يكن الرطب الناضج الذي أهداه فلاح ، الشهي في فم أبيه ، لذيذا وحلوا.
كان النبع يتدفق من تحت الصخور والتراب ، زلاليا، مضيئا، ذا أصوات ناعمة، يكون غرفة واسعة، ثم يتدفق في
مجرى عريض واسع ، تحف به نخلات باسقات ، شديدات الطول والجمال ، ذوات أقراط مذهبة وحشائش كثيفة كأنها روائح امرأة فاتنة وليل مفعم بالنشوة.
يتذكر طعم الماء، الذي احتضن ساقيه الواهنتين ، المرتعشتين ، وكيف كان الرمل الابيض المترجرج صلدا ، وناعما. وجاءت فضات النبع وارتعاشاته السرية، الداخلية، وحكيه الثرثار، وأحاطت بجسده المفتوح لأسياخ الحديد المحماة، والنذور، والابتهالات الغامضة، وأحتضنه كصديق عريق وفتح مسامه للنور والهواء والجذور ، غاص في التلؤلؤ الكامل للضياء ورأى بقبقة المنبع ولثم تدفقاته المريحة وأنفاسه المخلصة.
وكان أبوه يحمل السكين والدهن والشريط الاخضر وورقة الأدعية الرقيقة الملفوفة في ذلك المربع اليابس الصلب ، الاسود وكان يهمهم بكلمات غريبة، كما لو كان سيذبح شاة، لكنه أبعد يده ، وأحس بنشوة تغسله ، وكأن تلك الرياح الساخنة المؤلمة التي تدور قي أذقة جسده ، تلاشت وتوحدت مع الماء والنخل الضاحك المرتجف .
يتذكر أن الليل حل فجأة، وتناثرت أشلاء الشمس فوق رؤوس النخيل ، وفتحت نوافذ السماء للعفاريت والأشباح ، التي راحت تهمس للسعف ولاعماق البساتين والطين والبرك .
وتوجه أبوه إلى درب ما، وسمع كلاما ونهيق حمار، ثم ظهر أبوه ورجل غامض الملامح في جوف المساء.
سار الرجل هو يقود الحمار المحمل بكل عطايا الحقول ، أبيض كأنه غيمة، أو حليب ، وكان نهيقه ناعما، فأحب أن يلمسه لكن الحمار أجفل خائفا.
أعطاها الرجل حجرته ، وسمعاه يتحدث مع زوجته فى الحوش .
يتذكر، يتذكر بألم ومرارة، كما لو انه يود ان يتجمد مجرى الزمن هنا، أو أن ثمة كشافا هائلا مسلطا على تلك اللحظات . أبوه يغرق في نومه ، وهو يكتشف ذلك الصندوق ،والذهب المخبأ.
أبوه يصرخ في نومه وصمته "لا تستطيع أن تعبر بحر الجزيرة إذا سرقت حبة تمر"، وكأن القارب ينقلب فجأة في الخضم ، ويصطدم رأسه بمرساته ، لكنه يتشبث بقطع الصلب المضيء تلك ، ويخبئها بين ضلوعه ، وينام ، ويحلم. كان دائما يسرق الصبية الأخرين ، ومعلم القرآن ، وادخارات أبيه الصغيرة، ويضعها في كنزه المتنامي ، ويعض على حديد العملات متذوقا صلابتها، ويطالعها في جلساته السرية الطقوسية، مغمغما بأدعية لتتكاثر وتتناسل .
وفي الصباح ، قادهما الفلاح الشاب القوي ، وكأنه نخلة متحركة، الى قاربهما، ودفعهما، وقد وضع سلة خوص مليئة بالرطب واللوز والليمون. وراح أبوه يجدف ، وهو يتطلع إلى الرجل المتضائل ، الذي يأكله الموج .
-2-
كانت هذه الجزيرة دائما معه ، تشخب دما بين ضلوعه ،مختبئة كمسمار صديء تحت جلده ، وحين يتحرك كان سنها الحاد ينغرز ويطلع أشباحا واكواخا.
معه كانت دائما، وهو يدفن أباه ويستولي على ميراثه ، ويحمل بقاياه وصوره وخرافاته ويدفنها معه ، ثم وهو يشيد ذلك المعمل الصغير، المدفون وسط الحقول والتلال ، وهو يتزوج حصة لتحترق فجأة في حادث مرعب ، وتعود ثروتها إليه .
كان هذا المسمار الكالح ، الذي يشرشر صدأ ودما، يغفو في لحمه ، على هدهدات الصدقات الصغيرة، والاندساس بين الكتل في الحج ، وفي صراخ الذبائح الموزعة على الفقراء والرمال . لكنه لم يختف أبدا. تقلقل ، وتراءت نخيله الباسقات كنساء مقطوعات الرؤوس ، وجاء ينبوعه الفوار المتلألىء يحمل آذانا مقطوعة، ويضيء في عتمة نومه ، فلا يجد سوى زوجته الجديدة الوارفة الجمال والظلال ، عشبا يندس فيه ، عن هذا الصراخ المترامي ، وتلك الزجاجات الذهبية التي تعدم عفاريت الليل واسئلة الجنادب اللحوحة .
لم يختف تماما، رغم ذلك النمو للمعمل فوق اشلاء النخيل وعلى هامات التلال وزرائب الماشية والبشر. رغم ذلك الجسر الكبير الممتد، المضاء بعشرات المصابيح ، مثل هذا الجسر الذي يأخذه لجزيرة النبي صالح ، ثانية، والتي كان يهرب منها، ويلوذ بالفرار من شواطئها ، ويقلب صفحة القرآن حين يأتي ذكر النبي صالح ، وناقته ، وصرخته ..
لم يعطه الويسكي شيئا. هناك منطقة ميتة ملعونة في ذاته ،تصرخ دائما وتطلب أضاحي ومواعيد. والان سيواجه هذا الدغل سوف يسير في زقاق مرضه ، ولتندلع الصرخات واللعنات ، ولتتقافز العفاريت والأشرطة الخضراء والتمائم !
لكن الجسر مزحوم . ثمة شريط لامع من السيارات والزجاج . ويصطف البحر على الجانبين مفجوعا، مقسما بين الصخور وأسنان الحديد، والرمال وألحصي تزحف فوقه . . انفتح الطريق ، وجاءت الجزيرة صغيرة وشاحبة، يحرسها مخفران كبيران أبتلعا وجهها.
حالما دخلت السيارة طريق الجزيرة حتى جاء عزاء حسني هادر. شلال من الرجال المفتوحي الصدور، والممزقين ،المنهمرين من ينبوع خفي .
ترنحت السيارة، وأندفعت في أرض موحلة ذات أعواد وجذوع واشواك . غاصت عجلاتها وراحت تئز. كتل الرجل ملاصقة لزجاجه البراق ، والسلاسل التي أكلت الظهور، أهدته خيوطا رفيعة من دماء.
صراخ ، واهتزازات خفية عميقة في باطن الارض ، وجذوع النخيل المقطوعة الرؤوس ، ترقص كأشباح. وحالما خرج العزاء الحسني من فم الجزيرة فائضا في الدروب ، تحت الشموس المتكسرة، حتى أستعاد الهدوء ورأى عروق الجزيرة الغريبة.
كأنها ليست هي . اين غارت البساتين والينابيع وغابات العصافير، ولماذا هذه الاغنام الكالحة الجرباء تحدق فيه ؟
والبيوت الصغيرة الملونة أستحالت الى اقزام مشوهة متراكبة .
لن يعرفه أحد، وكل شيء مات .. وهو الذي ظل عقودا طويلة خائفا من هيكل عظمى، اهترأ في التراب ، وجثمت عيون الرجل النخلة ترافقه وهو يوزع الصدقات ، ويسافر إلى الجزر البعيدة الخضراء، وهو يدشن مشروعاته ويقيم عمارات من النقود والعظام.
هذا هو طريق النبع . لم تبق فيه سوى عشر نخلات متناثرات ، كأنها أصابع عملاق مختف ، ولم يبق سوى حشرجاته ، تدفعها الموجات وبقايا النسمات.
خلف النخلات ، جثمت فلل الغرباء، أسوار وقرميد أحمر وهوائيات تليفزيون وصحون للفضاء وحراس عند البوابة.
هذا هو طريق النبع . هنا قاده أبوه لذلك التجلي الفضي للطهارة . كان هنا دغل اخضر وأحمر، ترتجف جذوره وعناقيده بالهواء النقي . الآن أرض قاحلة وموحلة، تقود إلى تلك البقعة المنحدرة، كأنها منخفض لمومس عجوز.
لم تبق سوى حشائش وخيط صغير من الماء. ثمة ارتعاشة صامدة للأرض ، وضوء خافت يطلع من الأعماق . لكن دائرة من الوحل والقذارة تتجمع حوله .
أنتبه إلى وجود هيكليى عظميين عند النبع .
جثم ، ولم يسعفه جسمه الضخم ، وكرشه المتهدل ، أن ينحني ويلتقط حفنة من ماء.
أحد الهيكلين العظميين تحرك ، وغرف بكأسه ماء وتقدم اليه . شعر بالفرح. لم يعد ثمة خوف يربطه بالمكان . تناول الكأس المعدنية المهترئة وشرب ماء عذبا عميقا.
فجأة تطلع إلى الرجل الآخر. وجهه يعرفه . ، نظرته .. سقطت الكأس من يده .
إنه هو الرجل النخلة الطيب الذي دفع قاربه المحمل بالهدايا والذهب . هو خط دقيق واحد من عظم فوقه جلد متغضن . يد شاحبة هي عرق أخير للحياة رأسه أصلع ذات شعر نادر بلون الطحين . ثمة ماعز ضار ألتهم عشبه .
جامد، متصلد في ذاته ، أنقطع عن اللغة اوالماء والاصوات . حدق فيه عساه أن يعرفه ويقتله ، حرك يديه أمام وجهه لكنه بلا روح . تمنى أن يبصره فقط .. تعكز العجوزان على جسده ،ساروا ببطء في طريق الجذوع والأشباح .
قال العجوز؟
– خرج من السجن توا. قتل زوجته التي سرقت ذهبه وأعطته لرجل من القرية.
لم يستطع أن يحمل جثثهم . فر مذعورا إلى سيارته .
عبدالله خليفة( قاص وكاتب بحريني)