أمل السعيدية
بيتنا، كان قريبًا من الوادي، ومجراه العميق، تطلعُ فيه أشجارٌ بريّة، والذئاب تعيش هناك، ورغم أنني كنتُ أقضي وقتاً طويلاً في جرف الوادي الشرقي والمحاذي للبيت، إلا أنني لا أكاد أعرف شيئاً عنه. لم يقل لي أحد، كيف أصبح هذا المكان بهذه الصورة، بل لم يأتِ على ذكر تلك الحفرة الطويلة والضخمة أحد. وكنا نقطع ذلك الوادي بالالتفاف عليه، بدلاً من خوضه، باتجاه مزرعةٍ خلفه، جدتي تقصُ حشائش الحقل لأبقارها. وأنا وأختي نقطف الفلفل الحار، والطماطم الغضّة، ثم نحصل على مائة بيسة لقاء كل صندوق ممتلئ.
أمطرت ذلك اليوم بشدة، حتى «دفعَ» الوادي، ورطب الماء البني الجاري شعاب الوادي، ونباتاته، وذهب جميع من في البيت لمشاهدته يتدفقُ من مكان غير معلوم بالنسبة لي، قادماً من البعيد، كنتُ حينها أحاول الوصول إلى زاويتي المفضلة من الجرف، عندما امتصنّي ارتفاعٌ مكوّر أشبه بتلة صغيرة، كانت طريّة، عندما وضعتُ قدمي عليها، ظننتُ أنني في مأمن من الماء الجاري، تلقّفني أبي فوراً، وضربني كثيراً. أردتُ أن أقول له إنّني لم أكن أعرف أن الوادي سيجرفني، وأن تلك التلة الصغيرة مغشوشة، وأنه وأمي يعلقان صورةً لهما وهما يقفان في عمق الوادي، واقفاً على تلّة هو الآخر، كان يرفع ثوبه الطويل، وأمي تبتسم بخجلٍ للكاميرا، كان ذلك قبل زمن بعيد، قبل أن أولد.
ومنذ ذلك الحين ولديّ حواس يقظة، لأنني تعلمتُ درساً قاسياً، أنني مسؤولة لا عن اللمسة وحدها فحسب، عليّ أن أقدر الأشياء، تلك التي يمكن أن تذوب أو تتبخر مع مرور الوقت، فصرتُ حبيسة حالة ذهان أرى فيها الأشياء تمتصني قبل أن يحدث هذا حقاً. يتطلب ذلك بعض التمارين، للتوصل للتأثير نفسه، قد تبدو قمّة الأشياء ضخمة، لكن على المرء أن يتخيل نمطاً لكل ما هو موجود، حتى تطفو على السطح كل المكوّنات التي تنتمي إليه، ومن خلال هذا النموذج المستقيم، يمكن أن نستمع لحركة الديدان الشريطية داخل أكثر الأجساد جموداً.
في عودتنا من المزرعة خلف الوادي، كنتُ أنظر إلى الوادي، وأتمنى لو يمكن أن نقطعه بالسيارة لأتعرف عليه، لكن هذا لم يحدث أبداً، وبعد مرور خمسة عشر عاماً، سألتني أختي: ها ما زالت تلك المزرعة في مكانها؟ وأخدت شهيقاً، وأنا أحاول استعادة صورة ما يقف خلف الوادي الآن، ولم أستطع أن أتذكر إذا ما كانت في مكانها نفسه على الرغم من أن حفرة الوادي ما زالت هناك، موحشة وغير معلومة، وكما يبدو تقطعُ النظرَ مع مرور الوقت.
كنت أستلقي على السجادة الشرقيّة في وسط الصالة، كما لو أنني ميّتة، وعندما أسمع صوت المفتاح الصادر عن باب غرفة أبي، الذي يخترق منتصف الصالة، أعدلُ من جلستي لكنّني أبداً لا أدّعي الشرود، أحدق فيه بتركيز، إذ إنني إذا شردتُ فهذا لأنني أفكر في شيء شيطانيّ، ومع أن التفكير كان عزائي الوحيد على محدوديّة الواقع؛ إلا أن عليّ أن أخبئ خيالاتي في مكان آمن، على الأقل حتى أتمكن من مغادرة هذا البيت، أعود إلى الهيئة الناعسة ما إن يخرج من البيت، ثم أتمددُ على الأرض، وأتكورُ كما لو كانت تلك السجادة مهدي، وفي بعض الأحيان التي أظهرُ فيها شجاعة وإقداماً، أضعُ قدميّ على الجدار، وأضحكُ كثيراً لأنني أستطيع الاستلقاء بينما قدماي معلقتان هناك، شاهدتُ أختي في إحدى المرّات تهبطُ من سلّم السطح، وتلعبُ هناك، لكن ذلك لم يغرني، وعندما كانت تنام بقربي، كنتُ أضحكُ كثيراً، كما لو أنني وجدتُ جوابًا مبهمًا على سؤال مبهم! فصارت تعرف أن هذا يضحكني كثيراً، خصوصاً إن تغطينا باللحاف نفسه.
وفي أحد الأيام أمطرتْ كثيراً حتى إنّ نافذة السطح سرّبت الماء للصالة، فابتلّت السجادة كثيراً، فكرتُ فوراً بينما أبي وأمي نائمان، أن عليّ أن أطويها، لكنّني تراجعت على الفور، ليس لدي ثقة بحدسي على الإطلاق، وعلى ما يبدو أنني فاشلة فيما يتعلق بالأشياء الرطبة، لم أستلقِ يومها على السجادة، وبدلاً من ذلك، تظاهرتُ بالنوم، قالت لي أختي عندما خرجتُ في اليوم التالي من فراشي، إن اللعب في الماء فاتني، كانت تقفز داخل المستنقعات الصغيرة كما أنّ الوادي جاء أخيراً، كنتُ أستمع إليها بتركيز شديد، لكن هيئتي المسرنمة توحي بأنني غير مبالية، قالت هذا وتأففت كثيراً لأنني لستُ من النوع الظريف الذي يلعب ويُحب المتعة. ولم أقل شيئاً بخصوص هذا حتى هذه اللحظة.