فاروق يوسف
قصيدة لكل يوم
لو لم يكن هناك شعر لكان النثر الذي كتبه سعدي يوسف في سنواته الأخيرة شعرا صافيا. لم يقل مرّة واحدة جملة جاهزة بالرغم من أنه كان يتعثّر بيومياته المسكونة بذاكرة تعصف بها رياح المنافي والهجرات. لقد عثر سعدي على إلهامه مقيما في ساعته الشخصية وليس في أيّ مكانٍ آخر. فهو يستدعي إلهامه لحظة الكتابة. كل ما يحيط به يكتسب طابعا شعريا. إضافة إلى كونه شاعرا بالسليقة فقد تعلم سعدي أن يكون شاعرا كل يوم. كل عاداته اليومية مرتبطة بالشعر. أن يأكل، أن يتنزه، أن ينام، أن يختلي بنفسه، أن يجلس بين الناس، هو شاعر ولن يخطئه الشعر. يذهب إليه طائعا. كان سعدي يوسف يُشرك حواسه كلها في صنع قصائده القصيرة. فهو يرى ويشم ويسمع ويلمس ويتذوق الكلمات التي هي في الوقت أشياء يستعيرها لبرهة ثم يعيدها إلى مكانها بعد أن يضخ فيها طاقة يمكن أن أسميها “قوة الحياة”. ما من جملة كتبها سعدي إلا وكانت عنوانا لحياة لم تُعش من قبل، كان الشاعر يتمنى لو أنه عاشها. في أعمق لحظات خيبته كان هناك أمل. “سلاما أيها الولد الطليقُ/ حقائبك الروائح والرحيقُ/ ترى الأشجار عند الفجر زُرقا/ وتلقى الطير قبلك يستفيقُ” مثل رسام يلتقط سعدي طبيعة صامتة لينحت فيها أشجاره التي تشهق بأنفاسنا ونحن نقرأ. لم تُكتب قصائد سعدي لتُقرأ بل لكي يتم تنفسها بشهيق بليغ. كان سعدي يكتب قصيدة أو أكثر كل يوم. واجب يومي كما لو أنه سباق مع الموت. كان القراء يعتقدون أن الموت فاته وأنه سيبقى على قيد الكتابة. هناك شعر كثير لم يُكتب بعد. ذلك ما تقوله قوة الحياة التي يبلغ عنها سعدي وهو يشعر بأنه وحيد في غابة يسكنها الجميع.
الشاعر في محنة الآخرين
بعد الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله تحول سعدي يوسف إلى كائن مزعج. “الشيوعي الأخير” لم يُفاجأ بهرولة حزبه السابق وراء المحتلين غير أنه لم يكن في إمكانه أن يخفي فجيعته. لذلك كتب بحرقة كمَن وقعت جمرة على لسانه. لم يستسلم “الأخضر بن يوسف” لما سُمي بالقدر الحزبي فصار يدون يومياته بالطريقة التي يكتب بها قصائده. لقد عاش حياته هاربا. مر بأجمل مدن العالم وتعرف على أجمل النساء وله أصدقاء في كل مكان وخلق حريته بنفسه وكان الثمن باهظا. عاش سعدي ترف الشعر غير أنه كان معذبا من أجل أن يخلص إلى حريته. فهي أعز ما يملك وهي درسه في الكتابة. لذلك فإنه كتب بقوة مِدفع عما كان يحدث في موطنه. قصف بكل ما يملك من قوة مواقع اعتبرها أوكارا للخيانة. لذلك كرهه الجميع وأحرقوا كتبه في مشهد مأساوي. كان يموت يوم رفض اللقاء بممثل حكومة الاحتلال حسب تعبيره. تلك هي وصيته. لذلك كرهه الشيوعيون الذين كانوا يرددون في سرهم “توهمت نخل السماوة نخل السماوات/ حتى حسبتك عاشقة/ فانتظرت النهار الذي يطلع النجم فيه/ توهمت/ أوهمت” ولأن سعدي أدرك أن رفاقه السابقين قد تمكن منهم الوهم فقد أمسك بالجرس الذي هو أشبه بالسوط وصار يذكرهم بالشيوعية التي نسوها أو وضعوها تحت بساطيل جنود الاحتلال. لقد كتب سعدي في سنواته الأخيرة ما سيجعله مقاوما في اتجاهين. قاوم المحتل الأمريكي وقاوم في الوقت نفسه الخيانة. كان ذلك الرجل المزعج شاعرا كبيرا.
ألم يكن سعدي كائنا عاطفيا؟
من “القرصان” كتابه الصادر عام 1952 حتى وفاته عام 2021 أصدر سعدي يوسف أكثر من أربعين كتابا شعريا إضافة إلى مجلدات لأعماله الكاملة (سبعة مجلدات في 3392 صفحة) وقد صدر مجلد ثامن بعنوان “خريف مكتمل”ومختارات من شعره صدرت في مدن عربية مختلفة. كما قام الشاعر بترجمة أكثر من 25 كتابا شعريا وقصصيا من بينها “أوراق العشب” لوالت ويتمان، و”وداعا للإسكندرية التي تفقدها” لكافافي، و”إيماءات” لريتسوس. وكما هو واضح فإن رجلا عاش 87 سنة وكتب آلاف القصائد كان رجل كتابة، يسيل الشعر بحبره من أصابعه. في الوقت الذي كانت فيه قدماه تبحثان عن أرض مستقرة. لقد قضى ثلاثة أرباع عمره مشردا، تطارده فكرة وطن مستحيل. كلما حاول أن يطوي صفحة من تاريخه الشخصي يقع في فخ الجغرافيا التي تسلمه من أرض إلى أخرى. أليس من حقه أن يكون الرجل نفسه وقد تشظت روحه بين مرايا متعددة؟ ولد سعدي في قرية حمدان بالزبير التي تقع قريبا من قرية جيكور التي ولد فيها بدر شاكر السياب الذي ظل يعتبره معلمه الشعري. حمل حمدان معه إلى منافيه، غالبا ما كانت تستيقظ من النوم في أحلامه فتتسلل إلى قصائده. “الليل سيهبط مثل ضباب أزرق في حمدان” “ويلي على أهلي/ ويلي على جسر المسيب والزبير/ ويلي على حمدان” ولكن “إيهذا الحنين/ يا عدوي” مبكرا أدرك سعدي بأسى أنه لن يرى حمدان ولن يموت في العراق. لذلك لم يسمح لعاطفته بأن تتمدد على حساب الشعر. حتى في أرق قصائده الوصفية كانت العاطفة تخرج رأسها وتخبئه بين سطر وآخر غير أن منسوبها ظل منخفضا دائما. لم تحظ العاطفة باهتمام سعدي شعريا. أما كان كائنا عاطفيا؟ حين يوجه السؤال إلى الشاعر فإنه لا يشمل الكائن الاجتماعي.
الهارب بقارة شعره من الموت
“سعدي يوسف هو أعظم الشعراء الأحياء”، ذلك ما كنا نقوله ونحن نحرص على أن لا تصل الجملة إلى سعدي نفسه. كان هناك محمود درويش الذي لم يخف تأثره بسعدي. كان هناك أدونيس. ولكن لأدونيس جغرافيته التي لا تمتد لتشمل قارة سعدي يوسف. حسب الشيخ جعفر الذي لم يكن معروفا عربيا كان من الممكن أن ينافس سعدي يوسف لولا أنه ظل سجين عراقيته الظالمة التي فرضت عليه أن يقف في مكانه وبقي كتابه “الطائر الخشبي” أيقونته الشعرية الوحيدة. كان حسب الشيخ جعفر شاعرا عظيما غير أن خنوعه لعراقيته دمره. وهو ما هرب منه سعدي يوسف بعد أن أصدر كتابيه “الأخضر بن يوسف ومشاغله” و”تحت جدارية فائق حسن” في بغداد عام 1972. تلك بلاد لا تتسع لشاعر. حكمة أدركها محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وسركون بولص وفاضل العزاوي. لقد وقف سعدي في دمشق على قبري الجواهري والبياتي وهو يتكلم عن الشعر الذي لم يتمكن منه الموت. عرف سعدي كيف يقاوم الموت بالحياة. عاش كما أحب وكتب ما أحبه. كانت حريته في الكتابة هي نوع من النبوغ في عالم اختار أن يعيش فيه غريبا. حين ذهب إلى الفلبين ليحمل جثة ابنه حيدر كان وحيدا كما لو أنه يكتب قصيدة.
شعر يشبه صاحبه
لم يكن شعر سعدي صوتيا كما هو الحال مع شعر نزار قباني ومحمود درويش. يصلح شعره للقراءة المتأملة بصمت وخشوع. مثل سعدي ناعما كان شعره. صوت منخفض ببحة وعينين تشفان عن دموع يستفز الصوت العالي خشوعها. مَن يقرأ شعر سعدي يدخل في ما يشبه حالة صلاة. وحين كان سعدي يقرأ شعره فقد لا تسمعه غير أن مَن يستمع إليه لابد أن يعيش الحالة بكل عصفها الداخلي. خارجيا يبدو سعدي في حالة استرخاء وهو يكتب غير أنه في الحقيقة لم يكن كذلك. هناك اشتباك بينه وبين المشاهد والأشياء والأفكار والمشاعر التي يكتب عنها تلعب فيه الأعصاب دور جوقة التمثيل. سعدي هو راعي أعصابه في حقول ممغنطة. مَن قلدوه أخطأوا الطريق إلى صوته فجاءت قصائدهم خالية من الحرج الذي كان يشعر به سعدي وهو يخترق اللغة بألمه كمَن يغرس سكينا في لحاء شجرة. لقد تميزت علاقته باللغة بالكثير من الحذر بالرغم من انسيابيتها. فسعدي كما أظن يكتب قصيدته في جلسة واحدة. سيكون سعدي دائما شاعرا حيا. لذلك ليس من المستحب استعمال الأفعال الماضية في وصف تجربته. لا يزال سعدي حيا بالرغم من غيابه الفيزيائي. شعره على الأرض هو علامة خلوده في السماء.
لوعة اللغة وبريق الأشكال
تبدأ قصيدة “نهايات الشمال الأفريقي” بسؤال ينطوي على قدر هائل من الندم والغصة والحيرة “ما الذي قد فعلت بنفسك؟” سؤال مستعار من الحياة اليومية، تمنى الكثير من الشعراء لو أنهم سبقوا سعدي إليه. أتذكر أن ذلك السؤال صار عنوانا لمرحلة شعرية في العراق. لا شيء غير عادي فيه غير أن شحنته التعبيرية كانت أكبر من حجمه الواقعي. وهنا يكمن سر الشعر الذي يصنع من الكلام العادي لغة خارقة، صادمة ومفاجئة كما لو أن أحدا لم يتذوق مفرداتها بلسانه من قبل. جزء من عبقرية سعدي كان يقع هناك. في تحويل المواد الرخيصة إلى مواد نفيسة. ما من كلمة التقطها سعدي وهو صياد كلمات إلا وتحولت بين يديه إلى عنصر ثمين، نادر يخشى المرء القبض عليه لئلا يلحق به الأذى. كان الشاعر يُقيم علاقة بين الكلمات والأشياء لا يفرض من خلالها أحدهما على الآخر إذ يسمح للكلمات بأن تغادر معانيها وفي المقابل فإنه يسمح للأشياء بأن تتحرر من أشكالها. كان فعل الإزاحة ضروريا بالنسبة له لكي يرى العالم على حقيقته ويمسك باللغة في أشد لحظاتها خفاء. لم يكن سعدي بالرجل السعيد واقعيا غير أنه كان في حقيقته أكثر الناس سعادة حين يطرد المعاني وينتصر على الأشكال محتفظا لنفسه بلوعة اللغة وبريق الصور.
الشاعر السعيد في ضراوة عذابه
يتمنى الكثيرون لو أنهم كانوا سعدي يوسف وهم مخطئون في ذلك. كأي شاعر عظيم كان الشعر خلاصَه. ولكنه عاش حياة فيها من العذاب والألم والفقدان والخسارة والخيبة والتشرد والحرمان والأسى والعزلة ما يجعل الإنسان لا يبصر من خلال ظلمتها يده، ولكن الشاعر لم يشعر يوما بالتعاسة أو البؤس ولم يتأس على نفسه إلا فيما ندر. كان قويا بطريقة لم يتوقعها أحد. حتى الذين كانوا على قرب منه فاجأتهم ضراوة تحمله ورغبته في أن يكون سعيدا. لم يمر سعدي بمدينة إلا وكتب عنها. كان يكتب يومياته التي هي خلاصة تجربته في الحياة والشعر في الوقت نفسه. وكانت تجربته الشعرية تتطور على إيقاع تجربته الحياتية. لم ينزلق الزمن على جسده بل اخترقه وكان انتقاله من مدينة إلى أخرى يغذيه بالمعرفة الشعرية. ليس لأنه يكتب يوميا فحسب بل وأيضا لأن حواسه تتجدد بطريقة سيعمل على استثمارها في الإيقاع باللغة. ما من مدينة أقام فيها إلا واعتقد أنها مدينته الأخيرة. كل المدن التي مر بها أوحت له بطريقة أو بأخرى بالموت الذي يعرف أنه سيتصالح معه ويثنيه عن التقدم في اتجاهه. لذلك لم يكن سعدي سريع الانفعال ليرثي بالرغم من كثرة الموتى من حوله. لم يكن الموت يُخيفه. كان الشعر يُخيفه أكثر وهو الذي يرغب في إسعاده.
المنفي وحيدا بنزاهته
“الشيوعي الأخير” ذلك هو اللقب الذي صار سعدي يعرف نفسه من خلاله بعد أن أعلن أن هناك مسافة وطن وحرية تفصل بينه وبين رفاقه السابقين الذين لم يعد يعترف بشيوعيتهم. غير أن سعدي الذي عمل لسنوات طويلة في المجال الثقافي الحزبي كان في سريرته يؤثر الخلوة مع النفس على ما يفرضه العمل الحزبي من انتماء قطيعي تختفي منه الأسماء لتحل محلها الأرقام. كان سعدي قد زج بنفسه في مكان، صار يضيق به مع الوقت إلى أن شعر أن عليه أن يغادره من أجل أن يبقى مخلصا لشعره ولشيوعيته. كانت تلك القطيعة واضحة في “أسير مع الجميع وخطوتي وحدي” أو في “هل تنكر أن العالم يبدو أجمل من مصطبة الحانة؟ إن رفاقك يندفعون خفافا في الشارع. أنت تراهم. هذا يكفي”. لكن الشاعر لا يدعي أنه شيوعي على طريقته. المسألة تتعلق بحقائق تخلى عنها الآخرون والتزم بها هو. تتعلق تلك الحقائق بمفهوم النضال والوطنية والنزاهة والمقاومة وتغيير العالم. وهي ثوابت ليس مسموحا العبث بها. في لحظة الغزو الأمريكي للعراق شعر سعدي بأن رفاقه السابقين صاروا يعبثون بتلك الحقائق رغبة منهم في أن لا يخسروا موقعهم في عراق حُرموا منه زمنا طويلا غير أنهم من وجهة نظره اختاروا اللحظة الخطأ، اللحظة التي لا تنتمي إلى الشيوعية. كانت قطيعته معهم سابقة لتلك النهاية التي توقعها حين انفصل عنهم وبدأ سيرة منفاه وحيدا.
كانت حياته محور شعره
“لو كنت مشتاقا إلى بلد لطرت إليه أو حاولت أن أمضي إليه سباحة/ لكنني وأقولها صدقا سئمت الشوق” لم يكن سعدي ليخفي شيئا من مشاعره. شعره كان مرآة صادقة لحقائق عاشها وأوهام تخلص منها. حربه الشخصية لم تنته حتى آخر يوم من حياته. ما كان يقاوم من أجله لا يقع في مصلحته الشخصية. لم تكن حياته تسمح بذلك.
“أمس انتهيت إلى حقيقة ما ظننت المستحيل/ عرفت أني صرت شيخا صامتا متطامن الحركات/ من أشياخ إيرلندا”.
كما أن حياته بين المنافي قد دربت خطاه على السير في طرق، كلها لا تقود إلى بلاد صارت ذكراها تشحب “البلاد التي نحب انتهت” في الوقت نفسه فإن تجربته في الحياة كانت عبارة عن مجموعة من الاكتشافات غير السارة “لست أدري كيف لا أنتحر/ العالم قد أغلقه البنك”. ولكن مهلا. كان سعدي يقاوم عن طريق الشعر. لقد غير سعدي تقنياته وهدم صورته مرات عديدة كما لو أنه كان يلعب. حين قدسه الكثيرون في “الأخضر بن يوسف ومشاغله” هرب بعيدا لكي لا يكون سجين أيقونة صنعها الآخرون. صار يكتب بطريقة أكثر تحررا. محا سعدي خطواته بنفسه وكان يرغب في أن يكون الشاعر الذي لا يلتفت إلى ماضيه. كم كان سيد نفسه. رافقه التشاؤم غير أنه لم يستسلم له. كانت حياته محور شعره. كتب البعض بريبة عن الوجه الآخر له في محاولة لتشويه سمعته في إطار هجمة حزبية منظمة نتجت عنها الدعوة إلى إحراق كتبه في شارع المتنبي (وهو شارع المكتبات في بغداد). ولم يحدث ذلك لأسباب شعرية. كان ذلك خبرا حزينا غير أن تلك الخطوة الرمزية تحرق نسخا من الكتب ولن تتمكن من الشعر الذي يبقى.
شعر بروح النثر
“ملاك جاء يصطحب الشيوعي الأخير إلى جنان الخلد/ قال له لقد طفت في الآفاق سبعا، كي أصادف طاهرا. كان الذين رأيتهم قوما عجيبين… الصلاة وكل شيء. غير أني كنت/ أسأل عن عقيق سجيتين، الطهر والعدل. السماء تفتحت …/ فلننطلق، لتكون في الفردوس بعد دقيقة!/
كان الشيوعي الأخير مكوما فوق الأريكة/ هادئ الأنفاس/ مبتسما…/ كأن روائح الفردوس تفعم قصره الليلي حقا”.
ليس المعنى وهو عظيم بدلالته ما يعنيني هنا ولكنه البناء العجيب. تعلم سعدي أصول القصيدة المدورة من البند غير أنه صار يمعن في الارتقاء بروح النثر شعريا عودة منه إلى الكلام العادي الذي يمكن أن يجد له إيقاعا من غير رقابة مشددة من العَروض الشعري. سعدي يقول شعرا منثورا وهو في المقابل يقول نثرا يغص بالشعر. ليس علينا سوى أن نتأمل معجزة ذلك التصالح الذي انتهى إليه سعدي في سنواته الأخيرة بين النثر والشعر. عبر ذلك التصالح توصل إلى تقنية لا تفارق الشعر في قواعده وتستفيد من النثر في أفقية حركته. لقد اعترف سعدي غير مرة أن سركون بولص شاعر كبير وهو صديقه. وبولص لا يكتب سوى قصائد نثر. سعدي لم يكتب قصائد نثر. غير أنه اكتسب من النثر قوة شعرية حين صار يكتب من غير أن يفكر بالقافية التي تنهي الجملة الشعرية. ما من شاعر عربي فعلها قبله.
سلاما أيها الولد الطليق
في كل ما كتبه سعدي كان هو الآخر المفاجئ الذي يأتي من جهة غير متوقعة. يفاجئ نفسه ويفاجئ الآخرين. رجل أمسك بحياته الحرة التي هي لحظة عيشه القلق والمضطرب والعصي على الاحتواء. لا الحياة احتوته ولا امتثل لقواعد الشعر ولم تغرِه الشهرة في التمسك بأسلوب، حاول الآخرون أن يجعلوا منه قناعا له. عاش سعدي هاربا من شعره كما لو أنه يسابق الزمن من أجل القبض على قصيدة لم يكتبها بعد. وهو يشبه في ذلك رجلا سُعد لأنه فقد ذاكرته. عزف البعض عن قراءة جديد سعدي لأنهم اعتبروه أقل شاعرية من قديمه. فيما كان سعدي لا يبحث عن جمهور بعينه. كان قد خلص في منتصف العمر إلى حقيقة أن التزامه الشعري لا يلزمه بالجمهور بالرغم من أنه كان يؤكد أن على الفنان أن يوقظ الآخرين من غفلتهم بالصياح. وهو ما فعله، لكن ليس عن طريق الشعر. فالشعر قارته الشخصية التي لا يقيم فيها أحد سواه. “ما الذي يفعله سعدي هناك؟” لطالما تساءل الكثيرون وهم يعبرون عن عجزهم عن فهم تحولاته فيما كان من جهته يعيش صلحا مع قصيدته التي يعيشها مع الكائنات البرية والصامتة التي تحيط به قبل أن يكتبها. “سلاما أيها الولد الطليقُ/ حقائبك الروائح والرحيقُ/ ترى الأشجار عند الفجر زُرقا/ وتلقى الطير قبلك يستفيقُ”.
بالنسبة لشاعر من نوع سعدي فإن الشعر لا ينام كما أن القصيدة لا تذهب إلى النوم. لطالما أنصت سعدي إلى وقع خطوات ذلك الطفل الذي لا يزال يركض في تلك البلاد البعيدة. وهو يردد “ما الذي قد فعلت بنفسك؟”.