1ـ العصافيرٌ الهاربةُ من المخيّلة
في الظهيرة كنتُ في طريقي إلى صناعية العامرات ـ الطريق إلى صناعية العامرات يُشبه الطريق إلى الجحيم ـ على يميني رأيتُ مستودعا لبلدية العامرات ، وقد تركتْ البلدية فيه أعمدة إنارة هرمتْ من الوقوف على الشوارع، ومن إنارة طرق العميان، ولافتات مرمية لقُرى أكلها النسيان، وهجرها البشر وشردها الجفاف. وبراميل للنفايات تُركتْ تستحم تحت هذا الجحيم الأرضي. مستودع البلدية محروس بالجبال، والجبال الحارسات محروسات هي كذلك بعزلة الرعاة الغائبين عن المشهد.
في منتصف المستودع تُرك مجسم لكرة أرضية مهملا، في الكرة الأرضية الملتهبة جفّتْ البحار والمحيطات والينابيع، وذبلتْ غابات وحقول وقلوب، وصمتت موسيقى الشعوب وأحلامها، واحترقتْ أحلام عاشقين، وسقط طغاة من كراسيهم، وصعد طغاة آخرون فوق كراسي الدم والخراب. كل ما حدث ويحدث في الكرة الأرضية لم يقلق المجسم المرمي في مستودع البلدية.
أخذَتْ البلدية المجسّمَ من دوّار ( المحج) سابقا، وتركته في ساحة المستودع الخارجي، رأيتُ سرب طيور يحطُّ فوق مجسم الكرة الأرضية، وعندما اقتربتُ من المجسم اندس سرب الطيور في إحدى الغابات الذابلة، أوقفتُ سيارتي محاولا البحث عن السرب الذي دخل إلى الغابة، وضعتُ يديّ على ساحل إسبانيا، لم أمسك السرب الهارب؛ بل رأيت السراب ورأيتُ غابات تحترق، ومعها تحترق كتب للتاريخ وللشعر وللوهم، رأيت قصورا وغانيات وخلفاء تركوا أحلامهم، وسمعت لوركا يصدح بقصائده الأخيرة ضد الدكتاتور، ورأيت الدكتاتور يعجن الرصاصة في قصره ليسكبها في قلب الشاعر المنكسر/ الثائر، وفي اللحظة التي وضعت يديّ على الشجرة التي اندس فيها سرب الطيور، كنت أبحث عن صوت العصافير، سمعتُ صوتَ قافلة إبل تقطع الربع الخالي يقودها مبارك بن لندن باحثا عن متعة الأشياء ومتاعها، رأيت معه في الراحلة شابين من الجنوب العماني، أراهم الآن ثلاثة ورابعهم صوت الصحراء وصمتها الأبديّ، وخامسهم أحلام الرجل الأبيض المكتوبة في أروقة المخابرات، كنت ممسكا بجذع الشجرة كي لا تهرب الطيور. هززتُ الجذع، ولم تتساقط الحكاية التي يحملها ولد لندن. لا أدري أين دسّ السيد الإنجليزي نصف الحكاية.
أدرتُ جسدي قليلا جهة الشرق لكي أتابع ما يفعله بن لندن في صحراء العرب،
رأيتهم يجلسون تحت شجرة غاف، والشابان يعدّان القهوة، بعدها بدأ السيد الإنجليزي يسردُ لهما عن بلاده النظيفة جدا والمتحضّرة، وعن طفولته وعن قبر أمه في الريف الإنجليزي، وعن جمال النساء في بلاده، أشعل سيجارته، تطايرت سحابة الدخان مع رائحة القهوة، أزعجتْ سحابة الدخان المنبعثة من فم السيد الإنجليزي سرب العصافير المُندس في الشجرة التي تظلل أحلام الرجل الأبيض في وسط الربع الخالي.
في اللحظة التي طارت فيها العصافير من الشجرة التي يجلس تحتها السيد الإنجليزي، الذي كان يسرد للشابين المرتحلين معه عن قصص بلاده التي تحب الكلاب، طارتْ العصافيرُ من الغافة وسط الربع الخالي، لم أنتبه إلى أين هربت العصافير؛ لأنني كنت منصتا لحكايات مبارك بن لندن.
بعد بحث وترقب رأيت العصافير تقف فوق أغضان شجرة وحيدة، يجلس تحتها رجل تنهشه مخالب الأسئلة وقلق المعرفة، لا تدري العصافير بماذا يفكر الرجل، ولماذا يجلس وحيدا؟ حاولت أن تزقزق لتُلفتَ انتباه الرجل، لكنه لم يلتفت، حاولت أن تحرك ثمار الشجرة لكي تسقط، سقطت تفاحة فوق رأس الرجل القلق.
بعدها سمعت العصافيرُ الرجلَ يصرخ ويهذي بكلمات، ويمسك بالتفاحة بين يديه، يُقلبها، يرميها إلى الأعلى. من التفاحة الساقطة فوق رأس الرجل شاهدتْ العصافيرُ قطارات تعبر في الغابات، التفاحة الساقطة من الشجرة الوحيدة فوق رأس الرجل الجالس وحده لا تشبه تفاحة الخطايا، ولا تفاحة الحب ولا تفاحة الهواتف المقضومة بخناجر الرأسمالية، ولا تشبه قلق الرجل الذي كان يجلس وحيدا.
بعدما طارت العصافير إلى سماوات وغابات أخرى، لم يتساءل البشر عن من أسقط التفاحة، بل أصبحوا يرددون كلام الرجل. من صوت القطارات التي انبثقت من لحظة سقوط التفاحة لم تعد العصافير تفكر في الأسئلة. ولم أعد أبحث عن العصافير بعدما حملت النص إلى الجبال المجاورة بعد صرخة العامل الذي يحرس مستودع البلدية المهمل.
2ـ سمكتا مطرح
السمكتان الواقفتان في وسط الدوار في مطرح لم يفكر أحد بهما، ولم تغريا أيّ صيّاد؛ ليحملهما لبيته لكي يلعب بهما أطفاله، أو لتكونا وجبة لذيذة لعائلته، ولم تتعاطف معهما ربات البيوت وهن قادمات من القُرى البعيدة إلى سوق مطرح. ولم تُلتف إليهما عدسات كاميرات السائحات الأوروبيات المندهشات من سوق الظلام.
وحده القط الجائع الواقف على الرصيف فكّر أن يقطع الشارع وساحة الحكاية، وأن يحاول الوقوف فوق رأس إحدى السمكتين في الدوار، ويسرد لهما قصة سلالاته الهندية، وكيف أصبح مُشردا متشردا في مطرح. وكيف تركته العائلة الهندية التي تركت روي ورجعت إلى نيودلهي لتستطيع الابنة الوحيدة للعائلة دراسة السينما الهندية، التخصص الذي حلمت به منذ كانت طالبة في المدرسة الهندية في دارسيت.
وقف القط الأسود على الرصيف يسرد حكاياته، التي مزجها ببعض الخيال الذي أزعج السمكتين، لم يعر العابرون والسائحات والسفن وأسماك ميناء مطرح أي انتباه لهذه الحكايات التي سردها القط الأسود.
سألت السمكتان القط عن بحار بلاده وعن أسماكها، أخذ القط يُغنّي ويبكي حنينا.
حدّثَتْ السمكةُ الواقف على جهة البحر من الدوار القطَ عن حنينها الأبدي للماء:
” في الليل عندما تنام مطرح وسوقها وقراصنتها وسفنها الضخمة، يصيبني الضجر، وأبدأ بالغناء للبحر، ربما سيُلتفت لصوتي. في ليلة كنتُ أغني وأبكي مرَّ عليّ صياد، وبدأ يصرخ وهرب”.
في اللحظة التي كانت تتحدث السمكة عن حنينها الأمومي للماء، حطَّ فوق رأسها طائر طار من إحدى السفن الضخمة الرابضة بكسل أبدي في ميناء مطرح، وبعدما أكل وجبة عشاء فاخرة خزق فوق رأس السمكة بدون أي تقدير للحوار الدائر بين السمكتين وضيفهما القط الأسود. قالت السمكة الواقفة على جهة المدرسة السعيدية لرفيقتها في الدوار وللقط:
ـ ماذا تريدان من طائر يأكل من فتات السفن الضخمة والصيادين؟ ماذا تتوقعان من طائر ترك صوته ونزل يتسول من الغرباء؟
بعدما خزق الطائر فوق رأس السمكة، طار صوب سوق السمك لينام فوق سقفه، منتظرا قدوم الصيادين في الصباح.
قال القط لنفسه : ماذا أفعل بسمكة ضجرة ووحيدة ومهملة ومهمشة ومتسخة الرأس؟
اقترب القط من الدوار محاولا تسلق السياج الذي يحيط بالدوار، من دون أن يلتفت جهة الشرق، في منتصف الشارع داست عجلات سيارة شرطة مسرعة، لتدوّن مخالفات مرورية رأس القط الأسود الذي كان في طريقه لتنظيف رأس السمكة الذي اتّسخ بسبب طائر السفن الضخمة.
عينا القط الميت عند دوار السمكة في مطرح شاهدتا الشرطيين يسجلان أوراقا ويضعانها على الزجاج الأمامي للسيارات. رأت عينا القط الميت كذلك رجلين يجلسان أمام مسجد الرسول الأعظم يناقشان حربا قادمة. قبل أن تخرج روح القط الأسود في الشارع تذكر الطفلة التي تدرس الآن السينما في إحدى جامعات الهند.
الشرطيان عندما رجعا من مهمة تسجيل الأرقام على الأوراق البيضاء وزجاج السيارات، مرّا مرة أخرى على دوار السمكة ( اللتان كانتا تبكيان في تلك اللحظة) دون أن يلتفتا إلى رأس القط الأسود الميت، سمعت السمكتان سائق سيارة الشرطة يقول لزميله : بعدني ورائي خط الباطنة.
رد عليه زميله: وأنا ورائي خط الشرقية.
قالت السمكة المتسخة الرأس لنفسها : وما دخل خط الباطنة والشرقية في دهس قط أسود؟ وصمتت.
امرأة أوروبية كانت تطل من شرفة الطابق الثالث من فندق النسيم شاهدت مشهد دهس القط، كانت تشاهد فيلما وثائقيا عن تاريخ القطط.
…..
في الليل سمع أهل مطرح سمكة تغني لقط ميت.
حمود سعود *