التبتل في اللغة كما جاء في ( لسان العرب ) من التَبتّل بمعنى الَقْطع . بَتَله يَبْتِله ويَبْتُله بَتْلاً فانْبَتل ، وتَبَتَّل إلى الله تعالى : انقطع وأخلص . وفي التنزيل : وتَبتل إليه تبتيلاً ، والتبتُّلُ الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى . والمتبتل هنا هو الشاعر نفسه في مناجاته الروحية لفقده أمه .
طائرٌ يتبتّل على الضفّة ، مجموعة شعرية ، عبارة عن نص طويل ، قسمه الشاعر إلى قسمين :
التبتل الأول يتألف من جزءين :
– قلهات نديمة البحر
– السديم الأعمق أو إغفاءة عند قبر
التبتل الأخير ويتألف كذلك من جزءين :
– ليلة حزينة
– حياة محتملة
المجموعة الشعرية عبارة عن قصيدة رثاء الشاعر لفقده أمه ، لذلك جاءت ثيمة الفقد بصوَر متعددة ومتنوعة أبرزها :
الدمعة المنثالة ، الشاهدة ، اليتم ، الحزن ، جثامين ، البكاء ، ارتحالها ، القبر ، أكفان ، الأجل ، الموت ، الترمل ، الحتف ، تنوح .
كما كان للمكان أهمية في تبتله الشعري ، حيث ارتبط الفقد بالمكان الذي ارتبطت بها طفولته وعاش حياته وذكرياته المحملة بالفرح والحزن ، مما جعل للمكان عند الشاعر عبدالله البلوشي قيمته الروحية وأكسب ذلك لغة الشاعر ثراءً بالدلالات الجمالية للمكان والمناجاة الصوفية وحوار الروح مع الفقد التي من خلالها يتقرب فيها الشاعر من فقده لأمه .
تعتبر هذه المجموعة ” طائر يتبتل على الضفة ” هي الإصدار التاسع لدى الشاعر عبدالله البلوشي ، حيث صدر له قبل ذلك : برزخ العزلة 1994 م ، فصول الأبدية 1996 م ، معبر الدمع 2008 م ، أول الفجر 2011 م ، المصطلم 2013 م ، حياة أقصر من وردة 2014 م ، في دار أبي العلاء .. عزلة وكلمات 2015 م ، العتمة التي أشرقت 2016 م .
لذلك ستكون رؤيتي التحليلية لهذه المجموعة الشعرية هي نظرة عامة وشاملة من خلال محورين رئيسيين وهما : الدلالات الجمالية من حيث المكان واللغة ، أما المحور الثاني وهو الروح المتبتلة عند الشاعر من حيث المناجاة الصوفية لحوار الروح مع الفقد .
المحور الأول : الدلالات الجمالية في شعر عبدالله البلوشي من حيث :
أ- المكان ودلالاته الجمالية :
يأتي المكان في شعر عبدالله البلوشي بدلالات لها تأثيرها الواضح في شاعريته ، تلك الأمكنة التي كان لها أيضاً الأثر الكبير في كتاباته المختلفة ، حمل الشاعر تلك الأمكنة في ذاكرته منذ طفولته وجسدت حسه الشعري ، لذلك ” تنشط ذاكرة الشاعر عندما تنشط ذاكرة المكان، وكلاهما يشكِّلان ذاكرة لفضاء أوسع ، ينتج عنه ولادة عسيرة لجنين الجملة المتراصة مع أخواتها ، واللائي يشكِّلن جسد القصيدة ، والقصيدة هي ما يختبئ تحت معطفها الشعر(1)
من هنا نرى أن للمكان عند عبدالله البلوشي حيزا في اشتغاله الشعري ، وكان للأمكنة أثرها الجمالي في شعره ، وأعطت طابعها الروحي والإنساني ، تلك الأمكنة التي تربى فيها الشاعر وعاش طفولته فيها.
قريتُه الوادعةُ ” قريات ” التي منحته كل هباتها الجمالية ابتداءً من الإنسان إلى الطبيعة ببحرها وجبالها وأوديتها وأشجارها وطيورها ودروبها .. ، تلك القرية التي حمل كل ذكرياتها السعيدة والحزينة ومنحت شعره طابعه الجمالي والإنساني .
” ليس ثمة نص شعري عميق وثري لا ينطوي على مكانية ما ، لأن الرؤية الشعرية للنص مهما ابتعدت عن حساسية المكان وحضوره وتجلياته ، وغالت في تحليقها التأملي والصوفي الخارق للأبعاد والحدود والمجالات ، فلا بدّ من حضور مكاني معيّن ومصوّر يشحن النص بنزعة إنسانية وارتباط جمالي يحيله على أرضية ما يستند إليها ” (2) ، لهذا كان المكان عند الشاعر عبدالله البلوشي الذي أخذ واقعيته من علاقاته الإنسانية وتأثيرها الذي انعكس في سلوكه وتفكيره ونمط حياته اليومي ، وأعطت تلك العلاقات شاعريته روحها الإنسانية وهي تتجلى أكثر هذه الشاعرية في مواقف الفقد والغياب ، منحت شعره صورها الجميلة التي استمدها من ألق المكان الذي عايشه في بيئته ونبع طفولته .
كما أن للأمكنة الأخرى في شعر عبدالله البلوشي دلالاته الجمالية من حيث المعنى والصور التي تحدث عنها الشاعر ومن حيث الزمان والمكان ، وكأنه من خلال صوره الشاعرية التي جاء بها خياله الخلاق يخبرنا بما قد جرى في ذلك المكان أثناء مروره الخافت ، وهو ما نراه في تبتله الأول ” قلهات .. نديمة البحر ” ،
لقد كنتُ أتألمُ حقاً من كلِّ شيءٍ
من اللفحة الجارحة للريح
حين تنهمرُ حمولتُها الباردة
على صفحة وجهي الناطق بحيرة فاضحة
لقد كنت أتألمُ من
تاج زهرة ذات مرأى مضطرِب
معلقةً هناك ..
تتبتلُ أسفل الجسر
حيثُ أعلنتُ البكاء عليها
في لحظة ارتحالها إلى الله . (3)
ذلك المشهد الذي وصفه لنا الشاعر عبدالله البلوشي يحاول من خلاله أن يمنح الأمكنة ألقها ويوقظ الطاقة الكامنة فيها ليشعر بعطائها المحسوس ، وتحويلها من السكون إلى التفاعل والتوحد مع أحاسيسه ، تلك الأمكنة التي تعايش معها وتبادل معها في كل أوقاتها وفصولها قواسم مشتركة من العلاقة المتبادلة بين طرفين يشعر كل منهما بحضور وغياب الطرف الآخر ، تلك هي الأنسنة التي يحاول الشاعر عبدالله البلوشي أن يؤسسها في علاقته مع المكان ، وجعلها ضمن دائرة حياته، وهو يشعر أنه جزء من قسماتها ، جاء منها ومن أضلاعها ومياهها وعشق تربتها .
أنا الطفل الذي تناسلتُ عنوةً
من أصل أضلاع جبال متراصة باكتظاظ حالم
إذ كنتُ ممهوراً
كمضغة تجري على رحابتها الطافية
في جدث كائن رفضه كهنة الليل
ليرتوي بعد ذاك ..
من مياه آسنة ، تهدر بجوار حجر أملس . (4)
” يُوحِّد الشعر قدرتنا على الرؤيا ، وهو حدث ثنائي التأثير ، حيث ينتج لك شجن الكلمات في حالتي السعادة والحزن ، ويمتلك طبيعة كونية ، تستطيع بها أن تحدث ألفة ما مع موجودات الطبيعة كلها ، وأنك معه تستطيع أن توقد الشمعة ، دون الحاجة إلى عود ثقاب ” ( 5 ) .
يحاول الشاعر أن يلتصق بالطبيعة ، حيث اللون الطبيعي للأشياء التي لم تمسها الألوان المصطنعة التي كان لها تأثيرها السلبي على حياته والتي تذكره بتلك الحياة المؤلمة التي رافقته مع حياته ، يحاول الشاعر أن يفك غربته ، يلجأ إلى أحضان الطبيعة ليغتسل منها ويضيء دربه .
إن الدلالات الجمالية للمكان المؤثرة في تكوين حياة الشاعر مثل البحر والجبل وذاكرة الأمكنة وأثرها في تكوين ذاته الشعرية ، السيرة الذاتية لمعاناة الطفولة في الأمكنة التي عاش فيها في ولايته قريات ، تلك الأمكنة التي رسمت طريق حياته وتشكَّلت شخصيته من خلالها وأكسبته رؤية لمسار فكره وثقافته ، غرست فيه روح المحبة الإنسانية وتحولت في شعره حاضنة لحياته بكل أحداثها السارة والحزينة ومنحته مشاعره الوجدانية نحو علاقاته المنفتحة مع الآخرين .
ان للأمكنة الأخرى التي تنقل فيها مثل ” قرية قلهات ” التي كان لها أثرها بما تحمله من وميض بعيد ، وكأنه ينادي ويشكو ألمه وجرحه الغائر منذ الأزمنة القديمة ، ذلك ما شاهده الشاعر لحظة مروره الخافت ، لكن النور كان ينبعث من معبد سماوي وهو يضحك له بإشراقة نوره وتصدر من جنباته ترانيم أمهات وحيدات لأطفال وديعين ، تلك الترانيم التي تصدر كمثل حشرجة طيور باكية ، حيث أرواح ملائكة الليل تُبقي عين حفظها مفتوحة على البحر ، ذلك هو الشاعر عبدالله البلوشي نديم البحر والجبل ، نديم الأمواج المتكسرة الباكية ، والنوارس المزهوّة بهذيانها الصاخب على الضفة ، وتلك الغيوم السابحة في صلواتها القدسية والشجيرات المنسية في أديمها الصخري .
يستلهم الشاعر فيض الحنان من تلك الأمكنة وعمق المشاعر الإنسانية ، حيث للمكان دلالاته الجمالية ، حيث تنثال صوره على قلبه وتحلق به عالياً نحو المدى البعيد وهو يغتسل بجسده الضامر من ينابيعها متبتلاً بصحائف طفولته التي اكتستها أعشاب اليتم .
يخلق الشاعر من المكان عالماً أكثر جمالاً وبهاءً ، ذلك الجمال المبجَّل الذي يتراءى له كقوس قزح يشرق له في العلو ، من قمم النخيل العذراء ليفتح باب قلبه ، الجمال الذي يأتيه من عيون أمه وهي تتكئ وحيدة على جدار هش ، ذلك الجمال الذي يغسل به عتمة روحه ، إنه يتوسل لذلك الجمال الذي يتطهر به من أدران روحه ، ذلك الجمال الذي يأتيه من النجمة الساطعة في التخوم البعيدة وهي تتناثر على قلبه ، وحين يقف على شاهدة يحلم بالغبطة في تلك الليالي المتوقدة بالفزع والمهابة .
يبتهل الشاعر لذلك الكون مباركاً لفتنته المتألقة وهو يسقط عليه كندى شفيف من مهوى العصافير اليتيمة المتراقصة على الأغصان وهي تسقط أوراقاً يانعة على قبره ، وحين يرحل به طائر الحب ليزرعه هناك وحيداً تحت ظل شجرة . يبتهل الشاعر وهو يرجو الله أن يمد له يد الجمال باللطف وأن تظل مناقير الطير يقظة في صباحاتها وللنغمة المحلقة في الروح .
يا إلهي . .
مدني نحو أركان الضوء
بانجذاب كلي
أريد ليد الجَمال أن تلاطفني
أريد لمناقير الطير
أن تظل يقظةً في صباحاتها الباهرة
لتُبعد شماتة السأم
مالئ روحي بضجر باهت
ثم أسألك العون قائلاً :
سلاماً للنغمة المحلِّقة في هذه الروح
مناحةَ الخراب الأبدي . ( 6 )
ب – اللغة ودلالاتها الجمالية :
يقول الشاعر ملارمِي : ” إننا لا نصنع الأبيات الشعرية بالأفكار بل نصنعها بالكلمات ” ( 7 ) أي يجب الإهتمام باللغة وبالطريقة التي نقول بها القصيدة ، أكثر من الاهتمام بما تقوله القصيدة أو أفكارها أو الأيديولوجيا ..
لهذا يحاول الشاعر أن يسبر بلغته غور العلاقة الإنسانية ، حيث معرفة أعماقها متجاوزاً سطحها الخارجي ، مستخدماً لغة تلمس عمق مشاعره وعين قلبه ليصل به إلى معرفة مايكمن في داخله ورؤية بعده الجمالي .
يقول الشاعر سركون بولس “اللغة هي الكلُّ ، عالم متكامل ، السابق والآتي ، القاموس ، هذا الشيء الغريب ، يحتوي كل شيء في حالة موات ، في حالة سبات ، يأتي الشاعر ليوقظه ، برفسة إن احتاج الأمر ، هناك مصطلح اللغة الأم ، فعلاً اللغة أم غريبة ، أم قاسية ، والشاعر يحاول أن يذكِّرها ببعض الحنان ، العلاقة بين الشاعر واللغة مختلفة عن علاقة الآخرين بها ، إنها علاقة مثيرة ، يمكن له بواسطتها أن يفجر العالم ” ( 8 ) .
هكذا يسير الشاعر عبدالله البلوشي حاملاً لغته متحسساً في أعماقها يوقضها من سباتها يشعل فيها جذوة الشعر ، يمتص رحيقها يتلمس حنانها يخلق معها علاقة خاصة وغير عادية ، وهو يستثيرها يأخذها معه ليحلق بها ، يمنحها بريقها وقوة ألقها ، يشق بها طريقه ويوقظ الروح بها في جسد العالم .
إن استخدام الشاعر لأدوات الإشارة مثل ” هناك ” التي تكررت في أكثر من موقع من تبتله الشعري ، للدلالة على المكان حيث ذكرياته التي تتجسد فيها روحه وجسده ، إنما يحاول بذلك أن يُطوِّع اللغة حيث يقول :
هناك .. في الطرف القصي للشمال
حيث فراشة الفجر يتعالى هسيسها
مثلما الريح
حين تعبث بعشبة قلبي المنذور للضياع
سأدعُ حدقتي سابحة
في أعلى الشاهدة . ( 9 )
هكذا يطوع الشاعر عبدالله البلوشي اللغة ويضعها في إنائها الشعري ليطلقها بعد ذلك إلى عنان السماء وقد منحها الدفء الذي تحتاجه ، ويبقى خيط دمه متصلاً بها بإحساسه ومشاعر قلبه ، بروحه التي منحت لغته الشعرية سفرها الجميل .
إن التجربة الحياتية التي مربها الشاعر وتلك المشاعر الإنسانية التي إكتسبها من تربة آبائه وأجداده وتلك الموهبة الحساسة بما يحيط به من جوانب حياته هي التي جعلت شعلة الشعر تتقد في روحه وتلتقي معه ، ذلك هو الاختيار المشترك الذي غير في مفاصل حياة الشاعر وجعلت من شعريته تكتسب بعدها الجميل وتمنح القاريء لذته الشعرية ، وهنا يقول الناقد الفرنسي ” رولان بارت ” في كتابه لذة النص : ” إذا كنت أقرأ هذه الجملة بلذة ، وهذه القصة ، أو تلك الكلمة ، فلأنها كتبت ضمن اللذة ، فهذه اللذة لا تتعارض مع عذابات الكاتب ” (10) تلك اللذة التي أبدعها الشاعر كانت نتاج نظرته الشاملة لمكونات بيئته وجعلها لغة إحساسه في الفرح والحزن ، في الألم والارتياح ، لغة منحازة لإحساس الآخرين ، في المرض والصحة ، في الانكسار والأمل ، في العتمة والنور . هكذا يصعد الشاعر بلغته الشعرية كجسر يصل به إلى صفاء المحبة وروح الخلاص .
هناك .. حيث تحجب الغيمة الندية
شعاع وجه الشمس
أسفل قبة السموات
وحيث يهطل الودق مخلِصاً كالحب
سأتهجى اسمكِ الأثير
لحظة وثبتي القصيرة
كزورق يتهادى في ضفة
ترتعش على حوافها
أمواج لاهية . (11)
يحاول الشاعر عبدالله البلوشي وهو يحمل مفردات لغته الشعرية أن يجتاز ما يعترضه من ما تخبئه له الطريق ، لكن بإصراره في معرفة ما يكمن خلف ما تراه عينه إلى ما يراه بقلبه وسفر خياله وهو يمتح من رحيق أزهاره التي يختارها بعنايته المعهودة ، كي يصنع منها شهد عسله ، ذلك ما يجعلنا نشعر بلذة مفرداته الشعرية التي يكسوها بألقه وجمال روحه .
المحور الثاني : الروح المتبتلة عند الشاعر عبدالله البلوشي من حيث :
– المناجاة الصوفية لحوار الروح مع الفقد
إن جمال النص الشعري الذي يكتبه الشاعر عبدالله البلوشي يمنح القارئ لذته الشعرية ، يحاول الشاعر أن يأتي بلغة إنسانية تتميز بالانزياحات أو المجاز العام ، ذلك ما يتضح من خلال نصوصه الشعرية والصور المتخيلة التي تتجاوز الصور الواقعية وتأخذ طابعا رمزياً بعيداً عن اللغة المباشرة أو المعيارية إلى لغة المجاز والتشبيه والكثافة والغموض الشعري ، والصور المتخيلة التي تبتعد عن الصور الواقعية .
في هذا الإطار يأخذنا الشاعر عبدالله البلوشي وهو في أسفاره الشعرية نحو مزامير صلواته الروحية التي تأخذه بعيداً في ألق مستمر ومناجاة دائمة ، يجلس وحيداً متبتلاً وحاملاً أناشيده التي تصعد به نحو محبة السماء وهو يناجي فقد الأحبة ، ذلك الحب وتلك المناجاة التي يحاول أن يتقرب فيها الشاعر من فقده لأمه ، مكرساً كل أحاسيسه ومشاعره نحوها ، هذا الخطاب الروحي الذي يسمو به الشاعر عبدالله البلوشي وهو في عزلته التي يتوحد فيها مع الغياب وهو يضيء هذه المناجاة الروحية وهذا التبتل يضيئها بتلك المفردات اللغوية التي تحمل في داخلها أبعادها الشعرية ، ذلك ما يجعلنا نقول أن اللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر في بناء دفقه الشعري هي لغة تحمل في داخلها أصالة في لبنات مفرداتها ، ذلك ما يتضح في أداء البناء الشعري ، الذي يأتي متماسكاً في عباراته الشعرية وبنائه الفني وهي تحمل دلالاتها الخاصة ببعدها الجمالي والروحي وما تحمله من مضامين إنسانية ، يحملها الشاعر ويجسدها في تفكيره وسلوكه اليومي وفي علاقته مع الآخرين بصورة تحمل فيضاً من الحميمية والمحبة ولأصالة .
إن البنية الشعرية التي تحملها المفردات اللغوية التي يستخدمها الشاعر عبدالله البلوشي ، هي الأساس الفاعل في قصائده الشعرية التي تأخذ طابعاً جمالياً صوفياً . إن اللون الشعري وهو الإسلوب الذي اختاره الشاعر عبدالله البلوشي لكتابة قصائده هو اسلوب كتابة قصيدة النثر الذي شق طريقه به منذ تسعينيات القرن الماضي إضافة إلى النص الشعري المفتوح .
” إن اللغة الشعرية الحديثة في حدِّ ذاتها شبيهة بلغة المتصوِّفة باعتبارها لغة منزاحة معجماً وتركيباً . ومن ناحية أخرى وجد الشعراء العرب في موقف المتصوِّفة من الموت ملاذاً وميداناً للانتصار عليه واختزاله فيما هو مادّي وحسّي لا يطول سوى الجسد ، أو بالأحرى أصبح الموت مطلباً تَعبُرُ الذات من خلاله إلى خلودها حيث السعادة المطلقة ” ( 12 ) .
لذلك تتنوع التجربة الشعرية لدى الشاعر عبدالله البلوشي وذلك بتنوع تجربته الثرية التي استمدها من مواقف حياته التي اتسمت بثراء التجربة الروحية التي تعددت أنماط حياته الزمانية والمكانية والتي اكتست بروح الفقد والغياب ، ذلك ما أكسب تجربته الشعرية لغة ثرية بمفردات إنسانية تتسم بروح التجربة الصوفية في ثرائها اللغوي وبعدها الجمالي ، ذلك ما يتضح في الكثير من مفرداته الشعرية التي اكتسب من خلال هذه التجربة الصوفية ثراءً روحياً ومعرفة لغوية جعلت من تجربته الشعرية تحمل مضامينها الخاصة وما تحمله من روح التشظي ومناجاة الفقد والغربة والرحيل ، تلك المفردات الروحية التي تفيض بالحب للحبيب المفقود .
في ليلة حزينة يفيض الشاعر على فقد أمه :
أفيض على بهوكِ دثار عطفي
وعلى جسدك المسجّى على سرير محمولٍ
يا لهذا اللّيلِ ..
يا لهذا الإخاء مع عَتمتهِ الغَادرةِ
إنني أتأملكِ الآن
كجسدِ طفلٍ – ملاكٌ –
تتناهشه أنيابٌ مسَنّنةٌ
أنتِ .. أيتها القطيفةُ الواهنةُ على معصمي
من سواي يرعاكِ ؟
ومن سيحنو على جسدك . ( 13 )
هكذا يسير الشاعر عبدالله البلوشي في رحلته الشعرية وغربته الروحية حيث المكان أثره في تشكيل نمط حياته ذلك المكان الذي ارتبط به منذ ولادته حيث قريته الوادعة ” قريات ” التي تنام على انكسار الموج وما يحمله من أثر روحي عبر ما مرت به حياته ،كما أن طابع القرية من جهة أخرى تحمل طابعها الجبلي ، تلك الجبال الصامتة منذ الأزل وما تحمله من هيبة وشموخ ، كان لذلك أثره الروحي والسلوكي في تشكيل حياة الشاعر وثراء تجربته الشعرية والروحية ، حيث الهجر والصمت والصبر والجلد والمعاناة والمرض وشظف العيش والفقد والغياب ، تلك التجربة الحياتية التي عاشها الشاعر عبدالله البلوشي منذ طفولته ، ذلك الطابع الحياتي الذي اغتسلت به روحه وشكلت ذائقته الشعرية وأكسبته طابعها الجمالي من حيث الفرح والحزن والمعاناة ، ذلك ما يتضح في الكثير من مفرداته الشعرية التي تشرق بها روحه ، تلك الغربة الروحية التي حملها الشاعر من ذاكرته الفردية والذاكرة الجمعية وما تضمنته من مواقف سارة أو حزينة شكلت رؤيته ولونه الخاص في شعره من حيث الزمان والمكان .
حمل الشاعر عبدالله البلوشي ذاكرة المكان بكل جوانبها الفردية والجمعية ورسمت ملامح سماته التي كان لها الأثر في تكوين شخصيته ونظرته للكون ، يلقي بنظراته الصامتة نحو الأمكنة ووجوه الناس برهافة حسه وجمال روحه ، ذلك ما يجعلنا نرى ونكتشف ذلك المسار الذي اختطه نحو روح التصوف الذي تدثر بردائه مستمداً روح أجداده وجذرهم الضارب في أعماق ما خطه عن فقد الأحبة والرؤيا النقية التي تحمل بعدها الجمالي لروح التصوف ذلك الذي يشع وهجه كما جاء في عباراته الشعرية .
يا لأناشيدَ العدم التي تتغشاني الآن
حيثُ أتأملُ طويلاً
تلالُ الرَّبوةِ الوادعةُ هُناكَ
الضاجةُ بجثامينِ أسلافي
أحياءً يسكنون في دمي
منذ أن اندلقتُ عنوةً على هذه الأرض
لأتآخى بعد ذاكَ ..
كمضغةٍ مع الأبديةِ الظاهرة . ( 14 )
إن هذا الجمال الروحي التصوفي الذي يحمله الشاعر عبدالله البلوشي ويجسده في أشعاره يحمل دلالته البعيدة وهو يحمل دفقه الشعري الذي يتجلى في مواقف الحب وتلك العلاقات الحميمية التي يجسدها في تعامله مع الآخرين .
يقول عنه الشاعر سماء عيسى : ” تقودك قراءة قصائده إلى الصمت الذي يستمد حضوره من سكينة داخلية ، تسكن روح الشاعر ، من سكينة تنسدل على الشعر من الطبيعة نفسها التي غذت روحه ، لا تعني تلك السكينة استكانة روح الشاعر ، الشاعر هنا يقترب إلى التمرد ، من حيث اقترابه من رموز وهج تاريخي كالمسيح والحلاج ” ( 15 )
الشاعر عبدالله البلوشي وهو في مناجاته الصوفية يتتبع رائحة الفقد التي يحملها في ذاكرته ، يحاول من خلال مناجاته أن يغسل العتمة التي لازمته منذ طفولته وكبر عليها وحملها معه في ذاكرته ، تلك العتمة التي اتسمت بها قريته التي عاش فيها من فقر ومرض وتشظي ومعاناة وفقد في الأحبة ، تلك الظلال التي رسمت طريق الكثيرين الذين عايشهم الشاعر ، ها هو يحاول أن يستمد وهجه الروحي حيث الشعر كان منقذه والشمعة التي أضاءت قناديله ليضيء بها دربه وفكره وصعد به إلى السمو الروحي وهو يمنح محبة قلبه وصفاء روحه للآخرين بتراتيله التي يتبتل بها في منفاه الروحي ، ناظراً إلى أفق الغياب حيث بهاء المطلق وصفائه .
” وبما أن الذات الشاعرة كانت تواجه قوة خارقة فقد كانت تحتاج إلى إمدادات أخرى تصل تباعاً من الذاكرة ، إنها إمدادات الشعراء الذين شغلهم موضوع الموت ، فتفرغوا له كلٌّ على طريقته ، فمنهم المسالم الراضي بمصيره ، ولكن بشروطه الخاصة التي ضمَّنها نصوصه كحالة جبران خليل جبران ، ذاك الذي جعل الموت باباً للوصول إلى الأبدية الخالدة ”
” اخلعوا هذه الأثواب ودلوني عارياً إلى قلب الأرض
مددوني ببطء وهدوء على صدر أمي ، اغمروني بالتراب الناعم
وألقوا مع كل حفنة قبضةً من بذور السوسن والياسمين والنسرين
فتنبت على قبري ممتصة عناصر جسدي ، وتنمو ناشرة في الهواء ” ( 16 )
وهنا يلتقي الشاعر عبدالله البلوشي مع الشاعر جبران خليل جبران في تناص روحي حول موقف الموت وهو ينتحب أمام الأكوان الوادعة كي يتمدد ويضمه قبر صغير عند الحواف الحانية بجوار قبر أمه راغباً أن يقطف ثمار عمره الذاهب هناك في الموضع المشتهى حيث يزهر في أسفل الأرض وهو يخاطب أمه :
هناك .. سأترك قلبي راعياً لكِ
كمثل نسغٍ يندس في سديم الأرض
ليروي جذور زهرة يتيمة
لأجل أن تبقى ..
كجذوة مقدّسة في الظل
أو كمثل قطرة ماء منتشيةٍ
عند حافة نبعها المهمل . ( 17 )
الخلاصة :
يبقى الشاعر عبدالله البلوشي أحد الشعراء القليلين في عُمان الذين يتبعون أسلوباً تغلب على شعرهم ثيمات الحُب والفقد والغياب والعزلة ، وتحمل في فضاءات نصوصها مضامين صوفية . والشاعر عبدالله البلوشي هنا يتناص أو يلتقي روحياً مع الشاعر الكبير سماء عيسى في كثير من مناخاته الكتابية ، ذلك التلاقي في الروح الساكنة التي تحمل في داخلها التوهج وقلق الإبداع إلى ما هو مختلف وأجمل .
وربما أن الظروف المكانية والزمانية المتشابكة مع العلاقات الإنسانية والمرتبطة بحياة الشاعر والتي حملت الكثير من المعاناة والفقر والمرض والفقد من الأشخاص القريبين من حياته ، كما هي عند الشاعر سماء عيسى في بعض جوانبها ، وكان لها تأثيرها كذلك عليه وحملها معه منذ طفولته وأكسبت تفكيره ونمط سلوكه ، وذلك ما جعله يغلب على كتاباته الشعرية والنثرية وأعطت كتاباته لونها وسماتها الجمالية التي استمدها من مناخات بيئته المكانية وعلاقاته الإنسانية حيث قريته ” قريات ” التي حملها معه منذ طفولته بكل أفراحها وأحزانها ، جبالها وأوديتها وبحرها ، راحلاً معها بروحه وجسده وعقله ، ويناجي أرواحها الهائمة التي يشعر أنه جزءاً منها وراحلاً معها ، يجلس على ضفافها متبتلاً كطائر وحيد ، لعله يجد في تلك المناجاة ما تغتسل بها روحه وتمنحه الصفاء والسلام .
ذلك ما جعل الشاعر يدلل على المكان بأداة الإشارة ” هناك ” في كثير من أمكنة مناجاته والتي كان تأثيرها واضحاً في أسلوب كتابته الشعرية لما حملته تلك الأمكنة من ثيمات غلبت على طابعه الشعري وكان لها تأثيرها على حياته وقلقه الروحي وسار عليه الشاعر عبدالله البلوشي ووفق فيه وأبرز الكثير من جوانبه ودلالاته الجمالية المشرقة في روحة .
المراجع :
(1 ) نعيم عبد مهلهل ،سان جون بيرس وكفافيس قصيدة اللذة والمدائح والأساطير ، دار نينوى ، سورية ، دمشق 2012م ، ص 5 .
( 2 ) محمد صابر عبيد ، التشكيل الشعري ، الصنعة والرؤيا ، دار نينوى ، سورية ، دمشق 2011 م ، ص 25 .
( 3 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مسعى للنشر والتوزيع ، 2017 م ، ص 18 .
( 4 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، نفس المرجع ، ص 106 .
( 5 ) نعيم عبد مهلهل ، سان جون بيرس وكفافيس قصيدة اللذة والمدائح والأساطير، ص 19 .
( 6 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 108 .
( 7 ) ) جان كوهن : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 1986 . ، ص 42 .
( 8 ) ( عبير زيتون ، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الإماراتية 15/12/2016 م ، من كتاب حوارات – سركون بولس ، سافرت ملاحقاً خيالاتي ، منشورات الجمل ) .
( 9 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 86 .
( 10 ) لذة النص ، رولان بارت ، ترجمة د. منذر عياشي ، منتدى مكتبة الاسكندرية ، الطبعة الأولى 1992 ، ص 24 .
( 11 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 87 .
( 12 ) المساوي ، عبدالسلام ، جماليات الموت في شعر محمود درويش ، دار الساقي ، بيروت ، ط 1 ، 2009 م ، ص 98 .
( 13 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 69 ، 70 .
( 14 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 76 .
( 15 ) سماء عيسى ، اقتراب من النبع ، دار مسعى ، 2016 م ص 195 .
( 16 ) المساوي ، عبد السلام ، جماليات الموت ، مرجع سابق ، ص 107 .
( 17 ) عبدالله البلوشي ، طائر يتبتل على الضفة ، مرجع سابق ، ص 85 .
هاشم الشامسي