المــرأة فــي المســرح نموذجًا
ظلموني الناس» أول مسرحية تشارك فيها المرأة العُمانية 1973
باحثة في مجال المسرح من عُمان.
تُعد المرأة عبر العصور مصدرًا ملهمًا للكتاب والفنانين، ويكاد لا يخلو عمل إبداعي سواء أكان فنيًّا أم أدبيًّا، إلا وتكون المرأة حاضرة فيه ومحركًا رئيسيًّا لأحداثه وشخصياته. كما تُعد الأجناس الدرامية (المسرح، السينما، المسلسلات التلفزيونية) وسيلة معبرة عن قضايا المجتمع، وتطلعاته من خلال طرح الموضوعات الاجتماعية المهمة.
ولا يغيب عن البال الاهتمام الكبير الذي نالته المرأة العمانية منذ عام 1970م، على اعتبار أنها عامل مهم لدفع التنمية في البلاد، فهي تشكل تقريبا أكثر من نصف المجتمع وفق آخر الإحصائيات. ودونما شك أن ما حظيت به المرأة العمانية من مميزات لم يكن من فراغ، ولكنه جاء ترجمة لسياسات جلالة السلطان قابوس بن سعيد وحكومته منذ السنوات المبكرة من عمر النهضة.
ويمكن أن نستشف ذلك من الكلمات المضيئة للخطاب السامي لجلالته بمناسبة افتتاح الفترة الثانية لمجلس الشورى عام 1994م: «نحن ندعو كل امرأة عمانية في أي مكان، في القرى والمدن، في البدو والحضر، في السهول أو الجبال، أن تشمر عن ساعدها وتساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لدينا إيمان كبير في أن المرأة العمانية المتعلمة سوف تعمل بكل جد وإخلاص» (1). لقد منح قانون الأحوال المدنية المرأة العمانية حقوقًا مساوية للرجل، فقد نالت التعليم وعملت في كافة المجالات، دونما استثناء إلا بعض المهن التي لا تتناسب مع تكوينها الأنثوي، كما نالت فرصتها للترقي واثبات قدراتها في كافة المجالات من خلال تقلد المناصب القيادية، فهناك الوزيرة والوكيلة والسفيرة وعضوه فاعلة في المنظمات الدولية(2).
وتتويجًا للجهود المبذولة في مجال الاهتمام بالمرأة، فقد أقيمت ندوة المرأة العمانية بولاية صحار عام 2009م، وخرجت هذه الندوة بالعديد من التوصيات التي تحفظ للمرأة العمانية حقوقها، كما أعلن السابع عشر من أكتوبر من كل عام يوما للمرأة العمانية. وانطلاقا من دور المرأة العمانية الرائد في شتى المجالات، فإنه لا غرو أن يخوض العنصر النسائي الدراما على اعتبار أن المرأة جزء من الأسرة، وهي عمادها فهي تتأثر بالمجتمع وتؤثر فيه.
وتسعى هذه الدراسة لتقصي صورة المرأة العمانية في ( الدراما التيفزيونية، السينمائية) بشكل عام، وفي المسرح العماني بشكل خاص. بغية التعرف على أبعادها المختلفة في الأجناس الدرامية الثلاثة، مع التركيز على «صورة المرأة في المسرح» من خلال تحليل نماذج من المسرح العماني، بغية استقراء صورتها وأبعادها المختلفة .
أولا : صورة المرأة العمانية في المسلسلات التلفزيونية
زادت في الآونة الأخيرة مشاركة المرأة العمانية في الحراك الاجتماعي الثقافي والفني، كما أن أدوارها في كل مرحلة تتغير وتتطور مع منجزات النهضة الأخرى، خاصة بعد نيلها التعليم وقيامها بالعديد من المهن، بالإضافة إلى دورها الاجتماعي في الأسرة .
إلا أنه بالمقابل، لم يحدث تطور ملحوظ في صورة المرأة في الدراما العمانية، حيث سعى كُتّاب الدراما المحلية إلى استمرارية تنميط صورتها الذهنية السابقة في عقلية الجمهور العماني، في حين تقدم أعمالاً تبرز شخصية الرجل بصورة أكبر. ولقد قدمت العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية التي تبرز شخصية الرجل مثل (الشايب خلف) ومسلسل (صيف حار) ومسلسل (الجيران) ومسلسل (الدنيا حظوظ) ومسلسل (الاتجاهات الأربعة) ومسلسل (غصات السنين)… وغيرها من الأعمال التي حظيت بمتابعة جماهيرية، وخصوصًا في مرحلة ما قبل التلفزة الفضائية… في حين لم يقدم إلى الآن عمل يتضمن بطولة نسائية مستقلة، ولكن على الأغلب تكون المرأة ضمن البطولة الجماعية لمسلسل ما، ناهيك عن الموضوعات التي تناقشها هذه الأعمال فإنها تعطي مساحة أكبر للرجل، وتجعل المرأة عاملاً، لإيضاح أبعاد شخصيته، فهي تعاني قسوته وظلمه وتعسفه.. وإذا ظهرت بصورة قوية، فأنها عادة ما تقترن بالأدوار الشريرة فهي الزوجة أو الأم المتسلطة. إضافة إلى ذلك، هناك صورة المرأة التي تتحكم مشاعرها وأحاسيسها بها، وتكون غير قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحياتها إلا بمساندة الآخرين. كما تظهر بصورة سلبية من خلال قيامها ببعض الأدوار مثل المرأة المستهترة الاستهلاكية، كما هو الحال في بعض حلقات مسلسل (درايش) الرمضاني سابقًا.
ثانيا: صورة المرأة العمانية في السينما
لما كانت صناعة السينما في السلطنة في بداياتها، حيث إن التجربة السينمائية العمانية لا تتعدى إنتاج بعض الأفلام القصيرة والوثائقية وفيلم طويل واحد، وهو فيلم (البوم) من تأليف إخراج الدكتور خالد عبدالرحيم… وفي هذا الفيلم ظهر نموذج «المرأة» بصورة لا تختلف عن مثيلتها في السينما العربية، فهي «الأم» التي تحرص على تربية أولادها، ولكنها تبدو عاجزة عن تقرير مصير ابنتها الكبرى. كما تظهر في هذا العمل الشخصية النسائية المحورية(نور) وهي في الغالب تتبع والد خطيبها المتوفى!.. والذي تتعلق به بعلاقة غير واضحة في أبعادها الظاهرة، بالرغم أنه يذكرها بفارق العمر بينهما، إلا أنها تظل تعيش أوهام الحب الذي يقترن بحلم عودة الحبيب المفقود!!… وهكذا ندرك أن الشخصية النسائية المحورية في هذا العمل، شخصية بسيطة عاطفية تعيش في صراع مع نفسها سببه الرجل! .. ناهيك عن الشخصيات النسائية الأخرى. في حين اختفت المرأة العمانية العصرية التي كانت يمكن أن تقوم بدور فاعل في هذا العمل، وربما هذا يرجع لواقعيته، الذي يرتبط بطبيعة المجتمع الريفي، حيث عادة ما تكون القيادة للرجل وليست للمرأة. لذا نجد أن العنصر «الذكوري» هو الذي يقوم بدور بارز في تغيير مجرى الأحداث، وتقرير مصير أهالي القرية من النساء وكبار السن والأطفال.
ثالثا : صورة المرأة العمانية في المسرح
شاركت المرأة العمانية في باكورة العروض المسرحية التي قدمت في مسرح النادي الأهلي منذ عام 1973م، كما هو الحال في مسرحية (ظلموني الناس) للكاتب المسرحي محمود شهداد(3)، ثم توالى ظهورها في عدد من الأعمال الركحية، رغم ضيق النظرة لها آنذاك من منطلق منظور ديني واجتماعي، مما جعلها محاصرة بين فنها واهتمامها بأسرتها…وهذا بدوره أضعف البُعد التراكمي الفني لديها. برغم ذلك لا يمكن تجاهل بعض أسماء الفنانات العمانيات اللاتي لا يزلن يمارسن مهنة التمثيل، مثل: الفنانة فخرية خميس والفنانة أمينة عبدالرسول والفنانة شمعة محمد والفنانة بتول خميس… بالإضافة إلى الجيل الجديد من الفنانات العمانيات.
أما بالنسبة لصورة المرأة العمانية في المسرح فقد جاءت متفاوتة، بين العروض التقليدية التي تقدم المرأة بصورتها المعتادة والمترسخة في الذاكرة الجماعية للجمهور، من خلال نموذج المرأة التي تفضل أن تكون تابعة للرجل، فهي الزوجة المطيعة والأخت المغلوب على أمرها وهي الأم التي تعطي بلا مقابل …وفي الوقت ذاته، فقد ظهرت صورة مغايرة من خلال صورة المرأة في العروض التجريبية الحديثة، التي تفاوتت بين الأدوار المتحررة، وبين تلك التي ترتبط بالرمز أكثر من ارتباطها بالواقع الاجتماعي.
وفي الأسطر التالية، نستعرض نماذج مسرحية عمانية ، بغية استقراء «صورة المرأة في المسرح العماني»، التي تفاوتت بين الصورة التقليدية السائدة أو الصورة الرمزية أو تلك التي برزت المرأة فيها، كإنسانة لها دور إيجابي في تغيير مسار الأحداث الدرامية.
أولا : عرض مسرحية (أوراق مكشوفة): من تأليف وإخراج عماد الشنفري لفرقة صلالة، سعى هذا العرض إلى الكشف عن علاقة السلُطة بالشعب بصورة غير مباشرة، حيث ركز النص على علاقة المدير بالموظفين أو المراجعين، ومن ثم بنى علاقة الناس مع بعضهم البعض بشكل كاريكاتيري ساخر، إزاء بعض الأوضاع غير المشروعة.
ويتسم العرض بجرأة الطرح ضد الفساد بأشكاله المتعددة، وذلك من خلال تعرية واقع الشخصيات الذكورية والنسائية، بغية البحث عن الحقيقة الضائعة وسط ملفات المدير أو الشيخ الذي يمثل السلطة. وذلك بسبب تجاهل طلبات المراجعين الذين يترددون على المدير العام، والذين فيما بعد يحاولون الكشف عن قضاياهم بشيء من الشفافية المغرقة في واقعية الحدث وتأزمه، ويمكن إبراز البيروقراطية الجوفاء التي يحملها النص، كما في المقطع التالي:
(مروان : بس يمكن عندك مراجعين أو مشغول..
المدير: المراجعين يتأجلون مش أنا المدير… (يضحك) وبعدين قل لي جاهز للمشروع… ترا المناقصة تنزل خلال يومين…
مروان: جاهزين بإذن الله والبركة فيكم…
مروان: بس شركات منافسة كثيرة داخلة
المدير: ما عندها الخبرة… وغير مستكملة الشروط )(4).
يمسرح هذا العرض قضايا شرائح معينة من المجتمع، مخترقًا ثلاث مراحل من زمن المسرحية، وذلك من خلال مقابلة المدير العام والأحداث التي وقعت أثناء اللقاء به، والأحداث التي وقعت بعد حدوث الزلزال. هكذا استمرت الأحداث في نسج دراما ساخرة عن الواقع البيروقراطي المثخن بأشكال الفساد الذي يستند إلى العلاقات الإدارية والاجتماعية، بغية نيل رضا المدير العام، حيث يعيش المراجعون البسطاء مرارة تأجيل المواعيد والمماطلة وخيبة الأمل في الحصول على ردود… وهكذا تستمر الأحداث في الكشف عن أوراق الناس بشيء من السخرية من خلال النماذج التي وقع اختيار الكاتب عليها، بغية الكشف عن الفساد الذي يتمركز في مكتب المدير الذي تحيط البطانة الفاسدة به… وتتمثل أشكال الفساد في عدد من القضايا منها : هناك الشاب الذي يحمل مؤهلاً جامعيًّا منذ خمس سنوات، ولكنه لا يزال ينتظر دوره في طابور الوظائف .. وهناك الأب الذي راتبه لا يكفي لإعالة أبنائه السبعة… وهناك المسئول الذي يصعد على أكتاف الآخرين.. وهناك صاحب الشركات الكبرى الذي يستولي على جميع الصفقات المالية بسبب علاقته مع المدير.. وهناك الموظف الذي يستولى على حقوقه… وهناك الأم التي تنتظر المدير العام، لكي تطلب منه علاجًا لطفلها المريض.
وتبرز «صورة المرأة» في هذا العمل من خلال نموذجين، الأول: هو ذلك الذي يجسد صورة المرأة الثائرة التي تسعى إلى التغيير وكشف الفساد من خلال شخصية المرأة المتعلمة(الصحفية) التي تتمتع بحيز من حرية التعبير. وهذا ينفى صورتها النمطية السابقة في بعض الأعمال المسرحية العمانية. لذا لا تتردد هذه الصحفية في كتابة عمود صحفي نقدي ضد أصحاب الشأن، فهي تمثل في هذا العرض رمزًا للعدالة، وهي هنا «الضمير» الذي يسعى لكشف الأوراق المستترة، ويمكن أن نستنتج ذلك من خلال المناظرة الجدلية التالية:
(الصحفية: المدير العام لن يخرج الا اذا عرف بأننا منتظرون له من الصباح … لازم نرفع أصواتنا احتجاجا على الانتظار.. مدير المكتب: انتي… بتحرضي الناس على المظاهرات… ووين بعد في عقر دار المدير العام.. الأعمى: مظاهرات… يا أخواني ترى أنا لا أرى ولا اسمع.. الصحفية: هذا احتجاج وتعبير عن الرأي بوسيلة سلمية.. مدير المكتب: هذا عصيان وتمرد.. الصحفية: كل واحد ورأيه… (يتحرك للمكتب ) يا اخوان تحركوا معي ندخل بالقوة على المدير العام… علينا أن نعبر عن رأينا… علينا أن نتمسك بحقنا في مقابلة المدير العام… من معي)(5) .
وتتضمن شخصية (الصحفية) أبعادًا ثورية اجتماعية أو سياسية، فهي تسعى إلى التنديد ضد البرويقراطية التي يمارسها المدير، معبرة عن ذلك من خلال صرخات التمرد الرافضة للوضع القائم. وبعد الزلزال تظل تدافع وتناضل في الكشف عن الحقيقة، وتزرع الروح الثورية والتمرد في بقية الشخصيات التي تحتج وتصرخ بغية البحث عن مخرج… حيث الجميع أصبحوا تحت نفس المصير، فالجميع يعيشون تحت الأنقاض وهم ينتظرون الفرج الذي لم يأت بعد!
أما النموذج الآخر الذي يمثل «صورة المرأة» من خلال نموذج الأم في هذا العرض، التي لا تختلف عن صورتها عن تلك التي قدمتها العديد من الأعمال المسرحية العربية، إلا أننا نجدها تناضل من أجل علاج ولدها المريض، وتحاول جاهدة أن تقابل المسؤول لتشرح له حالة ابنها طالبة العلاج. كما لا تخلو خاتمة المسرحية من لمسة حانية نابعة من شخصية الأم التي ينوب ابنها الصغير «الطفل» عنها في هذا العمل..فبرغم أن الجميع تكون نهايته تحت الأنقاض، إلا أن الطفل يظل رمزا لحياة جديدة ربما الزلزال والتمرد غير ملامحها… وهكذا تقاطعت مفردات العمل في توصيف الحدث الدرامي الذي أراد أن يغير الواقع ويقدم صورة أخرى للمرأة التي تحاول كسر المألوف والبحث عن الحقيقة.
ثانيا : عرض مسرحية (زهرة الحكايا) الذي قدم خلال أيام صحار المسرحية الثاني، وهو من تأليف عباس الحايك ومن إخراج إسراء العجمي. وتتضح «صورة المرأة» في هذا العمل من خلال شخصية زهرة الفتاة الصغيرة التي كانت تمتلك شعرا أسود طويلا!.. بالرغم من أدعية والدتها ليحفظها الله من العين، إلا أنها تتعرض للحسد، وتحولت بين يوم وضحاها إلى فتاة صلعاء!! تثير الشفقة، فكان مكانها المنزل لتظل حبيسة الجدران!.. وبذلك تكون «زهرة» صورة للمرأة الشرقية التي صنعها المجتمع، وهي لا حول لها ولا قوة فهي تخضع لدائرة القدر المستمرة، وتتأثر بفكر الآخر وهي ضحية لنظم اجتماعية مركبة يصعب الفكاك منها.
قسمت خشبة المسرح حسب المراحل الزمنية من عمر زهرة، ففي البداية نجد زهرة أسيرة «القفص» الذي وضع على يسار خشبة المسرح، والذي أوحى بالعديد من الدلالات الرمزية التي تجسد المعاناة التي تعيشها بطلة العرض، وذلك لكونها أسيرة «الفكر التقليدي» الذي فرضه أهلها عليها، مما ترتب عليه، عزلها عن المجتمع المحيط بها، خوفا من أن يعرف الناس بمرضها! ويسخروا منهم!.
أما الجانب الأيمن من الخشبة، فقد نقلنا إلى الفصول الربيعية من عمر زهرة، عندما كانت طفلة صغيرة، وتمتلك شعرًا أسود طويلاً، تحلم به البنات اللاتي كن في عمرها، ثم ما تلبث خشبة المسرح أن تتوحد، لتسرد تفاصيل أكثر عن حكاية زهرة التي ظلمها المجتمع قبل أن تصيبها لعنة العين!…حيث كشف العرض النقاب عن بعض العادات البالية لدى بعض الأسر الخليجية، التي يفترض أن تذوب مع تطور الحياة والتعليم والتثاقف الحضاري الحاصل!..ويمكن تلمس ذلك من خلال التفرقة العنصرية بين الإناث والذكور، والنظرة الدونية للأنثى على اعتبار أنها تمثل عارًا على عائلتها، مما يجعلها تصطدم بمجموعة من المحظورات (التابوهات)، اعتقادا بأن ذلك سيحافظ عليها، في حين أن ذلك من شأنه أن يزعزع الثقة في نفسها، ويجعلها أكثر اقترابًا من الخطأ!
وهكذا ظلت (زهرة) رهينة الفكر الاجتماعي التقليدي الذي تنكر لإنسانيتها، وجعلها أسيرة الشكوك والخوف من حديث الناس عنها، وذلك نتيجة عدم تقبل أسرتها لمرضها بالإضافة إلى كونها أنثى بالدرجة الأولى، مما جعلها تحرم من مشاركة المجتمع في أفراحه وأحزانه. ومن ناحية أخرى، نجد أن «الضغط الاجتماعي» من قبل الأسرة يتحول لدى زهرة إلى «مرض نفسي» يجعلها تصدق بأن المجتمع ينبذها ويعتبرها رمزا للتشاؤم واللعنة، لذا أصبحت رهينة «الوهم» الذي نشأت عليه، لذا فهي ترفض الخروج من ذلك القفص مهما حصل!
وتتأزم الأحداث وتتشابك لتصل إلى ذروتها عندما تصرخ زهرة، معلنة احتجاجها على الأطر التي تحيط بها وتجعلها منكسرة…وفي النهاية، نشاهد (زهرة) تتمرد وتخرج لتكشف للناس حقيقة مرضها، لتكون بذلك صرخة مدوية اختارها المؤلف لتعانق لحظة الفرح عند زواج رفيقة عمرها، لذا فهي تقرر الذهاب لتشاطر المجتمع أفراحه وتشعر الآخرين بوجودها، دون أن تلتفت لنداء والدتها التي تطالبها بالرجوع إلى السجن الذي ابتدأ «إجباري» عندما فرضه أهلها عليها ثم تحول إلى سجن «اختياريا» عندما ترسخ في قرارة نفسها بأنها (تابوه) محرم، يفترض أن يبتعد الناس عنه، لكيلا لا تصيبهم نفس اللعنة التي سلطت عليها، بذلك تنهي زهرة ربيعها ليتحول إلى خريف دائم، وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها!
وترجمت مخرجة العمل «حرفية النص» الذي راعت فيه الفكرة التقليدية التي تتحدث عن حكاية صورة الفتاة «زهرة» التي أصيبت بالحسد، وذلك من خلال «الديكور» الذي جسد بيتًا تقليديًّا عربيا قديما، مع تصميم القفص بشكل رمزي للدلالة على السجن المعنوي والمادي الذي عاشت زهرة فيه. كما تجدر الإشارة إلى توظيف (الأغنية الشعبية) في العرض لم يستخدم كمؤثر فقط، وإنما ساعد على تكثيف الواقع الاجتماعي الذي كانت تعيش الفتاة فيه، والذي كان يعاني من الكثير من الترسبات الاجتماعية، كما يحسب للعرض توظيفه لـ«الفلكلور الشعبي العماني» عند الحديث عن الزواج(6).
ثالثا : عرض مسرحية (رجل بثياب امرأة): وهو من تأليف عماد الشنفري وإخراج أحمد معروف اليافعي لفرقة أوبار من محافظة ظفار. سعى هذا العرض إلى النبش في أغوار (المجتمع القبلي) الذي يسيطر عليه الحاكم والأب وهو (الشيخ أبو هاجر) صاحب السلطة والجاه. وتبرز (شخصية المرأة) بصورة مركبة وجديدة في هذا العمل، حيث ظهرت من خلال (هاجر) التي برغم أنها أنثى إلا أن الأب (الشيخ) ينكر ذلك!.. وتناقش هذه المسرحية قضية تحديد جنس المولود الذي يتعارض مع تقاليد العائلة، التي تؤمن بأن المرأة لا تصلح للقيادة واتخاذ القرارات. كما يتقاطع ذلك مع الفكر السياسي للأب وشيخ القبيلة الذي يطمح في أن يكون لديه ولد بعد إنجاب زوجته عددا من الإناث ..لذلك سعى جاهدا إلى إخفاء حقيقة المولود الجديد، ليعلن بأنه ذكر رغم كلام ( القابلة أو المولدة) بأنه يحمل علامات الأنوثة، كما نلمس ذلك من خلال المقطع التالي: ( المولدة: ولد يا شيخ ولد…الشيخ: ولد ولا بنت..المولدة: (بارتباك) بصراحة عمري ما شفت كذا من قبل بس على ما أظن ولد أكيد ولد!.. الشيخ: كيف ما تعرفين ولد ولا بنت؟!.. المولدة: اسمح لي يا شيخ ما مرت عليّ مثل هذي الحالة من قبل بس أعتقد أنه ولد!.. الشيخ:(بفرحة) يعني ولد؟!!..الحمد لله …) (7).
وهكذا تستمر الأحداث في رصد (مأساة اجتماعية) بطلتها ( أنثى) برغم انه يرتدي ملابس النساء!.. ويصر والده (الشيخ) على أنه ذكر!…ويوضح المقطع التالي من حديث هاجر ذلك: « بس ما كنت أحب أشيل السلاح وكنت أشوفه ثقيل على يدي ولبسني الخنجر وكان يشيلني معه عشان يتفاخر بي قدام الرجال وألي كان يريحه أكثر لما الرجال يقولون هذا الشبل من ذاك الأسد…» (8). ويخاطب الشيخ هاجر قائلا: «هاجر تعلم كيف تتكلم بقوة لا تكون كما الحريم تتعلثم وترتبك في كلامك وتنقص صوتك» (9). وهذا جعل بطل العرض يعيش في صراع مع ذاته أولا، فهو لا يعرف حقيقة نفسه، وثانيا جعله ذلك يعيش في صراع مع الأب والمجتمع الذي يقر بأنه رجل. وتقترب معاناة الأب مع ابنه، من الصراع ضد المعتقد والفكر الذي يؤمن الأب به وهو صراع من أجل السلطة!
ولأول مرة يتم التعرض لموضوع كهذا في المسرح العماني، برغم طرحه في أكثر من عمل في الدراما التلفزيونية العربية، حيث زاد الحديث عن عمليات تحويل الجنس(من ذكر لأنثى والعكس) بالطبع بعد اتضاح شرعية التحاليل الطبية، التي يمكن أن توضح التحول الفسيولوجي للفتاة أو للشاب !.. وتوجد إشارات في (النص) تفيد لجوء الشخصية للطب في تحديد نوع الجنس الذي ينتمي إليه.. حيث يخبر الدكتور هاجر قائلا: «الحقيقة الفحوصات تقول إنك ولدت تحمل الصفتين من الذكر والأنثى وهذا الشيء يرجع لعوامل نفسية بوالدك وبك شخصيا» (10).
وتُعد ثيمة (الخنثى) بمثابة القاعدة العريضة التي استأثرت على اهتمام المؤلف، واستحوذت على مخرجه وتركز على المجتمع (الذكوري الشرقي) الذي يعتمد في الكثير من أطره الثابتة على قيمه ومبادئه التي تؤمن بالرجل، في حين يهمش المرأة على اعتبار أنها جزء من (عباءته) التي لا تنفصل عنه، رغم مما وصلت إليه من مراكز! ..وقد تبدو تلك المعادلة عتيقة بقدم العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكنها تظل أزلية ويصعب القطع فيها، خاصة في ظل الأدوار التي تكرس تبعية المرأة للرجل. ولقد اجتهد المخرج أحمد معروف في مسرحة (الحدث الدرامي) من خلال تصوير معاناة الشخوص التي أصبحت تتبادل الأدوار وتتمسرح لتنسج تفاصيل القصة التي عايشها أبطال العرض بشيء من القلق القبلي، الذي عادة يقدس الرجل ويشعر بالعار تجاه نون النسوة، لذا كان مصير (هاجر) هو الموت في نهاية العرض، فقد كان ضحية الاعتقاد بأنه رجل رغم أنفه!.. لذا فإن حياة هاجر تنتهي عندما تقمع على يد الأب والمجتمع، وهذه النهاية عززت الشعور بهزيمة روح التمرد الأنثوية التي يفترض أن تعزز لدى بطل العرض ليواجه قدره التراجيدي المحتوم. ويفترض من المخرج أن يغير تلك (النهاية التقليدية) التي آلت المسرحية إليها، ويجعلها تقترب من الرمز والإيحاء بضياع حياة هاجر. حمل العرض العديد من (الايقونات السينيماطيقية) التي تنطق بعدد من الدلالات بدءًا من الحبال التي طوقت العرض بحاجز اجتماعي، وانتهاء بالأداء التمثيلي الذي جسدته الشخصيات التي تشير إلى الروابط التي تعوق حركة المجتمع القبلي، فبرغم اقتناع الجميع بأن(هاجر) هو (خنثى)، إلا أنهم رفضوا الاعتراف بذلك، تحت تأثير سطوة وهيبة شيخ القبيلة.. وهكذا ندرك مدى هيمنة البعد السياسي وتأثيره على الحياة الاجتماعية للناس، برغم أن المخرج لعب على وتر المعاناة الإنسانية أكثر من المعاناة السياسية، وربما العرض سيكون أكثر ثراء، لو حاول الكاتب التوسع في هذا الجانب .
قصارى القول، إن صورة المرأة في هذا العمل تبدو ضبابية غير واضحة، نتيجة جهل المجتمع بالعلم …والاعتماد على الفكر التقليدي المترسخ في الذاكرة الجماعية عبر القبيلة، وهنا ينتصر الحس السياسي على حساب البعد الاجتماعي أو الأنثوي ليؤكد حقيقة مترسخة في الذهنية العربية بأن المرأة لا تصلح لتولي المناصب القيادية. وبالتالي يصعب على المشاهد اقناعة بقوة شخصية المرأة في هذا العمل، حيث تبرز صورتها سطحية ومترددة وغير قادرة على تحديد مصيرها.
رابعا: عرض مسرحية (رجل بلا مناعة) من تأليف الدكتور عبد الكريم جواد، ومن إخراج سيف المعولي لفرقة مجان. يتضمن هذا العمل موضوعًا لا يزال حديث الساعة، وإن كانت حدة الذعر قد خفت قليلاً عن السابق، حيث لم يعد مريض الايدز يعامل بهذه القسوة!
واستهل العرض بـ (لوحة تعبيرية) لخصت معاناة بطل العرض(مسعود) ، كما ساعدت الأشكال التي وضعت على الخشبة ليتسلل الممثلون من خلالها، وكان هناك ممثل مغطى بقطعة من القماش في الوسط …وبعد ذوبان تلك اللوحة التعبيرية ضمن إطار العرض العام، بدأت الأحداث تلامس الهم الواقعي، ليتحول إلى مشهد يتضمن مزيدًا من الشحن النفسي من خلال حوار الزوجة مع زوجها في حين ظلت شخصية الزوجة ثابتة، ولم يحدث لها أية تحول.. كما استخدمت الأطر الدائرية لدخول وخروج الممثلين ضمن إطار الخشبة، بدلاً من الولوج إلى كواليس المسرح بالطرق التقليدية، مما شكل أطرًا متباينة تقوم على الانتقال بين الواقعية والرمزية .
اعتمد العرض على (مأساوية الحدث) كقاعدة عريضة بنت عليها معاناة بطل العرض (مسعود)، والذي عرف عنه كثرة الأسفار وإقامة العلاقات غير الشرعية، مما جعل زوجته تعيش مرارة الواقع المأساوي. وبعد إصابته بالمرض عايش صراعا داخليا حيث الآهات وانكسار الحلم، ويمكن أن نلمس المعاناة، من خلال جدال مسعود مع زوجته، بعدما أصر على تجاوز المحظور، والجري وراء ملذاته، ويمكن استنتاج ذلك من حديث مسعود: « أنا الوحيد الذي لم استطع حفظ قائمة الممنوع..العيب والحرام ..» (11).
وهناك صراع آخر يعيشه بطل العرض، كونه بطلاً تراجيديًّا يسعى إلى حتفه، لذا يكون أولا ضحية نفسه، وثانيا: ضحية الواقع المرير عندما يصطدم بحقيقة ويبدأ الجميع في محاربته على اعتبار أنه يشكل مصدر رعب للجميع … لذا نراه يتوسل إلى زوجته بألا تتركه:«مسعود: بسمة ..شجرة حياتي يابسة كوني أنت فيها غصنا أخضر..أرجوك لا تحرقي ما بقي من الشجرة..الزوجة: لو كنت تريد أن تحافظ على الغصن الأخضر لكنت سقيته ورويته وحميته من هبة ريح تقتلعه من الجذور» (12)… عقب ذلك، يتم تكبيله بالقيود لأخذه إلى المستشفى، ومعاملته بقسوة كالمجرم!…بينما تبقى الزوجة غير قادرة على فعل شيء إزاء واقعها المصيري.
وفي هذا العمل ظهرت صورة المرأة من خلال الشخصية المحورية بشكلها التقليدي، فهي المرأة المظلومة التي يخونها زوجها، بينما هي لا تقوى على فعل شيء، إلى أن تتفاجأ بأن زوجها مصاب بمرض نقص المناعة، هكذا زرع الكاتب شخصية المرأة النمطية التي تتكرر في العديد من الأعمال الدرامية من خلال نموذج الأم، التي تظل تعاني تعسف زوجها، فهي المغلوب على أمرها التي لا تقوى على تحريك ساكن!
كما قدم هذا العمل صورة أخرى للمرأة التي تحركها مشاعرها من خلال نموذج الممرضة، التي برغم علمها بخطورة المريض(مسعود) ، إلا أنها تصر على أن تعيش قصة عاطفية يصعب تصديقها. وذلك من خلال تصوير العلاقة العاطفية التي بدأت تنشأ بين المريض بنقص المناعة والممرضة، التي زرعت في نفسه بذور الأمل، وذلك مما يظهر نموذج المرأة بصورة سلبية، فهي برغم أنها على درجة من التعليم ، إلا أنها تبدو غير قادرة على اتخاذ قرار يجعلها تبتعد عن مريض نقص المناعة!
وبرغم عدم واقعية الأحداث وعدم ارتباطها بمنطقية الواقع الاجتماعي، إلا أن النص ربما أراد القول: إن الأمل موجود رغم قتامة الأحداث، إزاء واقع المريض الذي ينتظر الموت، إلا أن الحل كان عن طريق (زخات المطر) التي توحي بميلاد حياة جديدة بعد أن التقى بالممرضة، التي زرعت في نفسه حب الحياة ورسمت في شفتيه الابتسامة:
(مسعود: الغيوم السوداء تكتم أنفاسي.. لا تترك فسحة لحمامة بيضاء تقترب من أغصاني اليابسة.. الممرضة: حتى في الغيم الأسود خير..يوم يتحول الغيم إلى مطر.. مسعود: (متسائلا: المطر؟ ..الممرضة: المطر فيض محبة ورحمة) (13)، بينما عندما يموت رمز الأمل والحياة، يردد مسعود قائلا: (تغير لون المطر..تغير حس المطر ..صار المطر جفافا) (14) ..وكانت تلك آخر كلمات مسعود، قبل أن يغادر الحياة..فالعرض يريد القول ليس المرض هو الذي قتل مسعود، وإنما نظرة المجتمع والمعاملة القاسية التي يعامل بها مريض نقص المناعة، تكون أحياناً سببًا في أفول نجمه وضياع عمره!
خامسا: عرض مسرحية (رثاء الفجر): للكاتب العراقي قاسم مطرود ومن إخراج يوسف البلوشي لفرقة مزون التي قدمت في الدورة الرابعة عشرة لأيام قرطاج. ولقد حاول العرض البحث في دائرة الغيبيات والموت من خلال رحلة الزوجة المصيرية التي اعتادت القيام بها لزيارة قبر زوجها قبيل فجر العيد. ويطرح هذا العرض موضوعًا يخرج عن دائرة المنطق ويحاور منطقة اللاوعي أكثر، لكونها المنطقة التي تتضمن أحلام اليقظة، في محاولة من القائمين لكسر المألوف والاقتراب من المحظور بشيء من الشفافية الفنية. وتبرز صورة المرأة في هذا العمل من خلال شخصية (الأرملة) التي تحمل من المعاني والدلالات التي تجسد شخصيتها، فهي الزوجة الوفية لزوجها حتى بعد وفاته!..لذا فهي لا تتردد في زيارة قبره قبيل الفجر، لتقوم بطقوسها المعتادة بمعية البخور والعطور. كما تظل تبكي على أطلال ابنها الذي استشهد في الحرب، ولم يتبق لها سوى بدلته العسكرية التي علقت فوق قبره كأنها نصب تذكاري يرفض النسيان!
ولقد استطاع مؤلف العرض أن ينسج من ثيمة (الموت والأرملة) تركيبة من الأحداث المثيرة للجدل، وذلك من خلال العلاقة بين المرأة التي كانت تتردد على قبر زوجها، التي ظلت تكن له الكثير من الود، والتواصل والتعاطف معه حتى بعد موته، والأغرب أنها كانت تحلم باليوم الذي تنتقل روحها بجانبه، فيا له من تصوير فذ!.. إذ كيف تظل الزوجة أسيرة الماضي ووفية لزوجها حتى بعد رحيله إلى عالم الأموات؟!…في الوقت ذاته، ضاعت العديد من القيم النبيلة بين الأزواج الأحياء! ..وبذلك التواصل الإنساني الجميل الذي صنعه العرض، وحرصت المرأة (الأرملة) على إيصاله للمشاهد، أصبحنا لا نعرف ما يدور أمامنا، هل يقع ضمن إطار عالم (الأموات) أم (الأحياء)؟!
دونما شك، أن دائرة الغيبيات (بعد الحياة) تتضمن أبعادًا فلسفية عميقة، تنقب في الذات حينا، وتلتحم بالرمز مما جعل الزوجة تتجاوز البُعد الأنثوي لصورة المرأة في المسرح العربي. وخاصة عندما يخرج الزوج من قبره ويتحدث معها، لذا فهي ألفت الحديث معه وزيارة قبره، لتخبره بأدق تفاصيل حياتها، كما تشعره بمعاناتها ووحدتها! ..فهي تبكي وتتألم على أطلال الماضي وتناجي روحه الغائبة الحاضرة(15)!.
ومما سبق يلاحظ أن هناك نقاطا للتماس والتقابل الإنساني في هذا العمل ، حيث حرص الممثلان على تصويرها بصورة إنسانية، أدائية، حركية، جعلت الجمهور يتعاطف مع المرأة التي كان يطغى الرمز الفلسفي على أبعادها الفسيولوجية.
سادسا: عرض مسرحية (مواء قطة) من تأليف بدر الحمداني وإخراج مالك المسلماني لفرقة فكر وفن.. ويمكن تصنيف هذا العرض ضمن العروض المسرحية ذات الطابع الفكري الفلسفي الذي يتوغل في الأبعاد النفسية لشخوصه، ويسعى إلى استكشاف عوالمها الخفية الباحثة عن الحرية. ولقد قدم العرض «ثيمة» تتصل بالحياة الزوجية، ولكن الكاتب عرج بنا بعيدًا عندما حمل النص الكثير من الإسقاطات الاجتماعية والسياسية المغرقة في الرمزية. وهذا جعل الشخصيات عبارة عن أفكار ورموز، وجعل هذا النص يقترب من (مسرح الفكرة) الذي كان أهم رواده في الوطن العربي هو توفيق الحكيم.
واعتمد العمل على شخصيتين رئيسيتين، هما الزوج (أبو الشوارب) والزوجة التي تبرز صورة المرأة التي نتعرف على أبعادها الرمزية أكثر من أبعادها البيولوجية التي يمكن أن تختلف عن الرجل (الزوج) والذي يعتبر رمزا للعديد من الأنظمة السياسية التي تتحكم بمصير الإنسان العربي.
ولقد افتتح العرض بحديث ابو الشوارب: « في ذات يوم هارب مهرول بعيدا عن قضبان الذاكرة.. في ذلك اليوم المشؤوم قتلت قطًا رضيعًا..حشرته خلف الباب الخشبي.. أرخيت الباب وضغطت عليه بقوة «( 16) . ويفصح هذا المقطع عن لغة حوارية مشحونة بالكثير من المفردات التي توحي برمزية الشخوص التي بدأت تتكشف مع الأيام. لذا جاءت لغة النص غير مباشرة وتتضمن عددًا من الدلالات والمعاني الخفية، بدءًا من (القطة) المحشورة خلف الباب، حيث يحاول (ابو الشوارب) تحريك الباب والضغط عليها.. التي سرعان ما فارقت الحياة!.. نتيجة هذا الضغط المستمر عليها. وكأنه يريد القول إن هكذا هو حال (حرية التعبير) في الوطن العربي التي تعاني تضييق الخناق، وإن تفاوتت نسبها ولكن في مجملها تكون جزئية !… لذا جاء نص (مواء قطة) بهدف البحث عن الحرية الضائعة بين الباب وشخصية ابو الشوارب المهزومة : «في الحقيقة أنا ما اخترت هذا الدور ..هم أجبروني على تقمصه… هم بدأوا بحشري خلف الباب وضغطه علي بكل قوتهم..أجبروني أن أكون قطتهم الصغيرة العاجزة»(17)، وبذلك تكون الشخصيات مسيرة أكثر منها مخيرة في تحديد مصيرها في هذا العرض.
هكذا يصر (مؤلف النص) على أن تبقى حرية (ابو الشوارب) محشورة بين الباب، والذي تقمع حريته من خلال التحكم في حاجته المادية والجسمية، فهو وزوجته يبحثان عن قطعة خبز، وأخيرًا تجبرهم الحاجة إلى التخلي عن قيمهم…لذا فهو يصر على تذكير زوجته بالابتعاد عن الباب، مخاطبًا إياها قائلاً: «اشعر بأن روحك ستحرر من قبضته فارقي الباب قليلاً ..ليترك لك مجالاً للبقاء محشورًا خلف بابه المأفون» (18).
ومن ناحية أخرى، تبرز من خلال علاقة الزوجين مضامين عديدة ترسم أبعاد صورة المرأة التي تتعدى الحياة الاجتماعية إلى وصف الأنظمة السياسية التي ترصد الواقع العربي المترهل عبر حلقة من الأنظمة المركبة التي تجعل المواطن العربي مثل (القطة) يقف خلف الباب خائفا مرتبكًا. وعلى المستوى الاجتماعي يكون الزوجان هما ضحايا الواقع الاقتصادي الذي هو ظلال للأحداث السياسية المحيطة!
اتسم هذا العرض باستغلال طاقات الممثل الجسدية للممثلين، حيث برز بطلاً العرض بأدائهما الرشيق على الركح، وسجلا حضورًا ثنائيًّا لافتاً للنظر، ويمكن أن نلاحظ ذلك عندما انقسمت الشخصيات، إلى أكثر من شخصية:( عذراء : أبو الشوارب ..هل علمت شيئا عن آخر أخبار أبي الشوارب؟…أبو الشوارب: ما علمت شيئا عن أخباره …هل علمت بخبره؟..اخبريني أرجوك كم اشتاق إليك يا أبا الشوارب..حدثيني عنه يا عذراء ..لا أكاد أتعرف عليه…غاب عني واطال الغياب…عذراء : حدثتني زوجته العذراء أنه تغير كثيرا جدا…أبو الشوارب: أبو الشوارب يتغير؟…هذا ضرب من المستحيل.. هذا أبو الشوارب على سن ورمح.. أبوالشوارب شيخ الرجال!.. يمشي بين الرجال متبخترا بشواربه وصقوره الجارحة والجامحة(19).
تميز العرض بتوظيف «عازف الكمان» بدلاً من المؤثرات الموسيقية الجاهزة، وهذا الذي كثف المخرج «الفعل الدرامي» عندما انتقل من فكرة إلى أخرى من لحظة اختناق القطة وموائها إلى لحظة اختناق الزوجة وعدم قدرتها على المواء!..وعندما فقدت القدرة على التعبير فإنها أصبحت بلا مواء!.. وبعد أن ضاعت فحولة أبو الشوارب وأصبح الغريب يتعدى على زوجته، فيما لم يتردد أن يقدم زوجته ثمنا رخيصًا من أجل الحصول على رغيف خبز!…
هكذا جعلنا العرض نعيش حلقات متتالية تتضمن جرعات مضاعفة من الضخ النفسي للتعبير عن أكثر من قضية، لذا لجأ المؤلف إلى الالتفاف حول القضايا للتعبير عن هموم شخصياته وخصوصًا الزوجة، ثم جعلها تتمسرح وتتقمص الأدوار لتروي واقعها المرير الذي يلتفت إلى الماضي من خلال الممثلين يمتلكان قدرة هائلة في التواصل والشحن النفسي والتعبير الحركي… هكذا يتواصل الحدث في التدفق اللفظي والحديث بصوت (الأنا) عند التعبير في لحظات الضعف والقوة، ثم تتحول تلك الشخصيات إلى الرواية السردية في مواقف أخرى. أما بالنسبة لنهاية المسرحية فقد جعلها المخرج نهاية ساخرة، حيث يتنازل (أبو الشوارب) عن رجولته، مما جعل المشاهد يصدم بما حدث له، خاصة بعد أن وقع في الحضيض حيث البغاء والفقر وفقدان القيم النبيلة والأخلاقية وتحوله إلى مجرد قطة لا حول له ولا قوة!
بينما تظل صورة المرأة الرمزية في هذا العمل تثير الكثير من الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها، لكونها شخصية رمزية أكثر منها واقعية، وهذه الصورة بدأت تظهر في العديد من الأعمال الحداثية في المسرح العماني، ولكنها في الغالب تبتعد عن طابعها المحلي لتحلق في عوالم الذات العربية والإنسانية الباحثة عن إجابات للكثير من الأسئلة المصيرية للمواطن العربي.
سابعا: عرض مسرحية (الجسر) من تأليف آمنة ربيع ومن إخراج كل من فيصل البوسعيدي ومحمد النبهاني لفرقة الدن للثقافة والفن بولاية سمائل. طرح هذا العرض عددًا من التساؤلات التي استطاعت أن ترسم أبعاد الهزيمة في ذات الرجل واقترانها بنكبة 1967م، هذه المزاوجة جعلت العرض متشربًا بالعديد من القيم والمبادئ كما أخذت بُعدًا سياسيًّا من خلال ارتباطها بهزيمة الجسر، حيث يقول أمين أحد شخصيات المسرحية: (الإنسان لا ينسى هزيمته الخاصة.. أنا حزين لأنني أتذكر الجسر دائما)(20).
والمتابع للأحداث يجد أن هناك شخصيتين رئيسيتين للعرض قادا الأحداث الدرامية، هما : الزوج والزوجة التي يمكن أن نستنتج أبعاد الشخصية النسائية من خلالها، التي ربما يتبادر إلى الأذهان الصورة الواقعية النمطية التي نجدها في حياتنا اليومية، ولكن بعد ذلك يتضح عكس ذلك، فالمرأة في هذا العمل رمز للعديد من الدلالات الفلسفية والسياسية البعيدة عن الواقع. ويمكن أن نلاحظ ذلك عندما تتوالى مقاطع حوار الجندي للحديث عن الهزيمة أمام أعدائه، ثم ربطها بضعفه الجنسي… هكذا تطايرت في العرض عدد من المفردات التي تتضمن المعاني الخفية والظاهرة، التي يمكن أن نلمسها من خلال (النص المركب) في معانيه، والذي يقرن هزيمة الرجل في المعركة بهزيمته النفسية أمام زوجته: « أنا تعبت لا أدري لماذا قبلت بك زوجا وأنت مهزوم وتافه» (21)..كما تصفه الزوجة في مقطع آخر قائلة: « لذلك حينما تزوجتك كان كل شيء فيك محطمًا، روحك وجسدك « (22).
هكذا ظلت شخصية قاسم الجندي المهزوم، ترسم امتداد الهزيمة التي سعت الكاتبة إلى تضخيمها لتتحول إلى مجموعة انتكاسات سياسية يعيشها عالمنا العربي! وقد تضمنت المسرحية جانبين حرصت المؤلفة على التوغل في ثناياهما، هما الجانب الواقعي الذي يصور الزوجة والزوج، وحالة العجز الجنسي الذي يعاني الرجل منه. أما الجانب الآخر وهو ماضي الرجل العسكري الذي ظل يعاني من هواجسه المهزومة التي باتت تلازمه بعد نكبة عام 1967م، وجعل هذين الجانبين يتلاحمان، ويبرز ذلك التلاحم في أكثر من موقف، إلا أن أهمها، عندما تشبه المرأة بالبندقية!.. حيث تقول الزوجة في أحد المقاطع: «أنا مثلك انتظر، وانتظاري يشبه حال تلك البندقية» (23) .وفي مقطع آخر يقول قاسم: «صدقًا كم تمنيت أن أحتضن البندقية، مثلما أحتضن أصابعك الطرية..خذيني إليك يا بندقيتي العظيمة» ( 24).
بالنسبة للخاتمة كان هناك أكثر من نهاية للعرض المسرحي، ولا نعلم ما إذا كان المخرجان قصدا ذلك، بغية تصوير الجندي وهو يمر بأكثر من هزيمة، مما يعكس الأوضاع السياسية التي نعيشها، حيث نلاحظ هناك الآلاف من الضحايا يكونون ضحايا القمع السياسي، وبالتالي فقد ظلت الزوجة (وصال) في المسرح غير قادرة على الوصول إلى الجسر الذي ظل الجندي المهزوم يحاول اقتحامه، ولكنه في كل مرة يفشل!…وربما ذلك لتنافر المواقف السياسية وعدم توحدها، لذا جاءت الهزائم تترى، وانتهت بسقوط القمر في قعر البئر!..وهذا يؤكد رمزية الشخصيات بمن فيهم الزوجة وصال .
قصارى القول: إن صورة المرأة في المسرح العماني، جاءت متباينة بين ما هو تقليدي وما هو رمزي، ولكن لم تبرز صورتها المعاصرة، والتي يفترض أن تكون على درجة من التعليم والوعي وتطالب بالتغيير، في حين أنه في عرض (أوراق مكشوفة) لفرقة صلالة تمردت شخصية (الصحفية) على الأنظمة البيروقراطية التي تمثل أشكال الفساد في المجتمع… ومن جانب آخر، برغم قوة شخصية المرأة في عمل (رثاء الفجر)، إلا أنها اقتربت من الرمز وعالم الغيبيات، فأصبح من الصعب ربطها بالواقع الاجتماعي. وتقترب تلك صورة الرمزية مع نموذج المرأة في مسرحية (الجسر) لفرقة الدن بالطبع مع اختلاف الموضوع، فالمرأة (وصال) في مسرحية (الجسر) تحمل الكثير من المعاني والدلالات السياسية والاجتماعية، ولكنها بعيدة كل البعد عن هموم الأنثى الواقعية. ويتطابق ذلك أيضا مع الزوجة في مسرحية ( مواء القطة)، التي توغل في أبعاد متعددة تجمع بين الواقع والرمز، فهي أنثى يتاجر زوجها بها من أجل العيش، وهي رمز للحرية التي تعرضت للقمع لتتحول إلى مجرد قطة لا تملك حق المواء!
بالرغم من جدة الطرح لمسرحية (رجل بثياب امرأة) إلا أن (صورة المرأة) في هذا العمل اتسمت بالتقليدية، وهي لم تتجاوز حدود الأنثى المغلوب على أمرها، والتي لا تقوى على تحديد مصيرها ولا حتى نوع جنسها ما إذا كانت امرأة أم رجلا!.. وفي عرض ( زهرة الحكايا) تظهر شخصية المرأة الضعيفة من خلال (زهرة) الفتاة التي صنعتها نظرة المجتمع الدونية، القائمة على العنصرية الجسدية، مما جعلها معوقة غير قادرة على التعاطي مع مفردات واقعها الحقيقي. وبالمثل قدم عرض مسرحية (رجل بلا مناعة) صورة للمرأة العمانية التقليدية التي تخضع لسلطة الرجل، الذي يرتكب الخطأ ويخونها، بينما هي لا تقوى على فعل شيء سوى الهروب من حياته في آخر المطاف .
قبل أن يسدل الستار:
دونما شك، أنه لا تختلف صورة المرأة العمانية عن صورة المرأة في الدراما العربية المتعارف عليها، حيث إن معظمها تعزف على نفس الوتر الذي ألفه المشاهد العربي، فهي إما أن تكون المرأة المظلومة أو أن تقوم بدور الشخصية المتسلطة أو الارستقراطية المدللة. كما ان خوض المرأة العمانية لتجربة الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي، يشكل نقلة نوعية، بالإضافة إلى تجربتها في التمثيل .. وأن كان يصعب تصنيف كتابات المرأة عن الرجل كموضوعات إنسانية تبرز المرأة فيها كما يبرز الرجل، ولكن يمكن ان نلحظ روح التمرد الجامحة التي تسيطر على الشخصيات (النسائية) كما هو الحال في هذه الدراسة عبر نص ( الجسر) للكاتبة آمنة ربيع.
كما نلمس جانبًا إبداعيًّا آخر من خلال المخرجة الشابة (يسرا العجمي) التي تتمتع بقدرات فنية، فهي ممثلة ومخرجة للعديد من الأعمال الجامعية التي تؤهلها لاحتراف الفن الرابع مستقبلا…وفي عرض مسرحية (زهرة الحكايا) حاولت المخرجة الغوص في معاناة الشخصية المحورية التي تعكس معاناة المرأة الخليجية في اطار الواقع الاجتماعي المكبل بالقيود الاجتماعية…. ويبقى السؤال الحائر، هل ستواصل (يسرا) مع بقية بنات جيلها تقديم أعمال درامية تبرز صورة المرأة في أبعادها المختلفة؟..وهل سيشجعها المجتمع على مواصلة مشوارها الفني؟..وكيف يمكن أن تشجع الجهات الراعية للمسرح الفنانة العمانية على الاستمرارية والعطاء وتطوير قدراتها؟
ولعل هذا يقودنا إلى حقيقة توصلت إليها في دراسة سابقة بعنوان (المسرح العماني واقع وتطلعات) أوضحت فيها ضرورة تشجيع المرأة العمانية الفنانة على ممارسة العمل الفني الجاد الذي يخدم المجتمع العماني، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على دفع عجلة التنمية في البلاد، فالفن لا يمكن فصله عن بقية قطاعات الحياة. لذا فإن الفنانة العمانية رمز من رموز الثقافة العمانية، يجب الاهتمام به، ومحاولة تصحيح نظرة المجتمع إليه. وبالطبع لن يحدث ذلك إلا بتأسيس بنية درامية تراكمية، تفرض ضرورة الاهتمام بالفنون والسعي نحو رقيها.
لذا كان لابد من تنظيم الحلقات التدريبية للفنانات والكاتبات والمخرجات العمانيات في مجالات المسرح المختلفة، مما سيمكنهن من اكتساب الخبرة والتأهيل الأكاديمي في آن واحد. إلى جانب ذلك، ضرورة إقامة الندوات والمحاضرات التي تطرح قضايا الدراما وتناقش التحديات التي تواجهها (25).
وبشكل عام، لا بد من القيام بالكثير من الدراسات التي تبحث موضوعات المرأة وخصوصًا البحث في تطور صورتها في الدراما العربية والخليجية والمحلية …ومحاولة الاستفادة من التقارير والدراسات المتعلقة بشؤون المرأة والطفل الصادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية وغيرها من الجهات ذات الصلة بالموضوع ، مما سيساعد في تقديم صورة حقيقية عن واقع المرأة العمانية والتعبير عن قضاياها المعاصرة .
المـــراجــــع
1. عمان.. نهضة تسابق الزمن، المتحدة للصحافة والنشر: روي، 2007م، ص 7
2. عمان ، وزارة الإعلام، دار جريدة عمان، 1989م، ص 137
3. الحبسي، محمد، الحركة المسرحية في عمان، وزارة التراث والثقافة، مسقط، الطبعة الأولى، 2006م، ص 59
4. الشنفري، عماد، (أوراق مكشوفة)، ص1
5. المرجع السابق، ص 4
6. القصابي، عزة، مقالة : رؤية تحليلية في عروض أيام صحار المسرحية، أشرعة الوطن، بتاريخ 3 مارس 2009م.
7. الشنفري، عماد، (رجل بثياب امرأة )، ص5
8. المرجع السابق، ص6
9. المرجع السابق، ص11
10. المرجع السابق، ص 10
11. جواد، عبدالكريم، (رجل بلا مناعة)، ص 51
12. المرجع السابق، ص 55
13. المرجع السابق، ص 87
14. المرجع السابق، ص 112
15. القصابي، عزة ، جريدة الوطن، ملحق أشرعة، مقالة : قراءة في مهرجان أيام قرطاج المسرحية في دورتها الرابعة عشرة (رثاء الفجر عرض يبحث فيما بعد الموت) ، العدد 9709 ، بتاريخ 2 مارس 2010م.
16. الحمداني، بدر، نص مسرحية (مواء قطة)، ص2
17. المرجع السابق، ص 3
18. المرجع السابق، ص 6
19. المرجع السابق، ص 11-12
20. ربيع، آمنة، ( الجسر)، ص 129
21. المرجع السابق، ص126
22. المرجع السابق، ص135
23. المرجع السابق، ص125
24. المرجع السابق، ص146
25. القصابي، عزة، ورقة عمل مقدمة في ندوة المسرح في عُمان واقع وتطلعات، وزارة التراث والثقافة، المنتدى الأدبي، بتاريخ 18 فبراير 2008م، ص 10