حاوره- محمد حسن*
يبدو صُنع الله إبراهيم (83 سنة) مُمتنًا لما يضيفه الزمن إلى إبداع الكاتب، عندما تفقد السنين مفعولها وتمنحه فرصة للتأني واختبار ملاحظات إنسانية شخصية عن الحياة والإنسان.
هكذا على سبيل المثال، اكتشف أنه لم يكن بإمكانه كتابه روايته “التلصص” (دار المستقبل العربي، 2007) بالشكل الذي خرجت به إلا بعد أن وصل إلى سن يستيطع فيه أن يتفهم الحالة الشعورية لشخصية الأب في الرواية.
وقبل أشهر، تأكد الأمر بدرجة أخرى للكاتب الثمانيني البارز عندما أقدم على كتابة روايته الأحدث “1970” (دار الثقافة الجديدة، 2019). ورغم أن العمل مختلف كليةً عن تجربة “التلصص” التي تداخلت فيها السيرة الذاتية مع الخيال؛ فإنه يقول إنه كان فيه حاجة لفترة كافية “تختمر فيها ملاحظات شخصية عن الطبيعة الإنسانية وجوانب أخرى في الحياة”.
تستعرض “1970” أحداث العام الأخير من حياة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. كتبها “صُنع الله” بتقنية اليوميات السردية، مستعينًا بما فعله قبل ذلك بسنوات، بالأرشيف الصحفي، الذي يعترف أنه كان موفقًا في استخدامه هذه المرة، بخلاف ما حدث في تجربته الأولى من هذا النوع، رواية “ذات” (دار المستقبل العربي، 1998). وربما يتماس ذلك مع
وإلى جانب اسمه الكبير في ميدان الأدب المصري والعربي، لا سيما فيما عُرف بـ”الرواية السياسية”، فإن “1970” تحظى بأهمية إضافية من واقع السيرة الذاتية لكاتبها، إنه ببساطة الكادر اليساري الذي أصبح معتقلًا سياسيًا في أول أيام عام 1959 (22 سنة آنذاك) ضمن حملة استهدفت عشرات من النشطاء اليساريين في ذلك الوقت.
إنها التجربة الصعبة التي قال عنها في “يوميات الواحات” (دار المستقبل العربي، 2005): “علَّمتني النظر إلى الإنسان ككل متكامل مؤلف من نقاط قوة ونقاط ضعف. واحتلَّ هذا الموضوع مكان الصدارة في تفكيري بعد ذلك فيما تلى ذلك من أحداث”.
بعد 60 سنة من ذلك العام البعيد القريب، كتب صُنع الله إبراهيم، روايته عن الرجل الذي سجنه. غير أن الأمر ليس شخصيًا على الإطلاق بالنسبة لصاحب “تلك الرائحة”، والذي لم يتراجع عن رأيه أن عهد “عبد الناصر” – رغم كل مآثره- كان فترة مضيئة في تاريخ مصر والوطن العربي.
هكذا، تحفل الرواية برؤى متشابكة، ربما بسبب استثنائية الظرف والتجربة العامة والخاصة. إننا نلمس تقديرًا بالغًا من الكاتب لجمال عبد الناصر الذي لا يستطيع أن يٌغمض عنيينه فعليًا قبل أن يطمئن على عودة جنود كانوا ينفذون عملية خلف خطوط العدو الإسرائيلي في سيناء المحتلة آنذاك. لكننا أيضًا نجد نقدًا لاذعًا لممارسات عديدة في “الدولة الناصرية”، نقدًا من ذلك النوع المحمَّل بالمرارة والقسوة، وتشهد على ذلك الجملة الختامية للرواية: “خذلت نفسك وخذلتنا.. ثم ذهبت، وذهبت معك مقدرات الأمة وآمالها.. إلى حين!”.
غير أن الأمر البارز هنا هو محاولة صنع الله إبراهيم النفاذ إلى شخصية “عبد الناصر”. مع أدصاء مراجعة لتجربة “صُنع الله” الحزبية في تنظيم “حدتو” الشيوعي. ربما يمكننا أن نقول إن “1970” محاولة لـ”أنسنة الزعيم”، الذي كان إنسانًا بالفعل، يخطئ ويصيب، ينتشي انتصارًا وسط الجماهير ويبكي وحده عندما يتحسس في ذاكرته “جُرحه الذي لا يندمل”؛ أمه. يبدو مولعًا بالسلطة لكنه لا يتسطيع – حتى لو أراد – أن يتخلى عنها. في هذا الحوار مع صُنع الله إبراهيم، يدور الحديث عن “1970”، وعن جمال عبد الناصر، وأمور أخرى ذات صلة.
vv بدايةً.. دعنا نتتبع بدايات مشروع الرواية، إنك ذكرت أكثر من مرة في وسائل إعلامية أنك تعمل على المشروع.. متى فكرت لأول مرة في تناول جمال عبد الناصر روائيًا؟
ll أتذكر أني عندما كنت في موسكو، أدرس في معهد السينما، قلت لصديقي المخرج السوري محمد ملص – وكان في سنة دراسته الأخيرة – إن جمال عبد الناصر شخصية درامية من الدرجة الأولى، ومن الممكن أن تُكتب أو تُجسد في أفلام سينمائية. ظلت الفكرة منذ ذلك تزنّ في عقلي لكني كنت أشعر أن وقتها لم يأتِ بعد، كما أني كنت مشغولًا بأمور أخرى، لكن طوال الوقت رحت أجمع أي شيء خاص بـ”عبد الناصر” وأحتفظ به، فأصبحت لديَّ مادة وثائقية في النهاية، ومن ثمَّ بدأت أتصور شكل الرواية.
vv كتبت الرواية في شكل يوميات مُختارة منذ يناير إلى سبتمبر 1970.. هل كنت مستقرًا على هذا الشكل من البداية؟
ll نعم، كنت مستقرًا على أن أكتبها في شكل “أحداث السنة”، عام وفاة “عبد الناصر”. لكن ظلَّت هناك أسئلة مطروحة: هل أجعل “عبد الناصر” يتذكر؟ كيف أستدعي الأحداث السابقة على 1970؟ واستمرت هذه الأسئلة بلا حسم، لغاية السنة الماضية (2019)، عندما فكرت أنه من المناسب أن أكتب نوعًا من الخطاب يسمح لي أن أستعيد مواقف وذكريات سابقة، مرتبطة بالتواريخ الموجودة في تلك السنة.
vv يعني ذلك أنك أنجزت كتابة الرواية في سنة واحدة؟
ll نعم، لكن لا تنسَ أن المادة كانت جاهزة، وتبقَى فقط أن أضع كل شيء مكانه.
vv حتى آخر عبارة في الرواية، تهيأ للبعض أن جمال عبد الناصر يتحدث إلى نفسه، إلى أن نكتشف أن هناك روايًا عليمًا، أنك تخاطبه.. هل قصدت ذلك؟
ll كثير قال لي هذه الملحوظة، مع أن هذا لم يخطر على بالي إطلاقًا، غير أني أجده شيئًا ظريفًا؛ إمكانية أن يكون هناك التباس ما بين أني أخاطبه (عبد الناصر) أو أنه يخاطب نفسه، حسنًا.
vv بالنسبة للمادة الأرشيفية، لديك تجربة معروفة في روايتك “ذات”، غير أنه في “1970” بدا أن الأرشيف هنا بتفصيلاته الدقيقة في وصف الأحداث السياسية والاجتماعية والفنية أحيا تلك السنة البعيدة الفاصلة. بعد 21 سنة بين الروايتين.. كيف تنظر إلى التجربتين من هذه الناحية؟
ll في “ذات” كانت محاولة الاستعانة بالأرشيف الصحفي غريبة بعض الشيء، كانت لديَّ المادة على مدى سنوات قبل كتابة الرواية، جمعت الأرشيف دون أن أدري ماذا أصنع به، لم يكن في ذهني شيء واضح، فقط الانبطاع الذي من الممكن أن يراودك من تتابع مادة صحفية معينة على مدى فترة. مثلًا: “فلان قدم شكوى في الحي كذا بشأن بناية”، وبعدها بفترة: “هدم البناية”، ثم بعد فترة أخرى: “مكدونالد يفتتح فرعًا في البناية”. هذا التراكم الذي يعطي..
vv معنى أكبر للأخبار الصغيرة، أليس كذلك؟
ll نعم. لكني لم أكن أعرف ماذا سأفعل بهذا الأرشيف. إلى أن خطرت لي الفكرة سنة 1967، من خلال مانشيتين صحفيين عن عبد الحكيم عامر قبل نكسة 5 يونيو 1967 بشهرين أو ثلاثة، كان يقول حسبما أتذكر “نحن القوة الضاربة في الشرق الأوسط” تقريبًا، وبعد النكسة مانشيت آخر يقول “انتحار المشير عامر”.
أتذكر أني وقتها كنت أقيم في شقة بحي الزمالك، وخطرت لي الفكرة على الفور: أن أضع العنوانين إلى جانب بعضهما دون أن أعلق عليهما. وهذا ما دفعني لجمع كميات من الصحف دون أن يكون في ذهني فكرة واضحة عما سأفعله بهذه المادة.
vv بالتالي.. يبدو أن طريقة استخدام الأرشيف في “1970” كانت واضحة تمامًا بالنسبة لك، بعكس الحيرة التي لازمتك قبل كتابة “ذات”؟
ll نعم، في “ذات” الحيرة ظلت موجودة، إلى أن قررت أن أحسم الأمر، وكنت بدأت أكتب الجزء السردي للرواية، فقلت لنفسي فلتستخدم هذا مع ذاك، ثم تطورت الفكرة أكثر وقلت: “فليكن فصلًا من الأرشيف وفصلًا للسرد”، رغم أن هذا الشكل يخيَّل لي الآن أنه لم يكن مُوفقًا تمامًا، صحيح أني استخدمت الأرشيف لعمل خلفية لأحداث الرواية، لكن كان في الإمكان الاستغناء عنها تمامًا دون أن تتأثر الفصول أو الأحداث، وهذا مثلًا ما فعله صناع المسلسل (بنت اسمها ذات. إنتاج 2013، سيناريو وحوار: مريم نعوم ونجلاء الحديني. إخراج خيري بشارة وكاملة أبو ذكري). كانت الرواية ستصبح أفضل لو كان الأرشيف “مُضفّرا” في الأحداث. في “1970” تحقق ذلك، ما يمكن أن تعتبره مستوى أعلى من استخدام المادة الوثائقية أو الأرشيفية.
vv هل كانت المادة الأرشيفية المطلوبة لـ”1970″ متوفرة لديك قبل الشروع في الكتابة؟
ll كان لديَّ جزء منها. عندما كنت في موسكو جمعت كمية من الجرائد من صديق لي كان يعمل مراسلًا لجريدة “أخبار اليوم”. كانت لديه أيضًا أعداد من “الأهرام” و”الجمهورية”. أحضرت هذه المادة معي إلى مصر وكوَّنت مجموعة أخرى، وبعد أن استخدمت جزءًا من كل ذلك في “ذات” ظل لديَّ جزء آخر استعنت به في “1970”. لكني وجدت أن هناك أيامًا تنقصني من أرشيف عام 1970، فاشتريت من مؤسسة “الأهرام” CD عليه أعداد هذه الأيام، من أجل تغطية هذه الفترة، كان ذلك في السنة الماضية قبيل الكتابة.
vv في الرواية – بخلاف الأرشيف الصحفي – أجزاء تناولت وقائع تاريخية يظهر جليًّا أنها اعتمدت بنسبة كبيرة على أرشيف ووثائق.. إلى أي مدى إذن كانت لديك حرية في الخيال؟
ll سأشرح لك الأمر كالتالي: كانت أمامي روايات مختلفة لوقائع معينة، وكانت المذكرات السياسية هي أهم مصدر بالنسبة لي، لمن كانوا جزءًا من تلك الفترة، مثل عبد اللطيف البغدادي، سامي شرف، خالد محيي الدين، جمال حماد، وبالطبع محمد حسنين هيكل.
كل واحد من هؤلاء يحكي ما يريد قوله، فكان التحدي بالنسبة لي هو كيف أتعامل مع تعدد الروايات. كان لا بُدَّ أن آخد في اعتباري شخصية صاحب المذكرات، تاريخها نزعاتها، والوقت الذي كتب فيه شهادته. يعني على سبيل المثال، عندما يروي “البغدادي” واقعة معينة ضروري أن أضع في اعتباري أنه كان ثمَّة تنافس بينه وبين “عبد الناصر”، وبالتالي من الممكن أن يكون لديه شعور بالظلم أو أنه أُخرج من الساحة.
كان لدي معيار شخصي كذلك، بأن أُخضع ما أقرأه لوجهة نظري، وأقرر إلى أي مدى من الممكن أن يكون كاتب المذكرات كاذبًا، إلى أي مدى شهادته متوازنة.
على سبيل المثال، عندما يروي خالد محيي الدين قصة معينة فإني أميل إلى تصديقه، لأني رأيته وقابلته أكثر من مرة، وأستطيع أن أفهم طبيعية شخصيته البعيدة عن صراع المصالح، وبالتالي أتقبل رواياته لحدث ما أكثر من غيره، وهكذا.
أجريت نوعًا من المقارنة بين الشهادات والوثائق، وكان ضروريًا أيضًا أن أنتبه إلى أن كل واحد من هؤلاء يريد “تلميع” نفسه، “هيكل” مثلًا عندما يكتب فمن الممكن أن يتغافل عن أمور ويبرز أخرى، لكني أخذت منه مشهد وفاة “عبد الناصر”، هو الوحيد الذي سجل ذلك.
vv عطفًا على هذا.. تناولت وقائع ما زالت جدلية إلى الآن في عهد “عبد الناصر” غير أنه يلاحظ أنك اعتمدت ما يمكن أن نسميه “الرواية الشائعة”، مثل واقعة فنجان القهوة الذي أعده “السادات” لـ”ناصر”، وكواليس انتحار المشير عبد الحكيم عامر، كيف تعاملت مع هذا الأمر؟
ll بالنسبة لي هذه أمور ليست مهمة للرواية، واقعة الفنجان لم أرد أن أعطيها أكثر من حجمها، لم يكن يفرق معي ذلك، لأن “عبد الناصر” مات في النهاية. أيضًا بالنسبة لانتحار “عامر”، في التقاليد العسكرية قادة الحروب المهزومون يطلقون النار على أنفسهم، وبالتالي من الممكن أن يكون قرر الانتحار بالفعل، كان منهارًا وفي وضع سيء.
ربما ما شلغني هنا هو المشاعر المختلطة بين “عامر” وبين “عبد الناصر”، والتي بدأت بنوع من العشق أيام حصار الفالوجة (حرب فلسطين 1948) ثم الصداقة والزمالة في القيام بالثورة، ثم نوع من الغيرة بدأ بينهما بالتدريج، خصوصًا أن البعض كانوا ينفخون في ذلك، لكن في النهاية هذه طبائع الأمور.
تأخذني هذه النطقة إلى فكرة أوسع، وهي إدراك الطبيعة الإنسانية وملاحظتها في جوانب أخرى في الحياة، سواء ما يتعلق بحياتي الشخصية، أو من حولي ومن أعرفهم، والفترة التي عشتها سمحت لي بملاحظة التغيرات الغريبة التي تحدث.
على سبيل المثال، لي صديق كان معي في السجن، أعرفه من سنة 1953، في أواخر أيامه قرر أن يصلِّي، المسألة كانت مضحكة، ليس لأنه يصلي، وإنما لأنه كان يدرك أنه يؤدي تمثيلية، لم يكن مقتنعًا بما يفعله لكن “لا بُدَّ من فعله”، هناك شيء رائع في ألاعيب التكوين الشخصي ومخرجاته. اعتمادًا على أمل كان يعبر عنه ويقول “ما يمكن!”.
تكررت الحكاية مع شخص آخر أعرفه، وفي أواخر أيامه أيضًا، لم تكن له علاقة بالسياسة أو الفلسفة، لكنه في شبابه كان يطرح أسئلة من نوعية: “هل ربنا موجود؟”، وعندما كبر وشعر بدنو أجله قال لنفسه: “من المحتمل أن القصة تكون حقيقية، طيب ما نصلي لنا ركعتين”!
وبالنسبة لـ”1970″، كانت الملاحظة الإنسانية على سنوات طويلة مفيدة للغاية، لذلك هذه الرواية لم يكن ممكنًا أن تُكتب قبل 10 أو 20 سنة مثلًا، قبل اختمار ملاحظات شخصية لي خاصة بالحياة، بالناس، بالتغيرات السياسية والإقليمية، كل هذا.
vv لذلك ظلت “1970” في مستوى فكرة فقط طوال هذه السنوات منذ 1974؟
ll نعم، كانت حاضرة معي طول الوقت بشكل أو بآخر، لكن وقت كتابتها لم يكن قد حان بعد.
vv أين كُنت لحظة وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970؟ وكيف استقبلت الخبر؟
ll كنت في برلين في ألمانيا الشرقية، منذ العام 1968، أعمل في وكالة الأنباء الألمانية هناك. أتذكر أني كنت جالسا ليلًا وفجأة أوقف التفزيون بثه، وظهر الخبر: “وفاة جمال عبد الناصر”. أعتقد أن شعوري وقتها كان نوعًا من اللا مبالاة ربما، لا، ليست لا مبالاة، كان لدي إحساس منذ عام 1968 بأن المشروع الناصري انتهى، ربما يمكنني القول إنه لم يكن لدي إحساس بالصدمة عندما سمعت الخبر. نعم، لم أشعر بالصدمة إطلاقًا، بالرغم من بُعدي عن مصر، وبالرغم عدم وجود مقدمات واضحة تتعلق بصحة “عبد الناصر”.
vv في سبتمبر المقبل سيكون 50 سنة مرت على وفاة “عبد الناصر”.. كيف تغير العالم في نظرك منذ غيابه؟ أقصد تأثير ذلك على مصر والوطن العربي؟
ll وفاة “عبد الناصر” إعلان مبكر عن انتهاء فترة عالمية معينة، هزيمة 1967 كانت أول إشارة إلى ما سيؤول إليه الصراع الدائر على المستوى العالمي بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، بين الاستعمار وحركة الشعوب المضادة من أجل الاستقلال، بين فكرة التنمية المستقلة والسيطرة المطلقة للشركات الدولية، أول حلقة في تحديد كل هذا كانت “67” ثم موت “عبد الناصر” ومجيئ أنور السادات الذي كان تعبيرًا عن مرحلة جديدة في هذه الطريق، انتهت بالانتصار التام للقوى الغربية والإمبريالية والبنك الدولي والليبرالية المتوحشة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي.
vv طوال الـ18 سنة اللي حكم فيها عبد الناصر.. أي فترة يعجبك فيها أداءه السياسي أكثر؟
ll في رأيي كانت السنة من 1957 إلى 1958، ففيها بدا مقبلًا على انفتاح سياسي، من ذلك انتخابات عام 57، ووجود المنبر اليساري في جريدة “المساء”، مع ما طرحه ذلك مثلًا من إمكانية أن يترشح شخص شيوعي في الانتخابات، كانت هذه إشارات جيدة.
لكن الوضع تغيَّر عندما قامت ثورة العراق عام 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، هذه أثارت نوعًا من الطموح العربي، تفاءل البعض بإمكانية الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، قالوا “سنصبح مثل الولايات المتحدة”، إلى أن بدأ الغرب والأمريكان والقوى الرجعية يلعبون على إفساد كل هذا، من خلال ترويج أن عبد الكريم قاسم “مجنون” بعض الشيء، وأن الشيوعيين العراقيين اشتركوا في الحكم في الفترة الأولى له، وبعض النزعة الشوفيينية، وإمكانية أن يأخذ الراية من “عبد الناصر”، إلى الدرجة التي نادت فيها مظاهرات داخل مصر قائلة: “زي قاسم يا جمال”. أفترض أنه قال: “أنا جمال عبد الناصر الذي فعل كل هذا، تريدون مني أن أصبح مثل هذا الضابط!”، وهنا بدأت النهاية.
vv هل يخطر على بالك – بخيال الروائي ربما – ماذ كان سيحدث لو عاش “عبد الناصر” إلى ما بعد 1970؟
ll كان سيصبح جزءًا مما حدث. هناك أمور أقوى من الجوانب الشخصية، بالإضافة إلى أن النزعة الأساسية التي كانت تحكم “عبد الناصر” هي البقاء في موقع السلطة والانفراد بها، حتى أن هذا ظل متحققًا إلى ما قبل وفاته من خلال الاشتراك في قيادة عملية النضال.
أعتقد أنه لو لم يمت “عبد الناصر” في عام 1970 كان سيجد نفسه جزءًا من عملية أقوى، حركة أقوى، وضع أقوى منه. ما حدث لم يكن مرتبطًا به شخصيًا، كان تحولًا ضخمًا في العالم كله: توغل الشركات العالمية والأمريكان والغرب ونظام السوق، الكوكاكولا وماكدونالدز، الاستهلاك الواسع وما يجره من طموحات، ونتائج مختلفة متشابكة. ما يعني أن هناك شبكة أقوى من أي شخص، كان “عبد الناصر” سيصبح جزءًا من هذه الشبكة.
vv وأين دور السمات الشخصية لـ”عبد الناصر” في كل هذا؟ بمعنى آخر: دور الفرد في صناعة التاريخ؟ ألم يكن ليستطيع تعطيل ذلك التيار على الأقل؟
ll لا، هو كشخص لم يكن يستطيع ذلك. كان سيندرج تحت المنظومة الجديدة بالتدريج. على سبيل المثال عندما يجد نفسه في حاجة إلى قرض من البنك الدولي، والقرض له تبعات، وهكذا.
vv ما دام الموضوع هكذا، قد يرى البعض أن “السادات” كان لا بُدَّ أن يمشي في ذات الطريق؟
ll لا، الأمر ليس كذلك هنا، “السادات” كان ابنًا لهذا ولم يُضطر له، بل إنه سعى إليه. كان يكتم ميوله لهذه المنظومة التي يشبهها، وشخصيته كانت تقبل أمورًا لم يكن ليفعلها “عبد الناصر” الذي كان أكبر وأرفع من هذا.
ما أريد قوله إن الظروف العالمية والمحلية وما حدث لإسرائيل وفلسطين والعرب كان أقوى، كل هذا كفيلا بأن جمال عبد الناصر “يطق ساكت”. لاحظ أن أهم شيء كان يقاومه بعد نكسة 1967، شعوره بالانكسار والهزيمة.
vv ربما أنت عبرت عن هذا في الرواية، عندما كان “عبد الناصر” يشعر بأن أحد القادة العرب يشمت فيه بعد النكسة، كانت يجاهد نفسه كي يتحمل الضغوط النفسية المترتبة على هذا في كل مرة يقابله فيها.
ll طبعًا، هذه وحدها تصيب شخص مثل جمال عبد الناصر بذبحة صدرية، صعوبة أن ينظر في عينيّ هذا الشخص.
vv هل تتفق مع من يقولون إن جمال عبد الناصر “قُتل بالمرض”؟
ll لا أهتم بهذا الأمر كثيرًا، جمال عبد الناصر “كان ميت ميت”، الكلام عن أنهم وضعوا لهما سُمًّا في القهوة أو غير ذلك لم تكن تغير مما حدث. كل هذه محصلات شيء كان محتومًا.
vv وكيف استقبلت خبر وفاة أنور السادات في 6 أكتوبر 1981؟
ll عندما اُغتيل “السادات” كنت هنا، في شقتي (حي مصر الجديدة شرق القاهرة). وأعتقد أني استقبلت الخبر بنوع من الفرح أو الراحة، هذا شيء طبيعي. لكن أيضًا كان لديَّ إدراك سريع بضرورة القلق، لأن عملية الاغتيال مدبرة بشكل معقّد أكثر مما بدت، وساهمت فيها المخابرات الأمريكية.
في اعتقادي أن اشتراك المخابرات الأمريكية في عمليات مثل هذه أحيانًا يأخذ أشكالًا مختلفة، مثل أن ترفع يدها عن شيء تعرف أنه سيحدث، وتتركه يحدث، بالإضافة إلى علامة الاستفهام الخاصة بطاقم حراسة “السادات” والذي قيل إنه كان مدربًا بـ3 ملايين في أمريكا، اختفى في لحظة، كانت هناك إشارات غريبة.
vv .. وحسني مبارك في 25 فبراير 2020؟
ll أعتبر أن “مبارك” مات منذ زمن، الفكرة أن هذا تمَّ على مراحل. على المستوى الشخصي كانت لحظة وفاة حفيده في 2009 ضربة مؤلمة له. وعلى المستوى السياسي أتصور أنه انتهى منذ أن بدأت زوجته في تسريع عملية التوريث.