كان يحمل آلته الكاتبة إلى الغابة أيام كان يقيم في مأوى اللاجئين في ضاحية فونتانبلو الباريسية ويكتب ذلك السيناريو الأبدي الذي ظل يعتمل في دماغه. يختمر سنوات طويلة. لقد رافقه منذ طفولته في الحبانية العراقية تلك الطفولة وتلك المدينة اللتين صحبتاه إلى الأبد
حبّانية أواسط الخمسينات وأوائل الستينات الحبانية التي كانت ما تزال تعبق في تلك الأيام البعيدة بذكريات الحقبة الكولونيالية:
فرق جنود الانكليز ببزاتهم الكاكي… ذكرى لورنس العرب والجيل العراقي الذي شارك في الثورة العربية الكبرى… ومُلك الهاشميين وقصص ثورة رشيد عالي الكيلاني… وسينما بالأبيض والأسود تعرض أفلاما هندية وأفلام وسترن وأفلاما مصرية مليئة بدموع فريد الأطرش… عندما جاء صموئيل إلى العالم كانت أواخر أيام حكم الملك الشاب فيصل الثاني وعبد الاله ونوري السعيد… وقصر الرحاب يشتعل بأضوائه في ليل بغداد الخمسينات في تلك الحفلات الباذخة كما هو الشأن في بهرج أواخر الدول هكذا روت لي سلوى ساطع الحصري التي التقت أغاتا كريستي في إحدى حفلات الاستقبال تلك.
كانت أغاثا تأتي إلى العراق لزيارة زوجها ماكس مالاوان عالم الآثار…
و بريتش بتروليوم في أوج تحكمها الخفي في مجريات السياسة العراقية وفي الهلال الخصيب عامّة…
وفي الناحية الأخرى كان هناك عراق دراماتيكي عاصف: قوميون رومانسيون وشيوعيون رومانسيون وعساكر انقلابيون هم أيضا رومانسيون. ورصاص وقتل وسحل في شوارع بغداد وبدر شاكر السياب يصرخ في دار المعلمين العليا ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع…
في هذه المناخات الدرامية العاصفة ولد صموئيل
ومن هذه الحبانية الكولونيالية انطلق إلى بغداد ثمّ إلى بيروت حيث مسكته مخابرات حزب الكتائب
وفي بيروت اكتشف الوجع الفلسطيني صحيح كان يعمل في الجبهة الشعبية بيد أن غاندي الصغير الذي في أعماقه هو الذي كان يقود خطاه وليس الإديولوجيا.
ثمّ إلى تونس حيث عرف الحب المعذّب الأزرق العنيف المترع بالدموع والألم
وفي القاهرة كان صديقا محببا ليوسف شاهين فاتّخذ لقبه وصار يوقع مقالاته عن السينما باسم سامي شاهين… هكذا ظللنا سنوات في تونس نناديه ياسامي… !!!
ثم إلى قبرص حيث عاش غنائيّة منا خات بحر المتوسط هو القادم من وهاد آسيا الصغرى كان يعيش تائها بين النصوص والبارات يعبّ خمور زوربا ويصغي إلى موسيقى اليونان الجارحة ويحلم بالشريط الهوليوودي
الذي يعصف داخل دماغه
ثم إلى باريس التي سكن في كلّ أحيائها تقريبا وعرفته كلّ مشارب وبارات الحيّ اللاتيني وما جاوره من أحياء.
باريس التي أعاد إليها تقاليد الصعلكة مع جيل كامل من المثقفين العرب في الثمانينات من عراقيين وتونسيين وفلسطينيين ومغاربة وجزائريين وبعض بقايا السرياليين الفرنسيين والانكليز… تلك التقاليد التي نسيتها المدينة إذ انكفأ جيل ثورة مايو 68 وتحوّل أغلب كتاب فرنسا في تلك الثمانينات إلى بورجوازيين صغار ا كما وصفهم هنري ميللر في كتابه حوارات الباسيفيك باليساد يملأون أرصفة المقاهي و يلهثون وراء دور النشر والجوائز… !
وفي باريس أيضا وأيضا، وهو في الشوارع، أسس دار نشر صغيرة أصدرت بعض العناوين المهمّة هي دار بانيبال وكانت الهاجس والإرهاص والمقدمة لما سينجزه فيما بعد في لندن من موقع إلكتروني أدبي بالعربي والانكليزي ودار نشر ومجلة كانت رائدة في نقل الأدب العربي المعاصر إلى الانكليزية، أجل رائدة فقبل بانيبال كان نقل الأدب العربي في مجمله العام من اختصاص الأساتذة الأكاديميين في أقسام اللغات الشرقية داخل أسوار الجامعات والأكاديميات، وكان كلّ همّهم نقل النصوص الكلاسيكية لأهداف تعليمية أو لدعم بحوثهم حول ثقافة العرب وحضارتهم، وكأنّ العرب قبيلة منقرضة قبيلة منسية… وقد يصادف أن تظفر ببعض دور النشر الغربية التي تغامر فتنقل نصوصا من الأدب العربي الحديث بيد أنّها تقتصر على ترجمة كتابات بعض الأسماء الراسخة والمكرسة مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والطيب صالح في أحسن الأحوال وفي كلّ هذا، كانت دور النشر هذه هي التي تختار الكتب التي يجب نقلها إلى لغاتهم وحسب أجنداتهم حيث استولوا على الصورة التي يجب أن يقدّم بها العرب إلى العالم.
صموئيل وبحركة خفيفة وبريئة أو قل دنكشوتية كسر هذا الحاجز الأكاديمي، أنزل الترجمة من عليائها الأكاديمية الباردة وغير الفاعلة، أخرجها من أقسام الدراسات الشرقية ونقل نصوصا من الأدب العربي الذي يكتب اليوم؛ نصوص فيها نبض الشارع والحياة، جعل القارئ الغربي يطلع على النص العربي الآني، النصّ النابض بدراما العرب المعاصرين. طبعا لم يكن موفقا كامل الوقت في اختيار ما ينقل بيد أن هذا الإخفاق يعد أيضا منقبة… ويجب أن نتذكر باستمرار تلك الأمثولة التي تقول من يعمل قد يخطئ ولكن من لا يعمل أبدا لا يخطئ مطلقا…
وهو يتنقل بين بيروت والقاهرة والرباط وتونس وأثينة وباريس والبروفانس الفرنسية ولندن… حتى القارة الأميركية واليابان كان يحلم بإنجاز النصّ المطلق، أن يكتب سيناريو خارقا وينجز شريطا في هوليوود
المشكلة انه لم يكن يحلم فقط وإنّما كان يصدّق هذا الحلم
وهذا الحلم، كأيّ حلم يقظة شكّل لديه طاقة دافعة لانجاز ما أنجز
وكان صديقه الحميم خالد سلام يقول لي كلما التقينا:
? قل لصاحبك صموئيل يشيل قصة هوليوود هذه من دماغه ويعمل أكثر للمجلة…
فقد كان الكردي العراقي خالد سلام أيامها يدير مجلة صوت البلاد من قبرص ويفعل وراء هذه الواجهة أشياء أخرى تكشفت عنها الأيام…
كان خالد سلام واقعيا بل مفرط الواقعية بشكل مؤسف.
ولكنه لم يكن يدري لا هو ولا صموئيل نفسه أن هذا الحلم ما هو إلاّ قمّة جبل الثلج الذي كان يخفي ما يخفي… وأنه الدينامو الذي يحرك حياته.
فلم يكن السيناريو سوى القناع والصورة الخارجية التي شكلها الوعي لتلك الدراما الحياتية المدفونة في ظلمات العقل السرّي أو العقل الباطن… والتي صاحبته منذ بداياته في الحبانية، ربما كانت صورة يسند بها كيانه؛ كيان الفنان الهش، صورة تمنحه معنى حافزا وتشكّل مبررا لوجوده
فصموئيل كأي بشري له حياة ظاهرية واخرى هو على نصف وعي بها؛ أو قل يجهلها تماما وهي التي تشكل قدره… تقوده في تلك الدروب والسبل المتعرّجة والغريبة التي تسوقنا فيها الأقدار… هي أحداث حياتنا المنفرطة الشبيهة بقطع البوزل تلك القطع التي تبدو متنافرة والتي لا أدري بفعل أي من الأسرار تفضي بنا في الأخير ؛ وبعد فوضاها وتعرجاتها الغامضة إلى انتظام فتكتمل الصورة صورة البوزل… تلك الصورة التي ظهرت فيما بعد في كتابه الفريد «عراقي في باريس» الذي جعله يقفز إلى الواجهة…
وكما يبدو لي لم يكن السيناريو والفيلم وهوليوود سوى آليات دفاع عن ذاك الأنا الهش والعميق.
لم يكن السيناريو سوى صورة خارجية لتلك النصوص التي كانت تنكتب تلقائيا في أعماقه لأنها أبجديّة حياته، أبجدية وجوده … نصوص بلا كلمات… نصوص تنتظر التجسّد: هي دراما حياته
ولذلك فمن الصعب وضع حدود فاصلة وواضحة بين حياة صموئيل وبين نصوصه.
لم يتعلم صموئيل الكتابه؛ إنه أكبر من ذلك، فالنصوص تصدر عنه كما تهب الرياح في الصحاري
أو كما تمرق بين ساقيك فجأة وأنت تسبح سمكة ذهبية ثم تختفي في تموجات المياه وظلمة الأعماق
أتذكر ، كانت جمل تطرأ على لسانه من هذا النص الدّاخلي اللاّ لغوي كما تنبجس الآبار الارتوازيّة فجأة في أراضي السباسب القاحلة.
هكذا، ونحن جالسان أوّل المساء في ذاك المقهى الشعبي الذي يديره صالح القبائلي الجزائري قريبا من شارع سان جاك في الدائرة الرابعة عشرة من باريس والشمس تميل فوق قباب كنيسة لاتومب ايسوار
فجأة يخرج صموئيل من صمته كأنه يواصل مونولوغا بصوت مرتفع… صوت كما لو كان تأوّها وهو يخاطبني ولا يخاطبني
يا إلهي أكتب علينا أن نغتسل بكل مياه العالم
ويبدو في عينيه ذاك التعبير المزيج من عناء ولذّة وصبر على العالم
كلّما ظهرت غيمة
لمعت في جسدي نجمة
هكذا كان يقول الهايكو دون أن يدري…
بعد ذلك بسنوات وبإلحاح من أصدقائه أصدر قصائده الجميلة ومن بينها قصائد هي رسائل قصيرة ومختزلة ومكثفة وشديدة الشاعرية إلى أصدقائه الواقعيين والخياليين: روبرت دانيرو ولوران غسبار
ودزينة من الفنانين العالميين…
صموئيل كوكتيل متفجر خليط من صعلكة ومن ديونيزيسية، وملائكية
لأوّل مرّة نقرأ نصا عربيا فيه شيء من عفوية ارنست هيمنغواي
وشيء من صعلكة ميللر وشيء من غنائية سكوت فيتجرالد
كيف أمسك بصموئيل وهو عمود من الريح قويّ ولا مرئيّ
كائن طافح بالحياة
يذهب إلى المؤتمرات و إلى الجامعات الكبرى في أوروبا وأميركا الشمالية
وهو يدري حدسا أنها تعتدي على كينونته
وفي أعماقه صوت خافت واستفزازي وصادق يقول له
أخرج!! ماذا تفعل هنا في هذه القاعة !!؟؟
صموئيل يجمع بين مهرج بيكاسو ودنكيخوت سرفانتس وصخب كاستمباليس*
بطل وضحية نفسه
مثل الصبار شائك ولكن داخله عسل
لم يولد من المطر
ولم يأت في القطارات
لم يأت مع الأرنب الذي جاء من القاهرة
لم يأت من الحلم أو من حقول الذرة
لم يخرج من المرآة
ولم تتمظهر صورته في زجاجة المصباح
ولا في كرة بلور الساحر
ربما ولد من دياجير الليل ؟
أومن مياه دجلة
ما أزال أتذكر تلك الأمسية الزرقاء في إيطاليا ونحن نقف مع الشاعرة دوناتيلا بيزوتي في ساحة ألسندريا القديمة فجأة مرق إلى الكاتدرائية التي وراءنا فتبعته… ورأيته في صمت وخشوع وسط ظلال الكنيسة المرتعشة بضوء الشموع النذرية… كما صحبته في أوقات أخرى من قبل إلى مشارب في تونس وباريس والرباط وسان بيير بيسكادور على شاطئ الكوستا برافا ومع صديقه نيكوس القبرصي الذي كان يأخذه إلى ملاهي الضواحي نيقوسيا، كان يعايش العالم بنفس التوله الروحي
وصموئيل
نسيت أقول صموئيل هو الذي جاء بي إلى أثينة وكانت الرحلة التي عرفت فيها اليونان بأغانيه الجارحة… بوروده الزاهية وآلهته الأبدية ورهبانه الأرثذكس ذوي السحنة الشرقية والشعور الطويلة وباصاته الكهربائية وحجارة الأولمب القديمة وروح كاتسمباليس التي حلت في روح صموئيل شمعون.
خالد النجار \
\ شاعر ومترجم من تونس .